الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السابع والسبعين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، والمنزلة اليوم منزلة البرق.
كتقديم لهذه المنزلة، العبد أحياناً يطيع ربه فيُكرمه، وفي أحيان أخرى يُكرمه فيطيعه، الله عز وجل خبير بالنفوس، فأحياناً يكون سير المؤمن طبيعياً، تبرق له ومضات من أنوار الله عز وجل، قد يمتلئ قلبه سعادة، قد يشعر أنه يحب الله حباً شديداً، فهذه البوارق التي تلوح أمامه قد تدفعه إلى السير الحثيث في طريق الإيمان، وقد يسأل أحدكم: ما دليل هذه المنزلة في كتاب الله؟
﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)﴾
ما يجذب الله به العبد إليه:
كم أخ كريم ذكر لي دخل إلى مسجد شعر براحة لا توصف، استمع إلى شريط، وجد أنه اهتدى إلى نفسه، عرف نفسه، هذه معونة من الله، الأمور قد تكون أقل من ذلك، ولكن ربنا عز وجل حينما يعلم صدقك وإخلاصك، وحينما يرى أن لك مطلباً عالياً، يجذبك إليه بطريقة أو بأخرى، لولا أن الله عز وجل يملأ قلبه سعادة، يملأ قلبه طمأنينة، يملأ قلبه راحة، يملأ قلبه غنى، يُشعره أنه في رعاية الله وحفظه، طريق الإيمان يحتاج إلى جهد كبير، ما الذي ينسيك هذا الجهد؟ ثمرات هذا الطريق.
الحقيقة الإيمان كله قيود، المؤمن مقيد، والإيمان قيد الفتك ولا يفتك مؤمن، في كل حركة، وفي كل سكنة، في بيتك، في فراشك، مع أهلك، مع أولادك، في أثناء استحمامك، في أثناء سيرك، في بيعك، في شرائك، في سفرك، في إقامتك، في علاقاتك، في أفراحك، في أتراحك، يوجد منازل دقيقة، افعل ولا تفعل، يجوز ولا يجوز، حرام وحلال، ينبغي ولا ينبغي، فحياة المؤمن كلها قيود، ولكن هذه القيود سميتها مجازاً قيوداً، هي في الحقيقة حدود، ليست قيوداً لحريتك ولكنها حدود لسلامتك.
من البروق التي تجلب العبد إلى الله عز وجل:
انظر إلى إنسان يُطبِّق منهج الله عز وجل، تراه رافع الرأس دائماً، تراه يعيش في نفسية مَلِك، لأنه حر، لا يوجد مأخذ عليه، لا يوجد إنسان يهدده بتهمة مالية، لا يوجد إنسان يهدده بتهمة أخلاقية، لا يوجد إنسان يلاحقه لأنه طبق منهج الله فأصبح حراً، كن للحق عبــــداً فعبد الحق حــــر، قد تجد إنساناً درجته متوسطة في الحياة، قد تجد إنساناً في الدرجة الدنيا، ولكنه رافع الرأس، ولكنه غني بالله، ولكنه راض عن الله، فهذه البارقة لولا أن الله يجعل لك من أنواره بروقاً تبرق أمامك لما أقبلت على هذا الدين، الله جلّ جلاله:
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)﴾
فالإيمان محبب، إن صحّ التعبير أنت عندما تخطب ود الله، الله يقابلك بأضعاف مضاعفة من الود، قد لا تراه بعينك، ولكن تشعر به في قلبك، تشعر أنك في عين الله، تشعر أنك في حفظ الله، تشعر أن الخلق كلهم ممنوعون عن أن يصلوا إليك، تشعر أن لك معاملة استثنائية، هذه من البروق التي تجذبك إلى الله عز وجل، كما أنك تخطب ودّ الله، الله عز وجل يكافئك على هذا الإخلاص بعطاء من نوع خاص، بعطاء عزَّ على أهل الأرض جميعاً، على أهل الأرض الشاردين، قد يعطي الله المال لمن يحب ولمن لا يحب، وقد يعطي الصحة لمن يحب ولمن لا يحب، وقد يعطي الذكاء لمن يحب ولمن لا يحب، وقد يعطي الجمال لمن يحب ولمن لا يحب، ولكن هذه السكينة التي هي تملأ قلب المؤمن، والتي تبرق أنوارها أمام عينيه، لا يعطيها إلا لمن يحب، إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين.
آيات القرآن الكريم التي تهز مشاعر المؤمن:
من آيات القرآن الكريم التي تهز مشاعر المؤمن، حينما خاطب الله سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قال له:
﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)﴾
أي هؤلاء السابقون السابقون الله عز وجل اشترى منهم أنفسهم، وباعوها بيعاً صحيحاً، اشترى أنفسهم وأموالهم، الله اشترى وقتهم، اشترى طاقاتهم، اشترى قدراتهم، اشترى اهتماماتهم، اشترى فراغ وقتهم:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾
فهؤلاء السابقون السابقون لهم عند الله شأن كبير، لا تُشْفِق لحالهم، أشفق أنت على حالك، قال: مرة عالم شاب أقبل الناس عليه إقبالاً شديداً، فأثار حسد الكبراء، والحسد موجود، يبدو أنهم كادوا له، وطعنوا به، واستسهلوا أن يُصَغّروه أمام الناس، فجاءه أحد الناصحين قال له: والله يا فلان إنني أشفق عليك مما يقوله عنك الناس، قال: هل سمعت مني عنهم شيئاً؟ قال: لا، قال: عليهم فأشفق، عليهم فأشفق.
على الإنسان أن يتباهى برضوان الله لأنه هو الذي يبقى بعد الموت:
المؤمن حينما خطب ودّ الله عز وجل، وملأ الله قلبه سعادة وطمأنينة، لا تشفق عليه أشفق على نفسك، أهل الدنيا أيها الإخوة بموازين الدنيا السخيفة يُقيِّمون بها أهل الإيمان، فقد تجد إنساناً من أهل الدنيا، من أهل اليسار، يسأل مؤمناً: كم دخلك؟ فإذا ذكر الحقيقة قال له: كيف ترضى به؟ كيف تعيش به؟ أنت الآن تقيسه بمقياس مادي سخيف، لو أنك قست نفسك بميزانه لكنت دون الصفر، هذا يعرف الله، هذا يعرف منهج الله، هذا يسعى لمرضاة الله، من الأدعية التي أدعو بها يوم الجمعة في الخطبة: اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم، يقول لك: هذا البيت أنا اشتريته باثني عشر ألفاً الآن سعره ثلاث عشر مليوناً، مسرور، هذه الأرض تضاعف سعرها مئة مرة، هذه الشركة أنا وكيلها الحصري، هذه المركبة لا يوجد مثلها، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك.
إذا تباهى الناس بدنياهم، بقصورهم، بمزارعهم، بمركباتهم، بأرصدتهم المُكدّسة، بأولادهم النجباء، بزوجاتهم الحسناوات، تباهَ أنت برضوان الله، لأن هذا الرضوان هو الذي يبقى بعد الموت، أما هذه الدنيا العريضة تنتهي في ثانية واحدة، الذي جمّعه الإنسان في عمر مديد يخسره في ثانية واحدة.
البرق مبدأ في طريق الولاية التي هي وراثة النبوة:
إذاً: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى*إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾ فهذه النار التي رآها موسى عليه السلام كانت مبدأ في طريق نبوته، والبرق كما قال العلماء مبدأ طريق الولاية التي هي وراثة الأنبياء.
إخواننا دققوا؛ الولاية بالمعنى القرآني، هذا موضوع أبدال أقطاب، إنسان نصف مجنون، شكله رث، هذا ولي كبير، هذه المعاني ليس لنا علاقة بها، أنا أقول: الولي بالمعنى القرآني، قال تعالى:
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)﴾
وعلى كلٍّ منا أن يكون ولياً لله، والبرق مبدأ في طريق الولاية التي هي وراثة النبوة.
قال بعض العلماء الراشدين: البرق نور يقذفه الله في قلب العبد ويبديه له، فيدعوه بهذا البرق إلى دخول طريق الإيمان طريق الصادقين، ما الذي يدفع الإنسان إلى بيت الله؟ إلى إنفاق ماله؟ إلى إنفاق وقته؟ إلى خدمة المؤمنين؟ هذا البرق الذي برق، أحياناً الإنسان لا يوجد مانع، أحياناً فتاة فيها مسحة جمال تبرق لشاب فينسى دراسته، وينسى مُستقبله، وينسى عمله، وقد ينفق عليها كل ثروته، ممكن، برق له من جمالها شيء، إذا كانت فتاة من خلق الله إذا برق لشاب من جمالها شيء ضحى بكل شيء من أجلها فكيف إذا لاح لك من أنوار الله لائح؟:
فـلو شاهدت عيناك من حسننـــا الذي رأوه لما وليت عنـــا لغـيرنـا
ولو سمعت أذناك حسن خطابـنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنــــا
ولو ذقت مـن طعم المحبـــة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنـــــا
ولو نسمت من قربنا لك نسمـــة لمــــت غريباً واشتيــاقاً لقربنـــــا
ولو لاح من أنوارنـا لـــك لائــح تــركـــت جميـع الكائـنات لأجلـنـا
من حفظ حدود الله شعر بسعادة لا توصف:
أنا أقول لكم: إذا أحدكم بساعة من ساعات الوصال مع الله، بساعة من ساعات القرب، بساعة من ساعات المناجاة، في ساعة من ساعات السكينة، قد يقول أحدكم: ليس في الأرض كلها من هو أسعد مني، قد تشعر أنك ملكت الدنيا، أنك في أعلى مرتبة في الدنيا إذا سمح الله لك أن تتصل به الصلة التي أرادها لك، إذا الإنسان يحفظ حدود الله جيداً وقف ليصلي فأخذته الخشية في الصلاة، تصبح الصلاة متعته الوحيدة،
(( عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: رجلٌ من خُزاعةَ : لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فاستَرَحْتُ، فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال : سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - يقولُ : أَقِمِ الصلاةَ يا بلالُ ! أَرِحْنا بها. ))
[ هداية الرواة: خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح ]
صفات العبد الذي برقت له أنوار الحق:
1- تعظُم عنده النعمة مهما دقت:
قال: هذا الذي اندفع مع بوارق أنوار الله عز وجل ما صفاته؟ قال: العبد الذي برقت له أنوار الله عز وجل يستكثر القليل من عطاء الله، ولا قليل من الله من عطائه، إذا سلمه يقول: ربي لك الحمد، يشكر الله على أي عطاء إلهي، كان عليه الصلاة والسلام إذا خرج من قضاء حاجته يقول: الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني، وأبقى لي ما ينفعني، كانت تعظُم عنده النعمة مهما دقت، إذا أكل طعاماً قال: الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى فيّ قوته، واذهب عني أذاه، إذا ارتدى ثوباً، إذا نظر إلى المرآة، يقول: يا رب كما حسنت خَلقي فحسن خُلُقي.
نعمة السلامة، ونعمة الصحة، ونعمة أن عندك مأوى، وبيتاً، وأولاداً، هذه نعم كثيرة، فعلامة هذا الذي برقت له أنوار الله عز وجل أدق النعم يستعظمها، والشارد عن الله عز وجل أجلُّ النعم يستصغرها، أنت من خوف الفقر في فقر، من خوف المرض في مرض، توقع المصيبة مصيبة أكبر منها.
دقق أول علامة من علامات منزلة البرق من برقت أمامه أنوار الله عز وجل فهام بها، هذا تعظُم عنده النعمة مهما دقت، إذا نظر بعينيه، إذا سمع بأذنيه، إذا ضحك، يتلو قوله تعالى:
﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)﴾
أحياناً إنسان جالس مع أهله، ابنه كلامه جميل فرضاً، يسمع الكل ويضحك، هذا الطفل الصغير الذي ملأ هذا البيت فرحاً لو كان هناك خبر مؤلم جداً لما ضَحِك أحد، إذا ضحكت اشكر الله، أي لا يوجد مشكلة كبيرة، أنا لا أقول: لا يوجد مشكلة أبداً، لا يوجد إنسان لا يوجد عنده مشاكل، لكن لا يوجد مشكلة كبيرة، جالس مع الأهل، صار هناك جو لطيف، جو مرح، صار هناك ضحك، اذكر قوله تعالى:
﴿وأنه هو أضحك وأبكى﴾ والله عشرات، بضع عشرات، بل مئات، تجد رجلاً بكل مكانته يتضعضع يبكي، الله يُبكي الرجال، والرجل قلّما يبكي، تشعر أحياناً يوجد ضيم، يوجد قهر، تسأله عن حاله انهار رأساً، إذا الله عز وجل سمح لك أن تضحك فاشكر الله عز وجل، حتى لو ضحكت فهذه من نعم الله الكبرى، حتى لو وجدت أمامك زوجتك، هناك إنسان لا يوجد عنده زوجة، ولا يوجد أمل أن يتزوج، أي زوجة من أي مستوى، من أي درجة، من أي بنية، زوجة، لك زوجة تحصنك عن الحرام، هناك إنسان لا يوجد عنده زوجة، لذلك أنا أتألم كثيراً من رجل لا يقدر نعمة الزواج، ومن امرأة لا تقدر نعمة الزوج، وأية امرأة لا تشكر زوجها،
(( عن عبد الله بن عمرو: لا ينظُرُ اللهُ إلى امرأةٍ لا تَشْكُرُ لِزَوْجِها وهي لا تَسْتغني عنه. ))
[ الكبائر للذهبي: خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح ]
لا تروح رائحة الجنة، نعمة الولد، دائماً يتشكّى من أولاده، هناك إنسان يدفع كل ما يملك، يدفع ألف مليون ليأتيه ولد، الذي عنده ولد يشكر الله عز وجل، لذلك: اللهم أرنا نعمك بكثرتها لا بزوالها، إذاً هذا الذي برقت له أنوار الحق من صفاته أنها تعظُم عنده النعمة مهما دقت.
والله يوجد أخ من إخواننا أنا أُثني على حكمته، هناك رجل قدم بيتاً ثميناً لعمل خيري، أي مبلغ كبير جداً، فأقيم لهذا المحسن حفل تكريم، وكل هؤلاء الخطباء أثنوا على إحسانه وكرمه، هذا الأخ لفت نظره لشيء، فهذا الأخ الذي ألقى هذه الكلمة كان رئيس جمعية خيرية، قال له: أيها المحسن الكريم كان من الممكن أن تكون أحد المنتفعين من جمعيتنا، وكان من الممكن أن تقف في صف طويل ومعك هويتك من أجل أن تأخذ بضع مئات من الليرات كل شهر، ممكن، فالذي الله عز وجل مكنه أن يعطي يجب أن يذوب لله شكراً، كان من الممكن أن يجعلك تأخذ، فهذا الذي برقت له أنوار الحق من صفاته أنه تعظُم عنده النعمة مهما دقت، كأس الماء، كأس الماء ثمين جداً، أنا لست منتبهاً مرة إنسان توفي رحمه الله أصيب بفشل كلوي، يغسل كل أسبوع، قال لي مرة: الممرضة صرخت فيّ صوتاً قالت له: لا تشرب ماء كثيراً هذا الأسبوع الآلة معطلة، أنا لست منتبهاً، معناها إذا إنسان شرب كأس ماء هذا شيء كبير، معنى هذا الأجهزة سليمة، أي الكليتان تعملان بانتظام، لو كان هناك فشل كلوي لا تستطيع أن تشرب، لأن الآلة معطلة، ومعك ثماني ساعات مضطجع على السرير، مرة باليد اليمين، ومرة باليسار، مرة بالأرجل، ثماني ساعات وانتظار، والكلية الصناعية لا تصفي إلا ثمانين بالمئة فقط من عمل الكلية الطبيعية، ويبقى بعض حمض البول، وهذا يُسبِّب ضيق خُلق عجيب، وسرعة تأثر، وردود فعل قاسية جداً، هذه واحدة.
الصفة الثانية ممن برقت أمامه أنوار الحق فدخل في منزلة البرق: احتقاره لنفسه، فإن المحبة إذا تمكنت من العبد يزدري نفسه: يا ربي من أنا؟؟
مرة نور الدين الشهيد كان في معركة حاسمة مع الكفار سجد لله، هكذا سمعت أو قرأت، لا أدري ما صحة هذا الكلام!؟ قال: يا رب من هو الكلب نور الدين حتى تنصره؟ انصر دينك يا رب، إنسان بهذه المكانة العلية، يُوَاجه قوى البغي والعدوان، بنفسه يوجد تواضع شديد، يا رب لا تنصرني، انصر دينك، أنا لا شيء، فكلما تضخمت الأنا، معناها يوجد بعد عن الله، كلما صغرت النفس، معنى هذا أنت أمام حضرة الله لا شيء، أمام ملكوت الله لا شيء.
علامة التفوق أن تستصغر نفسك أمام الله عز وجل، فهذه الصفة الثانية، لا يوجد كِبر أبداً، يوجد تواضع، يا رسول الله نكفيك ذلك، قال: عليّ جمع الحطب، غير معقول، قال له أحدهم: عليّ ذبحها، والثاني قال له: عليّ سلخها، وقال أحدهم: عليّ طبخها، فقال عليه الصلاة والسلام: عليّ جمع الحطب، معقول سيد الخلق! قالوا: يا رسول الله يكفيك ذلك، قال: لا، أعلم أنكم تكفونني، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه.
سيد الخلق أنت يا رسول الله، سيد العالمين، لا، أبداً، يا من هيأك تفوقك لتكون واحداً فوق الجميع فعشت واحداً بين الجميع، المقام العالي في الإيمان إذا لاحت لك أنوار الحق برقت أمامك أنوار الحق، فأنت متواضع إلى درجة مذهلة.
الشيء الثالث: محبته لله عز وجل، هناك حب حقيقي، والحب إذا تمكّن من القلب فعل المستحيل، فالمحبة إذا تمكنت من العبد استكثر قليل ما يناله من محبوبه، استصغار للنفس من باب التواضع، والحب العارم، واستكثار نِعم الله عز وجل.
مرة جاءت موجة حر شديدة، فشكا رجل لوالده الحر الذي لا يحتمل، في الوقت ذاته كان هناك زلزال بتركيا، قال له: يا بني! اشكر الله، أنت تسكن في بيتك، خمسون ألفاً بالعراء، بلا مأوى.
4- يستقل الكثير من الأعباء:
يوجد صفة لهذا الذي برقت أمامه أنوار الحق: يستقل الكثير من الأعباء، مهما كان العمل شاقاً يستقله في جنب الله، قد يُمضي ساعات طويلة في خدمة المؤمنين، قد يُمضي ساعات طويلة في الدعوة إلى الله، قد يُمضي ساعات طويلة في إطعام المساكين، قد يُمضي ساعات طويلة لا يستكثر، يستقل كل الأعمال الصالحة، يستقلها لا يستكثرها.
معقول إنسان طوال النهار في الدعوة إلى الله، عليه الصلاة والسلام، فإذا جاء الليل وقف في صلاته حتى تورمت قدماه، قالت له السيدة عائشة:
(( عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ، أَوْ سَاقَاهُ. فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ: «أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا». ))
أحدنا إذا عمل عملاً طيباً بالنهار يريد أن يرتاح شهراً، ويعمل عملاً لا يترك أحداً دون أن يخبره به، اللهم صلّ عليه كل وقته في خدمة الخلق، وفي الليل في محبة الحق.
مرة قال بعض الذين يناجون الله عز وجل: يا رب لا يطيب الليل إلا بحلاوة مناجاتك، ولا يطيب النهار إلا بخدمة عبادك، المؤمن يصل إلى درجة أسعد لحظات حياته وهو في خدمة الخلق، يرأب الصدع، يلمّ الشمل، يُصلِح ما فسد، يُصلِح ذات البين، يُطعم فقيراً، يجبر كثيراً، يرعى أرملة، يرعى يتيماً، يحلّ مشكلة إنسان، يتوسط لإنسان، يُصلح بين زوجين، الله عز وجل وظفه في خدمة الخلق.
أيها الإخوة؛ هذه المرتبة مرتبة البرق، منزلة البرق، أي بتعبير أوضح إذا لاحت أمامك أنوار الحق فجذبتك إلى الله من لوازم هذه المرتبة أنك تستعظم نعم الله عليك، تراها نعماً عظيمةً، ومن لوازمها أنك تستقل عملك أمام هذه النعم، ومن لوازمها أنك تستصغر نفسك، ومن لوازمها أنك تستقل كل الأعباء التي أُلقيت عليك.
أيها الإخوة؛ هذه الأنوار التي برقت أمام المؤمن لها نتيجة أخرى تجعله حذراً جداً، تصور إذا مسك الإنسان حبلاً، ولو تركه سقط في واد سحيق فدُقت عنقه، كيف يكون تمسكه بهذا الحبل؟ تمسك شديد، لو أن الله عز وجل منحك نعمة القرب، سمح لك أن تتصل به، صار عندك حفاظ على هذه الصلة تفوق حدّ الخيال، أنت بالصلاة خاشع، أنت في رضوان الله، لا تضحي بهذا الرضوان من أجل نظرة إلى امرأة حسناء، لا تضحي من أجل كلمة تقولها غير صحيحة، أبداً، تتكلم كلمة الحق ولو كانت مُرّة، تضبط حواسك جميعها، تضبط أعضاءك جميعها، هذا الحرص على الاستقامة سببه أنك وصلت إلى جوهرة ثمينة.
أضرب مثلاً تركيبياً، إذا أنت كنت موظفاً، والمدير العام أحبك، أعطاك سيارة مع الوقود، وعمل لك تعويضات مئة بالمئة، وأعطاك إجازة مفتوحة مثلاً، وهذا المدير العام يكره شخصاً فلو لمحك تُلقي عليه سلاماً لسحب منك كل هذه الميزات، إذا رأيته في الطريق هل تُسلِّم عليه؟ من أجل حفاظك على هذه المكتسبات وثباتها معك تتحرى كل ما يرضي هذا الذي أعطاك ذلك، وتحذر من كل ما يثير غضبه، أليس كذلك؟ فإذا كان خالق الكون قد منحك أن تتصل به، منحك نعمة الإيمان، منحك نعمة الأمن، لاحت لك بوارق أنواره، هل أنت مستعد أن تُضحي بكل ما وصلت إليه من أجل نظرة لامرأة حسناء؟ يقول لك: أين أذهب بعيوني؟! ما ذاق طعم القرب حتى يغضّ بصره، لو ذاق طعم القرب لبالغ في غضّ البصر، أخي نحن نريد أن نغش مثل الناس، عندي أولاد، هذا كلام الجهلة، أما المؤمن لا يكذب أبداً، ولا يبني رزقه على معصية، أبداً، الله الغني، يركل المال الحرام بقدمه، لأنه ذاق طعم القرب.
يا إخوان؛ يوجد قضية أي حينما تستطيع أن تتصل بالله يهون عليك كل شيء، تهون عليك التكاليف مهما بدت لك صعبةً.
أخي أنا فلان لا أستطيع أن أتركه، إذا كان فلان فاسقاً، أخي ربينا معاً، نشأنا معاً، خير إن شاء الله، مادام إنساناً بعيداً عن الحق، ليس ملتزماً، دعه، من أجل الله دعه:
﴿ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)﴾
أكثر المقصرين يتحجج، إذا أردتَ أن أمشي كما تريد لا أربح، أو أخسر مكانتي، دائماً يعمل موازنات غير صحيحة، الجواب: الآمر ضامن، الذي أمرك أن تفعل كذا يضمن لك سلامتك وسعادتك، ويحميك، فإذا كنت تتوهم أن الذي خلقك لا يحميك إذا أطعته لماذا تعبده أنت؟ لا معنى لهذه العبادة، تعبد القوي، تعبد الغني، تعبد القدير،
(( عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ.))
[ الترمذي حَسَنٌ صَحِيحٌ ]
أمرك متعلق بالله وحده، علاقتك مع الله وحده.
6- متمسك تمسكاً عجيباً بدينه:
من صفات هذا الذي لاحت له أنوار الحق: شديد الحذر، هذا الورع، يحرص على هذه الصلة، يتمسك بها، إذا إنسان نزل من هيلوكوبتر، أمسك حبلاً، وتحته مثلاً حوالي ألف متر، لو أفلت يده هو ميت مليون بالمئة، كيف يتمسك بالحبل؟ روحه الحبل، هكذا المؤمن، روحه هذا الدين، ابن عمر دينك دينك، إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا، دينه روحه، من أجل دينه يضحي بكل شيء، والله بعض الناس لا يضحي بأي شيء من أجل الدين، يقول: هذه مصلحتي، لا أستطيع أن أتركها، كلها معصية، يقول لك: هكذا ربينا، هذه الطريقة في البيع لا أغيرها، ولا أُسلف، لا يرى الله، يرى المادة فقط.
فلذلك أيها الإخوة؛ من صفات هذا الذي لاحت له أنوار الحق متمسك تمسكاً عجيباً، العوام يقولون: متعصب، كلام غير صحيح، متمسك.
7 - الله يمنح هذا الإنسان سعادة يستصغر أمامها كل الدنيا:
يوجد صفة أخيرة لعلها هي التي ذكرها بعض العلماء، قال: في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، جنة الدنيا هي القرب من الله عز وجل، أي تتوج حياته بهذه الجنة، أحياناً تجلس مع إنسان كبير في السن، لكن باعه في الإيمان طويل، تشعر أنه يعيش بجنة، والله في كل الظروف، في كل الأحوال، مهما تكن قاسية، الذي اتصل بالله عز وجل يعيش في حياة في نوع من الشعور بالتفوق لا يوصف، فهذا ثمرة هذا الطريق، وثمرة هذا الجهد أن الله يمنح هذا الإنسان سعادة يستصغر أمامها كل الدنيا.
الفرق بين من يعرف الله وبين الجاهل:
مثلاً لما النبي الكريم يقول: والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه، يجوز إنسان يقول لك: أنا أنا، تعطيه مبلغاً تجده انتهى، التغت كل مبادئه، التغى كل تشدده، التغى كل كلامه الفراغ، معناها هذا الإنسان ثمنه هذا المبلغ، انتهى عند الله، أما يوجد إنسان: لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه، أما إذا الإنسان جاهل يبيع دينه بعَرض من الدنيا قليل، مثلاً: فرن يضع بالخبز الذي يباع بأعلى سعر مادة مسرطنة، رخيصة جداً، ثمن الكيلو 35 ليرة، حتى الخبز يضخم حجمه، أما المادة السليمة ثمن الكيلو ثلاثة آلاف وخمسمئة ليرة، مادة مؤذية من أجل الربح فقط، طبعاً عوقب أشدّ العقاب، وإن الله يزع بالسلطان ما لا يزعه بالقرآن، من أجل الربح يضحي بصحة الناس، قرأتها بالجريدة البارحة، فإذا الإنسان عرف الله عز وجل، الناس يعيشون بخير، مستعد أن يقدم كل ما عنده في سبيل الله، أما الجاهل يأخذ من الناس كل ما عندهم، ولا يعطيهم شيئاً أبداً:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ أرجو الله سبحانه وتعالى أن نكون من هؤلاء الذين برقت أمام أعينهم أنوار الحق، فاستقلينا كل جهد في سبيله، وعظُمت عندنا تكاليفه، وكنا شديدي الحذر من أن نتفلت عن منهجه، ثم قطفنا ثمار هذا القرب سعادة في الدنيا وفي الآخرة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق