وضع داكن
19-11-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الشمس - تفسير الآيات 7 - 15 النفس البشرية وأمراضها.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

كل الأديان والدين الإسلامي بشكل خاص جوهره السيطرة على الذات أو على النفس:


بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى في سورة الشمس:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا(10)﴾

[ سورة الشمس ]

ربنا سبحانه وتعالى قبل ذِكر النفس ذَكر الشمس وضحاها 

﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا(1)﴾

[ سورة الشمس ]

وذَكَر 

﴿ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)﴾

[ سورة الشمس ]

وذَكَر

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)﴾

[ سورة الشمس ]

وذَكر الأرض، وبعد هذه الآيات الكبيرة ذَكر النفس، وقد تكون النفس أعظم من كل هذه الآيات، وربما كانت النفس الإنسانية هي المقصودة من تسخير السموات والأرض

﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾

[ سورة الجاثية ]

وسخر لكم السماوات والأرض، فالسماوات والأرض وما فيهن مُسخَّرةٌ لهذه النفس الإنسانية، فربنا سبحانه وتعالى يقول: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) .
كيف سوَّى ربنا سبحانه وتعالى هذه النفس؟ نحن اليوم نُعنَى بالجسد، الحضارة الغربية بأكملها وبكل أنواعها مَعنيةٌ بالجسد، والجسد مصيره إلى ما تعلمون، فكل هذه الجهود الجبارة التي تبذل من أجل العناية بهذا الجسد تنتهي عند الموت، وعند الموت سيواجه الإنسان نفسه التي دسّاها وأهملها ولم يسمُ بها ودنَّسها وسوف تُعذِّبه إلى أبد الآبدين، حتى إن بعضهم لخصَّ الحضارة القائمة على الدين بأنها حضارةٌ تسيطر على الذات، الإنسان المؤمن منضبط، وفسَّر بعضهم الحضارة المادية بأنها سيطرةٌ على المادة، لكن الأديان والدين الإسلامي بشكلٍ خاص جوهره السيطرة على الذات، على النفس.

فرقٌ دقيق بين الفطرة والصبغة:


(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) فكل الآلات التي تخطف الأبصار وكل هذه المخترعات الحديثة هدفها ترفيه هذا الجسد والجسد مصيره التراب، فربنا عزَّ وجل في هذه الآية وجَّهنا إلى النفس، الإنسان يعتني بجسده، يرتدي ثيابٌ جميلة، يعتني ببيته وبأثاثه، يعتني بحانوته، ولكن أين العناية بنفسه؟ سيدنا عمر كان يقول: "تعاهد قلبك" ، فالناس الآن يتعهدون أُمورهم المادية ويخجلون من بيتٍ ليس فيه نظام، ويخجلون من أثاثٍ قديم، يخجلون من بيتٍ طلاؤه قديم، يخجلون من بيتٍ مدخله غير مرتب، أمّا النفس التي ينطوون عليها فقد تركوها هملاً، فإذا جاء الموت تظهر عورة النفس وسوف تُعذِّب صاحبها إلى الأبد، فربنا عزَّ وجل لفت النظر إلى هذه النفس (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) .
كيف سواها؟ لقد فطرها فطرةً عالية، لقد خلقها تحبُّ الكمال، وأن تُحبَّ الكمال شيء، وأن تكون كاملاً شيءٌ آخر، أن تُحبَّ العدالة شيء وأن تكون عادلاً شيءٌ آخر، أن تُحبَّ العدالة هذه فطرة، وأن تكون عادلاً هذه صِبغة، فرقٌ دقيقٌ بين الفطرة والصِبغة، أن تُحبَّ معالي الأمور هذه فطرة، هذه الفطرة العالية هي التي تُعذِّب صاحبها، لماذا يُحس الإنسان بوخز الضمير؟ لماذا يُحس بالضيق إذا انحرف وإذا اعتدى وإذا استعلى، إذا بنى مجده على فقر الآخرين؟ ما تفسير هذا الضيق؟ هو الفطرة السليمة التي فُطر عليها الإنسان، هذه الفطرة التي تتجه نحو الكمال، فإن وصلته استراحت وإن قصَّرت عنه تعذبت، هذا قانونٌ عام ينطبق على كل نفسٍ خلقها الله عزَّ وجل.

النفس تذوق الموت ولا تموت لأن النفس خالدة:


(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) يعني ما هذه التسوية؟ الإنسان مفطورٌ على حُبِّ من أحسن إليه، فإذا رأى نفسه في الآخرة قد أساءت إلى عباد الله، والله عزَّ وجل سبقت له منه الحُسنى، فإنه يتعذب عذاب الخجل، الفطرة الأولى أنَّ النفس مجبولةٌ على حُب من أحسن إليها، الفطرة الثانية أنَّ النفس تُحبُّ الكمال، فإذا حادت عنه تعذبت وإذا بلغته استراحت، لذلك الناس نيام، الإنسان في الدنيا مخَّدر بالشهوات، فإذا اقترب الموت ذهبت عنه هذه الشهوات، وظهرت حقيقته كما رآها رأي العين فتعذب بها، (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) .
الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من نفسٍ ومن روحٍ ومن جسد، فالنفس هي ذات الإنسان، مَن فلان الفلاني؟ نفسه، هي التي تُحب، وهي التي تكره، وهي التي تغضب، وهي التي ترضى، وهي التي تُقصِّر، وهي التي تُحسن، وهي خالدةٌ لا تموت أبداً، وربنا سبحانه وتعالى يقول:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)﴾

[ سورة العنكبوت  ]

فرقٌ كبير بين أن تقول كل نفسٍ تموت وبين أن تقول: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) النفس تذوق الموت ولا تموت، النفس خالدة.

