الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
منزلة حقيقة العبادة والعبادة المطلقة:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الواحد والتسعين من دروس مدارج السالكين في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، والمنزلة اليوم منزلة عامة حول إيّاك نعبد وإيّاك نستعين.
مقام إيّاك نعبد وإيّاك نستعين أربعة أصناف:
1ـ أنفع العبادات وأفضلها أشقُّها على الأنفس وأصعبها:
قد قال بعض العلماء: مقام إيّاك نعبد وإيّاك نستعين أربعة أصناف، أي ما حقيقة التعبد؟
الصنف الأول عند هؤلاء القوم: أنفع العبادات وأفضلها أشقّها على الأنفس وأصعبها، أي عند هؤلاء المشقة مطلوبة لذاتها، وقد قيل: الأجر على قدر المشقة، ورووا حديثاً لا أصل له: أفضل الأعمال أحمرها؛ أي أصعبها وأشقها.
هؤلاء الفريق من الناس هم أهل المجاهدات والجور على النفوس، أساس العبادة المشقة، أساس العبادة أن تُحمَّل النفس ما لا تطيق، أساس العبادة تجشُّم الصعاب، حرمان النفس، تحميلها فوق طاقتها، هؤلاء فريق من المؤمنين تصوروا أن المشقة أصل العبادة، وعلَّلوا ذلك بأن النفوس تستقيم بالمشقة، إذ طبعها الكسل والمهانة والإخلاد إلى الأرض، فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمُّل المشاق، هذا صنف واللهُ أعلم ليسوا على صواب، لأن المشقة لا يمكن أن تكون مطلوبة لذاتها، ولأن دين الله عز وجل دين يسر لا دين عسر، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى رجلاً قد وقف في الشمس فسأل عن حاله، فقالوا: يا رسول الله نذر أن يقف بالشمس، فقال عليه الصلاة والسلام: مروه فليتحول فإن الله غني عن تعذيب هذا نفسه.
(( عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: رأى شيخا يَهادَى بين ابنَيْهِ. فقال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي، قال: إِنَّ الله عن تعذيب هذا نفسَهُ لَغنيّ، وأمره أن يركب. ))
فالمشقة لا يمكن أن تكون مطلوبة لذاتها، أما حينما تُفرض علينا نرحب بها، أن تذهب إلى بيت الله الحرام مشياً على الأقدام هذه مشقة لا تُحتمل، وليست مطلوبة لذاتها، ولا ترقى بها، ما دام الله عز وجل قد سخَّر للإنسان وسائل المواصلات السريعة، أما حينما يُطلب من المؤمن أن يطوف البيت طواف الإفاضة، وهناك ازدحام ومشقة، فهذه المشقة فرضتها العبادة، وحينما يذهب المؤمن إلى الجهاد، قد يحتمل ما لا يطيق من الجوع والعطش والحر والقر ومكابدة الأعداء، هذه مشقة فرضها الجهاد أهلاً بها ومرحباً، أما أن أبحث عنها أنا، أما أن أريدها لذاتها، أما أن أجعل المشقة طريقاً إلى عبادة الله، فهذه واللهُ أعلم مشقة لا ترضي الله، لأنه شيء مفتعل.
2 ـ العبــادة أفضلها التجرد والزهد في الدنيا:
قسم آخر قالوا: العبــادة أفضلها التجرد والزهد في الدنيا، والتقلل منها غايـة الإمكان، وطرح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث بكل ما هو منها، المشقة تحمُّل الصعاب، أما الزهد العزوف عن الدنيا، أي أخشن طعام، أخشن لباس، أصغر بيت، حياة فيها حرمان، لا يوجد اهتمام بشيء، قالوا: هؤلاء الفريق قسمان؛ عوامهم ظنوا أن الزهد غاية، والتجرد غاية، فشمَّروا إليه، وعمِلوا عليه، ودعوا الناس إليه، وقالوا: هو أفضل من درجة العلم والعبادة، فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها، هؤلاء عوامهم.
