- التربية الإسلامية / ٠1الحقوق
- /
- ٠3حقوق الآباء على الأبناء
مقدمة الدرس:
الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون... لا زلنا في الحديث النبوي الشريف، ولا زلنا في موضوع الحقوق والواجبات، وقد مضى درسان أو أكثر في الحديث عن حقوق الزوج على زوجته، وحقوق الزوجة على زوجها، واليوم ننتقل إلى حقوق الآباء على الأبناء، ومن ثَمَّ ـ إن شاء الله تعالى ـ نتحدث عن حقوق الأبناء على الآباء.
مفهوم العدل والإحسان:
الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾
العدل قسري، والإحسان طوعي:
أي أن أداء الحقوق لا بدَّ من أن تفعله، أيها المؤمن، أما أن تحسن، فهذا بحسب رغبتك وإمكاناتك وطموحك في القرب من الله عزَّ وجل، فالحديث في الحقوق والواجبات لا يتعلّق بما هو طوعي، بل يتعلق بما هو قسري، إلا أن المؤمن مأمور بالإحسان كما هو مأمور بالعدل. أضرب على هذا مثلاً للتوضيح:
لو أنك بعت بضاعةً وكان البيع وفق الشرع تماماً، وتمَّ الإيجاب والقبول، وعُلِم الثمن، وعُلِمت حالة البضاعة، وقبضتَ الثمن، وسلَّمتَ البضاعة، وكان الرضا، وكان الشهود.. هذا بيعٌ شرعي، بيعٌ ملزم، فلو أن أحد الطرفين امتنع عن دفع بقية الثمن، ورفع الآخر أمره إلى القاضي، فالقاضي يلزم الممتنع.. هذا هو العدل.
لكن هذا الشاري إذا جاءك، ورجاك أن تلغي له هذه الصفقة، وبين لك العذر، وأنت تستطيع أن تفعل هذا من دون أن تصاب بالضرر، وفعلت هذا، فهذا من قبيل الإحسان.
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان ِ﴾
لذلك: فالقضايا فيما بين الناس، إن لم تحلَّ وفق قواعد العدل ؛ حلَّت وفق قواعد الإحسان، ولا سيما بين الزوجين، بين الجارين، بين الأخوين، بين الشريكين، إما أن تُحَكِّم قواعد العدل، وأنعم بها من قواعد، وإما أن تحكِّم قواعد الإحسان، وهي تتسع لما ضاقت عنه قواعد العدل، فهذه الآية لو طبقها الناس لأغلق قصر العدل أبوابه:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان ﴾
إذاً:إذا ضاق العدل اتسع الإحسان، والعدل قسري، والإحسان طوعي.
العدل وأداء الحقوق:
درس اليوم والدروس التي سبقته، والدروس التي تـلحقه إن شاء الله تعالى، كلها متعلّقةٌ بالعدل وأداء الحقوق، ولا بدَّ من أداء الحقوق، والنبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المروي عن عمرو بن خارجة قال: خطب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال:
(( إِن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، أَلا لا وصية لوارث ))
ولن يكون الطريق إلى الله سالكاً إلا إذا أعطيت كلَّ ذي حقٍ حقه، لن تشعر أن الله راضٍ عنك إلا إذا أعطيت كلَّ ذي حقٍ حقه، فالزوجة لها حق، والأم لها حق، والأخ له حق، والأخت لها حق، والابن له حق، والبنت لها حق، والجار له حق، وكلُّ من يتصل بك له حق، وإن الله ليسأل العبد عن صحبة ساعة.
حقوق الآباء على الأبناء:
أيها الإخوة الكرام... الدرس في الحديث الشريف، ولكن الموضوع متعلّقٌ بحقوق الآباء على الأبناء، ومادام في القرآن آيةٌ كريمةٌ تتعلَّق بحقوق الآباء على الأبناء، فلا بدَّ من أن تقدم هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى:
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾
معاني كلمة ( قضى ) في القرآن الكريم:
ما معنى " قضى " ؟
كلمة " قضى " تنقلنا إلى موضوع دقيق، وهو أن الكلمة ـ في القرآن الكريم ـ قد ترد بمعاني كثيرة، والسياق وحده يحددها، فمثلاً:
قال تعالى:
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾
أي: ( أمَرَ )، كلمة قضى في هذه الآية تعني أنه أمرَ، أي أن الله سبحانه وتعالى أمرَ المؤمن.. أمر الإنسان ألا يعبد إلا الله وبالوالدين إحساناً.
آيةٌ ثانية:
﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾
معنى قضاهن، أي: ( خلقهن ).
قال تعالى:
﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾
حينما خاطب السحرة فرعون، أي بمعنى: ( احكم بأي حكم ).
﴿ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾
أي: ( فرغنا منه ).
﴿ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾
هنا بمعنى: ( أراد ).
﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾
يعني: ( إذ عهدنا )
كلمة ( قضى ) تأتي مرةً بمعنى أمر، ومرة بمعنى خَلَق، ومرة بمعنى حكم، ومرة بمعنى فرغ، ومرة بمعنى أراد، ومرة بمعنى عَهِدَ..
إذاً: من السذاجة أن تظن أن الكلمة القرآنية لها معنىً واحد، فحيث ما جاءت أخذتْ هذا المعنى الواحد، فالقرآن واسع البيان، وسياق كل آية هو الذي يحدد معناها.
عطف الشيء على الشيء في القرآن الكريم:
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾
في الآية دقة بالغة، أنا ماذا أقول حينما أعطف شيئاً على شيء ؟ أقول: اشتريت أرضاً وبيتاً، اشتريت مركبةً فخمةً ومركباً في البحر، اشتريت كتاباً ثميناً ومجلداً، لكن ليس من طبيعة العرب أن يعطفوا شيئين متفاوتين، هل يعقل أن تقول: اشتريت أرضاً وملعقةً ؟ هذا غير مألوف، اشتريت بيتاً فخماً ودفعت ثمنه مبلغاً طائلاً واشتريت معه سكيناً، لا يوجد تناسب.. فلمجرد أن الله سبحانه وتعالى عطف الإحسان للوالدين على عبادة الله عزَّ وجل، فالإحسان للوالدين شيءٌ عظيمٌ عظيمٌ عظيم، قَرَنَه الله عزَّ وجل بعبادته:
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا ﴾
آيةٌ ثانية، الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾
صلاح البال، راحة البال، الطُمأنينة، الرضا، الاستسلام لله عزَّ وجل..
بيتٌ ليس فيه مشكلات، ليس فيه منغِّصات، فيه سلم، فيه مودة، فيه محبة، صلاح البال رفعه الله إلى مستوى الهدى:
﴿ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾
العطف يقتضي التناسب، لمجرد أن الله سبحانه وتعالى، عطف الإحسان إلى الوالدين، على عبادة الله عزَّ وجل، معنى ذلك أن الإحسان إلى الوالدين شيءٌ عظيمٌ عظيمٌ عظيم، يرتقي إلى مستوى عبادة الله عزَّ وجل.
شيءٌ آخر:
في حقوق الآباء على الأبناء، في آيةٍ ثانية، الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾
دائماً الأحكام تحتاج إلى ثبات، والثبات أساسه التكرار، لو أن الله سبحانه وتعالى في آيةٍ واحدة قرن الإحسان إلى الوالدين بعبادة الله عزَّ وجل، هذه آيةٌ، لكن لا نعلم ما إذا كانت قاعدة، فحينما تأتي آيةٌ ثانية تَقْرِن ضرورة شكر الله عزَّ وجل بضرورة شكر الوالدين إذاً يستنبط من تكرار هذا المعنى أن هناك قاعدةً ثابتة ألا وهي أن برَّ الوالدين شيءٌ يرقى إلى مستوى عبادة الله عزَّ وجل:
﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾
وفي صحيح البخاري:
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:
أيُّ العملِ أحبُّ إلى الله تعالى ؟ قال:
(( الصلاة لميقاتها، قلتُ: ثم أيُّ ؟ قال: بِرُّ الوالدين، قلتُ: ثم أيُّ ؟ قال: الجهاد في سبيل الله ))
فأحب الأعمال إلى الله: الصَّلاة على وقتها، وبِر الوَالدين، والجهَاد في سَبيل اللَّه
بعض معاني برّ الوالدين:
من معاني بر الوالدين:
1 ـ عدم التسبب في سبّهما:
ألا يتعرض الإنسان لسبِّهما إطلاقاً.
ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(( إن من الكبائر: شتْمَ الرَّجُل والديه، قال: وهل يشتِم الرجل والديه ؟ قال: نعم يَسُبُّ الرجلُ أبا الرَّجُل وأمه، فيسبُ أباه وأمه ))
الكبائر التي نهى عنها القرآن الكريم:
الكبائر مهلكة تستحق دخول النار، فهذه الكلمات التي يعتادها السوقة من الناس في سبِّ الوالد، إذا اعتادها الإنسان ألحق بأبيه سباباً لا يعدُّ ولا يحصى، وهذا من الكبائر كما قال عليه الصلاة والسلام.
في هذه المناسبة، أحد العلماء واسمه " أبو طالب المكي " رحمه الله تعالى، أحصى الكبائر التي وردت في كتاب الله فقال:
" أربعةٌ في القلب: الشرك بالله تعالى، والإصرار على معصية الله تعالى، والقنوط من رحمة الله تعالى، والأمن من مكر الله تعالى.
وأربعةٌ في اللسان: شهادة الزور، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، واليمين الغموس، والسحر.
وثلاثةٌ في البطن: شرب الخمر، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا.
واثنتان في اليدين: وهما القتل والسرقة.
واثنتان في الفرج: وهما الزنا واللواط.
وواحدةٌ في الرجل: وهي الفرار من الزحف.
وواحدةٌ في جميع البدن: وهي عقوق الوالدين ".
أربعةٌ في القلب، وأربعةٌ في اللسان، وثلاثةٌ في البطن، واثنتان في اليدين، واثنتان في الفرج، وواحدةٌ في الرجل، وواحدةٌ في جميع البدن.
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كُنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال
(( ألا أُنبِّئكم بأكبر الكبائر - ثلاثاً - قلنا: بلى يا رسولَ الله، قال: الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدين، ألا وشهادةُ الزور، وقولُ الزور - وكان متَّكئاً فجلس - فما زال يكرّرُها حتى قلنا: ليته سكتَ ))
" الإشراك بالله " كلمة مطلقة، والمطلق على إطلاقه، أي يشمل الشرك الخفي، والشرك الجلي، أن تقول: زيد وعبيد وفلان أزعجني، وفلان أعطاني، وفلان حرمني، وفلان وعلان، وفلان وفلان، هذا كلّه شرك.
قال تعالى:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:
(( الكبائرُ: الإشراكُ بالله، وعُقوقُ الوالدين، وقتْلُ النفس، واليمينُ الغموسُ ))
حديث صحيح، أخرجه البخاري والترمذي والنسائي
(( إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة، الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة بغير الحق، والفرار في سبيل الله يوم الزحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلم السحر وأكل الربا، وأكل مال اليتيم ))
من حديث صحيح لغيره،أخرجه النسائي ومالك والدرامي والطبراني وابن حبان وعبد الرزاق والحاكم وابن خزيمة، عن عمرو بن حزم رضي الله عنه.
عقوق الوالدين من الكبائر:
هذه الأحاديث كلها مفادها أن "عقوق الوالدين من الكبائر".
كيف أن الله سبحانه وتعالى أمرك بالإحسان إليهما، وقرن الإحسان إلى عبادته، وكيف أن الله سبحانه وتعالى أمرك أن تشكرهما وقرن شكرهما إلى شكره، كذلك عقوق الوالدين جعله الله في مستوى الشرك، الإشراك بالله وعقوق الوالدين صنوان.
ولا بدّ من اجتناب الكبائر.
والآية التي تعرفونها جميعاً هي قوله تعالى:
﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ﴾
تحريم عقوق الأمهات على وجه الخصوص:
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( إِنَّ الله حرّم عليكم عقوق الأمّهات، ووأد البنات، ومَنْعاً وهاتَ. وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإِضاعة المال ))
حديثٌ لطيف، خصَّ الأمهات لعظم فضلهن على الأبناء، ومعنى " منعاً وهات " منع أداء الحقوق، وأخذ المال بالباطل، و " قيل وقال " الكلام الذي لا طائل منه، و " كثرة السؤال " في المسائل التي لا حاجة لك بها.
(( طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ))
و " إضاعة المال " إنفاقه إسرافاً وتبذيراً.
بعض الأحاديث الزاجرة عن عقوق الوالدين:
عن ابن عمر، رضي الله عنهما عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
(( ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة..
أي أكبر عقوبةٍ يعاقب بها الإنسان يوم القيامة أن يحرم من النظر إلى وجه الله الكريم، والدليل قوله تعالى:
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾
(( ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنَّان عطاءه، وثلاثةٌ لا يدخلون الجنة، العاقُّ لوالديه، والديّوث، والرجلة ))
و " الرجلة " هي المرأة المسترجلة التي تتشبه بالرجال، أي الفاجرة.
الأحاديث المتعلقة بعقوق الوالدين لا تعدُّ ولا تحصى.
(( أربعة حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعـيمها: مدمن الخمر، وآكل الربا وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه ))
يقال للعاق: اعمل ما شئت فلن يغفر لك.
(( ثلاثة لا ينفع معهن عمل: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف ))
وورد أيضاً:
(( ثلاثةٌ لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً: عاقٌ، ومنانٌ، ومكذبٌ بالقدر ))
هذا كله متعلقٌ بعقوق الوالدين لعظم حقهما على الإنسان:
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾
الآن نتابع بعض التفصيلات المتعلقة ببر الوالدين:
2 ـ عدم مخالفة الوالدين في المباحات:
من عقوق الوالدين أن تخالف الأبوين في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن من برهما أن توافقهما في أغراضهما ؛ فإذا أمرك الأب أمراً لا يتعلق بمعصية الله عزَّ وجل وجب عليك أن تنفذه، إلا إذا كان معصية، للقاعدة الشهيرة:
(( لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق ))
بعض قواعد برّ الوالدين التي نصَّ عليها العلماء:
بعض العلماء قالوا:
ـ " إذا أمر الوالد بالمباح صار في حق الولد مندوباً "
أي ينتقل أمر الأب إلى ابنه في المباح إلى مستوى المندوب، إذا أمرك بشيءٍ مباح أصبح في حقك مندوباً،
ـ " إذا أمر الوالد بالمندوب، أصبح في حق الولد تأكيداً في ندبيته "،
ـ " الأبوان لا يأثمان إذا منعا ابنهما من الحج "
إذا كانا في مرضٍ عضال وفي حاجةٍ ماسةٍ إليه، ومنعاه من الحج على أن يحج في العام القادم لا يأثمان، لأن بعض العلماء يرى أن الحج على التراخي لا على الفور، وبعضهم يرى الحج على الفور، إذا كان هناك مرضٌ عضال وحاجةٍ ماسة وهناك احتمالٌ كبير أن يموتا في غيبة ابنهما، فالأولى أن يبقى معهما ولا يأثمان إذا منعاه من الحج.
ـ " لا يحل للابن أن يسافر سفراً فيه خطر إلا بإذنهما "
لا يحق للابن أن يسافر سفراً فيه خطر إلا بإذنهما، هذا ما ورد في شرح بعض الأحاديث، وما لا خطر فيه، فيحل للابن أن يسافره من دون إذنهما، من هذا السفر الذي لا خطر فيه، السفر في طلب العلم.
ـ " لا يجوز للمصلي إذا دعته أمه أو غيرها أن يقطع صلاته "
لقوله صلى الله عليه وسلم:
(( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ))
تصلّي في غرفة وأمك تناديك أو أبوك في غرفة ثانية، بعض العلماء يقول: " لا يجوز للمصلي أن يقطع صلاته إجابةً لنداء أمه "، لأن حق الله عزَّ وجل آكد من حقوق الأبوين، لكن العلماء يستحبون أن يخفف من صلاته فيقرأ سورة الإخلاص، مادام أحد أبويه يناديه أن يقرأ سورة قصيرة، أما إذا شرع في سورةٍ طويلة وتابعها فهو الآن مخالف، لك أن تقرأ سورةً قصيرة كي تجيب أمك أو أباك في الوقت المناسب.
ـ " إن الصلاة إذا كانت نفلاً، وعُلم تأذي الأب أو الأم بترك إجابتهما فلك أن تقطع صلاتك النافلة لتجيب أمك أو أباك إذا كان في عدم الإجابة أذىً لهما ".
إذا أمك مقعَدَة وتحتاج إلى أن تغير جلستها، انتهى السيروم مثلاً، متألمة من قضية، نادتك وأنت في صلاة النفل، فبعض العلماء أجازوا أن تقطع صلاتك كي تجيب نداء أمك أو أبيك.
أما إذا ضاق الوقت وكانت الصلاة فرضاً فلا عليك ألا تجيب، عند المالكية " إجابة الوالد في النافلة أفضل من التمادي فيها "
ـ " يجب أن تدع أيَّ صلاة ولو كانت فرضاً إغاثةً للملهوف "
كأن يكون الابن قريباً من المدفأة، أو الابن نائماً يكاد أن يقع من فوق سرير عالٍ وقد يرتج دماغه، أي أن هناك قضية خطيرة، فيجب أن تقطع الصلاة إغاثةً لملهوف، أو لغريق أو لحريق، أو إجابةً لنداء أحد الأبوين بلا استغاثة في النفل، أي في صلاة النفل لك أن تقطع الصلاة لأي نداء منهما.
ظلم الوالدين للولد لا يرفع وجوب برّهما:
يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
(( لا يكون لرجل أبوان فيُصبح محسناً إلا فُتحَ له باب إلى الجنة، ولا يُمسي وهو محسن إلا فتح له بابان من أبواب الجنة،...، فإن كان واحداً فأصبح محسناً فتح له باب من أبواب الجنة، ولا يسخط عليه أحدهما أو واحد منهما فيرضي الله عنه حتى يرضى قيل: وإن كان له ظالماً ؟ قال: وإن كان له ظالماً ))
أي حتى لو أوقع الأب ظلماً بالابن، لكن العلماء استدركوا وقالوا: " إن ظلماه في الدنيا لا في الآخرة "، أي إذا كان الأمر متعلق بالدين، فعندئذٍ: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ".
أما إن ظلماه في الدنيا ويحتمل هذا الظلم، الأولى ألا يغضبهما، هكذا قال العلماء الظلم في الدنيا إذا كان محتملاً، فالأولى أن ترضيهما.
حق الأم يعدل ثلاثة أضعاف حق الأب:
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
(( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، مَنْ أحَقُّ الناس بِحُسْن صَحابتي ؟ قال: أمُّك، قال: ثم مَنْ ؟ قال: أمُّك، قال: ثم مَنْ ؟ قال: أمُّك، قال: ثم مَنْ ؟ قال: أبُوك ))
أي: حق الأم يعدل ثلاثة أضعاف حق الأب
الإمام مالك جاءه رجل وقال له: إن أبي في بلد السودان، وقد كتب إلي أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فماذا أفعل ؟
الإمام مالك بحسب علمه قال: " أطع أباك ولا تعصِ أمك ". ففهم من هذا القول: أن حق الأب وحق الأم سواء.
لكن أكثر العلماء على أن حق الأم يعدل ثلاثة أضعاف حق الأب.
تخاصم أبو الأسود الدؤلي مع امرأته إلى القاضي، على غلامٍ لهما منه، أيهما أحق بحضانته ؟ فقالت المرأة: " أنا أحق به لأنني حملته تسعة أشهرٍ، ثم وضعته، ثم أرضعته، إلى أن ترعرع بين أحضاني كما تراه مراهقاً ". فقال أبو الأسود أمام القاضي: " أيها القاضي حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، فإن كان بعض الحق علي، فلي الحق كله أو جلّه ". فقال القاضي: " أجيبي أيتها المرأة عن دفاع زوجك "، قالت: " لئن حمله خفيفاً، فقد حملته ثـقيلاً، وإن وضعه شهوةً، فقد وضعته كرهاً ". فنظر القاضي إلى أبي الأسود وقال له: " ادفع إلى المرأة غلامها، ودعني من سجعك ".
يبدو أن حق الأم يزيد على حق الأب.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما:
(( أن امرأة قالت يا رسول الله، ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه عني، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت أحق به ما لم تنكحي ))
أي: إذا تزوجتِ فهو أحق به منكِ.
العلماء قالوا: " الأم أحق بحضانة ولدها إلى سبع سنين، إن كان ذكراً، وإلى تسعٍ إن كانت أنثى، إلا أن يرى القاضي استمرار حضانة الأم فيزيد سنتين لكليهما ". هذا الحكم الشرعي.
3ـ الآثار الطيبة لبر الوالدين:
مما يتعلق ببر الوالدين أن العارف بالله الشهير أبا يزيد البسطامي رحمه الله، أراد أن يذهب إلى بغداد لطلب العلم وكان غلاماً يافعاً، فأعطته أمه أربعين ديناراً هي ميراثه من أبيه، وقالت له: " ضع يدك في يدي وعاهدني على التزام الصدق فلا تكذب أبداً، فعاهدها على ذلك وخرج مع قافلةٍ يريد بغداد لطلب العلم، وفي أثناء الطريق خرج اللصوص، ونهبوا كل ما في القافلة، ورأوا البسطامي رثّ الثياب فقالوا: يا غلام هل معك شيء ؟ قال: معي أربعون ديناراً، لأنه عاهد أمه على الصدق، فسخروا منه وحسبوا أنه أبله وتركوه، وراحوا إلى الكهف الذي كان به كبيرهم ينتظر ما يأتون به، فلما رآهم قال: هل أخذتم كلَّ ما في القافلة ؟ قالوا نعم: إلا غلاماً سألناه عما معه فقال: معي أربعون ديناراً فتركناه احتقاراً لشأنه، ونظن أن به خبلاً في عقله، قال: عليّ به، فلما حضر بين يديه، قال: هل معك شيء ؟ قال: نعم معي أربعون ديناراً، قال: أين هي ؟ فأخرجها وسلمها له، فقال كبير اللصوص: أمجنون أنت أيها الغلام ؟ كيف تخبر عن نقودك وتسلّمها باختيارك ؟ فقال له: لما أردت الخروج من بلدي، عاهدت أمي على الصدق، فأنا لا أنقض عهد أمي أبداً، عندئذٍ صُعق كبير اللصوص، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، أنت أيها الغلام تخاف أن تخون أمك ونحن لا نخاف أن نخون عهد الله، ثم أمر كبير اللصوص بردّ جميع ما أخذ من القافلة وقال: يا غلام أنا تائبٌ على يديك ".
فإذا كان هناك مثل هذا اللص فلا عليكم فأعطوه النقود، فقال من معه: " كنت كبيرنا في قطع الطريق، واليوم أنت كبيرنا في الطريق إلى الله ".
4 ـ عدم ارتباط وجوب البر بإسلام الوالدين:
وعندنا قضية أخرى متعلقة ببر الوالدين:
الشيء الأساسي أن العلماء قالوا: " لا يختص بر الوالدين، بأن يكونا مسلمين "
يعني أحياناً شابٌ يتعلم الدين في المسجد، ويرى أن أباه دينه قليل، فيتهمه بألفاظ كبيرة ويسيء العلاقة مع أبيه.
استمعوا أيها الإخوة: لا يختص برّ الوالدين بأن يكونا مسلمين، فلو كانا مشركين فأنت ملزمٌ ببرهما، فكيف إذا كانا مسلميْن ولكنهما مقصّريْن ؟ أيحق لك أن تتهمَهما في دينهما ؟ أيحق لك أن تغلظ عليهما القول ؟ أيحق لك أن تكون عنيفاً معهما ؟ يقول الله عزَّ وجل:
﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾
إذا كان الله سبحانه وتعالى لا ينهانا عن الذين لم يقاتلونا في الدين أن نبرّهم، فلأن نبرَّ والدينا من باب أولى.
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، قالت:
(( قَدِمَتْ عليَّ أمِّي وهي مشركة في عَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستـفتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قلت: ' قَدِمَتْ عليَّ أمِّي وهي رَاغِبة، أفأصلُ أمِّي ؟ ' قال: ' نعم، صِلي أمكِ '. زاد في رواية، فأنزل الله فيها: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } ))
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
(( مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي بن سلول، وهو في ظل أجمة فقال: " قد غبَّرَ علينا ابن أبي كبشة " فقال ابنه عبد الله بن عبد الله: " والذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب، لئن شئت لأتيتك برأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ولكن بر أباك وأحسن صحبته " ))
ألدُّ أعداء النبي، رأس المنافقين، أمر النبي عليه الصلاة والسلام ابنه أن يبرَّه.. هذا هو الشرع، هذا هو الدين، هذا هو الإسلام.
5 ـ بر الوالدين مقدم على الجهاد الكفائي:
في الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال:
(( جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَاستأذَنَهُ في الجهاد، فقال: " أحَيٌّ وَالِدَاك ؟ "، قال: نعم، قال: " ففيهما فجاهد " ))
وفي رواية أخرى:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال:
(( جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: جئتُ أبَايِعُكَ على الهجرة، وتركتُ أبَوَيَّ يبكيان، قال: ' فارجع إليهما، فأضْحِكْهُما كما أبْكَيْتَهُما ' ))
ترون من هذه الفقرة عظم برّ الوالدين.
وفي الأثر:
(( نومك مع أبويك يضاحكانك ويلاعبانك أفضل من الجهاد معي ))
فهذا كله يؤكد بر الوالدين.
6 ـ عدم التسبب في بكائهما حزناً وضيقاً:
قال العلماء:
ـ " من أبكى والديه كان عاقاً ".
حدثته حديثاً عن الله فبكى، هذه ليس لها علاقة، حدثته بقضية، رفضت له طلّب أو رجاك بشيء فأنت لم تستجب، رجاك أن تكون مع أخيك فانفصلت عنه، أي أنه طلب منك طلباً معقولاً، فأنت امتنعت فبكى الأب، فالعلماء قالوا: " بكاء الوالدين من عقوقهما " طبعاً هذا القول مأخوذ من الأثر:
(( بكاء الوالدين من العقوق ))
وفي أثر آخر:
(( من أحزن والديه فقد عقهما ))
7 ـ مواصلة أحباب وأصحاب الوالدين:
من برّ الوالدين صلة أهل ودهما، فعن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: إني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(( إنَّ من أبَرِّ البرِّ صلَةَ الرجل أهلَ ودِّ أبيه بعد أن يُولِّي ))
بعد أن يولي ـ أي يموت ـ الأب، مَنْ هم أصدقاؤه ؟
إخوانه الذكور، أخواته الإناث، أقرباؤه، أصدقاؤه، أصحابه..
(( إنَّ من أبَرِّ البرِّ صلَةَ الرجل أهلَ ودِّ أبيه بعد أن يُولِّي ))
والحديث الشهير الذي تسمعونه مني، عن أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه، قال:
(( بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، هل بقي من برِّ أبويَّ شيء أبرّهما به من بعد موتهما ؟ قال: نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهودهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم الذي لا رحم لك إلا من قبلهما ))
النبي صلى الله عليه وسلم، كان يهدي لصديقات خديجة اللحم بعد موتها برّاً بها، ووفاءً لها وهي زوجته فما ظنك بالوالدين ؟
عن أبي بردة رضي الله عنه قال:
(( قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال لي: تدري لِمَ جئتك ؟ قلت: لا، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أحب أن يَصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده " ))
كان لابن عمر رضي الله عنهما حمار يَتَرَوَّحُ عليه إذا مَلَّ ركوبَ الرَّاحِلَةِ، وعِمَامَةٌ يَشُدُّ بها رأسَه، فبينما هو يوماً على ذلك الحمار، إذْ مَرَّ به أعرابيٌّ، فقال: ألستَ ابْنَ فلانٍ ؟ قال: بلى، فأعطاه الحمار، فقال: اركب هذا، والعمامة، وقال: اشدد بها رأسَكَ، فقال له بعض أصحابه: غَفَرَ الله لك، أعطيتَ هذا الأعرابي حماراً كنتَ تَرَوَّحُ عليه وعِمَامَةً كنتَ تشُدُّ بها رأسَكَ. فقال: إني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(( إنَّ من أبَرِّ البرِّ صِلَةَ الرجل أهلَ وُدِّ أبيه بعد أن يُوَلِّيَ ))
وإنَّ أباه كان وُدّاً لِعُمَر.
8 ـ الدعاء لهما بعد موتهما:
الشيء المعروف عندكم جميعاً، أن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:
(( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم يُنْتَفَعُ به، أو ولد صالح يدعو له ))
فالولد الصالح الذي يدعو له هذا صدقة جارية، إذاً: حق الأب عظيم، أي أن الإنسان إذا ربى ابناً صالحاً ودعا له من بعده فإن كلَّ أعماله الصالحة من بعده تسجَّل في صحيفة الأب، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( أفضل كسب الرجل ولده ))
من حديث رواه الطبراني وفي سنده رجل مختلف فيه
السيوطي الشهير مصنف الأحاديث له أبيات يعدد فيها الصدقات الجارية أخذاً عن السنة النبوية المطهرة يقول:
إذا مات ابن آدم جاء يجري عليه الأجر عـند ثـلاث عشرِ
علومٌ بثـها ودعـاء نجـلٍ وغرس النخل والصدقات تجري
وراثة مصحفٍ ورباط ثغرٍ وحفر الـبئر أو إجـراء نـهر
وبيتٌ للغريب بـناه يـأوي إلـيه أو ابـتـناءُ مـحلِّ ذكـر
و تعليمٌ لقـرآنٍ كـريمٍ فخـذها مـن أحاديثٍ بشعري
سئِلَ أحد العلماء: " كم يدعو الإنسان لوالديه، أفي اليوم مرة، أم في الشهرة مرة، أم في السنة ؟ فقال: تدعو له مع كلِّ صلاة، خمس صلوات، أي خمس مراتٍ في اليوم.
قال بعض التابعين: " من دعا لوالديه خمس مراتٍ فقد أدى حقهما في الدعاء لأن الله تعالى يقول:
﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾
فالصلاة شكر، وشكر الوالدين مع الصلاة... إذاً: خمس مرات، هذا هو الاستنباط.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب أنى لي هذه ؟ فيقول: باستغفار ولدك لك ))
9ـ رضا الوالدين سبب للنجاة من النار:
آخر قصةٍ في الدرس:
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، قال:
(( كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه آت فقال: شاب يجود بنفسه. قيل له: قل لا إله إلا الله: فلم يستطع، فقال: " كان يصلي ؟ ". فقال: نعم: فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهضنا معه فدخل على الشاب فقال له: " قل: لا إله إلا الله ". فقال: لا أستطيع. قال: " لم ؟ ". قال: كان يعق والديه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أحية والدته ؟ ". قالوا: نعم. قال: " ادعوها ". فدعوها فجاءت، فقال: " هذا ابنك ؟ ". فقالت: نعم. فقال لها: " أرأيت لو أججت ناراً ضخمةً فقيل لك: إن شفعت له خلينا عنه وإلا حرقناه بهذه النار، ألست تشفعين له ؟ ". قالت: يا رسول الله إذاً أشفع. قال: " فأشهدي الله وأشهديني أنك قد رضيت عنه ". فقالت: اللهم إني أشهدك وأشهد رسولك أني قد رضيت عن ابني. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "' يا غلام قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ". فقالها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحمد لله الذي أنقذه بي من النار " ))
هذا عمل صالح: أن توفق بين أمٍ وابنها، بين أخٍ وأخيه، بين أبٍ وأبنه، بين جارٍ وجاره.
النبي عليه الصلاة والسلام على عظم شأنه وعلى عظم قدره حمد الله عزَّ وجل على أن مكنه من أن ينقذ هذا الشاب من النار، حيث جاء بالأم وأقنعها أن تعفو عنه، فماذا كان يفعل معها ؟ وكان هذا الشاب كما ورد في كتب الحديث يؤذي أمه، ويؤثر عليها زوجته وللحديث بقية في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.