- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠41برنامج آفاق إسلامية - قناة التلفزيون الأردني
مقدمة :
الأستاذ وائل :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أحييكم أيها الأخوة المشاهدين ، وأرحب بكم في هذه الحلقة الجديدة في برنامجكم آفاق إسلامية .
حديثنا في هذه الحلقة سيكون عن قوانين القرآن الكريم ، هذا الكون له قوانين خاصة ، وله نواميس معينة صارمة ، لا تحابي أحداً ، فمن سار وفقها نجا ، ومن خالفها وصادم قوانين الكون ونواميسه كان عليه الهلاك والخسران ، فلا تصادموا قوانين الكون ، واستعينوا ببعضها على بعض ، وسيروا وفق هذه القوانين ، يحدثنا القرآن الكريم عن جملة من هذه القوانين منها قانون التمكين ، و وقانون الاستخلاف ، وقانون الإهلاك ، وقانون التداول ، وهي سنن إلهية ، سنة التداول ، وسنة التدافع ، وسنة الإهلاك ، وسنة التمكين ، وهناك قوانين أخرى لا تقل أهمية عن هذه القوانين ، ومنها قانون الالتفاف والانفضاض ، وقانون التيسير والتعسير ، وقانون العداوة والبغضاء ، وقانون الأمن ، وقانون الاستخلاف والحياة الطيبة ، والمعيشة الضنك ، والنصر والعزة والإحباط ، وقبول العمل ، وتفريج الكروب ، ولقاء الله عز وجل ، والتغيير الذي هو سنة من سنن هذا الكون .
ترحيب بالدكتور محمد راتب النابلسي :
للحديث عن هذا الموضوع ولا أريد أن أطيل عليكم في هذه المقدمة اسمحوا لي أن أرحب بالعلامة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، الأستاذ الداعية وأستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، مرحباً بكم .
الدكتور راتب النابلسي :
بكم أستاذ وائل جزاكم الله خيراً .
الأستاذ وائل :
دكتور هذا الكون يسير وفق قوانين معينة ، والقرآن الكريم أخبرنا بجملة هذه القوانين ، هذا الإخبار ربما يكون له علاقة بإعمار الأرض ، لأن الإنسان إذا عرف قانون شيء معين ، وسار وفق القانون ، نجا في النهاية ، حتى إذا كان في دائرة معينة ، أو في مؤسسة معينة ، وعرف قانون هذه المؤسسة ، فإنه يستطيع أن يسير على وفقها ، دون أن يصادم أحداً ، ومصلحته في آخر الأمر تسير ، بداية وقبل أن نتحدث عن هذه القوانين ، لكم باع الحقيقة ، ولكم حلقات أيضاً في عدد من المحطات الفضائية في هذا الموضوع ، بداية ما أهمية معرفة قوانين الله عز وجل على هذه الأرض ؟ حبذا لو نتعرف على هذه الأهمية لمعرفة القانون .
أهمية معرفة قوانين الله عز وجل على هذه الأرض :
الدكتور راتب النابلسي :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين .
دكتور وائل لا بدّ من مقدمة ، بادئ ذي بدء أضرب مثلاً من واقعنا ؛ لو أن موظفاً في دائرة ، وله مدير عام ، هذا المدير مزاجي سويعاتي ، يغضب بلا سبب مبرر ، ويرضى بلا سبب ، التعامل معه صعب جداً ، هناك مدير يضع قواعد التعامل مع الموظفين ، فمثلاً الموظف الذي لا تأتي عليه شكوى طوال العام يرفعه ، والموظف الذي لا يأخذ ولا إجازة يرفعه ، فصار هناك قواعد ثابتة في التعامل مع هذا المدير ، العيش مع هذا المدير مريح جداً ، كل نتيجة لها سبب يؤدي السبب ينال النتيجة ـ ولله المثل الأعلى ـ كان من الممكن ألا يكون هناك قوانين بين العباد وبين ربهم ، لكن الله جلّ جلاله خالق السماوات والأرض ، الذات الكاملة ، صاحب الأسماء الحسنى والصفات الفضلى ، أراد أن تكون العلاقة بعباده علاقة مقننة ، والقانون علاقة ثابتة بين متغيرين ، لكن لا بدّ من التنويه بادئ ذي بدء ، لو أن إنساناً احتقر قانون السقوط ، هذا قانون فيزيائي ، وأراد أن يهبط من الطائرة بلا مظلة، إنكاره لهذا القانون ، واحتقاره لهذا القانون ، ورفضه لهذا القانون ، هل يلغي هذا القانون ؟ هل يلغي مفعول القانون فيه ؟ فالبطولة أن تتكيف ، بل إن من أدق أدق تعريفات الذكاء التكيف ، تعلمنا في الجامعة تعاريف للذكاء كثيرة ، لكن ما وجدت أبلغ من هذا التعريف : الذكاء هو التكيف ، فأنت حينما تتكيف مع القوانين تأخذ النتائج الباهرة بجهد يسير ، أنت تصور باباً كبيراً أردت أن تقتحمه ، تحتاج إلى مطرقة ، وإلى جهد عشر ساعات ، لو معك مفتاحه بثانية بضغطة خفيفة يفتح الباب ، فالذي يحاول أن يتحرك بلا قوانين كمن يحاول أن يهدم جداراً أو باباً كبيراً له وزن كبير ، محكم الإغلاق بمطرقة ، والذي يسلك طريق القانون كمن يأتي بمفتاح بضغطة خفيفة يفتح الباب ، فلذلك نحن بحاجة ماسة إلى هذه القوانين .
نحن نتعامل مع الله تعاملاً عشوائياً ، تعامل دعاء فقط ، لن نأخذ بالأسباب ، الحقيقة العالم الإسلامي قصر في الأخذ بالأسباب ، وقع في وادي المعصية ، بينما العالم الغربي أخذ بها ، واعتمد عليها ، وألهها ، ونسي الله ، فوقع في وادي الشرك ، سهل جداً أن تأخذ بالأسباب وأن تنسى الله ، أن تأخذ بها وأن تعتمد عليها ، أن تأخذ بها وأن تؤلهها ، هذا خطأ كبير هو الشرك ، وسهل أيضاً ألا تأخذ بها متواكلاً بسذاجة ، وفهم ضيق ، وأفق ضيق، الله هو الحامي ، الله ليس لنا غيرك ، هذه الأدعية المشهورة عند المسلمين ، اجعل كيدهم في نحرهم ، فلم يحدث هذا الشيء.
دكتور وائل :
برأيك أن هذا كان سبباً وراء تخلف المسلمين في مراحل ؟
على الإنسان أن يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء :
الدكتور راتب النابلسي :
طبعاً أنا أقول هذه الحقيقة ، صدقني أن كل ذرة في جسمي ، وكل قطرة في دمي تؤمن بها ، البطولة أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، الحالة المتطرفة سهلة جداً ، مع الابن سهل أن تكون قامعاً له بضرب شديد ، وسهل أن تسيبه، لكن البطولة أن يحتار فيك أيها الأب ، بقدر ما يحبك بقدر ما يخافك ، دائماً الوضع الوسطي يحتاج إلى جهد كبير ، فأنت حينما لا تأخذ بالأسباب كشأن العالم الإسلامي يكتفي بالدعاء ، يا رب دمرهم ، لم يدمروا ، يا رب زلزلهم ، لم يزلزلوا
هم يأخذون بالأسباب ونحن ندعو عليهم ، ما لم نأخذ بالأسباب لن نقطف الثمار ، القضية دقيقة جداً ، لذلك أنا أقول لا يمكن أن ننتصر على أعدائنا إلا بشرطين كل شرطٍ شرطٌ لازم غير كاف ، سيأتي الحديث عنه بعد قليل .
نحن ينبغي أن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، هذا الذي يدعو إلى الأخذ بالقوانين ، هناك قوانين ، طبعاً الحقيقة هذه تسمية محدثة أما الحقيقة هي سنة الله :
﴿ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾
﴿ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ﴾
أي زوال الكون أهون على الله من أن يغير هذه القوانين ، تفضلت وقلت : لا تحابي أحداً ، ما لم ندفع ثمن النصر لن ننتصر ، ما لم ندفع ثمن التغيير الأمر لن يتغير ، هذه قضايا أصولية ، وقضايا كبرى ، وقضايا مصيرية تهم العالم الإسلامي ، أما التقديم أن الله عز وجل ، أنا فيما أعتقد وأراه صواباً أن أصل الدين معرفة الله .
دكتور وائل :
ذكرت أن هذه قوانين وأنها سنن إلهية ،
﴿ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾
﴿ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ﴾
إذاً هل هذا الأمر يعني أن غير المسلم إذا أخذ بهذه الأسباب وأخذ بهذه النواميس وهذه القوانين ارتقى على المسلم الذي يصلي ليلاً نهاراً و يصوم النهار ويقوم الليل لأنه لم يأخذ بهذه القوانين ؟
كل إيجابيات الغرب إسلامية لا لأنهم يعبدون الله بل لأنهم يعبدون المال :
الدكتور راتب النابلسي :
الإسلام منهجه موضوعي ، بمعنى لو جاء ملحد وأخذ بهذه القوانين لقطف ثمارها ولكن في الدنيا فقط ، أما المؤمن يقطف ثمارها في الدنيا والآخرة ، لو أن ملحداً أخذ بهذه القوانين لقطف كل ثمارها في الدنيا ، وأساساً الغرب كل قوته سببها أنه أخذ ببعض هذه القوانين ، حينما أعطى الإنسان حقه نال منه كل شيء ، أنا أقول دائماً : أعطِ الإنسان رغيف خبزه وكرامته وخذ منه كل شيء ، حينما أعطاه حرية نما المجتمع
حينما أعطاه حاجاته الأساسية اطمأنت نفسه ، فلذلك الغرب بذكاء فقط أخذ بهذه القوانين فكان قوياً ، بل إنني أقول دائماً : كل إيجابيات الغرب إسلامية لا لأنهم يعبدون الله أبداً ، هم يعبدون الدولار من دون الله ، لأنهم يعبدونه أتقنوا أعماله ، ضبطوا مواعيدهم ، أداروا أوقاتهم ، أعطوه حرية نالوا بها كل طاقاته ، فلذلك هذه القوانين موضوعية لو أخذ بها ملحد لقطف كل ثمارها في الدنيا فقط وماله في الآخرة من خلاق ، لأنني أعتقد أنه ما من إنسان مسلم أو غير مسلم يعمل عملاً طيباً إلا نال ثوابه في الدنيا والآخرة ، الله عز وجل غني عن أن يقدم عبد من عباده شيئاً للناس دون أن يكافئه في الدنيا أو في الآخرة ، هذه القوانين لها تقديم دقيق جداً ، أنا أعتقد أن أصل الدين معرفة الله ، لأنك إن عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر ، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في التفلت من الأمر ، وهذا حال المسلمين اليوم ، في التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي تعلمنا فرائض الصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة ، وما إلى ذلك ، لكن ما تعرفنا إلى الله ، ألغيت في حياتنا المرحلة المكية ، فإذا عرفنا الأمر ولم نعرف الآمر تفننا في المعصية ، أما إذا عرفنا الآمر وعرفنا الأمر تفانينا في طاعة الله عز وجل ، فلذلك الله عز وجل أراد أن تكون علاقته بنا علاقة مقننة واضحة ، وفق قوانين ثابتة، والدليل قوله تعالى :
﴿ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾
﴿ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ﴾
دكتور وائل :
دكتور محمد الإنسان المسلم حينما يتفانى في طاعة الله ، وينسى الدنيا ، وينسى هذه القوانين ، ألا يترتب عليه إثم أيضاً ؟
فرص العمل الصالح متاحة أمام القوي أضعاف مضاعفة عن الضعيف :
الدكتور راتب النابلسي :
تقتضي هذه القوانين أن تأخذ بالدنيا ، تقتضي هذه القوانين أن تجعل الدنيا مطية للآخرة ، تقتضي هذه القوانين أن الدنيا مجال وحيد وفرصة ذهبية لدفع ثمن الآخرة ، فلذلك الإنسان إذا كان في الدنيا قوياً قوة مال أو قوة علم أو قوة سلطان ، هذا القوي بماله أو بعلمه أو بسلطانه فرص العمل الصالح متاحة أمامه أضعاف مضاعفة عن الضعيف ، من هنا قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ))
لأن فرص العمل الصالح مبذولة أمامه على مصارعها ، بينما أقول دائماً : إذا كان طريق القوة ، قوة المال ، أو قوة العلم ، أو قوة المنصب ، سالكةً وفق منهج الله يجب أن تكون قوياً ، والنبي أثنى على القوي قال :
(( المؤمن القويُّ ))
ما قال القوة ، القوي من دون إيمان مجرم ، القوي من دون إيمان كما ترى في العالم الغربي ماذا يفعلون في العالم الثالث ، القوي من دون إيمان ضرب عشواء ، أما النبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ))
إذاً ينبغي أن نكون أقوياء ، إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله يجب أن تكون قوياً ، أما إذا كان طريق القوة على حساب مبادئنا ومثلنا وقيمنا فالضعف وسام شرف للمؤمن
دكتور وائل :
دكتور من هذه القوانين .
أصل الدين معرفة الله :
الدكتور راتب النابلسي :
لازلنا في المقدمة ، هناك مقدمة مهمة جداً ، بما أن أصل الدين معرفة الله ، كيف نعرفه هنا سؤال ؟ أنا وضعت يدي على الجرح ، نحن مقصرون في معرفة الله ، ومن فضل الله أمور المنهج واضحة ، آلاف الكتب مؤلفة في الفقه ، وبكل تفاصيل الشريعة ، أما معرفة الله نحن قصرنا فيها ، كيف نعرفه ؟
أنا أقول من آياته ، من آياته الكونية ، ومن آياته التكوينية ، ومن آياته القرآنية ، آياته الكونية خلقه :
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾
يتفكرون ، وآياته التكوينية أفعاله :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾
هؤلاء زعماء قريش الكبار ، الأغنياء ، الأبطال ، الصناديد ، الذين وقفوا ضده ما مصيرهم ؟ في مزبلة التاريخ ، هؤلاء الضعاف الذين التفوا حوله هم في السجل الذهبي ، هناك قوانين ثابتة ، لذلك أنا حينما أفكر أن آيات الله الكونية أتفكر بها ، آياته التكوينية أنظر فيها ، أما آياته القرآنية ، قال تعالى :
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)﴾
فالقرآن ، آيات الله القرآنية ينبغي أن نتدبرها ، وآيات الله الكونية ينبغي أن نفكر فيها ، وآيات الله التكوينية ينبغي أن ننظر فيها ، تفكر في الآيات الكونية ، ونظر في الآيات التكوينية ، وتدبر في الآيات القرآنية .
القرآن الكريم يُقرأ قراءة تعبد و قراءة تدبر :
لذلك القرآن الكريم يقرأ قراءة تعبد رائعة في رمضان كل يوم جزء ، لكن ينبغي أن نقرأه قراءة أخرى قراءة تدبر ولو قرأت آية واحدة لو قرأت عشر آيات ، وتدبرتها بدقة، وكشفت القوانين فيها ، وأخذت بهذا القانون :
﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3)﴾
بمعنى ربما عبدت الله ثمانين عاماً عبادة شكلية كمعظم الناس ، ليلة واحدة إذا تفكرت في هذا القرآن الكريم ، ودرست آياته دراسة عميقة جداً ، ووقفت عند ثوابته ، هذه الدراسة خير للإنسان من ثمانين سنة عبادة جوفاء :
﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3)﴾
إذاً نحن أمام معرفة الله ، في لقاءات سابقة تحدثت عن معرفة الله من خلال الكون ، ومن خلال أفعاله ، أما هذا اللقاء الطيب مخصص للحديث عن معرفة الله من خلال قوانين القرآن الكريم ، نحن طبعاً سميناها تجاوزاً قوانين ، هي سنن ، المصطلح القرآني سنن ، أما الآن كلمة قانون لها رنين معين ، تجاوزنا وسميناها قوانين على أنها قواعد ثابتة في التعامل مع الله عز وجل .
دكتور وائل :
ومن خلال هذه القوانين أو السنن تستطيع أن تتعرف على الله عز وجل .
الدكتور راتب النابلسي :
كيف يعاملنا ؟
دكتور وائل :
بقوة القانون تعرف هذا القانون .
الإنسان من خلال القوانين أو السنن يستطيع أن يتعرف على الله عز وجل :
الدكتور راتب النابلسي :
كما تفضلت بملمح جيد جداً ، أنت أحياناً تنتفع بهذا القانون ، وأحياناً قد لا تحتاج هذا القانون ، لكنك تقدر واضع هذا القانون ، أنت حينما تقرأ أحكام الطلاق الدقيقة جداً ، إنسان معه زوجة صالحة ، يحبها وتحبه ، ما فكر بطلاقها إطلاقاً ، لكن يتأثر بهذه الأحكام الدقيقة ، العادلة ، الرحيمة ، أحياناً الإنسان ينتفع بالقانون إذا استخدمه وقد ينتفع به حينما يعرف .
دكتور وائل :
دكتور الفرق بين القانون أو السنن الإلهية القوانين العامة لهذا الكون وبين القوانين التشريعية ، نحن دائماً نقول : القانون الإسلامي ، هناك قوانين الكون وهناك تشريعات دقيقة ما الفرق بينهما ؟
الله عز وجل له كون نعرفه من خلاله وشرع نعبده من خلاله :
الدكتور راتب النابلسي :
الحقيقة أن التشريعات الدقيقة متعلقة بالأمر ، الله عز وجل له كون نعرفه من خلاله
نحن بالكون نعرفه وبالشرع نعبده ، فرق بين معرفته وبين عبادته ، بل إن شرائع الأنبياء جميعاً تلتقي في كلمتين الدليل :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
أي يمكن دكتور وائل أن نضغط الشرائع السماوية كلها بكلمتين :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
أي التوحيد نهاية العلم ، حينما ترى أن الله هو الفعال ، هو القوي ، هو المعطي، هو المانع ، هو المعز ، هو المذل ، هو الشافي ، هو القابض ، هو الباسط ، هو الملهم ، حينما ترى أن يد الله تعمل وحدها ، حينما ترى أن يد الله في السماء إله وفي الأرض إله، حينما ترى أنه لا يمكن لإنسان أن يفعل شيئاً إلا بمشيئة الله :
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)﴾
الله تعالى لن يسمح لطاغية على وجه الأرض أن يكون طاغية إلا و يوظف طغيانه لخدمة دينه :
حينما تؤمن أن :
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ َاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
حتى الطغاة في الأرض عصي بيد الله ، يستخدمهم لصالح دينه والمؤمنين :
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾
أنا أقول صدق دكتور وائل ، لا يسمح الله لطاغية على وجه الأرض من آدم إلى يوم القيامة أن يكون طاغية إلا وأن يوظف طغيانه لخدمة دينه والمؤمنين ، لذلك قال تعالى :
﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً (20)﴾
هذا التسليط ممن لا يعرف الله ، أي إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني .
أنا أقول دائماً : إن شاء الله نكون كذلك ، المسلمون يشبهون إنساناً معه التهاب معدة حاد ، قابل للشفاء ، فالطبيب الرحيم أخضعهم لحمية شديدة جداً قاسية ، أما الطرف الآخر معه ورم خبيث منتشر ، فلما سأل الثاني الطبيب ماذا آكل ؟ قال له : كُلْ ما تشاء ، فأيهما أفضل أن نكون خاضع لحمية شديدة جداً وفي شفاء تام بعدها أم يقول لي الطبيب كُلْ ما تشاء ؟
﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً ﴾
الدنيا دار من لا دار له ولها يسعى من لا عقل له :
دكتور وائل للتقريب واحد في الأرض وأصفار للشمس ، شيء من الصعب أن تتصوره ، كل ثلاثة أصفار ألف ، ثلاثة أخرى مليون ، ثلاثة ثالثة ألف مليون ، الرابعة مليون مليون ، وكل ميليمتر صفر ، من هنا إلى الشمس ، مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر كل ميليمتر صفر ، هذا الرقم ضعه صورة لمخرج في المخرج لا نهاية ، قيمته صفر ، الدنيا عند الله صفر :
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))
الدنيا جيفة طلابها كلابها ، الدنيا دار من لا دار له ولها يسعى من لا عقل له ، لذلك :
(( إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء))
لا تستقيم لإنسان ، يعطيه الصحة و الأولاد و عنده مشاكل ، الزوجة جيدة الدخل قليل ، الدخل كثير ليس عنده أولاد :
(( إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترح لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي ))
الأحداث الخطيرة التي ألمت بالمسلمين زادتهم تمسكاً بدينهم و معرفة بربهم :
نحن دكتور وائل ـ جزاك الله خيراً ـ نعاني ما نعاني ، أنا أقول : كل شِدة أصابت المسلمين وراءها شَدة إلى الله ، وكل محنة ألمت بالمسلمين وراءها منحة من الله ، وهذه النعم الباطنة ـ صدق ولا أبالغ ـ لو الإنسان تأمل في الإيجابيات
الأحداث الخطيرة التي ألمت بالمسلمين والله لا تعد ولا تحصى ، زادتنا تمسكاً بديننا ، زادتنا معرفة بربنا ، زادتنا محبة لبعضنا ، زادتنا معرفة بجريمة أعدائنا ، أنا أقول كلمة : لو دفعنا مليارات ممليرة لا نستطيع أن نعري أعداءنا كما عروا أنفسهم بحرب غزة ، هم عروا أنفسهم ، بفضل الله عز وجل ، نحن دائماً نتابع السلبيات في الأخبار ، لكن القلة القليلة من المفكرين الناضجين يضعون أيديهم على الإيجابيات ، سوف يأتي يوم ترى أن كل الأحداث الأليمة التي ألمت بنا سبب نهضتنا ، سبب توحدنا ، سبب عودتنا إلى الله عز وجل .
دكتور وائل :
دكتور محمد أنت فتحت لنا آفاقاً كبيرة ، حقيقة من الشدائد يتولد النصر ، وعندما يشعر الإنسان بحاجته وبضغطه يبحث مباشرة عن طرق النجاة ، وعن طرق الخلاص ، المسلمون لو أنهم عاشوا في الفترة الماضية على الرغم من وجود حالة التخلف التي كانوا يعانون منها ، وهذا الأمر ليس سراً أن نتحدث به ، المسلمون عانوا من حالة تخلف في الفترة الماضية لو أنهم عاشوا إضافة إلى حالة التخلف حالة من الرخاء سيزداد الأمر ويصلهم إلى الموت ، لكن الله عز وجل أشعرهم بالآلام حتى يراجعوا الطبيب ، وربما الطبيب الآن الذي نبحث عنه هو قوانين الله عز وجل .
الدنيا العريضة والرخاء والمال الوفير و الحالات المبهجة حجاب بين الإنسان وربه :
الدكتور راتب النابلسي :
في حكم ابن عطاء السكندري حكمة رائعة : " ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك ، وإذا كشف لك الحكمة في المنع عاد المنع عين العطاء " .
دكتور وائل بقناعتي أن الدنيا العريضة ، الرخاء ، المال الوفير ، الحالات المبهجة ، هذه حجاب بين الإنسان وربه ، أحياناً الضغوط ، عفواً هناك ألماسة في تركيا في متحف كبير ، ثمنها مئة وخمسون مليون دولار ، أكبر ألماسة في العالم ، أنا أقول : الألماس أصله فحم لكن جاءه ضغط لا يحتمل فصار ألماساً ، فإذا قررنا هذه القاعدة على الإنسان ، الإنسان بالضغوط الشديدة يصبح بطلاً ، يعرف قيمة المال ، قيمة العلم ، بالضغوط الشديدة يعرف من عدوه ، فيبدو أن المؤمنين يوم القيامة :
﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾
بالأرض تحملنا ضغوطاً و شدائد وأدينا العبادات ، وكان هناك معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل ، وصمدنا أمام الباطل ، الآن نتمتع بهذه الجنة بفضل ما كنا في الأرض :
﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾
فلا يوجد عطاء كبير إلا بسبب ، بلا سبب لا يوجد عطاء .
دكتور وائل :
دكتور قوانين الله عز وجل في هذا الكون كبيرة وكثيرة ، وهي السنن كما تفضلت ، لكن قانون الالتفاف والانفضاض ، الناس عندما يلتفون على شيء وينفضون عن شيء ، كيف جعل الله عز وجل منه قانوناً ؟
العلاقة بين الالتفاف والانفضاض علاقة ثابتة وهذا القانون يحتاجه كل إنسان:
الدكتور راتب النابلسي :
بل علاقة ثابتة بين الانفضاض والالتفاف ، الحقيقة هذا القانون يحتاجه كل إنسان، يحتاجه الأب على مستوى الأسرة ، تحتاجه الأم ، يحتاجه الأخ الكبير ، يحتاجه المعلم ، يحتاجه المدرس ، يحتاجه الداعية ، يحتاجه خطيب المسجد ،
يحتاجه مدير المستشفى ، يحتاجه مدير الجامعة
أي منصب قيادي يحتاج هذا القانون ، إنسان عنده أولاد يسعده أنهم يحبونه ، أن يلتفوا حوله ، أن ينصاعوا لأمره ، هذا شيء مسعد ، ويؤلمه أشد الألم أن يتمردوا عليه ، ألا يحبونه ، أنا أقول كلمة للتاريخ : في الثقافة الإسلامية الأب محترم جداً لكن بطولة الأب لا أن يكون محترماً أن يكون محبوباً ، البطولة أن يحبك أولادك ، البطولة أن يكون العيد حينما تأتي إلى البيت لا حينما تخرج ، لا بدّ من عيد إما مع مجيء الأب أو مع خروجه ، هذا القانون أساسه قوله تعالى :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ ﴾
كأن الله عز وجل يقول لنبيه الكريم : يا محمد بسبب رحمة استقرت بقلبك كنت ليناً لهم ، فلما كنت ليناً لهم التفوا من حولك ، ولو كنت منقطعاً عنا لامتلأ القلب قسوة ، ولانعكست القسوة غلظة وفظاظة ، فانفضوا من حولك ، وكأنها معادلة رياضية ، اتصال ، رحمة ، لين ، التفاف ، انقطاع ، قسوة ، غلظة ، انفضاض .
دكتور وائل :
الاتصال مع من ؟
من أراد رحمة الله عز وجل فليرحم خلقه :
الدكتور راتب النابلسي :
مع الله ، تشتق منه الرحمة ، يمتلئ القلب رحمة ، أحياناً يوجد في المركبة إذا لاحظت عداد المتراج وعداد دورة المحرك ، أنا أرى إذا كان هناك عداد للإيمان ، وعداد للرحمة ، العقارب تتحرك معاً ، بقدر إيمانك ترحم الناس ، بقدر البعد عن الله تقسو عليهم ، إن أردتم رحمتي فارحموا خلقي :
(( الراحمون يرحمهم الرحمن ))
(( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ))
لذلك الله عز وجل ينصر الأمة الكافرة ، التي ترحم من حولها على أمة مسلمة تقسوا على من حولها .
دكتور وائل :
دكتور أنت ذكرت نقطة الاتصال تولد الرحمة ، الأمة الكافرة كيف ؟
الإنسان يعيش مع الناس بإيمان أو بذكاء :
الدكتور راتب النابلسي :
الرحمة الثانية ذكاء ، إما اتصال أو ذكاء ، هناك قلب رحيم وهناك عمل رحيم ، القلب الرحيم أساسه الاتصال ، أما العمل الرحيم عمل أساسه الذكاء ، وأنت إما أن تعيش مع الناس بإيمان أو بذكاء ، أما لا إيمان ولا ذكاء ؟!
دكتور وائل :خاصة إذا اجتمع الحقد والجهل .
الدكتور راتب النابلسي :
الغرب بذكائه وجد أنه إذا رعى من حوله ، أعطى من حوله ما يحتاجه ، ملكه ، وأنت الآن إنسان يعمل معك كن معه كاملاً تملكه ، يعطيك روحه ، أعطه حاجته وكرامته خذ منه كل شيء ، الغرب أدرك هذه الحقيقة .
دكتور وائل :
ولذلك في أنواع الإدارات ، هناك إدارة أبوية ، والإدارة اليابانية أدركت هذه النقطة .
أي إنسان يتصل بالله يصبح قلبه رحيماً يرحم من حوله :
الدكتور راتب النابلسي :
أنا كنت مرة في أمريكا ، وهي أول دولة في صناعة السيارات ، اكتشفوا فجأة أن كل عشر سيارات هناك ثمانية من صنع اليابان ، هذه ظاهرة خطيرة جداً ، أرسلوا وفداً إلى هناك ليكتشف أين الخلل ؟
المفاجأة الخطيرة ليس الخلل تقنياً ، الخلل سيكولوجي اجتماعي، المدير يعيش مع العمال ، العامل اسمه صهر رب العمل ، عنده أمن ، عنده تعويضات كافية ، مستقبله مضمون ، أتقن عمله ، فلذلك دائماً الإنسان عندما يتصل بالله ماذا يحدث ؟ الحقيقة نحن نعاني من صلاة جوفاء أحياناً ، قال تعالى :
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾
قال بعض العلماء : ذكر الله أكبر ما فيها ، والدليل :
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
لكن بعضهم قال : لا ، ذكر الله لك أيها المسلم وأنت في الصلاة أكبر من ذكرك له، إنك إن ذكرته أديت واجب العبودية ، لكنه إذا ذكرك منحك الأمن ، منحك الحكمة ، منحك الرحمة ، شيء خطير عبادة تؤدى كل يوم خمس مرات ، تؤدى أداء أجوفاً ، مستحيل، فأنت حينما تتصل بالله تشتق منه الرحمة ، هذه الحقيقة دقيقة جداً ، مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى ، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً ، فأي إنسان يتصل بالله يصبح قلبه رحيماً، يرحم من حوله ، ورحمة عامة وليست خاصة ، أن ترحم ابنك هذا شيء فطري ، هذا طبع ليس لك فيه أجر كبير ، شيء طبيعي ، خلاف الرحمة وضع شاذ ، أما أن ترحم من حولك ، أن ترحم إنساناً لا يمت لك بصلة ، النبي عليه الصلاة والسلام قال : " ولكنها رحمة عامة " ،
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ ﴾
من الله ، بسبب رحمة اشتققتها منا يا محمد كان هذا القلب رحيماً ، انعكست رحمتك في قلبك ليناً في المعاملة .
دكتور وائل :
اللين .
اللين من لوازم الرحمة :
الدكتور راتب النابلسي :
اللين من لوازم الرحمة ،
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ ﴾
الأم ترحم تلين مع ابنها ، الغريب لا يرحم ، ولو كنت منقطعاً عنا لامتلأ القلب قسوة ولانعكست القسوة غلظة :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾
دكتور وائل :
دكتور قضية الرحمة ، وأن الرحمة مشتقة من الله عز وجل ، الصلاة إذا خشع الإنسان بها أمده الله عز وجل بذكره ، وهي الرحمة ، وفرع هذه الرحمة أنها تظهر ليناً على الإنسان ، دكتور أنت ذكرت نقطتين بأن اللين هذا قد يكون سببه ذكاءً ، وقد يكون سببه الاتصال بالله .
الفظاظة والغلظة شيء مرفوض في الدين والدعوة إلى الله تحتاج إلى لين و تلطف :
الدكتور راتب النابلسي :
هذا الفرق بين الفطرة و الصبغة ، الصبغة لين سببه الاتصال بالله ، أما الفطرة ذكاء أن تقدر الرحيم فطرة ، أن ترحم رحمة أصيلة صبغة .
هناك درس للدعاة بهذه الآية ، النبي عليه الصلاة والسلام سيد الخلق وحبيب الحق ، سيد ولد آدم ، أوتي القرآن الكريم ، أوتي المعجزات ، أوتي الفصاحة والبيان ، أوتي جمال الصورة ، أوتي الحكمة ، شخصية فذة في الأرض ، المخلوق الأول ، كأن الله عز وجل يقول له : أنت أنت يا محمد مع كل هذه الخصائص ، مع أنك نبي ورسول وسيد الأنبياء والمرسلين ، ويوحى إليك ، ومعك المعجزات ، وأوتيت الفصاحة والبيان وجمال الصورة ، أنت أنت بالذات :
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
فكيف بداعية ليس نبياً ولا رسولاً ولا يوحى إليه ولا معه قرآن ولا فصيح ولا معه جمال الصورة ومع ذلك هو فظ غليظ ؟ لمَ الغلظة يا أخي ؟ أرسل الله موسى إلى من قال :
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾
فرعون ، إلى من قال :
﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي (38)﴾
قال الله عز وجل :
﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾
هذا المنهج ، الفظاظة والغلظة والقسوة شيء مرفوض في الدين كلياً ، المسلمون اختلطت عندهم مفاهيم الجهاد مع مفاهيم الدعوة إلى الله ، مفهوم الدعوة إلى الله يحتاج إلى لين، إلى تلطف .
دكتور وائل :
ما هو سبب هذا الخلط ؟
من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف ومن نهى عن منكر فليكن نهيه في غير منكر :
الدكتور راتب النابلسي :
هذا خلط أوراق :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وأغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾
هنا أخلاق الجهاد في الحرب ، عفواً إذا أنت كنت في مسبح ، وكان أصدقاؤك يسبحون ، قال لك أحدهم : رشه ، ماذا تعني رشه ؟ أي بلله بالماء ، وإذا كنت في المعركة وقال لك : رشه ، أي اقتله بالرصاص ، هناك جو معين ، جو الحرب ، فيه غلظة ، ليس من المعقول أن ترحمه ، أنت تقاتله ، أما جو السلم فيه رقة ، فيه لطف ، فلذلك :
﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(43)فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44)﴾
لذلك من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف ، ومن نهى عن منكر فليكن نهيه في غير منكر ، هذا درس للدعاة يحتاجه الأب والأم وأي منصب قيادي ، ودرس للدعاة .
دكتور وائل :
هذا تفسير راق لقضية الالتفاف والانفضاض ، وحبذا أن تأخذ الإدارات والتدريب القيادي والإداري بهذه الفكرة الجميلة الراقية التي تنبع من موضوع الرحمة .
الدين الإسلامي دين عظيم جداً لكن المسلمين لا يعرفون قيمته ولا أبعاده :
الدكتور راتب النابلسي :
لف كتاب كيف تكسب الأصدقاء ؟ أول طبعة خمسة ملايين نسخة
جاء الشيخ الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ أخذ هذه القواعد ، وترجمها إلى لغة القرآن ، فإذا بها قواعد قرآنية ، أنا أذكر قاعدة واضحة جداً ، أنت إذا كنت مدير عام لمؤسسة ، وعندك موظف وأخطأ ، ينبغي أن تذكر له إيجابياته أولاً بعدئذ تنتقده ، أنت أمين ، أنا أقدر ولاءك للشركة ، أنا أقدر حرصك على المصلحة العامة ، أنا أقدر أنك صادق ، لكن تأخرك اليومي يسبب إزعاجاً ، هو قبلها منك .
النبي عليه الصلاة والسلام يؤم أصحابه في صلاة من صلوات الفرض ، صحابي تأخر عن إدراك الركعة الأولى ، فدخل إلى المسجد وأسرع ليلحق مع النبي الركعة الأولى ، أحدث جلبة وضجيجاً وشوش على الصحابة في صلاتهم ، عندما انتهت الصلاة قال له النبي عليه الصلاة والسلام : زادك الله حرصاً ولا تعد .
زادك الله حرصاً على الصلاة أن تصلي معنا ، لكن شوشت علينا ولا تعد ، صدق هذا الدين عظيم جداً لكن نحن لا نعرف قيمته ولا أبعاده .
دكتور وائل :
دكتور قبل أن أنتقل إلى موضوع التيسير والتعسير ، من أين جاء أننا لا نعرف قيمة الدين ؟
الدكتور راتب النابلسي :
خطأ الخطاب الديني .
دكتور وائل :
من أين جاء الخطأ فيه ؟
عدم معرفتنا لقيمة الدين بسبب الخطأ في الخطاب الديني و خطأ الدعاة و خطأ الحكومات:
الدكتور راتب النابلسي :
من خطأ الدعاة ، الحقيقة السؤال دقيق بمعنى من المستحيل أن يعزى خطأ المسلمين لجهة واحدة ، هناك خطأ بالخطاب الديني ، هناك خطأ بالدعاة ، هناك خطأ أن الحكومات ما تبنت الإسلام الوسطي ، فلما لم تتبنَ الإسلام الوسطي صار هناك إسلام متطرف، والتطرف خلاف الصح ، المشكلة كبيرة جداً لا يمكن أن تعزى إلى جهة واحدة .
دكتور وائل :
التطرف كيف ينشأ عند الإنسان وهو جسم وعقل وروح ؟
نشأة التطرف عند الإنسان :
الدكتور راتب النابلسي :
أعتقد أن الدين هواء للإنسان لا يمكن أن يحتكره أحد ، الدين تجده في كل مصر، في كل عصر ، في كل إقليم ، عند كل فئة ، عند كل طائفة ، لا أحد يحتكره ، لا فرد ولا جماعة ولا طائفة ، هواء
بل إنني أعتقد أن الأديان الوثنية أساسها صحيح ، افتقار إلى الله ، الذي يعبد بوذا يلبي حاجة في نفسه ، عنده ضعف ، عنده إحساس بالضعف ، الإحساس بالضعف يحتاج إلى قوي ، يحتاج إلى من يدعمه .
دكتور وائل :
لكنه أخطأ .
الدكتور راتب النابلسي :
أخطأ في الطريق ، فالدين أصل في حياتنا ، فإذا منع الهواء بحثنا عن شيء آخر، هو التطرف ، أنا أتمنى عندما الأقوياء يتبنوا الإسلام الوسطي ، صار هناك توازن ، فإذا منعنا الإسلام الوسطي صار عندنا مشكلة .
دكتور وائل :
دكتور جهودكم كدعاة اسمح لي فيها قبل أن ننتقل إلى موضع آخر كدعاة وكمفكرين إلى أين يتجه الآن الخطاب الديني الإسلامي ؟ هل ترى أنه يتجه بالطريق الصحيح؟ هذه الفوضى كما تسمى عند البعض الفوضى الخلاقة ، قضية هذه الفوضى التي عمت حتى في الخطاب الديني هناك من يتحدث بطريقة معينة ، هناك من يتكلم بطريقة أخرى، أنا قال لي أحد النخب في المجتمع الأردني : لقد جنن الخطباء الناس أين نتجه ؟ برأيك هل نحن الآن نتجه نحو ترشيد هذه الخطا ؟
ترشيد الخطوات للسير نحو الإسلام الصحيح :
الدكتور راتب النابلسي :
أنا سأقول لك ماذا أرى ، قبل خمسين عاماً إن صحّ أن هذا السطح الذي أمامنا سطح المبادئ والقيم ، قبل خمسين عاماً كان هناك كتل ثلاث ، الغرب والشرق والإسلام ، الشرق آمن بالمجموع ، والغرب آمن بالفرد ، الاشتراكية والرأسمالية والإسلام دين الله ، الذي حصل أن الشرق تداعى من الداخل وانتهى ، من دون حرب ، لأن الله عز وجل قال :
﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾
الشرق رفع شعار لا إله ، فالباطل زهوق ، و زهوق صيغة مبالغة ، وصيغ المبالغة تعني كماً أو عدداً ، لو كان هناك مليار باطل كلها زاهقة ، ولو كان هناك أكبر باطل عمره سبعون عام سوف ينهار ، انتهينا منه ، نحن الآن أمام قبل الحادي عشر من أيلول أمام الغرب والإسلام ، الغرب دكتور وائل قوي جداً ، وغني جداً ، وذكي جداً ، وبشكل موضوعي طرح قيماً رائعة جداً جداً ، طرق قيمة الحرية ، والديمقراطية الأصيلة ، حقوق الإنسان ، تكافؤ الفرص ، حق التقاضي ، والعولمة ، احترام جميع الأديان ، الغرب تألق تألقاً مذهلاً ، خطف أبصار أهل الأرض ، حتى صار الذي ينال البطاقة الخضراء كأنه دخل إلى الجنة ، الذي حصل أنه بعد الحادي عشر من أيلول كان الغرب حضارة كبيرة ، فأصبح قوة غاشمة ، ولم يبقَ على سطح المبادئ والقيم إلا الإسلام ، لذلك قال عالم أمريكي هداه الله إلى الإسلام : " أنا لا أصدق أن يستطيع العالم الإسلامي اليوم اللحاق بالغرب على الأقل في المدى المنظور لاتساع الهوة بينهما ، ولكنني مؤمن أشد الإيمان أن العالم كله سيركع أمام أقدام المسلمين لا لأنهم أقوياء ، ولكن لأن خلاص العالم في الإسلام ، ولكن بشرط أن يحسنوا فهم دينهم ، ويحسنوا تطبيقه ، وأن يحسنوا عرضه على الطرف الآخر " .
الدعوة إلى الله و الدعوة إلى الذات :
دكتور وائل أقول لك بصدق : الإسلام العظيم محجوب عن العالم الغربي ، محجوب بالمسلمين ، لذلك المسلمون نائمون في ضوء الشمس ، والغرب يعمل في الظلام والذي يعمل في الظلام يسبق النائم في ضوء الشمس ، فالمشكلة التي تفضلت بها الخلل أن الإسلام شُوه بالمسلمين ، أي لو فهم الصحابة الإسلام كما نفهمه نحن لما خرج من مكة .
إنسان أسلم فجاء مهاجراً فقبضوا عليه في الطريق ، فقال لمن قبض عليه : عهد الله إن أطلقتموني لن أحاربكم ، فأطلقوا سراحه ، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك ، فسرّ به سروراً عظيماً ، بعد سنة هناك غزوة ، هذا الصحابي دون أن يشعر نسي وعده ، فانخرط مع الجنود ، قال له النبي : ارجع ، ألم تعاهدهم ؟ في عصر مبادئ وقيم ، نحن اكتفينا بعبادات شعائرية ، صدق ولا أبالغ منهج الله يزيد عن خمسمئة ألف بند ، تبدأ من فراش الزوجية وتنتهي بالعلاقات الدولية ، فالخطاب الديني تنوع وأنا أقول لك بالمناسبة السؤال دقيق جداً قد يكون محرجاً ولكن سأجيبك عنه ، هناك دعوة إلى الله خالصة أساسها الاتباع ، أساسها التعاون ، أساسها الاعتراف بالآخر ، أساسها قبول النصيحة ، وهناك دعوة إلى الذات مغلفة بدعوة إلى الله ، هذه التي جننتهم ، الدعوة إلى الذات المغلفة بدعوة إلى الله أساسها التنافس لا التناصح ، أساسها الابتداع لا الاتباع ، أساسها إلغاء الآخر ، أساسها رفض النصيحة ، فالذي تتحدث عنه من هذا القبيل ، هناك دعوة إلى الذات أي هناك مصالح ، أي مصالح الدنيا تفرق والآخرة تجمع ، أقسم لك بالله لو أن الدعاة أخلصوا لله لتعاونوا تعاوناً مذهلاً ولرأيت الدين وحدة واحدة ، أما كل واحد له مصالح .
أنواع الاختلاف :
لذلك الاختلاف أنواع ثلاثة ، اختلاف طبيعي نحن في التاسع و العشرين من رمضان سمعنا صوتاً ضخماً ، عندنا في الشام مدفعاً لإثبات العيد ، فاختلفنا يا ترى مدفع العيد أو أن هناك تفجير صخرة في الجبل ؟ لا نعلم ، هذا اختلاف طبيعي اختلاف نقص معلومات ، أما حينما تكون الأمور واضحة تماماً ونختلف هذا اختلاف أهواء :
﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾
اختلاف قذر ، أمورنا واضحة ، إلهنا واحد ، نبينا واحد ، قرآننا واحد ، أهدافنا واحدة ، لغتنا واحدة ، ديننا واحد ، يتقاتلون والدماء تسيل .
دكتور وائل :
وخاصة حينما يغلف الدين بغلاف المصلحة التي تفضلت .
الدكتور راتب النابلسي :
أنا قلت دعوة إلى الذات مغلفة بدعوة إلى الله ، تنازع مصالح ، تنازع أهواء ، الخلاف الثالث اختلاف محمود ، اختلاف تنافس ، إنسان يرى أن أعظم عمل الدعوة إلى الله ، وإنسان يرى أن أعظم عمل في تأليف الكتب ، وآخر في افتتاح مستشفيات ، ومصحات ، وآخر في بناء مساجد ، هذا الاختلاف محمود .
إذاً هناك اختلاف قذر ، واختلاف الأهواء والمصالح ، والاختلاف الطبيعي .
دكتور وائل :
لعل الدعاة والمفكرون إن شاء الله يلتقون ويشكلون رابطة على الأقل .
المؤمن الصادق المخلص يسعى إلى القضاء على التفرقة و تفتيت الأمة :
الدكتور راتب النابلسي :
المشكلة أن هذه الصحوة موجة هناك من يركبها ويسيسها ، وهناك من يسعى لإثارة الفتن الطائفية ، دكتور وائل فرعون موسى ماذا قال الله عنه ؟
﴿ ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِف طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ ﴾
تقطيع الأوصال ، التفرقة ، الطرح الخلافي دائماً ، هذه مشكلة كبيرة جداً ، نحن إذا كان عندنا وعي وإخلاص لبلدنا ولأمتنا نسقط هذه الورقة من يد أعدائنا ، الطرف الآخر يسعى إلى التفرقة ، يسعى إلى تفتيت الأمة ، شرذمتها ، والمؤمن الصادق المخلص يسعى إلى رئب الصدع ، ولم الشمل .
دكتور وائل :
عودة إلى هذه القوانين القيّمة ، قانون التيسير والتعسير .
الناس على اختلاف مللهم وانتماءاتهم وطوائفهم لا يزيدون عند الله عن نموذجين :
الدكتور راتب النابلسي :
أولاً : الناس على اختلاف مللهم ، ونحلهم ، وانتماءاتهم ، وأعراقهم ، وأنسابهم ، وطوائفهم ، تابع ما شئت ، كل هذه التقسيمات من صنع البشر والقرآن لم يعترف بها ، العرق الأبيض ، العرق الملون الأنجلو سكسوني ، السامي ، الآري ، دول الشمال ، دول الجنوب ، المستغلين ، المستغلون ، هناك تقسيمات في الأرض لا تعد ولا تحصى كل هذه التقسيمات عند الله باطلة ، عند الله زمرتان في عباده ، زمرة عرفت الله ، فانضبطت بمنهجه ، فسلمت وسعدت في الدنيا والآخرة ، وزمرة غفلت عن الله، وتفلتت من منهجه ، وأساءت إلى خلقه ، فهلكت وشقيت في الدنيا والآخرة ، ولن تجد فئة ثالثة هذا التقسيم القرآني ، الدليل :
﴿ ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾ ﴾
كل إنسان برأسه هدف ، هذا ذاهب إلى تأمين وظيفة ، هذا ذاهب لإيقاع بين اثنين، هذا لارتكاب فاحشة معينة ، هذا لغيبة أو نميمة ،
﴿ ﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾ ﴾
لكن كل هذا المسعى يصب في خانتين ، إذا كان هناك ستة آلاف مليون إنسان ، وكل إنسان في باله هدف يسعى إليه ، هذه الحركات التي يقوم بها البشر صبها الله عز وجل في خانتين فقط ، قال تعالى :
﴿ ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾ ﴾
صدق أنه مخلوق للجنة ، وأن الدنيا دار عمل ليس دار أمل .
دكتور وائل :
كيف يخلق للجنة ؟
الدكتور راتب النابلسي :
خلقك الله كي تتنعم بالجنة .
دكتور وائل :
إذاً أصل الخلق أنك مخلوق للجنة .
1 ـ نموذج عرف الله و انضبط بمنهجه فسلم و سعد في الدنيا و الآخرة :
الدكتور راتب النابلسي :
لذلك :
﴿ ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾ ﴾
الحسنى هي الجنة :
﴿ ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ ﴾
صدق أنه مخلوق للجنة ، بنى حياته على العطاء ، يعطي من ماله ، من جهده ، من خبرته ، من وقته ، هذه أول زمرة ، الرد الإلهي الكريم :
﴿ ﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ ﴾
زواجه ميسر ، بيته ميسر ، تربية أولاده ميسرة له ، عمله ميسر سمعته متألقة ، محبوب :
(( (( استقيموا ولن تحصوا )) ))
لن تحصوا ، جنابكم باللغة العربية إغفال المفعول إطلاق للفاعل ،
(( (( استقيموا ولن تحصوا )) ))
﴿ ﴿ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾ ﴾
صدق أنه مخلوق للجنة فاتقى أن يعصي الله ، وبنى حياته على العطاء ، العطاء المحض ، لذلك الرد الإلهي :
﴿ ﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ ﴾
تيسير بكل المعاني في حياته ، حتى في صحته ، حتى في زواجه ، حتى في تربية أولاده ، حتى في عمله ، حتى في سمعته الاجتماعية .
2 ـ نموذج غفل عن الله وتفلت من منهجه فهلك وشقي في الدنيا والآخرة :
الطرف الثاني :
﴿ ﴿ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾ ﴾
كذب أنه مخلوق للجنة ، وآمن بالدنيا ، و رفض الآخرة ، عندما آمن بالدنيا استغنى عن طاعة الله ، وبخل .
الأنبياء و الأقوياء :
لذلك أقول لك هذه الكلمة : يقع على رأس الهرم البشري صنفان ؛ الأنبياء والأقوياء ، وأي واحد من بني البشر تابع لقوي أو نبي دون أن يشعر ، قالوا : إما أن تكون عبداً لله ، وإما أن تكون عبداً لعبد لئيم ، فالإنسان إما أنه عبد لله ، وإما أنه عبد لعبد لئيم ، هؤلاء الأقوياء والأغنياء ، الأقوياء ملكوا الرقاب ، والأنبياء ملكوا القلوب ، وشتان بين أن تملك رقبة الإنسان ، وبين أن تملك قلبه ، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا ، والأقوياء أخذوا ولم يعطوا ، الأقوياء عاش الناس لهم ، الفراعنة عاش الناس لهم، الأنبياء عاشوا للناس ، الأقوياء يمدحون في حضرتهم فقط ، الأنبياء في غيبتهم ، الأقوياء يرفضون النصيحة ، الأنبياء يقبلونها ، قال له : والله ليس بموقع ، ببساطة ما بعدها بساطة حول ، موقف رائع جداً أن تعود عن اجتهاد ، الله عز وجل حجب عن النبي الموقع المناسب ، حجبه عنه اجتهاداً وإلهاماً ووحياً ، لأن هناك مكرمة أخلاقية رائعة وهي الرجوع عن الخطأ ، النبي عليه الصلاة والسلام معصوم ، فهذه المكرمة لا يمكن أن تظهر منه ، هو قدوة لنا ، المكرمة هي الرجوع إلى الصواب ، أنا مخطئ قالت لي زوجتي أخطأت أقول لها : معك الحق ، إن شاء الله لا تعاد ، الموقف في بطولة ، أما الإنسان القوي لا يتراجع .
أحياناً الأقوياء بحاجة إلى هذه الفضيلة إذا أخطأ أن يرجع عن الخطأ ، النبي عليه الصلاة والسلام معصوم لا يخطئ ، هذه الفضيلة لن تظهر منه إطلاقاً ، ولأنه قدوة الله عز وجل حجب عنه الموقع المناسب ، حجبه عنه إلهاماً ووحياً واجتهاداً ، فجاء صحابي كتلة أدب معه ، قال له : يا رسول الله هو الرأي والمشورة ، قال له : والله ليس بموقع ، ببساطة ما بعدها بساطة ، النبي عليه الصلاة والسلام شرّع لنا الرجوع عن الخطأ ، هذه فضيلة .
الإنسان عندما يكفر بالآخرة ، آمن بالدنيا ، استغنى عن طاعة الله ، بنى حياته على الأخذ ، الأقوياء يرفضون النصيحة ، الأنبياء يقبلونها ، والناس جميعاً تبع لقوي أو نبي ، ولهذا أحب الناس الأنبياء وخافوا من الأقوياء ، أنا أقول للأقوياء : بطولتكم أن تتخلقوا بأخلاق الأنبياء حتى يحبكم الناس .
هذه قاعدة .
قانون التيسير و التعسير :
الآن القانون :
﴿ ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾ ﴾
صدق أنه مخلوق للجنة ، بنى حياته على العطاء ، الرد الإلهي الكريم :
﴿ ﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ ﴾
كلمة فلان محظوظ ، وفلان يده خضراء، وفلان فوق الريح ، كله كلام باطل ليس له معنى إطلاقاً ، هناك تيسير وهناك تعسير ، التيسير له قانون والتعسير له قانون ، التيسير أساسه الإيمان بالآخرة واتقاء أن يعصي الله ، والعطاء الرد الإلهي التيسير ، والتعسير رفض الآخرة ، استغنى عن طاعة الله ، بنى حياته على الأخذ ، فالرد الإلهي التعسير ، فلذلك:
(( (( ما من عثرة ، ولا اختلاج عرق ، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم ، وما يغفر الله أكثر )) ))
(( (( يا عبادي ، لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم ،وإنسَكم وجِنَّكم ، قاموا في صعيد واحد فسألوني ، فأعطيتُ كُلَّ إنسان مسألتَهُ ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يَنْقُص المِخْيَطُ إذا أُدِخلَ البحرَ ـ ذلك لأن عطائي كلام ، واخذي كلام ـ الشاهد هنا ، فمن وَجَدَ خيراً فليَحْمَدِ الله ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ )) ))
هذا قانون التيسير والتعسير ، أقسم لك بالله زوال الكون أهون على الله من أن تؤمن بالآخرة ، وتسعى لها ، وتتقي أن تعصي الله ، وتبني حياتك على العطاء ثم لا توفق ، والله هذا يتناقض مع نواميس الكون ، أنا أقول هذه العبارة أرددها كثيراً : زوال الكون أهون على الله من أن يخيب إنساناً آمن بالآخرة ، واتقى أن يعصيه ، وأحسن إلى خلقه ، ألا يوفق في الحياة .
دكتور وائل :
ألا يكون نوعاً من أنواع الابتلاءات دكتور ؟
لن يُمكن الإنسان قبل أن يُبتلى :
الدكتور راتب النابلسي :
هذه حالة خاصة ، القاعدة التيسير ، الابتلاء امتحان ، دائماً دكتور وائل المؤمن يمر بثلاث مراحل متداخلة أو متمايزة ، كيف ؟ مع المعصية هناك تأديب ، المؤمن يغلط أحياناً ، مع الاستقامة هناك امتحان ، فإذا نجح في تأديب المعصية فتاب ، ونجح في امتحان الرخاء فصبر ، الآن يأتي التكريم، فالتكريم هو الوضع العام المستقر ، يسبقه تأديب عند المعصية وابتلاء عند الطاعة .
الإمام الشافعي سُئل : "ندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين ؟ فقال : لن تُمكن قبل أن تبتلى" . هذا وضع خاص ، أما التيسير والتعسير هذا قانونه .
دكتور وائل :
الآية الكريمة :
﴿ ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(2)﴾ ﴾
بداية ، قانون الأمن ونحن الوقت يداهمنا ، وهذا موضوع لو طرقناه بحلقات كثيرة لا نوفيه حقه ، لكن قانون الأمن .
في قلب المؤمن حالة أمن لو وزعت على أهل بلد لكفتهم :
الدكتور راتب النابلسي :
الحقيقة أن الأمن حالة دقيقة جداً ، نفي احتمال المصيبة ، ألا تقع مصيبة اسمها حالة سلامة ، أنت راكب سيارتك ، و لم تستطع أن تصلح العجلة الاحتياط ، والطريق طويل قد تصل إلى المكان دون أن تصاب بشيء لكن عندك حالة قلق مستمرة ، أي خطأ انقطعت ، فأنت تشعر أنك وصلت إلى السلامة ولكن لم تكن آمناً ، لأن عجلة الاحتياط لم تصلحها ، فالسلامة عدم حدوث مشكلة أما الأمن عدم توقع مشكلة ، أنت في خوف الفقر في فقر ، قد يكون أغنى الأغنياء فقير عند الله ، خائف يفتقر ، فهو فقير ، وأنت من خوف المرض في مرض ، وتوقع المصيبة مصيبة أكبر منها . الأمن نعمة من نصيب المؤمن فقط ومعي دليل بقلب المؤمن حالة أمن لو وزعت على أهل بلد لكفتهم ، قال تعالى :
﴿ ﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾ ﴾
لو أن الآية أولئك الأمن لهم ولغيرهم ، أما :
﴿ ﴿ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾ ﴾
عندما قدمنا الخبر كشبه جملة على المبتدأ المؤخر ، صار هناك قصر وحصر ، أي الأمن لهم وحدهم :
﴿ ﴿ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْن ﴾ ﴾
لذلك المؤمن من أولى خصائصه الشعور بالأمن :
﴿ ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ﴾ ﴾
بقلبه أمن لو وزع على أهل بلد لكفاهم ، تجد إنساناً معه ملايين مملينة ، معه أرصدة ، بكل بنك له رصيد وتجده في قلق ، وهناك إنسان لا يملك شيئاً ، لكن عنده أمن من الله عز وجل ، فنحن في أمس الحاجة للشعور بالأمن .
خاتمة و توديع :
دكتور وائل :
الحقيقة أنا أشكرك أشد الشكر ، الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، في محاور كثيرة ، لعل الله عز وجل يوفقنا في حلقات قادمة أن نوفي هذا الموضوع .
الدكتور راتب النابلسي :
وأنا أشكرك على هذه الأسئلة اللطيفة .
دكتور وائل :
أنتم مشاعل النور في هذا الوقت الحاضر ، وهذه الجهود المباركة من الدعاة ومن المفكرين أن يلتقوا معاً ، وأن نربط علاقتنا بالداعية والمفكر ليعمل كلّ على شاكلته ، نسأل الله التوفيق لهذه الأمة ، وإن شاء الله تسير في مراحل الإقلاع الحضاري ، لعل هذا يكون قريباً إن شاء الله ، كما أشكركم أعزائي على حسن متابعتكم ، هذا محدثكم وائل عربية يستودعكم الله وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته .
والحمد لله رب العالمين