أما خواصهم رأوا هذا مقصوداً لغيره، وأن المقصود به العكوف على الله عز وجل، وجمْع الهمة عليه، وتفريغ القلب لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والاشتغال بمرضاته، فرأوا أن أفضل العبادات اجتماع القلب على الله، ودوام ذكر الله بالقلب واللسان، والاشتغال بمراقبته، والبعد عن كل ما يُفرِّق القلب ويُشَتته عن الله.
أي أهل الزهد والحرمان والانسحاب من الدنيا، أهل البعد عن نعيم الحياة وعن رفاه العيش، وعن الطيبات التي رزقنا الله منها، هؤلاء عوام وخواص، العوام لجهلهم توهموا أن الحرمان مقصود لذاته، وأن الحرمان هو العبادة، احرم نفسك كل شيء؛ الطعام الطيب، الشراب البارد، الفراش الوثير، اجهد أن تكون محروماً، احرم من حولك، فهذه هي العبادة، واللهُ أعلم أنهم ليسوا على صواب، لأن الله عز وجل قال:
﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)﴾
من حرّمها؟ لماذا خلق الله الورد؟ للكفار فقــط؟ لماذا خلق الله الشيء الذي يريح النفس؟ للكفار فقط؟ قال: ثم إن هؤلاء أيضاً قسمان؛ عارفون متّبعون منهم، إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه، ولو فرَّقهم وأذهب جمعيتهم، كلام دقيق جداً، أي واحد منهم في حالة طيبة مع الله، مستغرق بكمال الله، دُعِي إلى عمل صالح رفض، مرتاح، هؤلاء أيضاً ليسوا على حق، لأن العمل الصالح يرقى بك، أما هذا الركون إلى هذه السعادة لا ترقى بك، قال: هؤلاء الذين يعزفون عن تنفيذ الأمر والنهي، أي مثلاً سيدنا ابن عباس كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم، رأى رجلاً كئيباً، قال له: ما لي أراك كئيباً؟ قال: يا بن عباس! ديــون لزمتني ما أُطيق سدادها، قال: لمن؟ قال: لفلان، قال: أتحبّ أن أكلمه لك؟ قال: إذا شئت، فخرج ابن عباس من معتكفه، قال له رجل: يا بن عباس أنسيت أنك معتكف؟ الاعتكاف فيه راحة نفسية، أنت تصلي، تقرأ القــرآن، مستغرق، منسجم، مسرور، جاءك إنسان يستغيثك، يريد أن تخدمه، يريد أن تعاونه، بعض هؤلاء لا يستجيب، أي سروره باعتكافه يُفَضّله على خدمـة الخلق، وبعضهم يستجيب، هؤلاء الذين توهموا أن حقيقة العبادة هي الزهد والتجرّد، لكنهم إذا دُعوا إلى عمل صالح بادروا أنعِم بهم وأكرم، أما إذا تنصلوا من عمل صالح، هؤلاء أيضاً ليسوا على حق والله أعلم، هؤلاء الذين لا يلتفتون لعمل صالح وهم معتكفون لهم بيت من الشعر يستشهدون به:
يُطالَب بالأوراد من كان غافلاً فكيف بقلب كلُّ أوقاته وِردُ؟
[ غير منسوب إلى شخصية مشهورة أو عالم محدد في التراث الإسلامي ]
هو سعادته بأوراده فقط، العمل الصالح لا يعبـأ به، وهؤلاء موجودون في بعض بلاد المسلمين، بل إن هؤلاء أيضاً قسمان: قسم منحرف أشدّ الانحراف، يترك الفرائض والواجبات، ويقول: أنا مع الله دائمـاً فلمَ الصلاة؟ أرأيتم أيها الإخوة؛ الإنسان إذا ترك الجماعة ينحرف، ويتوهم، ويبتعد، وهؤلاء كُثر، أنا مع الله، الشيء المألوف عند المتفلتين يقول لك: أنا إيماني بقلبي، أنت لا تصلي، إيماني بقلبي، يقــول لك: الشيء ليس بالصلاة، لا بالصلاة ولا بالصوم ولا بالحج ولا بالزكاة، لكن إيمانه بقلبه.
منهم من يترك السنن والنوافل، وسأل بعض هؤلاء شيخًا عارفاً، فقال: إذا أذَّن المؤذن فأنا في جمعيتي على الله، فإن قمت وخرجت تفرقت، وإن بقيت على حالي بقيت، فما الأفضل في حقي؟ قال له: أنا جالس بمعتكف، مًقبل، مُتأمل، فأذن المؤذن فإذا قمت من هذا المعتكف، ومن هذه الجمعية إلى الصلاة تفرقت نفسي، فماذا أفعل يا شيخي؟ فقال الشيخ: إذا أذّن المؤذن وأنت تحت العرش فقم وأجب داعي الله، ثم عُد إلى موضعك، وهذا لأن الجمعية على الله حظّ الروح والقلب، وإجابة الداعي حقّ الرب، ومن آثر حظّ روحه على حقّ ربه، فليس من أهل إياك نعبد وإياك نستعين، أي هؤلاء الذين يُقصّرون في عباداتهم بدعوى أنهم مجموعون على الله هؤلاء أيضاً ابتعدوا عن الصواب، هذا الدرس مهم جداً.
3 ـ أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعدٍّ:
صنف ثالث رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعد، أن تعمل عملاً صالحاً، فريق أن تشقى، الشقاء هو العبادة، فريق أن تزهد، الزهد هو العبادة، هؤلاء أنواع كثيرة، عوامّهم يرون التجرد هو العبادة، أما خواصّهم يرون التجرد أحد أسباب العبادة، العبادة جمع القلب على الله، ثم إن هؤلاء فريقان؛ فريق إذا دعوا إلى عمل صالح بادروا، هؤلاء جيدون، فريق آخر لا يبادر، يُؤْثِر راحة نفسه وحظّ قلبه على خدمة أخيه المؤمن، ثم إن بعضهم يتطرف ويبالغ فيقول: أنا إن دُعيت إلى الصلاة وكنت مجتمعاً على الله تفرقت فماذا أفعل؟ فكان جواب هذا الشيخ حازماً: لو كنت تحت العرش وأذن المؤذن فأجب داعي الله، لأن سرورك بجمعيتك على الله حظ قلبك ونفسك، وتلبية نداء ربك حقّ ربك عليك، ومن آثر حظّ نفسه على حق ربه فليس من أهل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، هذه الأصناف السابقة.
الصنف الثالث رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعدّ، فرأوا أفضل من ذي النفع القاصر النفع المتعدي، أن تخدم الخلق، فرأوا خدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح الناس، وقضاء حوائجهم، ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل، فتصدّوا له وعملوا عليه، واحتجوا بقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما ورد أن الخلــق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله، واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه، وعمل النفّاع متعدٍّ إلى غيره، وأين أحدهما من الآخر؟
إخواننا الكرام؛ دقة الدرس أن في هذا الدرس بحثاً في أصول العبادة، هي مشقة أم زهد أم خدمة؟ أنا أعتقد أن هناك رأياً وسطاً هو أن تجمع بين خدمة الخلق وعبادة الحق، وبين بذل الجهد، وسأُفَصّل هذا بعد حين، واحتجوا أيضاً بقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ معاذ ابن جبل: فضلُ العالمِ علَى العابِدِ كفَضْلِ القمرِ ليلةَ البدْرِ علَى سائِرِ الكواكِبِ. ))
[ صحيح الجامع: حكم المحدث: صحيح: أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في حلبة الأولياء ]
وقالوا:
(( وقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام بأنه قال لعلي بن أبي طالب: لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك حُمر النعم. ))
ما الفرق بين حُمْر وحُمُر؟ فرق كبير جداً؛ الحُمُر جمع حمار، والحُمْر أي لونهم أحمر، النعم؛ الأنعام الحمراء غالية جداً جداً،
((لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك حُمْر النعم)) وهذا التفضيل إنما هو للنفع المتعدي، واحتجوا بقول النبي عليه الصلاة و السلام: نقترب نحن شيئاً فشيئاً من حقيقة العبادة، واحتجوا بقول النبي عليه الصلاة و السلام:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا. ))
[ أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود ]
واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير. ))
وبقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنَّ اللهَ وملائكتَه حتى النملةَ في جُحْرِها وحتى الحوتَ في البحرِ لَيُصلُّون على مُعَلِّمِ الناسِ الخيرَ. ))
[ خلاصة حكم المحدث : صحيح ]
أحاديث كلها صحيحة، واحتجوا بأن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله، وصاحب النفع لا ينقطع عمله، ما دام نفعه الذي نُسب إليه مستمراً، واحتجوا بأن الأنبياء إنما بُعثوا بالإحسان إلى الخلــق، وهدايتهم، ونفعهم في معاشهم ومعادهم، ولم يُبعثوا بالخلوات والانقطـاع عن الناس والترهُّب، ولهذا أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على أولئك النفر الذين همّوا بالانقطاع للتعبد، وترك مُخالطة الناس، ورأى هؤلاء التفرق في أمر الله، ونفع عباده، والإحسان إليهم أفضل من الجمعية عليه من دون ذلك، وقالوا: إن العبادة هي نفع يصل إلى الآخرين، كنا في المشقة فانتقلنا إلى التجرد؛ أي الزهد، ثم انتقلنا إلى النفع المتعدي.
4 ـ أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت:
أما الصنف الرابع، ولعل هؤلاء هم على صواب، قال: هؤلاء قالوا: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك، بما يقتضيه الوقت ووظيفته، الآن دخلنا في أرقى اتجاه، فقالوا: العبادات في وقت الجهاد هو الجهاد، عدوٌّ اقتحم علينا بلادنا، أول عبادة أن نقاوم العدو، الجهاد، لا يعلو عليها شيء، وإن آل هذا إلى ترك الأوراد من صلاة الليل، وصيام النهار، بل ومن ترك النوافل، والعبادة في وقت حضور الضيف القيام بحقه، والاشتغال به عن الوِرد المُستَحب، وكذلك في أداء الزوجة حقَّ زوجها وأهلها وأولادها، دخلنا في شيء رائع، عندك ضيف أول عبادة إكرام الضيف، عدوٌّ اقتحم بلادنا، أول عبادة الدفاع عن هذه البلاد.
أيها الإخوة؛ وقت السَّحر للصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار، إنسان استرشدك إلى مكان، أول عبادة أن ترشده إلى المكان، جاهل أرادك أن تُعلّمه، أول عبادة تعليم هذا الجاهل، سمعت الأذان، أول عبادة تلبية المؤذن وأداء الصلاة، أي أنا كنت أقول هذا الكلام بشكل آخر أنك أنت لك هوية، أنت رجل، قد تكون ابناً، أول عبادة برُّ والديك، أنت رجل قد تكون غنياً، أول عبادة إنفاق مالك، أقامك الله عالماً، أول عبادة تعليم العلم، أقامك الله غنياً، أول عبادة إنفاق المال، أقامك الله قوياً، أول عبادة نُصرة الضعيف، أقامكِ زوجة، أول عبادة رعاية الزوج والأولاد، هذه هويتك، الآن يوجد ظرف وُضِعت فيه، ظرف استثنائي، الأب مريض، أول عبادة العناية بالأب، الابن عنده امتحان، أول عبادة معاونة الابن، الزوجة مريضة، أول عبادة تمريض الزوجة، عندك ضيف، أول عبادة إكرام الضيف، أن تعبد الله فيما أقامك، وفي الظرف الذي وضعك فيه، وفي الزمان الذي أظلَّك، وقت السحر وقت عبادة، أيام العيد ليست أيام صيام، أيام طعام وشراب، ومؤانسة للأهل والأقارب، لك هوية، ولك ظرف مكاني، ولك ظرف زماني، ففي هويتك عبادة، وفي ظرفك المكاني عبادة، وفي ظرفك الزماني عبادة.
أول عبادة في أوقات الصلوات الخمس الإقبال على الصلاة في أول الوقت، أول عبادة في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه والبدن والمال، أن تشتغل بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلواتك، أفضل عبادة وقت قراءة القرآن، أن تجمع قلبك على الله، وأن تتدبر آيات القرآن، وأن تفهمها، حتى تشعر كأن الله يخاطبك فتجمع قلبك عليه.
أفضل عبادة في وقت عرفة الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المُضْعِف للجسم.
أفضل عبادة في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد ولاسيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعيّن.
أول عبادة في العشر الأخيـر من رمضان لزوم المسجد، والخلوة، والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس، والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليم العلم، وإقراء القرآن عند كثير من العلماء.
وأول عبادة في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلواتك وجمعيتك.
وأول عبادة وقت نزول النوازل، وإيذاء الناس لك، أداء واجب الصبر مع خُلطتك بهم دون الهرب منهم، فإن المؤمن الذي يُخَالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم، ولا يصبر على أذاهم.
الملخص أن تُؤْثِر مرضاة الله فيما أقامك، وفي الظرف الذي وضعك فيه، وفي الزمن الذي أظلّك، وفي الوضع الاستثنائي الذي حلّ بك، هذا أرقى أنواع العبادة.
قال: هؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيَّد، هناك تعبد مطلق، وتعبُّد مقيَّد، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك العبادة، لأنه يعبد الله على وجه واحد، هذا كلام دقيق جداً لو واحد غذَّيناه أن العبادة فقط أن تذكر الله، فإذا قام بعمل جليل وخطير وذي نفع عظيم، لكنه ترك ذكره، يشعر بالخطأ الشديد، هذا غُذِّي خطأ، هناك وقت للذكر، وقت للعمل الصالح، وقت لأن تكون مع الأهل والأولاد، وقت لتربية الأولاد، وقت لكسب الرزق، وقت لتؤنس إخوانك، وقت للدعوة إلى الله، وقت للعمل الصالح، وقت لراحة الجسد، هذه العبادة المطلقة.
ويا أيها الإخوة؛ هؤلاء أهل العبادة المطلقة ينتقلون من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، ومن منزلة إلى منزلة، وكلما اشتغل بنوعٍ من العبادة لاح له نوعٌ آخر فأقبل عليها، أي قلَّما يُصاب بالملل، أصحاب العبادة المُقَيّدة يصابون بالملل والسأم والضجر، أما أصحاب العبادة المطلقة فهم في تجدد دائم، من صلاة، إلى ذكر، إلى عيادة مريض، إلى تشييع جنازة، إلى إنفاق مال، إلى جلوس مع الأهل، إلى زيارة للأقارب، إلى كسب للرزق، إلى برٍّ بالوالدين، أمامه مجال واسع جداً، ويفعل كل عبادة وهو مُقْبِل عليها، راغب فيها، إن رأيت العلماء رأيت هذا الإنسان معهم، وإن رأيت العبَّاد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب القلوب رأيته معهم، هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم المقيدة، ولا النماذج الرتيبة، ولم يكن عمله على مراد نفسه، وما فيه لذتها وراحتها في العبادات، بل هو على مراد ربّه، هنا العبادة المطلقة هي على مراد الله، لا على مراد حظّ النفس.
قال: هذا الإنسان هو المُتحقِّق في منزلة إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، يا رب نعبدك فيما أقمتنا، نعبدك في الظرف الذي وضعتنا فيه، نعبدك في الزمان الذي أظلّنا، نعبدك في وقت راحتنا، ووقت تعبنا ونصبنا، نعبدك في كل ظرف استثنائي، نؤثر مرضاتك في عبادتك، ولا نؤثر حظوظ نفسنا في عبادتك، هذا هو المتعبِّد حقًا، القائم بالعبادة صدقاً، ملبسه ما تهيَّأ له، مأكله ما تيسر له، اشتغاله بما أمر الله به في كل وقت من وقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان، ووجده خالياً، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيدٌ، ولا يستولي عليه رسم، حرٌّ مجرد، دائر مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر، أنَّى توجّهت ركائبه، ويدور معه حيث استقلّت مضاربه، يأنس به كلُّ مُحق، و يستوحش به كلُّ مُبطِل، كالغيث حيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعة حتى شوكها، وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتُهكت محارم الله، فهو لله، وبالله، ومع الله، صَحِب اللهَ بلا خَلْق، وصحب الناس بلا نَفْس، بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين، وتخلى عنهم، وكان إذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلّى عنها، فواهًا له ما أغربه بين الناس، وما أشدّ وحشته منهم، بل ما أعظم أُنسه بالله، وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه، والله المستعان وعليه التكلان.
الملف مدقق