أمراض النفس أخطر بكثير من أمراض الجسد:


﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77)﴾

[ سورة الزخرف ]

فالإنسان مخلوقٌ من نفس هي ذاته، هي التي تَسعَد، وهي التي تتعذب، هذه النفس كلها أعيُن وآذانٌ وأحاسيس، ولكن الله سبحانه وتعالى وضعها داخل الجسد، فترى من خلال نافذتين هما العينان، وتسمع من خلال الأُذنين، وتنتقل عن طريق الرجلين، وتبطش باليد، وتحسن باليد، وتحاكم بالفكر، الجسد وعاءٌ للنفس تتحرك به، وترى به، وتسمع به، وتُدرك به، وتُحسن به، وتسيء به، لكن هذا الجسد يتحرك بالروح التي أودعها الله فيه، فالحركة تعبيرٌ عن ذات الإنسان وبقوة الله عزَّ وجل، والعين ترى بقوة الله ترى بالروح، والأُذن كذلك، وحقيقة الموت انفصال النفس عن الجسد، عن الروح، والروح قوة الله المُحرِّكة، لو نزعت المأخذ من الكهرباء لآلةٍ تتوقف فوراً، زِنها هي كما هي، ما الذي جعلها تقف؟ انقطاع القوة المُحرِّكة، انقطاع الطاقة؟ فالروح التي أودعها الله فينا إذا مات الإنسان تنقطع فوراً، فإذا انقطعت عرجت النفس إلى بارئها إن كانت مؤمنة، وبقيت رهينةً إن كانت فاسقة، والروح هي قوة الله عزَّ وجل قطعت عن هذه النفس.
 فالشيء الخطير هي نفسك لا جسدك، والناس الآن يقلقون على أجسادهم، يقلقون على قلوبهم، ويخافون من تسرع في القلب، يخافون من بعض الأزمات القلبية، وفاتهم أنَّ أمراض النفس هي أخطر بكثير، لأن أمراض الجسد كلها تنتهي بالموت، وأمراض النفس كلها تبدأ بعد الموت، وبعد الموت هناك أبدٌ لا ينقطع إلى أبد الآبدين، فأيهما أخطر أن تُعنى بهذا الجسد الفاني أم أن تُعنى بهذه النفس الخالدة؟ (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) ، خلقها على فطرةٍ سليمة، خلقها كصفحةٍ بيضاء، إمّا أن يُكتب على هذه الصفحة كلامٌ جميل تفخر به، وإمّا أن يكتب على هذه الصفحة كلامٌ بذيء تخجل منه، لذلك ربنا عزَّ وجل قال: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) .

الله سبحانه وتعالى أودع في هذه النفس حبّ الشهوات:


هذه النفس جعلها تُحبُّ الكمال وحبُها للكمال هو الذي يعذِّبها إذا حادت عنه، جعلها تُحبُّ من أحسن إليها، جعل لها جسداً في خدمتها تتحرك به، جعلها خالدةً تذوق الموت ولا تموت، وجعل الروح قوةً مُحركةً لها، (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا).
شيءٌ آخر: الله سبحانه وتعالى أودع في هذه النفس هذه الشهوات:

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾

[ سورة آل عمران ]

الله سبحانه وتعالى لحكمةٍ بالغة أودع في هذه النفس هذه الشهوات، لماذا؟ لولا هذه الشهوات لا ترقى النفس إلى ربِّها، كيف ترقى؟ إنها تبذل ما هو غالٍ عليها، حينما تبذل المال ترقى، لولا أنَّ الله عزَّ وجل أودع فيها حُبُّ المال فما قيمة الصدقة؟ وما قيمة الزكاة؟ ما قيمة المساعدة؟ لولا أن الله عزَّ وجل أودع فيها حُبَّ المال فما قيمة ترك المال الحرام؟ قد يكون المبلغ مغرياً جداً، ومع ذلك تقول: إني أخاف الله ربِّ العالمين، ولولا أن الله سبحانه وتعالى أودع في نفس الإنسان حُب الجنس الآخر، فما قيمة غض البصر؟ وما قيمة موقف سيدنا يوسف حينما قال:

﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)﴾

[ سورة يوسف ]


لولا الشهوات التي أودعها الله فينا لما كانت جنَّة ولا نار:


لاحظوا أيُّها الإخوة، أنَّ هذه الشهوات التي أودعها الله فينا، لا يمكن أن نرقى إلى الله إلا بها، طريقنا إلى الله، شهواتٌ حيادية، يمكن أن تكون قوةً دافعةً إلى الله عزَّ وجل، ويمكن أن تكون قوةً دافعةً إلى جهنم، والشهوة هي هي، حُبُّ النساء طريقك إلى الله عزَّ وجل، وكيف ذلك؟ غضّ البصر، تُحس أنك تُعارض نفسك، تنهاها عن الهوى هذا طريق، وإذا سلكت الطريق الذي شرعه الله عزَّ وجل أيضاً هذا طريقٌ آخر إلى الله، حُبُّ المال طريقٌ إلى الله عزَّ وجل، دافع يدفعك إلى مرضاة الله عزَّ وجل بإنفاقه، أو بالترفع عن المال الحرام.
إذاً لولا هذه الشهوات التي أودعها الله فينا لما كانت جنَّةٌ ولما كانت نار، أولاً الفطرة سليمة جعلك تُحبُّ الخير، وتُحبُّ الرحمة، تُحبُّ العدالة، تُحبُّ الإنصاف، تُحبُّ الحلم، وجعلك تُحبُّ من أحسن إليك وجعل فيك نقاط ضعف.

﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)﴾

[ سورة النساء ]

﴿ خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)﴾

[ سورة الأنبياء ]

﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)﴾

[ سورة المعارج ]

هذه النقاط وإن كانت نقاط ضعفٍ في الإنسان، إلا أنها لمصلحة إيمانه، ولمصلحة سعادته، وهي تُعينه على معرفة الله، وتُعينه على التوكل على الله، وتُعينه على الالتجاء إلى الله.

الشهوات حيادية لكنها مِحَك للإنسان وبها تكشف النفس على حقيقتها:


(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) خلقها على فطرةٍ عالية، وخلقها تُحبُّ من أحسن إليها، وخلقها ذات قوانين وأودع فيها الشهوات، وهذه كلها دوافع إلى الجنَّة، بها ترقى إلى الله عزَّ وجل، وبها تنحدر إلى جهنم، (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) ، لكن المدنيّة اليوم في العالم كله لا تُعنى إلا بالجسد، بيتٌ مريح، مركبةٌ مريحة، طعامٌ نفيس، ثيابٌ أنيقة، فهذه أشياء تأخذ عقول ضِعاف العقول، لكنه إذا جاء الموت انقطعت فجأةً كل هذه المكتسبات التي حصَّلها الإنسان في الدنيا، كل المال تنتهي وظيفته عند الموت، إن مات الإنسان وترك آلاف الملايين، وإن مات ولا يملك شروى نقير، فكلاهما سيّان، أمراض الجسد تنتهي عند الموت، أمراض النفس تبدأ عند الموت، لذلك: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) .
من الذي سوَّى هذه النفس؟ جعلها تخاف، جعلها تغضب، بهذه الفطرة تصبر أو لا تصبر، ترقى أو لا ترقى، تصدُق أو تكذب، تُخلص أو تخون، تحلُم أو تنتقم، تعفو أو لا تعفو، فهذه الشهوات حيادية لكنها مِحَكٌ لها، بهذه الشهوات تُكشَف النفس على حقيقتها (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) .

النفس البشرية مُخيَّرة وليست مُكرهة:


فالإنسان عنده استعداد أن يكون مؤمناً أو أن يكون غير مؤمن، عنده استعداد أن يكون رحيماً أو قاسياً، وأن يكون كريماً أو بخيلاً، وأن يكون ودوداً أو مُجافياً، عنده استعداد أن يرقى أو يَسْفُل، أن يسمو أو أن ينحط، وأن يقوى أو أن يضعُف، هذه كلها في متناول يده عن طريق هذه الشهوات التي أودعها الله فينا.

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)﴾

[ سورة الإنسان ]

﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾

[ سورة الكهف ]

شيءٌ آخر الله سبحانه وتعالى من معاني (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) إضافةً إلى الفطرة السليمة، إضافةً إلى حُب من أحسن إليها، إضافةً إلى الشهوات التي أودعها الله فيها، إضافةً إلى كل ذلك جعلها مُختارة، النفس البشرية مُخيَّرة وليست مُكرهة.

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)﴾

[ سورة البقرة ]

(فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) .

الله عز وجل أعطى النفس الاختيار وجعلها مسؤولة:


إضافةً إلى كل ذلك جعل ربنا سبحانه وتعالى معاملته لهذا الإنسان في ضوء موقفه هو:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)﴾

[ سورة المدثر ]

أعطاها الاختيار وجعلها مسؤولة، سأل أحدهم سيدنا علياً كرَّم الله وجهه: "أكان مسيرنا إلى الشام بقضاءٍ من الله وقدر؟ قال: ويحك، لو كان قضاءً لازماً، وقدراً حاتماً، إذاً لبَطَلَ الوعد والوعيد ولانتفى الثواب والعقاب ولكان إنزال القرآن لعباً، إن الله أمر عباده تخييراً ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً ولم يُطع مكرهاً" أعطاك اختياراً وجعلك مسؤولاً، وأعطاك شهوات مزروعة في نفسك، وهذا ليس عيباً فيك، إنما هو لمصلحتك ولسعادتك الأبدية، حيادية ترقى أم تسفُل بها؟ وأعطاك نفساً تُحب الخير، تُحب الرحمة، تُحب العدالة، وقد يكون المرء غير ذلك بحثٌ آخر، لكن اللصوص إذا اجتمعوا ليقتسموا ما سرقوا، يقسمونه بالعدل لِأنهم في الأصل يُحبون العدل؟ هذه الفطرة، أي إنسان على وجه الأرض من أقصى الأرض إلى أقصاها، من شمالها إلى جنوبها فطرته هي هي، إذا أساء لمن أحسن إليه، يُعذَّب أشدَّ العذاب من دون أن يُعذِّبه أحد، فلذلك: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) .

بذل الوقت وبذل الجهد والمال وصون النفس عن المحرمات هذا كله يرقى بالإنسان:


جعلك حراً وجعلك مسؤولاً، جعل معاملته لك مرتبطة بموقفك منه.

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ  إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)﴾

[ سورة الرعد ]

من الأسوأ إلى الأحسن (حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) ، من الأحسن إلى الأسوأ (حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) ، هذه القوانين، أنت مفطورٌ فِطرةً سليمة، تُحب المُحسن وتكره المسيء، حرٌّ مسؤول، عندك شهوات حيادية ترقى بك، زُرعت فيك لترقى بك، ولولا هذه الشهوات كيف السبيل إلى التقرب إلى الله عزَّ وجل؟ مستحيل، يعني كائن لا يمكن أن يرقى إلى الله إلا بهذه الشهوات، أحدنا إذا غضَّ بصره عن محارم الله ماذا يشعر؟ أنه فعل شيئاً، مزروع في نفسه ميل النظر وعاكس هذا الميل، وارتقى إلى الله عزَّ وجل، آثر امرأةً صالحة على امرأةٍ جميلة نبتت في منبت سوء، بهذا ترقى، جاءك مبلغٌ كبير فقلت: إني أخاف الله ربِّ العالمين هذا فيه شبهة، بهذا ترقى، لا ترقى إلا بترك المحرمات، ونيل الطاعات، ومخالفة الشهوات التي لا تُرضي الله عزَّ وجل واتباع ما شرعه الله لك.
 أحياناً الإنسان يسأل سؤالاً ساذجاً: لماذا أودع الله عزَّ وجل في أنفسنا هذه الشهوات؟ لو لم يودعها فينا لاسترحنا وأرحنا، لا، هذا كلامٌ ساذج، فلولا هذه الشهوات لما كانت جنَّة، بها ترقى، بغضّ البصر ترقى، وبإنفاق المال ترقى، وأن تقوم من فراشك وأنت مستريح، بأداء الصلاة ترقى، وأن تشدَّ رجليك مع أخٍ تساعده في حاجةٍ ترقى، لا ترقى إلا بالعمل الصالح، والعمل الصالح يحتاج مالاً وجهداً ووقتاً، فبذل الوقت وبذل الجهد وبذل المال وصون النفس عن المحرمات هذا كله يرقى بالإنسان (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) .

الله تعالى أعطانا حرية الاختيار وجعلك مسؤولاً:


جعلك على الفطرة السليمة تحب الخير، زرع فيك الشهوات من أجل سعادتك، أعطاك حرية الاختيار وجعلك مسؤولاً عن أعمالك كلها

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾

[ سورة الحجر ]

جعل علاقته معك واضحةً تماماً (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)

﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56)﴾

[ سورة الأعراف ]

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل ]

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124)﴾

[ سورة طه ]


بعد الفطرة و الصبغة و قوة التمييز إذا انحرفت يلهمك الله أنك منحرف:


جعل علاقته معك واضحةً جداً، وفوق كل ذلك جعل في نفسك طبيعةً تملكها أنت، وهي أنك تُميِّز بين الخير والشر، أعطاك هذه القدرة، فهذه طاقة

(( الحَلَالُ بَيِّنٌ، والحَرَامُ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى ، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ، ألَا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألَا إنَّ حِمَى اللَّهِ في أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ. ))

[  صحيح البخاري  ]

(( جئتَ تسألُ عن البرِّ والإثمِ؟ قال: نعم، فقال: استَفْتِ قلبَك : البِرُّ ما اطمأنَّتْ إليه النَّفسُ، واطمأنَّ إليه القلبُ، والإثمُ ما حاك في النَّفسِ وتردَّدَ في الصَّدرِ، وإن أفتاك الناسُ وأَفْتَوْك ))

[ أخرجه أحمد والدارمي ]

أنا أؤكد لكم أنَّ أي إنسانٍ عنده بفطرته السليمة حاسةٌ سادسة تُنبئه أنَّ هذا العمل صحيح وهذا غير صحيح، لذلك كل المنحرفين معذَّبون نفسياً لأنَّ فطرتهم تحاسبهم، فوق هذا وذاك أعطاك قوةً إدراكيةً موجِهةً وهي الفكر، أثمن ما في الوجود هو الفكر، أعطاك قوةً إدراكيةً موجِهة وجعل لها سلطان، المنطق سلطان، الفكر سلطان، عجبت لك يا خالد تأخرت لماذا؟ أرى لك فكراً، وفوق هذا وذاك أعطاك كوناً ترى من خلال الكون رحمته، وعلمه، وقدرته، وحكمته، ولطفه، وإبداعه، وعدله، أبداً، هل بقي شي؟ لك عليه شيء؟ لا، بقي عليه أنه أرسل لك أنبياء وأنزل معهم كُتباً من عنده، ما الذي بقي؟ فطرة سليمة وشهوات لمصلحة الرُقي، وقوة إدراك للتمييز بين الخير والشر، وفكر مسيطر ،عنده قدرة على التوجيه، وكونٌ مُعجِز، أنبياء، دعاة، كتب (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) وبعد كل هذا فبعد الفطرة وبعد الصِبغة، وبعد قوة التمييز، وبعد قوة الفكر، وبعد الكون، وبعد الضياء، وبعد الأنبياء، وبعد القرآن، بعد كل هذا إذا انحرفت ألهمك أنك مُنحرف (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) .

النفس التي سواها الله تعالى قد تفوق كل الآيات السابقة:


إذا أصبت ألهمك أنك مصيب، يشرح الله صدرك، وإذا استقمت تُحس براحةٍ لا توصف، وتحس بأنك خفيف، أنَّ جبلاً كان جاثماً على صدرك فانزاح عن كاهلك، وإذا وقعت في خلل، في انحراف، في نيّةٍ سيئة تُحس بالضيق.

﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)﴾

[ سورة التوبة ]

كل شيءٍ ذكرناه (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) .
إن هذه النفس التي سوَّاها قد تفوق كل هذه الآيات السابقة (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا(6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) على تسوية النفس هناك أشياءٌ كثيرة، دعونا من الجسد ومن دقة العين، من دقة الفكر، ودقة الأُذُن، من السمع والبصر والذوق، والغدد الصماء، من الجملة العصبية، والدماغ دعونا من هذا الجسد المُعجِز الذي هو أعقد آلةٍ في الكون دعونا منه، وتعالوا إلى النفس التي لا تزال ذلك المجهول، هناك كتابٌ أُلِّف عنوانه "الإنسان ذلك المجهول" ومحوره كله أنَّ خطأ العصر الأكبر أنهم اتجهوا إلى الجسد على حساب النفس، رفاهٌ ماديّ وشقاءٌ نفسي.

الإنسان الذي نجح في حياته هو الرابح الأول في الحياة:


سألت أحد الأطباء: هل تستطيع أن تلخِّص لي الأمراض التي تصيب القلب بكلمات؟ قال: نعم راحةٌ جسدية وتوترٌ نفسي، أمّا أجدادنا تعبٌ جسدي وراحةٌ نفسية، كل هذه الأدوات التي أحالت حياتنا إلى راحةٍ واسترخاء، ووتَّرت أعصابنا، وجعلت التدابُر، والتناقض، والتباعد، والحسد، والحقد، والخوف على زوال الدنيا، واللهاث وراءها، هذه كلها توتُراتٌ عصبية أرهقت القلب، والإنسان ذلك المجهول، الغلطة الكبرى التي ارتكبتها أوربا، أنها اعتمدت رفاهية الجسد على حساب النفس.
وأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، على أنَّ حياتهم كانت خشنة، وطعامهم خشن، حفنةٌ من الطحين، تمراتٌ يأكلونها، وكأس حليبٍ يشربونه، وجَملٌ يركبونه، الجَمَل غير مُكيَّف، ومع ذلك كانوا سعداء، وكان الواحد منهم كالكوكب الدُرّي، إن أتيح لإنسانٍ أن يجلس معهم طار سعادةً، والآن ترى الرفاهية في قمتها والناس في حضيض الشقاء، (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) ومع ذلك مع وجود الأنبياء والكتب المقدسة، ومع الكون المعجِز الذي هو تجسيدٌ لأسماء الله تعالى ومع هذا الفكر العظيم، ومع هذا الضياء، ومع هذه القوة المميزة، ومع الفطرة السليمة، ومع حُبِّ الخير، ومع حُبِّ المحسن، ومع هذه الشهوات التي أودعها الله فينا إذا انحرف الإنسان (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) .
الآن التقييم: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) (قد) حرف تحقيق، أمّا أفلح فعل ماض، فلماذا ربنا سبحانه وتعالى استخدم الفعل الماض؟ استخدام الفعل الماضي مكان الفعل المضارع أو الأمر أو المستقبل معناه في اللغة تحقُّق الوقوع، يعني الإنسان في الدنيا إذا زكَّى نفسه، ولو كانت حياته متواضعة وخشنة، لو عمله صغير، ومكانته الاجتماعية صغيرة، قد أفلح، ومعنى أفلح أي فاز، فاز بماذا؟ مُطلقة، هذا مُطلق النجاح، لا داعي أن تقول فاز بماذا؟ هذا الإنسان نجح في حياته، نجح في وجوده، حقَّق الهدف الذي خُلق من أجله، هذا الإنسان هو الرابح الأول في الحياة.

ربنا عزَّ وجل عندما أغفل المفعول به أعطى معنى الفلاح المطلق:


(قَدْ أَفْلَحَ) أحياناً الإنسان يركب سيارة وتتعطل المكابح فجأةً، والطريق منحدرة وتنتهي بمنعطف خطر، يقول لك: انتهينا، بثانية يقول لك: انتهينا، حينما يشعر أن هذا الحادث مصيري يستخدم الفعل الماضي لا الفعل المضارع (قَدْ أَفْلَحَ) ، هذا الذي عَرَف ربه قد أفلح، هذا الذي استقام على أمره قد أفلح، وهذا الذي قال إني أخاف الله رب العالمين قد أفلح، أفلح بماذا؟ جميع أفعال النجاح مقيَّدة، نجح بعمله ويكون في بيته شقياً، نجح بزواجه ويكون بعمله شقياً، نجح بدراسته ويكون عنده خمسون علَّة في جسمه، فكل أفعال النجاح نستخدمها مقيَّدة، أمّا إذا قلت: فلان نجح، يعني بكل شيء، فيكون قد حقَّق التكامل البشري، فربنا عزَّ وجل عندما أغفل المفعول به أعطى معنى الفلاح المُطلق، أي (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) فاستخدام الفعل الماضي يعني تحقُّق الوقوع، واستخدام (قد) هذه تزيد من تحقُّق الوقوع، (قد) حرف تحقيق (قَدْ أَفْلَحَ) ، والآن لنصغِ إلى الله عزَّ وجل من الذي أفلح؟ قال: (مَن زَكَّاهَا) الـ (ها) على من تعود؟ على النفس، (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) هذا كلام رب العالمين، كلام خالق الكون.
إذا اعتقدت شيئاً آخر فما أبعدك عن الحقيقة، إذا اعتقدت قيمةً أُخرى أنَّ المال هو كل شيء فما أشدَّ الضلال، وإذا اعتقدت أنَّ الشهوات هي كل شيء فما أبعد الضلال.

الهدف الأكبر من الخلق:


(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) كيف يُزكّيها؟ ولماذا يُزكّيها؟ سؤال كيف ولماذا ومتى؟ متى؟ في الدنيا، ولماذا؟ لأن هذه النفس الإنسانية خُلِقت لتسعد بالله عزَّ وجل، ومما جاء في الأثار القدسية من الكتب السماوية السابقة:  << خلقت لك السموات والأرض من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب>>

[ ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" ]

 أنت مخلوقٌ من أجل أن تسعد بالله عزَّ وجل، هذا هو الهدف الأكبر من خَلقك، خُلقت لتعرف الله ما معنى تعرفه؟ أي تسعد بقربه إلى أبد الآبدين، في جنةٍ فيها ما لا عينٌ رأت ولا أُذُنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.

(( قالَ اللَّهُ: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ. ))

[ صحيح البخاري ]

لكنك لن تستطيع أن تسعد بالله، وأن يكون لك مقعدَ صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، إلا إذا كنت مؤهلاً لهذا المنصب.

﴿ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55)﴾

[ سورة القمر ]

التأهيل في الدنيا، الجزاء في الآخرة، فما هو التأهيل؟ زكّاها يجب أن تزكو نفسك وتكبر،  وتصبح مؤهلةً لأن تكون في كنف الله إلى الأبد، وربنا عزَّ وجل بعدما ذكر (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) لقد نجح نجاحاً مطلقاً، هذا الذي التفت إلى نفسه فزكّاها.

كلمة (زكَّاها) لها ثلاثة معانٍ:


ما معنى زكّاها؟ لها ثلاثة معانٍ:

1ـ زكّاها أي طهرها من الأمراض التي سوف تعذبه إلى أبد الآبدين:

المعنى الأول: طهرها من الحقد، من الحسد، من الضغينة، من الكِبر، من الأثرة، من حب الذات، من الاستعلاء، من اللؤم، من البخل، من المُحاباة، من النفاق،(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) .
هناك أمراضٌ تصيب النفس لا تعد ولا تحصى، وهذه الأمراض كلها أعراض الإعراض، تُعرِض فتظهر عليها هذه الأعراض، إن كان مقطوعاً عن الله لا بُدَّ أن يكون لئيماً، ولا بُدّ من أن يكون بخيلاً، ولا بُدّ من أن يكون قاسياً، ولا بُدّ من أن يُحبَّ ذاته وحدها، ولكن ترى عند بعض الأذكياء عندهم ذكاء اجتماعي،  نقول هذا ذكاء مصلحة، فإذا وضع الإنسان في موقفٍ حرج وإذا ضيَّقت عليه، ظهر لؤمه على حقيقته، فالإنسان إن لم يكن له صِلةٌ بالله عزَّ وجل، لا بُدَّ من أن يشكو من معظم هذه الأمراض، وهذه اسمها أعراض الإعراض.
(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) ، أي من طهَّر نفسه من هذه الأمراض، لو كنت تسكن بأفخم بيت وأنت لئيم فهذا هو الشقاء بعينه، لأن البيت ينتهي عند الموت، ولكن اللؤم سيبدأ فعله المؤلم بعد الموت إلى الأبد، ولو كان عندك ألف مليون فعند الموت تنتهي أمّا البُخل فيبدأ بعد الموت.
مثلاً تجد رجلاً غنياً جداً وأُمه تقيم عليه دعوى النفقة، إذا مات هذا الغني ترك المال وبقي هذا الموقف اللئيم الذي وقفه من أُمه إلى الأبد يُعذِّبه، فمعنى زكّاها أي طهَّرها من الأدران، من الأمراض التي سوف تُعذِّبه إلى أبد الآبدين، وهذا هو المعنى الأول.

2 ـ معنى (زكاّها) أي سما بها:

المعنى الثاني: معنى (زكّاها) أي سما بها، لأن الإيمان فيه تخلية وتحلية، تطهير وتعطير، فالمعنى الثاني لا يكفي أن تكون مستقيماً، بل يجب أن تكون رحيماً، كريماً، ودوداً، عفوَّاً، حليماً، هذه هي الصِبغة، فالصبغة عندما يتخلق الإنسان كقطعة معدنٍ كانت موضوعةً في ثلاجة، ضعها في الشمس تفقد شيئاً وتكسب شيئاً آخر، تفقد برودتها وتكسب الحرارة.
فالإنسان إذا اتجه إلى الله عزَّ وجل، يتخلص من أدرانه، وأمراضه النفسية، ويكسب الكمالات الإلهية.

3 ـ المعنى الثالث الزيادة والنمو:

المعنى الثالث: الزيادة والنمو، فلا ينبغي أن تبقى في مرتبةٍ واحدة، لا بُدَّ من أن ترقى، المغبون من تساوى يوماه، من لم يكن في زيادةٍ فهو في نقصان.

((  مَنِ استوى يوماهُ فهوَ مغبونٌ ، ومَنْ كان آخرُ يومينِ شرًا فهوَ ملعونٌ ومَنْ لمْ يكنْ على الزيادةِ فهوَ في النُّقصانِ ومَنْ كان في النقصانِ فالموتُ خيرٌ لهُ. ))

[ أخرجه الديلمي إسناده ضعيف ]

أول معنى الطهارة من كل أمراض النفس، والمعنى الثاني التحلّي بالكمالات الإلهية، والمعنى الثالث الرقي والنمو، ما معنى زكَّى؟ هي في الدنيا ثمن الجنَّة، ثمنها (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) ، ثمنها هذه السعادة الأبدية التي لا تنقضي، ثمن: (أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ) .

فضل الصلاة :


متى؟ في الدنيا، تعريفها هذا، طريقها الصلاة، الصلاة نور والصلاة طهور.

(( الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمانِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ المِيزانَ، وسُبْحانَ اللهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ -أَوْ تَمْلأُ- ما بيْنَ السَّمَواتِ والأرْضِ، والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها . ))

[ صحيح مسلم ]

بالصلاة تشفى من كل أمراضك، بالصلاة تتحلى بالكمال، بالصلاة تتقلب في معارج الكمال.

(( بيْنَ الرَّجُلِ وبيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ. ))

[ صحيح مسلم ]

أساس الدين الصلاة

﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)﴾

[ سورة مريم ]

هذا الدين كله، صِلةٌ بالخالق، وإحسانٌ إلى المخلوق، هذا التعريف المختصر للدين، إذاً إذا قلنا: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) ، قد أفلح يعني قد حقَّق النجاح المُطلق، لا في الآخرة فحسب بل في الدنيا، من هذا؟ هذا الذي زكَّى نفسه وطهَّرها من الأمراض النفسية، وحلّاها بالكمالات الإلهية، وجعلها تنمو مع الأيام، فمن هو الإنسان؟  كما قال الحسن البصري: "إنما الإنسان بضعةُ أيامٍ، كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه" (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) .

معنى كلمة (أفلح):


لذلك إذا كنت أنت أيُّها الأخ الكريم، مصدِّقٌ لهذا الكتاب العظيم، يعني إن لم تكن في هذا الطريق فأنت في خسارةٍ كبيرة

﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)﴾

[ سورة العصر ]

أخي اشترى أرضاً فازداد ثمنها ثمانين ضعفاً! إنه خاسر، حسابه في المصرف ثلاثة آلاف مليون (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) ، كلام إله الذي خلق السماوات والأرض.

﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾

[ سورة العصر ]

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)﴾

[ سورة الكهف ]

شيءٌ خطيرٌ جداً أن تمشي في طريقٍ مسدود، ما معنى قد أفلح؟ لو تخيَّلنا عشرة أشخاص على وشك الموت عطشاً، وهناك نبعٌ، وهؤلاء العشرة توجه كل واحدٍ منهم إلى المكان الذي ظن أنَّ فيه ماء، فتسعة ماتوا وواحد وصل إلى النبع فعاش، فهذا (قَدْ أَفْلَحَ) .
إمبراطور اليابان بعث سبعة طلاب إلى فرنسا في أول النهضة اليابانية، فواحد منهم أحضر شهادة وستة دهشوا في باريس، في متاحفها وملاهيها وشوارعها وحدائقها، وما درسوا، فأعدم الستة، فهذا الذي عرف مهمته في الحياة من هذه البعثة، وحقّق الهدف، وضعه في منصب عالٍ، وأكرمه إكراماً شديداً.

الخاسر الأكبر:


معنى (قَدْ أَفْلَحَ) أي هذا الإله العظيم خلقك لهدفٍ محدد، فإذا عرفته وكنت في اتجاهه وبالسرعة المناسبة فقد أفلحت، إلا في حالات نادرة، هناك إنسانٌ هدفه معرفة الله، ولكنه سائر في طريقٍ لا يؤدي إلى ذلك فهذا يتأدب ويُعالج، وآخر هدفه معرفة الله وهو على طريق معرفة الله، ولكن سرعته بطيئة، فهذا له مصائب دفع، وهناك مصائب ردع، ومصائب دفع، ومصائب كشف، فالمصائب أنواع. 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)﴾

[ سورة الشمس ]

من هو الخاسر الأكبر؟ الذي دسَّ نفسه أي وضعها في التراب، يعني وضعها في الوحل، في وحول الشهوات، وآثر ما يفنى على ما يبقى، آثر مُتع الدنيا، آثر المال، آثر النساء، آثر الطعام، تعس عبد البطن، تعس عبد الفرج، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الدرهم والدينار، جعل نفسه عبداً لعبيد الله، حُبّاً بالمال وحُبّاً بالشهوات.

(( تعِس عبدُ الدينارِ، تعِس عبدُ الدرهمِ، تعس عبدُ الخميصةِ، تعس عبدُ الخميلةِ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ ))

[ أخرجه البخاري ]

(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) معنى دسّاها أي وضعها في مكانٍ لا يليق بها، خُلقت من أجل أن تعرفه فاستهوتك النساء، وخُلقت من أجل أن تعرفه فعشت فقيراً لتموت غنياً، يعني بخيلاً، خُلقت من أجل أن تعرفه فغرقت في شهوةٍ تافهة لا قيمة لها، خُلقت من أجل أن تعرفه فجعلت عملك قبراً لك، من الصباح إلى المساء في العمل التجاري وحسابات، فهو لا يصلي ولا يفعل خيراً، يأتيه الموت فجأةً وهو صفر اليدين (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) خاب وخسر وشقي.

الجنَّة هي استمتاع بذات الله:


فهذه الآية خطيرة جداً، إنها آية مصيرية، فأنت على الطريق الصحيح تعرف الهدف الذي خلقت من أجله لتسعد بالله، يعني أحدنا إذا دخل إلى غرفة دافئة في أيام البرد، وإلى غرفة مكيفة في أيام الحر، وشرب كأساً من الماء العذب إثر العطش الشديد، ورأى منظراً جميلاً، وتناول طعاماً طيباً يستمتع به، فبماذا استمتع؟ بمسحةٍ من جمالٍ أودعها الله في هذه المخلوقات، ما قولك أن الجنَّة هي استمتاعٌ بذات الله؟

﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾

[ سورة القيامة ]

(( خَرَجَ عَلَيْنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَيْلَةَ البَدْرِ، فَقالَ: إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَومَ القِيَامَةِ كما تَرَوْنَ هذا، لا تُضَامُونَ في رُؤْيَتِهِ. ))

[ صحيح البخاري ]

أنت خُلقت لهذه السعادة العُظمى، لا تقول أنا كبرت وأصبحت في الثمانين وقد ضعف بصري، شبابٌ ولا شيخوخة معه، ولا حر، ولا قر، ولا خوف، ولا قلق، ولا حزن، ولا مشكلة، ولا مشاحنة، ولا قلق على المواد الأولية أن تنتهي، وفوق هذا وذاك كل نظرةٍ إلى الله عزَّ وجل، يغيب فيها الإنسان خمسين ألف عام من النشوة، (أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ) .

﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ(56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60)﴾

[ سورة يس ]

هذا هو الهدف فهل أنت في طريق هذا الهدف؟ هل تُزكّي نفسك؟ هل تقول أنَّ هناك أمراضاً، والله يوجد مؤمنين صادقين، يسجِّل، لاحظ بنفسه يغتاب فقال: هذا مرضٌ خطير فيجب أن أراقب نفسي، أنا أنقل حديثاً سيئاً لإنسانٍ ما هذا؟ لا يجوز، ورأى أنه يخطف بصره بعض المناظر في الطريق هذه مخالفة.

ثمن السعادة هو أن تزكّي نفسك في الدنيا:


هل عندك هذه الدقة مع الله عزَّ وجل؟ هل عندك هذا الورع؟ (قَدْ أَفْلَحَ) لا يوجد مفعول به، أفلح فلاح مُطلق، نجاح مُطلق في الماضي، الآن أنت إنسان عادي ولكنك عرفت الله فكأنك في الجنَّة: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10) أنت مخلوق لتسعد بالله عزَّ وجل لكن هذه السعادة لها ثمن وهي أن تزكّي نفسك، ومتى؟ في الدنيا، عن طريق الاختيار، والمسؤولية، والشهوات التي أودعها الله فيك، وعن طريق كل هذا الكون وهذا الفكر.
أكبر خسارة في الدنيا تبقى محدودة أمّا خسارة الآخرة فهي خسارة أبدية:
والإنسان في الدنيا قد يخسر ولكن أكبر خسارةٍ تبقى محدودة، أمّا خسارة الآخرة فهي خسارةٌ أبدية، والآن ربنا عزَّ وجل أراد أن يُبيِّن لنا صورةً من صور الخسارة قال:

﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)﴾

[ سورة الشمس ]

أي بطغيانها، الباء للسببية لأنها كانت طاغيةً، والطغيان تجاوز الحد المعقول وتجاوز الحق (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا) طغت فكذَّبت، فالتكذيب ملازم للطغيان، فإذا إنسان تجاوز حدّه مع شريكه، لا بُدَّ من أن يكذِّب بحقائق الدين، ما دام هناك طغيان فيحصل تكذيب، وإذا تجاوز حدّه مع زوجته مادام هناك طغيان أصبح هناك تكذيب، وتجاوز حدّه مع زبائنه مادام هناك طغيان أصبح هناك تكذيب (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا)

عقاب الاشتراك في القتل:


ما هو هذا التكذيب؟

﴿ إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)﴾

[ سورة الشمس ]

هؤلاء سألوا سيدنا صالحاً ناقةً تخرج لهم من الجبل، وعلّقوا إيمانهم على هذه المعجزة، وفي القرآن الكريم قانون، وهو أنَّ قوماً ما إذا طلبوا من نبيهم معجزةً خارقة وتحققت ولم يؤمنوا، استحقوا الهلاك، لأن هذا آخر سهم، ومعنى ذلك أنه لا رجاء من إيمانهم، فهؤلاء طلبوا ناقةً تخرج من الجبل، إن فعل هذا فهو نبي، فلمّا خرجت هذه الناقة كذَّبوه وأرادوا أن يعقروها، فقال الله عزَّ وجل:

﴿ إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)﴾

[ سورة الشمس ]

أي احذروا ناقة الله أن تقتلوها، فهذه ناقة الله

﴿ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)﴾

[ سورة الشمس ]

فهل من المعقول إذا قوم سيدنا صالح قوم ثمود عددهم عشرة آلاف، معقول عشرة آلاف إنسان أن يشتركوا بقتل ناقة؟ لا، لكنهم رضوا بقتلها، وسيدنا عمر استنبط من هذه الآية، أن أهل قريةٍ لو اجتمعت على قتل رجلٍ واحد، لقتلوا جميعاً به، الذي قتله واحد لكنهم دفعوه جميعاً، وهذا هو الاشتراك في القتل، فربنا عزَّ وجل قال: (إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا) هو الذي عقر الناقة (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا(13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) أي تآمروا على قتلها فاستحقوا الهلاك وهذا آخر شيء.

العدالة في عقاب الله سبحانه:


(فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم) دمدم هذا فعل ثنائي مًضعَّف مثل زلزل، قلقل، عسعس، جرجر، كل فعل ثنائي مُضعَّف فيه تكرار زلزل، عسعس، قلقل، القلقلة فدمدم (دمَ) أي أهلك (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم) أي هلاك بعد هلاك، هلاك بعد هلاك متلاحق، زلازل متلاحقة، صواعق متلاحقة، براكين متلاحقة (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم) ، لكن القرآن الكريم مُعلَّل (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ) هناك عدالة (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا) .
أغادير مدينة على الساحل الأطلسي من أجمل المدن الساحلية، ومن أفسق المدن، دمدم عليهم ربهم بذنبهم، في ثلاث ثوان أصبحت حجراً فوق حجر، وبعد أسابيع جاءت الجرافات وسوَّتها، فجعلتها أرضاً مُسواة. (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا) ، لم يعد هناك نتوءات وأبنية شاهقة، أصبحت أرضاً مستوية.

للآية الأخيرة تفسيران:


﴿ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)﴾

[ سورة الشمس ]

فهذا الإنسان لا يخاف عُقبى عمله، بعضهم فسَّرها أن الله سبحانه وتعالى أمره هو النافذ ولا أحد في الكون يحاسبه فهذا معنى، والمعنى الثاني هذا العاصي لا يخاف عُقبى عمله، وهذا الزاني وشارب الخمر وآكل مال اليتيم، هذا الطاغي الذي يطغى على حقوق الناس لا يخاف عقباها عجباً له. (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) .
هذا مثلٌ مُجسَّد لـ (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا) لأنها طغت كذَّبت، (إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا) هو الذي عقر الناقة، (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) اشتراكهم في الإثم، أي الرضا والدفع (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)

النص مدقق

والحمد لله ربِّ العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور