الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة المؤمنون: مع الدرس الواحد والستين من دروس سورة النساء، ومع الآية الواحدة والأربعين بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)﴾
هؤلاء المنافقون، فقد قال الله في الآية التي قبلها:
﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)﴾
وقلت في درسٍ سابق: إنَّ المؤمن واضح، وإنَّ الكافر واضح، لكن هذا الذي ينحاز إلى المؤمنين تارةً ليحقق مصالحه، وتارةً إلى الكافرين هذا هو المنافق، يُظهِر بخلاف ما يُبطِن، يقول بخلاف ما يعمل، هذا الازدواجي الذي له وجهان، ولسانان، وموقفان، وقناعتان، هذا المنافق خطير، الكافر واضح، والمؤمن واضح، المنافق حُسِب على المؤمنين فنال كل ميزاتهم، وكان مع الكافرين فأخذ منهم أيضاً مما يستطيع.
معنى التربُّص:
إذاً الله عزَّ وجل يقول: (إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) هؤلاء المنافقون ما موقفهم من المؤمنين؟
(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) التربُّص أن أكون مُتيقظاً لأية معلومةٍ تأتي من الطرف الآخر، ولا بُدَّ أن أنتفع من هذه المعلومة، ولا بُدَّ من أن أبتز من خلال هذه المعلومة، ولا بُدَّ من أن أُحقِّق مكاسب من هذه المعلومة، سواءٌ أكانت من المؤمنين أم من الكافرين، هذا هو التربُّص (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) أي يتتبعون أخباركم، وهذه الأخبار التي يتتبعونها يوظفونها لمصالحهم، فتارةً يكونون مع المؤمنين، ويوهمونهم أنهم معهم، وأنَّ لهم من الغنائم نصيباً، وتارةً يؤكِّدون للكفَّار أنهم معهم، فإذا انتصر الكفَّار، لهم أيضاً من الكفَّار نصيب، فهؤلاء المنافقون يتربصون بالمؤمنين، والتربُّص الوقوف على أُهبة الاستعداد، لتلقَّي المعلومات، ولتوظيفها لصالح المنافق، تارةً مع المؤمنين وتارةً مع الكفَّار والعصاة والفاسقين.
قال: (فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ) النصر الذي يُحرزه المؤمنون سمَّاه الله فتحاً.
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1)﴾
أي تحقيقاً للهدف الكبير، من دعوة المؤمنين الناس إلى دين الله، أصبح هناك فتح.
(فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ) لعلَّ النصر يكون انتصاراً مؤقتاً، ولعلَّ النصر يعني انتصار ظاهري، ولعلَّ النصر يعني انتصار مادي، أمَّا الفتح نجاح الدعوة، ونجاح الجيش في إرغام الطرف الآخر على أن يخضع، ونجاح دين الله عزَّ وجل ليُحقِّق أهدافه، فكلمة الفتح أكبر بكثير من كلمة النصر، والدليل كما قلت قبل قليل: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) .
قال: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ) أي إذا نصركم الله عزَّ وجل، وجعل كلمة الذين آمنوا هي العليا، فالمُنافق لا بُدَّ من أن ينتفع من هذا النصر، فهو يؤكِّد للمؤمنين أنه معهم، وأنه ساعدهم، وأنه مهَّدَ لهم الطريق، ولا بُدَّ من أن يأخذ شيئاً من غنائم المعركة.
طرق المنافقين في ابتزاز المؤمنين والكافرين:
قال: (فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ) أي نصيباً من النصر، أقل من النصر، يعني قوُّاتهم العسكرية انتصرت لكن سقطوا بقيَمهم، نجحوا بقوُّاتهم وسقطوا بقيَمهم، ما سمَّى الله هذا نصراً، سمَّاه نصيباً من النصر.
(وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) استحوذ عليهم الشيطان أي مَلَكَهم، استحوذ عليهم الشيطان أي صاروا في حوزته، فيبدو أن المنافقين وهم في المعركة يأسرون الكفَّار، فإن انتصر المؤمنون نحن أسرناهم من أجلكم، وإن انتصر الكفَّار قالوا: أسرناهم لنمنعهم من أن يُقتَلوا، ففي كلا الحالتين معهم حُجَّة، يبتزّون بها المؤمنين تارةً، والكافرين تارةً أُخرى.
(وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) وكان من عادة المنافقين، في الحروب التي خاضوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يُلقوا بعض المقاتلين في قبضة الأسر، من أجل أن يكونوا حُجَّةً لهم، إذا انتصر المؤمنون، وحُجَّةً لهم إذا انتصر الكافرون.
(وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۚ) نحن أسرناكم كي لا تُقتَلوا، كي نحميكم من القتل، (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
الحكمة من أن الله سبحانه يحكم بين عباده يوم القيامة لا في الدنيا:
أيُّها الإخوة: قد تتسألون: لما لم يقُل الله عزَّ وجل: فالله يحكم بينكم في الدنيا؟ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي قد تكون دورة الحق والباطل أطول من عمر الإنسان.
﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ (46)﴾
أي قد لا يُتاح للإنسان في الدنيا أن يُكحِّل عينيه بانتصار المؤمنين، لأنَّ دورة الحق والباطل ربما كانت أطول من عمر المؤمن، فالنبي عليه الصلاة والسلام، وهو سيد الخلق، وحبيب الحق، قد لا يُتاح له أن يرى النصر المُبين، الذي أكرم الله به المسلمين، بعد بعثة النبي عليه أتم الصلاة والتسليم، فكأن الله سبحانه وتعالى أرجأ أن يحكم بينهم إلى يوم القيامة، وأكبر خطأٍ يقع فيه المؤمنون، أنهم ينتظرون أن يحكُم الله بين المؤمنين وبين الكافرين في الدنيا، فإذا تأخر هذا الحُكم يئسوا، وسألوا أين الله؟
ولله عزَّ وجل امتحاناتٌ صعبة، قد يُقوّي الكافر كما ترون، ويتمتع الكافر بأعلى قوة، وقد يقتُل، وقد يبطش، وقد يُهدِّد، وكأنه يفعل ما يريد، فمَن كان ضعيف الإيمان يتساءل: أين الله؟ فالدنيا ليست دار جزاء، لكن الله سبحانه وتعالى إذا كافأ بعض المحسنين، لتكون المكافأة تشجيعاً للباقين، وإذا عاقب بعض المُسيئين ليكون العقاب ردعاً للباقين، لكن يقول الله عزَّ وجل:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾
أي أنَّ اسم الله العدل، لا يتحقَّق في الدنيا كليِّاً، يتحقَّق جزئياً، أمّا هذا الاسم العظيم، لا يتحقَّق تحققاً تاماً إلا يوم القيامة، دار تسوية الحسابات، دار أن يأتي الإنسان إلى ربّه فرداً لا جماعة معه، ولا جيش معه، ولا ناصرين ولا أنصار معه، يأتي وحده يوم القيامة، ويُحاسَب عن أعماله كلها.
عظمة هذا الدين أنه بإمكانك أن تُطبّقه وحدك ولو لم يكن مُطبَّقاً على مستوى الأمة:
(فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وهذا حكم الله عزَّ وجل، لذلك الإنسان عليه أن يستقيم على أمر الله، وعليه ألا يستعجل نصر الله عزَّ وجل، فلله حِكمٌ لا نعلمها، مُهمتك أن تعبده، فإذا عبدته انتهت مُهمتك، وعلى الله الباقي، عليك أن تُطيعه، وأن تعبده، والله عزَّ وجل أنشأ لك حقاً عليه، ذكرته في الدرس الماضي فيما أذكر، أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام سأل سيدنا معاذاً وقد أردفه خلفه، قال:
(( كنتُ رَدِيفَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على حمارٍ، فقال لي: يا مُعاذُ، أتدري ما حَقُّ اللهِ على العِبادِ، وما حَقُّ العِبادِ على اللهِ؟ قُلتُ: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قال: حَقُّ اللهِ على العِبادِ أن يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شَيئًا، وحَقُّ العِبادِ على اللهِ ألَّا يُعَذِّبَ مَن لا يُشرِكُ به شيئًا ))
فكأن الله سبحانه وتعالى أنشأ لعباده المؤمنين حقاً عليه، أنت حينما تعبد الله عزَّ وجل، بصرف النظر عن أنَّ مجموع الذين حولك يعبدونه أو لا يعبدونه، لو لم يكن كمنهج مُطبَّقاً على مستوى الأمة، بإمكانك أن تعبُد الله وحدك، وأنت ضعيفٌ مُستضعف، وهذا اسمه النصر المبدئي، فحينما يأتي مَلَك الموت ليقبِض روح مؤمنٍ، وقد كان مؤمناً حقَّاً، موحِّداً حقَّاً، عابداً حقَّاً، طائعاً حقَّاً، هذا الذي جاءته المنيِّة وهو على هذه الحال، يُعدّ مُنتصراً انتصاراً مبدئياً، ولو ضاعت عليه الدنيا، لأنه كسب الآخرة، لكن الخسارة الكبيرة التي لا تعوَّض خسارة الدار الآخرة.
﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)﴾
كمال الخلق يدل على كمال التصرف:
(فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) كنت أقول دائماً: أنَّ العقل السليم لا يقبَل، ولا هو مُستعدٌّ أن يقبل، أنَّ هذه الدنيا فيها القوي والضعيف، فيها الغني والفقير، فيها الصحيح والمريض، فيها الحاكم والمحكوم، وأن تنتهي الحياة هكذا، ولا شيء بعد الحياة الدنيا، هذا الكلام لا يتناسب مع كمال الخلق الذي نراه في الكون، لأنَّ كمال الخلق يدل على كمال التصرُّف، فكما أنَّ في الكون إعجازاً ودقةً وإتقاناً وإحكاماً، الإله الذي أحكم صنعته، وأتقن صنعته، وظهرت أسماؤه الحسنى في كل صنعته، هو في باب المعاملة، معاملة عباده كماله مطلقٌ أيضاً، فكمال الخلق يدل على كمال التصرُّف.
ذلك أنَّ معظم العلماء يعدُّون الدليل الإخباري دليلاً وحيداً على اليوم الآخر، بينما بعض العلماء يرى، أنَّ الدليل العقلي إضافةً إلى الدليل الإخباري، يُعدّ حُجَّةً على وجود يومٍ آخِر، لأنَّ العقل السليم لا يقبَل أن يكون في البشر قويٌ وضعيف، وأن يأكل القوي الضعيف، وغنيٌ وفقير، وأن يستغل الغني الفقير، وصحيحٌ ومعلول، وأن تنتهي الحياة، الذي قُتِلَ قُتِلْ، والذي استمتع بالدنيا استمتع، والذي استعلى استَعلى، والذي تَغطرس تغطرس، وتنتهي الحياة هكذا.
أيُّها الإخوة: ما من قطرة دمٍ تُسفك إلا ويتحمَّلها إنسانٌ يوم القيامة، قتل عشوائي في مقياس الناس.
﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59)﴾
الأمر بمنتهى الدقة، والأمر بمنتهى الحكمة، ولكن لا يُعقَل أن تصل إلى حكمة الله بعقلك، إلا بحالةٍ مستحيلة، أن يكون لك علمٌ كعلم الله.
الفرق بين دخول النار وورودها:
أيُّها الإخوة: نحن قد لا ننتبه إلى أنَّ الخطأ موظفٌ للصواب، الخطأ في أصل وجوده موظفٌ للصواب. يُروى أنَّ أكبر عالمٍ في النحو سيبويه، كان عالِم قراءات، لحنَ في كلمة، أمام جمعٍ غفير، فذابت نفسه خجلاً، فعكف على قراءة النحو، وصار من أكبر علماء النحو، خطأه وظِّف ليكون أكبر عالم نحوٍ.
والذي يحدث الآن شيءٌ صعبٌ جداً، لكن الله يوظِّفه لخير المسلمين، مع أنَّ العالم كله يحارب المسلمين، مع أنَّ هناك حرباً عالميةً ثالثةً مُعلنةً على المسلمين، ولكن هذا لصالح المسلمين، هي إيقاظٌ لهم، هي دفعٌ لوحدتهم، دفعٌ لاستقامتهم، دفعٌ لتوبتهم، دفعٌ إلى أن يأخذوا دينهم مأخذاً تطبيقياً لا مأخذاً استعراضياً، لأنَّ الذي وقعَ وقعْ أراده الله، لأنَّ الذي وقعَ وقعْ بعلم الله، وقعَ بتقدير الله، وقعَ إذ سمح الله له أن يقع، ولا يُعقل أن يقع في مُلك الله ما لا يُريد، إذاً: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
بالمناسبة: في آياتٍ كثيرة، ومن أبرزها أنَّ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71)﴾
هذه آيةٌ عجيبةٌ جداً، أي ما من إنسانٍ إلا ويرِد النار، العلماء فرَّقوا بين دخول النار وبين ورودها، قد يرِد الإنسان النار ولا يتأثر بوهجها، لماذا يسمح الله لكل إنسانٍ من خلقه أن يرِد النار؟ ليرى المؤمن مكانه في النار لو لم يكن مؤمناً، تتضاعف سعادته في الجنَّة، إذ يشعر أنه نجا من هذه النار المُحرقة، وليرى المؤمن في النار، هؤلاء الذين طغوا وبغوا، وتغطرسوا واستعلوا، كيف أنَّ عدل الله يلاحقهم، وأنَّ الله سبحانه وتعالى حينما قال:
﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ۚ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)﴾
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
وكل متوقعٍ آت، وكل آتٍ قريب، بل إنَّ كل واحدٍ يأتيه مَلَك الموت، تُكشَف له الحقائق التي كُشفت للأنبياء، ولو كان كافراً، ألم يقل فرعون:
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24)﴾
ألم يقل:
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)﴾
لمّا وافاه الأجل قال:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾
لذلك قال تعالى:
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158)﴾
ثم يقول الله عزَّ وجل: (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) فكيف إذا كان لهم علينا ألفُ سبيلٍ وسبيل، في أصل سُنَّة الله في خلقه، أنه لا يمكن أن يكون للكافر على المؤمن من سبيل، إلا إذا قصَّر المؤمن، الدنيا بالأسباب، لو أخذ الكافر بالأسباب وأتقنها، قطف نتائجها، ولو عصى المؤمن فلم يأخذ بالأسباب، ينتصر عليه الكافر، لأنه عصى بتركه الأخذ بالأسباب، وكأنَّ الموقف الكامل أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، الكافر أخذ بالأسباب، وأتقن الأسباب، وأخذ نتائج الأسباب، وقطف ثمار سعيه، فكان قوياً في الدنيا:
﴿ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)﴾
والمؤمن مأمور أن يأخذ بالأسباب، لأنَّ الله عزَّ وجل يقول:
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)﴾
فإن عصى المؤمن هذه الآية، ولم يأخذ بالأسباب، بينما الكافر أخذ بالأسباب، قوانين الله عزَّ وجل واضحةٌ ومشاعةٌ بين المؤمنين والكافرين، فالذي يأخذ بالأسباب هو الذي ينتصر، والذي يعصي الله فلا يأخذ بها لا ينتصر.
المؤمن الكامل يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء:
أيُّها الإخوة: طبعاً أنت حينما تأخذ بالأسباب المُتاحة لك فقط، ولو كان بينك وبين العدوّ فرقٌ كبير في التسليح، فالله عزَّ وجل يتولَّى ترميم هذا الفرق، أمّا إن لم تأخذ بها أصلاً فقد عصيت، والقصة أيُّها الإخوة أنَّ الغرب أخذ بالأسباب، واعتمد عليها، وألَّهها، فأخذ ثمارها في الدنيا فقط، وبحسب القرآن الكريم: (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) .
وأنَّ الشرق المسلم لم يأخذ بها عاصياً، وقع في المعصية، الذي أخذ بها واعتمد عليها وقع في الشرك، والذي لم يأخذ بها وقع في المعصية، وكلا الفريقين مُخطئ، أمّا المؤمن الكامل يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
(وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) أي مؤمن إيماناً صحيحاً، مؤمن إيمان حمله على طاعة الله، مؤمن أعدَّ للعدوّ ما يستطيع من قوةٍ، هذا المؤمن لا يمكن أن يكون لكافرٍ عليه سبيل، أمّا إذا مؤمن لكن عصى الله فلم يُعدّ للكافر العدّة التي أُمر بها، أصبح هناك تقصير ومعصية.
تقريباً منهج الله عزَّ وجل منهجٌ موضوعي، فأي طرفٍ أخذه يقطف ثماره، إن أخذه لمصلحته في الدنيا يقطف ثماره في الدنيا، وإن أخذه عبادة لله عزَّ وجل يقطف ثماره في الدنيا والآخرة، إن أخذه من أجل الدنيا يقطف ثماره في الدنيا، وإن أخذه من أجل الآخرة يقطف ثماره في الآخرة وفي الدنيا، هذه آية دقيقة جداً، (وَلَن) تُفيد تأبيد المستقبل (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الذين آمنوا حقَّ الإيمان، والذين أعدّوا لعدوهم الإعداد المُتاح لهم، هؤلاء: (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) .
فإن كان للكفّار عليهم سبيل، بل ألفُ سبيل، فهناك خللٌ خطير، إنْ في عقيدتهم وإيمانهم أو في سلوكهم واستعلائهم.
أن يخدع الإنسان الله عز وجل فهذا شيء يدعو للسخرية:
ثم يتابع ربنا جلَّ جلاله الحديث عن المنافقين فيقول:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)﴾
الإنسان لا يُسمّى خادعاً إلا إذا كان الطرف الثاني لا يعلم هذه الخديعة، فقد تخدع إنساناً مُغفَّلاً، وقد تخدع إنساناً لم يُحِط علماً بخديعتك، شيء طبيعي، أمّا أن يخدع الإنسان الله عزَّ وجل فهذا شيءٌ يدعو للسخرية (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) .
معنى خادعهم: أي أبطل خديعتهم، لكن أسماء الله عزَّ وجل توقيفية، لا نستطيع أن ننطق بأسماء الله إلا التي سمّى الله بها نفسه، لا نستطيع أن نقول هذا اسم لله، إلا إذا سمّى الله نفسه بهذا الاسم، أنا لا أستطيع أن أقول: إنَّ الله خادعٌ، مُشتق اسم الفاعل من خدع، لكن حينما يخدعهم الله عزَّ وجل، أي يُبطِل خديعتهم (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) أي من السذاجة بمكان، أنَّ هذا المنافق يُصلّي ويوهِم المؤمنين أنه مؤمن، ثم يتوهَّم أنَّ الله قبِل هذه الصلاة، يعمل عملاً صالحاً أمام المؤمنين ويتوهَّم أنَّ الله قبِل هذا العمل، هذه سذاجة ما بعدها سذاجة.
يقول الله عز وجل: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) ولأنهم محجوبون عن الله بمعاصيهم، فالاتصال بالله عزَّ وجل لا معنى له، لكن يُصلّي أمام الناس ليدفع عن نفسه تهمة ترك الصلاة، يعني حريصٌ على الصلاة أمام الناس فقط.
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ) الصلاة قربٌ من الله عزَّ وجل، قال تعالى:
﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩ (19)﴾
الصلاة ذكرٌ:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾
الصلاة وعيٌ:
(( إن عمار بن ياسر صلى صلاة فأخفها فقيل له: خففت يا أبا اليقظان فقال: هل رأيتموني نقصت من حدودها شيئا؟ قالوا: لا قال: إني بادرت سهو الشيطان إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له نصفها، ولا ثلثها، ولا ربعها، ولا خمسها، ولا سدسها، ولا عشرها " وكان يقول: إنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها ))
[ أخرجه أحمد بإسناد صحيح وتقدم المرفوع عنه وهو عند أبي داوود والنسائي ]
وفي آيةٍ:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)﴾
الآية منسوخة، لكن ماذا نستفيد منها؟ (حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) فالذي يُصلّي ولا يعلم ما يقول، هو في حكم السكران، إذاً الصلاة عقلٌ، الصلاة عروجٌ إلى الله، والصلاة قربٌ منه، والصلاة ذِكرٌ له، والصلاة عقلٌ
(( الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمانِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ المِيزانَ، وسُبْحانَ اللهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ -أَوْ تَمْلأُ- ما بيْنَ السَّمَواتِ والأرْضِ، والصَّلاةُ نُورٌ ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها. ))
نور يُلقى في قلب المُصلّي، فيرى في هذا النور الحق حقاً والباطل باطلاً، أي يصعُب كثيراً أن يقع المؤمن في ورطةٍ كبيرة، لأنَّ في قلبه نوراً، ولأن طاعته لله تحرسه من الوقوع في خطأٍ فاحش.
أيُّها الإخوة الكرام: الصلاة نور، والصلاة طهور، أمّا أنها نور فلأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (28)﴾
أي كفالة في الدنيا، وكفالة في الآخرة.
(وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) المؤمن في قلبه نور، هذا نور الله عزَّ وجل، يُريه الحق حقاً والباطل باطلاً، يُريه الخير خيراً والشر شراً، فالصلاة نور، والصلاة حبور وسعادة.
(( عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ قَالَ مِسْعَرٌ: أُرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ، فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها ))
[ أخرجه أبو داوود وابن أبي شيبة في مسنده ]
طَهور، ليس هناك مؤمن حقود، مؤمن مخادع، مؤمن مُتكبِّر، مؤمن دنيء النفس، مؤمن كذَّاب، مؤمن خائن، مستحيل، لأنَّ الصلاة تطهر المؤمن من كل أدرانه، فالصلاة طهور، والصلاة نور، والصلاة حبور وسعادة، والصلاة معراج المؤمن، والصلاة ذكر، والصلاة وعيٌ وعقل، والصلاة قُرب.
المؤمن يقوم إلى الصلاة متشوقاً إلى الله أمّا المنافق فالصلاة لا معنى لها عنده:
(( ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكفَّ شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعَم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب، كل ذلك لي، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلمة نوراً يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم علي فأبره، أكلأه بقربي، وأستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس لا يتسنى ثمرها، ولا يتغير حالها ))
[ أخرجه الديلمي عن حارثة بن وهب ]
فالمؤمن يقوم إلى الصلاة متشوِّقاً إلى الله، المؤمن يقوم إلى الصلاة ولسان حاله كما قال عليه الصلاة والسلام: (يَا بِلَالُ أَقِمْ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا) .
المؤمن إذا صلَّى يرتاح، ولاسيما إذا صلَّى الصلاة على وقتها، يشعر أنه في رحمة الله، في حفظ الله، كأنه تحت مظلة الله عزَّ وجل.
أمّا المنافق فقال تعالى: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى) لأنَّ المنافق محجوبٌ عن الله بنواياه السيئة، وبعمله السيئ، فالصلاة لا معنى لها عنده، وهذا يؤكده قوله تعالى:
﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)﴾
هي كبيرة، أي ثقيلة، إلا على الخاشع، لأنه موصول مع الله عزَّ وجل.
(وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ) هذا الذي يبتغي بعمله سُمعةً أو مكانةً، يبتغي بعمله أن يمدحه الناس، أن ينتزع إعجابهم، أن يأخذ ثناءهم، أن يأخذ من هباتهم، هو لا يبتغي الله عزَّ وجل، يبتغي أهل الدنيا.
فلذلك: (يُرَاءُونَ النَّاسَ) المُراءاة أن تفعل عملاً لا تبتغي به وجه الله، بل تبتغي به الناس، ليراه الناس، هؤلاء المنافقون يراءون الناس (وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) .
الأمر الإلهي:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)﴾
فالأمر ينصبُّ على الذِكر الكثير لا على الذِكر القليل، القليل يفعله المنافقون، الذِكر القليل يفعله المنافقون (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) .
إذاً:
﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)﴾
إخواننا الكرام: من باب التوضيح: المؤمن الكامل مرتاح، أموره واضحة جداً، آمن بالله، ووضع كل ثقله في طاعته، ونقل اهتمامه إلى الآخرة، وهو ملتزمٌ بمنهج الله، ولا يُفكر أن يعصي الله عزَّ وجل، واضح، هدفه واضح، هدفه الآخرة، سلوكه يحكمه منهج الله عزَّ وجل، لا يُساوَم ولا يُناقش فيما هو طاعة الله عزَّ وجل.
أحياناً في المفاوضات يقول بعض الأطراف: هذه القضايا ليست خاضعة للمناقشة، وليست مدرجةً في جدول الأعمال، فالمؤمن أن يعصي الله، أن يأكل المال الحرام، أن يكذب، أن ينافق، أن يخون، هذا مستحيل، واضح، والشيء المؤسِف والكافر واضح، الكافر آمن بالدنيا فقط، ولم يرَ أن الدين علاجٌ لمشكلات البشر، آمن بالدنيا، آمن بالعلم فقط، علماني لكن واضح، لا يخدعك أبداً، كما أنَّ المؤمن واضح الكافر واضح، الكافر وضع كل ثقله في الدنيا، أتقنها، ليس عنده شيء يحول بينه وبين إتقان الدنيا، أتقنها إتقاناً كافياً، ولا يعتقد إلا بالدنيا فقط، ومن ربحها ربح كل شيء، ومن حاز المال كان في جنَّة الدنيا، هكذا.
مرة التقيت بإنسانٍ أوربي، فبدأت أتحدث معه عن أمور الدين، ما لبث أن قال لي: هذه الموضوعات لا تعنيني، ولا أهتم لها، ولا أُلقي لها بالاً، أنا لا يعنيني بالحياة إلا امرأةٌ جميلة، وبيتٌ واسع، ومركبةٌ فارهة، وانتهى الأمر، لا يخدعك، هذا واضح، له ميزة أنه لا يخدعك، ولا يمكن أن يؤثِّر فيك، بعيدٌ عنك بُعد الأرض عن السماء، أمّا هذا الإنسان الذي يُصلّي كما تُصلّي، ويصوم كما تصوم، ويكون في بعض المجالس كما أنت فيها، وله لسانٌ لطيف، إذا التقى بالمؤمنين يُثني عليهم، ما شاء الله، الله ينفعنا ببركاتكم.
﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(14)﴾
المنافق محسوب على المؤمنين وهو مع الكافرين:
له وجهان، ولسانان، وموقفان، وظاهر وباطن، شيء يُحيِّر، لذلك الله عزَّ وجل وصف المؤمنين في سورة البقرة بعدّة آيات، والكفَّار بآيتين، ووصف المنافقين بثلاث عشرة آية، لأنَّ لهم ظاهر ولهم وباطن، لهم خلوة ولهم جلوة، ذكرت اليوم في الخطبة، أنَّ المنافق إذا كان مع المؤمنين يتصنَّع غض البصر ليحافظ على مكانته عندهم، أمّا إذا لم يكن مع المؤمنين، أطلق لبصره العنان، فقال الله عزَّ وجل:
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)﴾
العين تخون، تنضبط مع المؤمنين ولا تنضبط بعيداً عنهم، فلذلك الله عزَّ وجل قال: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ) المؤمن واضح، وقطف ثمار إيمانه في الدنيا وفي الآخرة، الله حفظه، ووفَّقه، وأعلى مقامه، ورفع ذِكره، والكافر أنكر الآخرة، وأتقن الدنيا، فقطف ثمار كفره في الدنيا، أتقنها إتقاناً شديداً، أمّا هذا المنافق محسوبٌ على المؤمنين، وهو مع الكافرين، كما قلت قبل قليل: له ظاهر وله باطن، له موقف مُعلَن وله موقف باطن داخلي، له جلوةٌ منضبطٌ بها مع المؤمنين، وله خلوةٌ متحللٌ بها من قيَم الدين، عليم اللسان، جاهل القلب، معك بلسانه عدوٌّ لك بقلبه، هذا المنافق، لأنه أخذ ميزات المؤمنين، وحُسب عليهم، وأخذ ميزات الكفَّار في التفلُّت من منهج الله، هذا مكانه يوم القيامة في الدرك الأسفل من النار.
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)﴾
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) لا بُدَّ من أن يفضحهم.
(( إنَّ أحدَكُم يُجمَعُ خلقُهُ في بَطنِ أمِّهِ في أربعينَ يومًا ثمَّ يَكونُ علقةً مثلَ ذلِكَ، ثمَّ يَكونُ مضغةً مثلَ ذلِكَ، ثمَّ يرسلُ اللَّهُ إليهِ الملَكَ فينفُخُ فيهِ الرُّوحَ ويؤمرُ بأربعٍ، يَكْتبُ رزقَهُ وأجلَهُ وعملَهُ وشقيٌّ و سعيدٌ، فوالَّذي لا إلَهَ غيرُهُ إنَّ أحدَكُم ليعملُ بعملِ أَهْلِ الجنَّةِ حتَّى ما يَكونُ بينَهُ وبينَها إلَّا ذراعٌ ثمَّ يسبِقُ علَيهِ الكتابُ فيُختَمُ لَهُ بعملِ أَهْلِ النَّارِ فيدخلُها، وإنَّ أحدَكُم ليعملُ بعملِ أَهْلِ النَّارِ حتَّى ما يَكونَ بينَهُ وبينَها إلَّا ذراعٌ ثمَّ يسبِقُ علَيهِ الكتابُ فيُختَمُ لَهُ بعملِ أَهْلِ الجنَّةِ فيَدخلُها ))
هو ليس مؤمناً إطلاقاً، لكنه يعمل بعمل أهل الجنَّة من أجل الدنيا، فالله عزَّ وجل يخدعهم، أي يكشفهم، ويفضحهم، ويحدُّ من مؤامراتهم وخديعتهم، (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ) .
أكاد أقول: إنَّ الكافر أيضاً ارتاح في الدنيا، كيف ارتاح؟ نزع الآخرة من ذهنه إطلاقاً، ما عنده إلا الدنيا، لا يُصلّي، ولا يصوم، ولا يحضر درس علم، يُتقن عمله فقط، يعبد المال، في الدنيا ليس عنده اضطراب، والمؤمن كذلك، أمّا المنافق لا يستطيع أن يكون كالكفَّار تماماً، ولا يستطيع أن يكون كالمؤمنين تماماً، لا قطف ثمار المؤمنين باستقامته، ولا قطف ثمار الكفَّار ـ إن صحَّ التعبير ـ بأنه أزاح الآخرة من تخطيطه، (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) .
أيُّها الإخوة: يقول الله عزَّ وجل، في نهيٍ واضحٍ وضوح الشمس:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا (144)﴾
الولاء أن تحبهم، الولاء أن تهتدي بمنهجهم، أن تستشيرهم، الولاء أن تأتمر بأمرهم، الولاء أن تستعين بهم على أخيك المؤمن.
أيُّها الإخوة الكرام:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً) هذه آيةٌ دقيقةٌ جداً، إن شاء الله نشرحها بتوفيق الله في الدرس القادم،
الملف مدقق