الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الواحد والسبعين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، ومنزلة اليوم منزلة السّرّ، الله عز وجل يقول:
﴿ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)﴾
هنــاك أناس أتقياء، أخفياء، أولياء، يعلم الله طِيب سرائرهم، ويعلم الله إخلاصهم، ويعلم الله عن همتهم العالية كل شيء، لذلك خصّهم بشيء، هؤلاء ليس لهم وجود قوي، ولا سمعة متألقة، إن حضروا لم يُعرفوا، وإن غابوا لم يُفتقدوا، هذه منزلة، ولعل هذه المنزلة تغطي كل إنسان في التعتيم، لا أحد ينتبه له، لا أحد يأبه له، لعله في الدرجة الدنيا الاجتماعية ، لعله في وظيفة بسيطة جداً، لعله يعيش على كفاف، هؤلاء أصحاب منزلة رفيعة عند الله عز وجل، هذا الدين لكل الخلق؛ قويهم وضعيفهم، من كان تحت الأضواء متألقاً، ومن كان في التعتيم، هذه المنزلة يختص بها ربنا عز وجل من يشاء، الانطلاق من هذه الآية: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ ولقد قال عنهم بعض العلماء: أصحاب السر هم الأخفياء.
أويس القرني أصدق شاهد على أعماله الطيبة فيما بينه وبين ربه:
صار هناك مصطلح الآن مصطلح نجـوم المجتمع، أي بالعلم هناك أشخاص يُشار إليهم بالبنان، في التجارة، في الصناعة، في الزراعة، في القيادة، في العلم الجـامعي، في التأليف، هؤلاء يسمونهم: أعلام المجتمع، نجوم المجتمع، وهناك أشخاص لا أحد يعـرفهم، يعملون عملاً طيباً فيمـا بينهم وبين ربهم، لهم إخلاصهم، ولهم محبتهم، ولعل أصدق شاهد على ذلك أويس القرني، النبي عليه الصلاة والسلام قال: إذا لقيتم أويساً فاطلبوا منه الدعاء، سيدنا عمر عشر سنوات يدعو أهل اليمن، لعل فيهم أويساً، بالسنة العاشرة سأل رئيس وفد اليمن: أبقي أحد من جماعتك؟ قال: لا، لم يبق أحد، قال: أبداً؟ قال: راعي إبل وأجير قوم تركناه مع الإبل، فانطلق إليــه سيدنا عمر، رجل فقير، هذا أويس القرني، من يعرفه؟ لضآلة شأنه تُرِك مع الإبل، وكان تابعياً، وكان من أصحاب المقام الرفيع عند الله عز وجل، قصة ذكرتها مرات عديدة في دروس، وفي خطبة.
السّر الذي خفِي على أعداء الرسل:
قال: هؤلاء الذين اتَّبعوا الرسل في ساعة الشدة، الذين صدَّقوا الرسل، وآثروا الله والدار الآخرة على قومهم وأصحابهم، أودع الله في قلوبهم سرّاً من أسرار معرفته ومحتبـه، والإيمان به، هذا السر خَفِي على أعداء الرسل، فنظروا إلى ظواهرهم، والآن هناك شخص غني، قوي، بيت، مكانة، مركبة، يلتقي صُدفةً مع شخص، قد يكون حاجباً، قد يكون آذناً، قد يكون يبيع بضاعة على الطريق، يحتقره، يزدريه، لو علم ما في قلبه من أسرار، ومن إقبال، ومن إخلاص، ومن أشواق، لصغُر هذا القوي الغني أمام هذا الفقير الضعيف، طبعاً ليس كل إنسان فقير عنده سرّ، ما كل إنسان يبدو أنه إنسان أقل من طبيعي عنده سرّ، لا، يجب أن يكون متصلاً بالله، مُقيماً على أمره، مطيعاً له، مقبلاً عليه.
المقاييس التي لم يعترف بها القرآن الكريم:
أكبر شاهد، قال: أعداء الرسل نظروا إلى أتباع الرسل ازدروهم، فقالوا: اطرد هؤلاء عنك حتى نأتيك ونسمع منك، قالوا:
﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)﴾
فقال نوح عليه الصلاة والسلام لقومه:
﴿ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)﴾
المقياس عند الله مقياس الطاعة لا مقياس الغنى، مقياس الإقبال لا مقياس القوة، مقياس الإخلاص لا مقياس الجمال، مقياس التوحيد لا مقياس الأتباع، هذه مقاييس دنيوية لم يعترف القرآن بها إطلاقاً.
اجعل مقياسك مقياس القرآن:
قال بعض العلماء: كلام سيدنا نوح: إن كنتم تزعمون أنهم إنما اتبعوني في بادئ الرأي وظاهره فليس عليّ أن أطّلع على ما في أنفسهم، فإذا رأيت من يُوَحّد الله، علِمت من ظاهره، ورددت علم باطنه إلى الله عز وجل، أنا لي أن أحكم بالظاهر، هذا الكلام أيها الإخوة؛ من أجل ألا تحتقر أحداً، قد تكون رفيع الشأن في الدنيا وعندك خادم، ومن يدري أن الخادم له عند الله مكانة تعلو على مكانتك؟ وقد تكون غنياً في الدنيا وعندك موظف بسيط يتقاضى أجراً محدوداً، ومن يدري أن يكون هذا الموظف البسيط له عند الله مكانة تسمو على مكانتك؟ لا تزدرِ أحداً، لا تنظر إلى الناس بمقياس المال، هذا مقياس شيطاني، ولا تنظر إلى الناس بمقياس الجمال، هذا مقياس شيطاني .
أحد التابعين قال: كان قصير القامة، أسمر اللون، مائل الذقن، غائر العينين، ناتئ الوجنتين، ضيق المنكبيـن، أحنف الرجل، ليس شيء من قُبْح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيد قومه، إذا غضِبَ غضبَ لغضبته مئة ألف سيف، لا يسألونـه فيمَ غضـب؟ اجعل مقياسك مقياس القرآن، قال تعالى:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)﴾
هذا هو المقياس، العلم والعمل، ولا تعبأ بمقياس آخر.
الله تعالى عليم بما في نفوس العباد:
هناك استنباط رائع حينما قال: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ إذ أهّلهم لمرتبة عليا في الدين، أي لماذا أسمع الله عز وجل زيداً الحق ولماذا أبقى عبيداً خارج الحق؟ لأن الله يعلم ما في نفوس العباد، في نفس هذا الإنسان طلب للحق، في نفس هذا الإنسان حبّ لله، في نفس هذا الإنسان شوق إلى الحقيقة، في نفس هذا الإنسان رغبة أن يكون كاملاً، لذلك ييسر الله عز وجل له طريق معرفته.
أصحاب السّرّ يعلم الله ما في قلوبهم فيؤهلهم لمرتبة تتناسب مع طلبهم:
نقطة دقيقة جداً: لك موقف، هذا الموقف سبب عطاء الله لك، الله عز وجل يعلم ما في نفس الإنسان فيعطيه ما يتناسب مع ما في نفسه، إنسان طالب الحقيقة، لابدّ من أن يجمعه الله مع أهل الحق، إنسان طالب الإيمان العالي، لابدّ من أن يجمعه الله مع أهل الإيمان العالي، لذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ ترى أخوين من أب وأم، من بيئة واحدة، من معطيات واحدة، من ظروف واحدة، أخ همه المال، أخ همه معرفة الله، الأخ الذي همه معرفة الله ييسر له الله أن يطلب العلم، وأن يرقى في مدارج السالكين، وأن يُجري على يديه أعظم الأعمال، الثاني يُيَسّر له المال الوفير، قال تعالى:
﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)﴾
اطلب أنت، أي طلب تطلبه بصدق يُحَقّق، يُمدُّ هؤلاء إن صدقوا فيما طلبوا من عطائه، ويُمدُّ هؤلاء إن صدقوا في طلبهم من عطائه: ﴿كُلا نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ الإنسان إذا أراد الله تراه يبحث عن علم، عن عمل صالح، عن فهم لكتاب الله، عن فهم لسنة رسول الله، يبحث عن طريق للدعوة إلى الله، يبحث عن شيء يُقربه إلى الله، يحب المؤمنين، يكره الفسقة والكافرين، ولاؤه للمؤمنين، براءته من أهل الفجور والمعصية، هذا الإنسان تُيسَّر له سُبُل الإيمان، وسُبُل التقوى، وسُبُل الرقي، وسُبُل العمل الصالح، أي هؤلاء من أصحاب السر الذين علم الله ما في قلوبهم فأهلهم لمرتبة تتناسب مع طلبهم .
أنت كأب عندك أولاد عدة، ابن همه مظهره، ابن همه دراسته، الذي يهمه الدراسة لا يبالي كثيراً بمظهره، أحياناً يعتذر من سهرة ممتعة عنده مذاكرة في اليوم التالي، يعتذر عن نزهة رائعة عنده فحص، أحياناً يعتذر من صديق عنده مذاكرة، يقرأ الكتاب، يقرأ كتاباً آخر، يسأل، يناقش، يكتب، يُلخّص، الابن الثاني همه مظهره؛ عطورات، وألبسة، وتنزُّه في الطرقات، وسهرات، هذا بواد وهذا بواد، فإذا عَلِم الله عز وجل سرّ الذي يطلب الحقيقة، ويطلب مرضاة الله عز وجل فأهّله، ورفع مقامه، ودلّه على طريق الخير، وأجرى على يديه كل خير، شيء طبيعي جداً، هذا هو السر.
محبة الله للعبد التقي الغني الخفي:
أيها الإخوة؛ هناك مشكلة: أهل الدنيا يستنبطون من دنياهم العريضة أن الله يحبهم، لذلك يزدرون كل مـن حُرِم الدنيا، لذلك الآية واضحة: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ يقول الله لهم: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ هؤلاء هم الأتقياء الأخفياء، أنت لك سرّ، هذا السّر يطّلع الله عليه بحسب ما في هذا السر من محبة لله، وإخلاص، ونقاء، وصفاء، وطِيب، يؤهلك الله عز وجل إلى مقام يتناسب مع هذا السّر، أما من كان له دنيا عريضة، وسرّه لا يُرضي الله عز وجل، هذا محجوب عن الله بدنياه.
(( يُروى أن سيدنا سعد بن أبي وقاص قال له ابنه: يا أبت أنت هاهنا والناس يتنازعون في الإمارة، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كانَ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ في إبِلِهِ، فَجَاءَهُ ابنُهُ عُمَرُ، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قالَ: أَعُوذُ باللَّهِ مِن شَرِّ هذا الرَّاكِبِ، فَنَزَلَ فَقالَ له: أَنَزَلْتَ في إبِلِكَ وَغَنَمِكَ، وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ المُلْكَ بيْنَهُمْ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ في صَدْرِهِ، فَقالَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ، الغَنِيَّ، الخَفِيَّ. ))
إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي، هناك إنسان يحب أن يكون تحت الأضواء، يحب الشهـرة، يحب أن يكـون عالياً في الأرض، والله هذه مشكلة، لقوله تعالى:
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾
إنسان يُدعى إلى عقد قران، إن لم يكن في الصف الأول ينقُم أشدّ النِّقمة، فمرةً قلت: ليتنا نبني صالة فيها صف واحد، طولها خمسة كيلو مترات، الكل بالصف الأول، هذه مشكلة كبيرة، إذا لم يكن بأول صف معنى هذا هو مكانته ليست معروفة في هذا المجلس.
ضرورة التواضع لله عز وجل:
يا إخوان؛ كلمة دقيقة أقولها لكم: هل تصدقون أن سيد الخلق قاطبة دخل أعرابي إلى مجلسه:
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَالنَّبِيُّ ﷺ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «قَدْ أَجَبْتُكَ» فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ، فَقَالَ: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ». فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. ))
فقال: أيكم محمد؟ من منكم محمد؟ ماذا نستنبط؟ ليس له مكان معين، أبداً، كان واحداً من إخوانه، واحداً من أصحابه، هكذا علمنا النبي، قال: تيامنوا ، بكل شيء باليمين.
اجلس حيث ينتهي بك المجلس.
كان هناك عالم جليل من علماء الشام الكبار، بل هو سيد علماء الشام، أين كان يجلس؟ في طرف غرفته، إخوانه بالصدر، وهو جالس في طرف الغرفة، تواضعاً لله عز وجل، صار هناك قِيَم جديدة، صار هناك هالة كبيرة جداً، وصار هناك تعظيم، وصار هناك مراتب، وكراسٍ، وهيئة، وأُبّهة، وعظمة، هذه ليست من الدين في شيء، وقد ورد في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( عَنْ أبي هريرةٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُبَّ أشعثَ مدفوعٍ على الأبوابِ، تنبُو عنه أعينُ الناسِ لو أقسمَ على اللهِ لأَبرَّهُ. ))
صفات الأتقياء الأخفياء أصحاب السّرّ الذين عَلِم الله ما في قلوبهم:
الحقيقة هؤلاء الأتقياء الأخفياء على طبقتين، قال: الطبقة الأولى طائفة علت هممهم، وصفت مقاصدهم، وصحّ سلوكهم، حتى سبقوا السائرين، فلم يوقف لهم على رسم، ولم يُنسب إلى اسم، ولم يُشَر إليهم بالأصابع، يريد الظّل، يريد ألا يعرفه أحد، والله يوجد أشخاص كثيرون يفعلون أجلّ الأعمال ولا ينطقون بكلمة، يعملون بصمت، لكن والله قلوبهم مُفعَمة بمحبة الله، قلوبهم عامرة بذكر الله، هؤلاء أخلصوا، قال: هؤلاء لهم ثلاث صفات إيجاب، وثلاث صفات سلب، ثلاث صفات ثبوتية، وثلاث صفات سلبية، هؤلاء الأتقياء الأخفياء أصحاب السّرّ الذين عَلِم الله ما في قلوبهم .
الصفة الأولى: علو هممهم، أهل الدنيا يميلون إلى الدعة، يخمدون إلى الأرض، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)﴾
هؤلاء الأتقياء الأخفياء أصحاب همم عالية، لا يفتُرون عن العمل الصالح، ليلهم ذكر، ونهارهم ذكر، وعملهم خدمة، ومتواضعون، يبذلون من وقتهم، وجهدهم، وأموالهم الشيء الكثير، قال: هؤلاء هممهم عالية، علو همتهم لا تقف دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً، ولا تبيع حظها من الله، وقُربه، والأنس به، والفرح، والسرور، والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الدنيوية الفانية، هؤلاء أولى صفاتهم علو هممهم، الله عز وجل يبارك لهم في وقتهم، في وقت قليل يفعلون الشيء الكثير، يبارك لهم في أموالهم، بمال قليل ينتفعون منه الشيء الكثير، يبارك لهم في زوجاتهم، تأتيهم زوجات على شاكلتهم، معهم على طريق الإيمان، يبارك الله لهم في أولادهم، أولادهم عون لهم في الإيمان.
أول علامة: علو الهمة، هذا الكسول يميل للاسترخاء، والراحة، والتأجيل، يقول: ما عندي متسع من الوقت، جسمي له حق، يجب أن يأخذ راحته، يجب ألا نوقظه، نائم، لا نستطيع، هذا وقت متأخر اعذرني، قولوا له: ليس هنا، الانسحاب من العمل الصالح سهل، لكن مع الانسحاب من العمل الصالح هناك انسحاب من رحمة الله.
العلامة الثانية: صفاء القصد، أي قصدهم خال من الشوائب، قصدهم مُجرد من حظوظ الدنيا، والقصد له آفتان؛ الآفة الأولى: أن يشترك في هذا القصد عمل للدنيا وعمل للآخرة، والآفة الثانية: أن يكون لغير الله، أن يكون مع قصده لله قصد آخر، أو أن يكـون لغير الله، أي خلوص القصد من كل إرادة تُزَاحم مراد الله عز وجل، بل يصير القصد مجرداً لمراده الديني الأمري فقط، وعلامته اندراج حظّ العبد في حقّ الرب تعالى، صار ميلك وفق ما جاء به القرآن، حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به .
العلامة الثالثة: صحة السلوك، هناك انضباط، يقف عند الحلال والحرام، تجده حيث أمر الله، تفتقده حيث نهى الله عز وجل، فسلوكه سليم من الآفات والعوائق والقواطع والحُجُب، وإنما يصح هذا السلوك بثلاثة أشياء؛ أحدها: أن يكون على الدرب الأعظم درب محمد صلى الله عليه وسلم، عمله وفق السنة، لا يوجد بدع، لا يوجد خرافات، لا يوجد إضافات، لا يوجد حذف من السنة، عمله وفق السنة، هذه أول صفة لصحة السلوك.
الصفـة الثانية: ألا يجيـب على الطريق داعي البِطالة والوقوف والدِّعة، وهو في الطريـق إلى الله هناك مغريات، هذه سماها العلماء: صوارف ، جلسة، نزهة، قعدة، استرخاء، إهمال العمل الصالح، هو على السنة ولا يستجيب لأي صارخ، ودائماً ينظر إلى مقصوده، إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي، هذه الأشياء الثلاث يصحُّ بها السلوك.
الأتقياء الأخفياء أول خصائصهم: الهمة العالية، وثاني خصائصهم: صفاء قصدهم، وثالث خصائصهم: صحة سلوكهم، هؤلاء أتقياء أخفياء، ودعك من الأضواء والشهرة وما إلى ذلك، من هو أشهر مخلوق؟ إبليس، ليست الشهرة مقياساً أبداً، المقياس أن تكون على منهج الله.
من تمام إحسان الرب إلى عبده أن يُزيل من قلبه آفة الركون إلى نفسه:
أيها الإخوة؛ من تمام إحسان الرب إلى عبده وتعريفه قدر نعمته أن أراه النفس التي كانت حاكمة عليه، قاهراً لها، مقهورة، مغلوبة، الآن كل واحد من عامة الناس عبد لنفسه، يفعل ما تشتهيه نفسه، يتحرك بأمر هواه، مقهور لها، أي أعلى مرتبة لهؤلاء الأتقياء الأخفياء أصحاب السّرّ أنهم قهروا أنفسهم، إن اتبـاع الهوى هـوان:
وا خجلتي من عـتاب ربـــي إذا قال لي: أسرفت يا فلان
إلى متى أنت في المعاصــي تسير مُرخى لك العنــــان؟
عندي لك الصـلح وهو برِّي وعندك الســيــف والسنــان
ترضى بأن تنقضي الليالــي وما انقـضت حربك العـوان
فاسـتحي من كتــاب كريـــم يُحصى به الـعقل واللســـان
واسـتحي من شــيبة تراهــا في النار مـسـجــونة تُهــان
أيها الإخوة؛ من تمام إحسان الرب إلى عبده لهؤلاء الأتقياء الأصفياء الأخفياء أن يُزيل من قلبه آفة الركون إلى نفسه، أو عمله، أو حاله، لو كان حاله متألقاً، ولو كان عمله عظيماً، ولو كانت نفسه طاهرة، لا يركن إلا إلى الله، دائماً يتهم نفسه، يوجد بالطـريق مزالق، أحد هذه المزالق أن تعجبه نفسه، عمل عملاً صالحاً، تألق فاكتفى به، صار يمدح نفسه، يكيل المديح لنفسه بغير حساب، من إكرام الله إلى عبده أن يزيل عن قلبه آفة الركون إلى نفسه أو عمله أو حاله، كما قيل: إن ركنت إلى العلم أنساكه الله، يغيب عنك العلم، أو ركنت إلى الحال سلبه منك، أو ركنت إلى المعرفة حُجِبت عنك، إن ركنت إلى قلبك أُفسد قلبك، فلا يركن العبد إلى شيء سوى الله البتة، ومتى وَجَد في قلبه ركوناً إلى غير الله عز وجل فليعلم أنه قد أُحيل على مفلس، لا تركن لا إلى قلبك، ولا إلى مالك، ولا إلى معرفتك، ولا إلى حالك، اركن إلى الله وحده .
أعظم الضّر الحجاب عن الله عز وجل:
أيها الإخوة؛ من أعظم الضّر الحجاب عن الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)﴾
أي أكبر مُصاب يصاب به الإنسان في الدنيا أن يكون عن الله محجوباً، بيت فخم، مكانة عالية، دخل كبير، أولاد، زوجة، لكن عن الله محجوب، الصلة بالله واحد، المال صفر، الزوجة صفر، الأولاد صفر، التجارة صفر، الصحة صفر، الوسامة صفر، الذكاء صفر، اسحب الاتصال بالله، هذا الواحد، أصفار، أنت أمام أصفار، قال: من أعظم الضر حجاب القلب عن الرب، وهو أعظم عذاباً من الحجيم، قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ .
﴿ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)﴾
فالعـارف قلبه غير محجوب، بل يعيش في نور ظفره بإقبال قلبه على الله عز وجل، وجمْع همه عليه، وفنائه بمراده، فصار واجداً لما أكثر الخلق فاقداً له، لقد لبس قلبه نور ذلك الوجود، حتى فاض على لسانه وجوارحه وحركاته وسكناته.
الآن أيها الإخوة؛ الدرس القادم إن شاء الله، أنا أتصور أنه درس مهم جداً، هو ما الذي يحجبك عن الله عز وجل؟ هناك عشرة أشياء تحجب الإنسان عن الله عز وجل، ولأن الحجاب عن الله أكبر عقاب يُعاقب به الإنسان في الدنيا والآخرة، يكون محجوباً عن الله عز وجل: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ .
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق