الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الشهوات تدفع الإنسان إلى الحركة لأن السِّمة العامة للإنسان أنَّه حَرَكيّ:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث من سورة البقرة، ولا زلنا في قوله تعالى:
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)﴾
فكلمة (ذلك) ذا: اسم إشارة، فيها إشارةٌ إلى هذا القرآن الكريم، أما هذه (اللام) فيسميها النُّحاة لامَ البعد، أو لام التعظيم، ذاك غير ذلك، ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ والكاف للخطاب، فالله سبحانه وتعالى يشير إلى هذا الكتاب، ويبيِّن لنا عظمته، ويخاطب به جميع الناس، الشيء الذي ينبغي أن نقف عنده وقفةً متأنية كلمة: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ .
أيها الإخوة الكرام؛ الإنسان حركة، لماذا؟ لأن الله أودعَ فيه الشهوات، فالشهوات تدفعه، حاجته إلى الطعام تدفعه إلى العمل، حاجته إلى المرأة تدفعه إلى الزواج، أو إلى طريقٍ آخر، حاجته إلى تأكيد الذَّات تدفعه إلى التفوّق، فهذه الحاجات التي أودعها الله في الإنسان تجعله يتحرَّك، فالسِّمةُ العامة للإنسان أنَّه حَرَكيّ؛ أما هذا الكأس فلا يتحرك لو وضعناه مكانه في هذا المكان مئات السنين، لأنه لا يحتاج إلى شيءٍ يُمده ليبقى موجوداً، لا يحتاج إلى أن يزهو على أقرانه، لا يحتاج إلى طرفٍ يُكَمِّلُه؛ الجماد ساكن، الإنسان متحرك.
خالق الإنسان وحده هو الذي يرسُم للإنسان هدفاً لأن الإنسان ليس أهلاً لذلك:
طبيعة الإنسان متحركة؛ سبب هذه الحركة كما قال الله عزَّ وجل:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾
هذه الشهوات التي أُودعت في الإنسان تجعله يتحرَّك، الآن الإنسان يتحرك نحو ماذا؟ هنا السؤال، ما دام هناك حركة فهناك هدف، من هي الجهة التي تَرْسُمُ له الهدف الصحيح؟ هي الجهة الخالقة؛ الإنسان أحياناً يرسم لنفسه هدفاً، هدف غير صحيح، غير نافع، غير مفيد، قد يكون هدفاً مُدَمِّراً، فالإنسان ليس أهلاً أن يرسم لذاته هدفاً؛ رُسِمَ الهدف، ما هو الطريق المناسب لهذا الهدف؟ قد أسلُكُ طريقاً وعراً، قد أسلك طريقاً لا يوصلني إلى هذا الهدف، قد أسلك طريقاً طويلاً، من هي الجهة مرةً ثانية المؤهَّلة كي ترسم لي أقصر طريق وأسلم طريق؟ الحقيقة خالق الإنسان وحده هو الذي يرسُم لهذا الإنسان هدفاً، وهو الذي يرسم له طريقاً؛ أما لو رسم الإنسان هدفاً، الأهداف متحركة، والأهداف متبدِّلة، والأهداف غير ثابتة، والأهداف مِزاجية أحياناً؛ هؤلاء البشر أمامكم منذُ آلاف السنين انغمس أناسٌ في الشهوات إلى قِمم رؤوسهم، وقدَّس أناسٌ العقل، فكان العقل سبب دمارهم، أناس قدسوا العادات والتقاليد فكانت العادات والتقاليد سبب تخلفهم، أناسٌ قَدَّسوا المادة، أناسٌ قدَّسوا الروح، أناسٌ قهروا النفس، رسمت الشعوب والأمم أهدافاً لذواتها، الأهداف غير صحيحة؛ ادَّعت شعوبٌ أنها الشعب المختار في الأرض فأرادت أن تَقْهر بقية الشعوب، فدُمِّرت –ألمانيا-وانتهت، الآن هدف الشعوب الغربية المُتعة بأي طريق، بأية وسيلة؛ قضت المتعة عليها، وإذا كانت هذه الدول تقوم فهي تقوم على أدمغة الآخرين لا على أدمغة أبنائها.
لابدَّ من أن تستهدي الله بالهدف الذي تسعى إليه وبالطريق الموصل إلى هذا الهدف:
أوَّل نقطة في هذا الدرس: مَن هي الجهة المؤهَّلة أن ترسم لهذا الإنسان هدفاً؟ الله جلَّ جلاله، من هي الجهة المؤهَّلة التي ترسم لهذا الهدف طريقاً؟ الله جلَّ جلاله، كلمة ﴿هُدًى﴾ دقق، إنسان وصل إلى مدينة ولابدَّ من أن يلتقي بشركة، ولا يعرف أين هذه الشركة، إذاً هو يحتاج إلى دليل، يحتاج إلى هادٍ، هو مهتدٍ، ويحتاج إلى هادٍ، والهدف الشركة والطريق؛ كلمة هُدى تعني هدف وطريق وهاد ومهتدٍ، المهتدي أنت، الهادي، والهدف، والطريق من عند الله عزَّ وجل، فكل إنسان استهدى الله بتحديد الهدف، واستهدى الله بتحديد الطريق نجح، وأفلح، وفاز، ونجا، وكل إنسان وضع هدفاً من عنده؛ هناك إنسان بذهنه المتعة، هناك إنسان بذهنه المال، هناك إنسان بذهنه العلُوّ في الأرض، هناك إنسان بذهنه موضوع معيَّن، فكل إنسان ينصرف إلى هدف هو رسمه؛ لكن متى تُخَيِّبُهُ هذه الأهداف؟ في النهاية، حينما يكتشف أن المال ليس بشيء، جعله هدفاً في مقتبل حياته، قَدَّسه، باع من أجل المال دينه وعِرضه، وصل إلى المال، ثم اكتشف أن هذا الهدف سخيف، ليس جديراً بهذا الإنسان، متى يكتشف هذا؟ بعد فوات الأوان وهو على فِراش الموت.
أدق فكرة في هذا الدرس أنه لابدَّ من أن تستهدي الله بالهدف الذي ينبغي أن تسعى إليه، ولابدَّ من أن تستهدي الله بالطريق الموصل إلى هذا الهدف.
(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. ))
تلاحظ أن هذه الشعوب فيما حولنا، صار العالم الآن قرية، العالم بيت، العالم الآن غرفة واحدة، شعوب بمئات الملايين تعبد البقر، شعوب تعبد ذواتها، شعوب تقدِّس العقل إلى درجة الحماقة، شعوب تقدس الشهوة، شعوب تقدس التاريخ والعادات والتقاليد، فهذه الشعوب رسمت أهدافاً لكنها ضلَّت سواء السبيل؛ من هو الناجح؟ من هو الرابح؟ من هو المُفْلح؟ هو الذي سأل الله عن الهدف الصحيح؛ الهدف هو الجنة، لأن الإنسان خُلِق للجنة، الهدف هو الجنة والطريق للطاعة.
فكلمة ﴿هُدًى﴾ أي هناك هدف، وهناك حركة نحو الهدف، وهناك هادٍ، وهناك مهتدٍ، أربعة أركان لكلمة الهُدى، فأنت المهتدي، الهادي هو الله، يهديك إلى الهدف الصحيح، ويهديك إلى الطريق الصحيح؛ الله جلَّ جلاله هدى أنبياءه ورسله إلى الأهداف الصحيحة فَسَلِموا وسعدوا هم وأتباعهم في الدنيا والآخرة، والذين شردوا عن طريق الدين رسموا أهدافاً أخرى.
آياتٌ من القرآن متعلِّقة بالهدى:
وصدق أيها الأخ الكريم أنك إذا نظرت إلى شارع مزدحم بالناس تجد أن في بال كل إنسان هدفاً يسعى إليه، السعيد والرابح والناجي هو الذي تطابَق هدفه مع الهدف الذي رسمه الله لهذا الإنسان، لذلك أيها الإخوة هناك آياتٌ متعلِّقة بالهدى مهمةٌ جداً ينبغي أن تكون تحت سمعنا وبصرنا:
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)﴾
هل هناك ثمرة بعد هذه الثمرة؟ ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ مِن المستقبل كله ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على الماضي كله، ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ وقال:
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾
لا يضلّ عقله، ولا تشقى نفسه، اِجمع الآيتين، من يتبع هدى الله عزَّ وجل لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، ولا يندم على ما فات، ولا يخشى مما هو آت.
الهدى الحقيقي، الفوز الحقيقي، المعرفة الحقيقية.
﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)﴾
لا يمكن أن يوصف إنسان بأنه مهتدٍ إن لم يعرف الله، قد يتفوق في الدنيا، ولكنه ليس مهتدياً، ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى﴾ الحقيقي، الهدى المنجي، الهدى المسعد ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ فلا يوجد إلا حل واحد؛ إما أنك مع الله، وإما أنك مع الهوى، ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ ، هناك آية أخرى:
﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)﴾
الحقيقي، لذلك قد تجد إنساناً ذكياً لكن لن يكون الإنسان عاقلاً إلا إذا اهتدى بهدي الله: ((كُلُّكم ضالّ إلا مَنْ هَدَيتُه فاسْتَهدُوني أهْدِكم)) هذا الهدى مبذول لكل الناس.
﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)﴾
إلزام الله سبحانه وتعالى نفسه بهداية البشر:
الله عزَّ وجل قال:
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)﴾
ألزم الله سبحانه وتعالى نفسه بهداية البشر، هداهم بهذا الكون، الكون كلُّه يدلُّ على الله، وهداهم بهذا القرآن، وهداهم بالعقل، وهداهم بالفطرة، وهداهم بأفعاله؛ أفعاله تدل عليه، والفطرة مجبولة على الإيمان به، والعقل مركبٌ على مبادئ توصله إلى الله عزَّ وجل، وكل ما في الكون يدل على الله، يدل على الله خالقاً ومربياً ومسيّراً، موجوداً وواحداً وكاملاً؛ فلذلك أيها الإخوة أنت متحرك شئت أم أبيت، لا يوجد حل وسط، هناك مَلَكٌ وهناك شيطان، الملَك يُلْهم والشيطان يوسوس، ولابدَّ من أن تستجيب لأحدهما لأنك كائن متحرك إذاً هناك هدف، الهدف إما أنه من صنعِك، وإما أنه من الله عزَّ وجل، إذا كان من صنعِك في الأعم الأغلب الهدف غلط، يصاب الإنسان بخيبة أمل حينما يكتشف أنه عاش عمراً مديداً، وقد ضلّ سواء السبيل:
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)﴾
الإنسان مخلوقٌ للجنة وطريقُها طاعة الله عزَّ وجل:
أيها الإخوة؛ ورد في بعض الآثار أن الكافر حينما يأتيه ملك الموت يصيح صيحةً لو سمعها أهل الأرض لصُعِقوا من شدة الندم.
﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)﴾
أخطر شيء تتحرك إلى أين؟ لجمع المال فقط من طريقٍ مشروع أو غير مشروع، هذا ضلال، تتحرك لتكون ذا منزلة علية بحق أو بباطل لتستعلي على الناس؟ هذا هو الضلال، تتحرك لتنغمس في المتع الرخيصة إلى أن يأتي الموت؟ هذا ضلال؛ ما الهدف؟ متعة، مال، مكانة، استعلاء، ما الهدف؟ الهدف الحقيقي أنت مخلوقٌ للجنة، وطريقُها طاعة الله عزَّ وجل، يجب أن تُصْغي إلى خالقك الذي رسم لك الهدف، والدليل:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
وقال:
﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾
أبداً، وقال:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)﴾
البشرية قسمان؛ إنسان استهدى الله فهداه وإنسان شرد عن الله:
هذا القرآن هُدى، يحتاج الإنسان في حركة الحياة إلى هدف فرَسَمَ له القرآن الهدف، ويحتاج الإنسان في سعيه نحو الهدف إلى طريق فرسَمَ له القرآن الطريق، وهذا القرآن كلام الله عزَّ وجل، إذاً يمكن أن نقَسِّم البشرية إلى قسمين؛ إنسان استهدى الله فهداه، وإنسان شرد عن الله، الشرود عن الله آلاف الأنواع، أنواع منوعة، والتاريخ أمامكم، والشعوب من حولكم، والأخبار بين أيديكم، أكثر الشعوب تسير في طريق مسدودة، لو أنها ازدهرت في حياتها الدنيا، لو أنها كما يقولون سخَّروا الطبيعة، لكنهم حينما يأتي ملك الموت يفاجؤون أنهم خُلِقوا لحياة أبدية، وأن هذه الحياة الدنيا هي إعداد لتلك الحياة، جعلوها مقراً، وجعلوها منتهى آمالهم، ومَحَطَّ رحالهم، فضلوا سواء السبيل.
يا أيها الإخوة؛ لا تنسوا هاتين الآيتين: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ ، وقال: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ، ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ ، هو الهدى وحده، الحق لا يتعدد.
هناك طريقان إما أن تستجيب لأمر الله عزَّ وجل وإما أن تستجيب لهواك:
دققوا في هذه الآية: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ إن لم تستجب لرسول الله فأنت على الباطل قطعاً، إما أن تستجيب لأمر الله عزَّ وجل، وإما أن تستجيب لهواك، إما أن تكون على طريق الحق، وإما أن تكون على طريق الباطل.
الهدى -كما قلت قبل قليل-مبذول، كُلُّ شيءٍ يدلك على الله إن أردت الهدى؛ فإن لم ترد الهدى لو التقيت بالأنبياء جميعاً، ورأيت معجزاتهم جميعاً، وكل شيء أمامك واضح أنت ما أردت الهدى، والشيء الذي يلفت النظر أن بعض العلماء في أوروبا أو أمريكا اطّلعوا على حقائق مذهلة في خلق الإنسان أو في الأكوان، اطلعوا على حقائق مذهلة، لماذا لم يؤمنوا؟ لأنهم ما أرادوا الهُدى، لو أرادوا الهدى لوصلوا إليه، القضية قضية قرار، إما أن تتخذ قراراً بالبحث عن الحقيقة، عندئذٍ كلُّ شيءٍ يوصلك إليها، وإما أن تعزف عن الحقيقة، لو رأيت الأنبياء جميعاً، واستمعت إليهم جميعاً، ورأيت معجزاتهم جميعاً، ورأيت كتاباً ينزل من السماء، ورأيت ناقةً خرجت من الجبل، ورأيت بحراً أصبح طريقاً يبساً، ورأيت العصا أصبحت أفعى أو ثعباناً، ورأيت النار تمتنع عن إحراق إبراهيم لا تستفيد شيئاً، إلا أن تتخذ قراراً من الداخل بالبحث عن الحقيقة.
أيها الإخوة؛ قال العلماء: هناك هداية دلالة، وهناك هداية توفيق، وهناك هداية مصلحة، كيف؟ نحن بني البشر هدانا الله عزَّ وجل إلى مصالحنا، يحتاج الإنسان إلى الطعام، يشعر بالجوع، الإحساس بالجوع هداية إلى المصلحة، لو أن الإنسان يجوع دون أن يشعر بالجوع يموت، يوجد عند الإنسان جهاز توازن لو اختلّ توازنه يستعيد توازنه، فالحفاظ على التوازن هذه مصلحة؛ عينا الإنسان، وأذناه، وأنفه، وحواسه كلها تهديه إلى ما حوله، أنت موصول مع المحيط الخارجي بهذه الحواس.
أحياناً قصة لها دلالة، إنسان يقود سيارته من حمص إلى دمشق، وهو في حديثٍ ممتعٍ مع صديقه، لم يلتفت إلى مشير الحرارة، ارتفعت الحرارة، واحترق المحرِّك بسبب أن خللاً أصاب المحرك؛ قال لي: لو نظرت إلى اللوحة مرة واحدة، ورأيت الحرارة مرتفعة لوقفت ووفرت ثلاثين ألفاً؛ لأنني منغمس في حديث ممتع مع صديقي ولم ألتفت إلى اللوحة فاحترق المحرك، اللوحة إذاً ناقصة، لأن المؤشر يعطي حركة فهو يحتاج إلى نظر، لو لم ينظر فما قولك بعداد له صوت أيضاً؟ إما أن ترى، وإما أن تسمع، أبلغ، إذا كان الإنسان ضعيفَ السمع يحتاج إلى ضوء، فإذا عداد فيه ضوء، وصوت، وحركة يكون أقوى.
جهازنا هذا الجهاز المعقد هداك إلى مصالحك، تجد الإنسان إذا جاع يبحث عن الطعام، إذا كان الطعام فاسداً تقيأه، آلية التقيؤ دقيقة جداً؛ يقوم جهازه وهو نائم بآليات عجيبة جداً، لسان البلعوم يتحرك وأنت نائم حركة معقدة، يأتيه إشارة من الفم إلى الدماغ أن هناك لعاباً، فالدماغ يعطي أمراً، لسان المزمار هذا يغلق القصبة الهوائية إغلاقاً تاماً ويفتح طريق المريء، فيدخل هذا اللعاب في مري الإنسان وأنت نائم، فالإنسان مبني بناء دقيقاً جداً.
هناك جهاز المناعة المكتسب جهاز دقيق جداً، لمجرد دخول جرثوم تخرج عناصر استطلاعية من جهاز المناعة تتصل بهذا الجرثوم، وتكشف هويته، وتأخذ شفرته الكيماوية،
وتعود إلى معامل صُنع السلاح، العقد الليمفاوية؛ تهيئ هذه العقد سلاحاً مضاداً، تأتي عناصر ثالثة مقاتلة تحمل هذا السلاح، وتنطلق إلى الجرثوم تقاتله فتقتله، تأتي عناصر خدمات تزيل هذه الجثث من ساحة المعركة، وأنت لا تشعر.
هداية المصالح واضحة جداً عند الحيوانات:
إنسان رأى أفعى، هذه الصورة انطبعت على شبكية عينه، شبكية العين فيها إحساس نُقِلَت إلى الدماغ، الدماغ فيه إدراك بحسب المفاهيم والخبرات السابقة، يدرك الدماغ الخطر، الدماغ يتصل بملكة الجهاز الهرموني عن طريق ضابط اتصال هو الجسم تحت السرير البصري؛ الدماغ ملك والنخامية ملكة، ملك وملكة لابدَّ من أن يلتقيا عن طريق وسطاء؛ ترسل الملكة أمراً إلى الكظر أن هناك خطراً تصرَّف، يرسل الكظر أمراً إلى القلب ليرفع ضربات القلب، إذا ارتفعت الضربات أسرع الدم في الأوعية، وصل الدم إلى العضلات بطريقةٍ أسرع؛ ويرسل أمراً ثانياً إلى الرئتين فيزداد وجيبهما كي يتناسب وجيب الرئة مع ضربات القلب، ويرسل أمراً ثالثاً إلى الأوعية المحيطة في الجسم فتضيق لمعتها فيصفر لون الخائف،
هو بحاجة إلى الدم لا إلى لون وردي، وأمراً رابعاً إلى الكبد فيطرح كميةً زائدة من السكر كي تكون وقوداً إضافياً في معركته مع هذه الأفعى، وأمراً خامساً بإطلاق هرمون التجلُّط، لو أنه جُرِح لئلا ينزف دمه كله الدم يتجلط، هذه هداية، فإذا كان هناك خطر توجد آلية معقدة، دخل جرثوم توجد آلية معقدة، دخل الطعام هناك هضم معقد، على كلّ هذا طريق طويل، هذه الهداية اسمها: هداية المصالح، أي الله عزَّ وجل خلق الإنسان في أحسن تقويم.
﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)﴾
هذه هداية المصالح، وهي تبدو واضحة جداً عند الحيوانات، يقوم الحيوان بآليات معقدة جداً من دون تعليم، من دون تدريب، والدليل فور ولادة الطفل الصغير الآن يضع فمه على ثدي أمه يقوم بآلية معقدة جداً تسَمَّى آلية المص،
مَن علَّمه وضَعَ شفتيه على حُلْمَة ثدي أمه وأحْكَم إغلاق شفتيه وسحب الهواء فجاءه الحليب؟ لولا هذه الآلية لما كان هذا الدرس، ولما كانت هذه البلدة، ولما كان إنسان واحد في العالم، آلية المص، سموه: مُنْعَكَس المص، ﴿فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى* قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ هذه هداية المصالح، نحن وغيرنا سواء فيها؛ بالعكس الغرائز أعلى عند غيرنا من الأعمال الإرادية.
الهداية الثانية أيها الإخوة هداية الدلالة، أنزل ربنا عزَّ وجل هذا القرآن على نبيه ليدلّنا عليه، ليدلنا على هدفنا، ليدلنا على طريقنا، ليدلنا على منهجنا، اِفعل ولا تفعل، هذه هداية ثانية، هداية الدلالة.
الهداية الثالثة:
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)﴾
هداية التوفيق، فكل واحد منا مهتدٍ إلى مصالحه، يجوع يأكل، يدخل طعام فاسد فيتقيَّأ، يتعب جهازه العصبي فينام، يقول لك: أريد أن أنام، متضايق، ينام فيستريح، يشتهي في الصيف المأكولات الباردة، مأكولات فيها ماء، يشتهي الخس، يشتهي البطيخ، يشتهي الحلو في الشتاء لوجود البرد، يحتاج إلى غذاء فيه طاقة حرارية عالية جداً، فالإنسان مهتدٍ إلى مصالحه.
أدلة من القرآن الكريم عن هداية التوفيق:
بالعكس أجرى بعض أطباء الأطفال تجربة رائعة جداً، وضعوا عشرة أطفال أمام غذاء مفتوح، أنواع منوَّعة من الغذاء، وسمحوا للأطفال أن يأكلوا كما يشاؤون؛ ورسم علماء كبار في التغذية لعشرة أطفال آخرين منهجاً رائعاً في التغذية، الفيتامينات، والسكريات، والبروتينات، والنشويات، كل الأغذية النظامية؛ وجدوا أن نمو أجسام الأطفال الذين تُركوا وشأنَهم ليأكلوا كما يشاؤون نمو أجسامهم أرقى بكثير من نمو الذين رُسمت لهم خطط دقيقة جداً في غذائهم؛ والله عزَّ وجل هداه إليه، هداه هداية دلالة، فإذا قَبلت الهدى أيها الإنسان هُديت هدايةً ثالثة، هُديت توفيقاً، الله يوفقك، تستوعب الحق، يعينك على طاعته، يعينك على العمل الصالح، يجمعك مع أهل الحق، يشرح لك صدرك للإسلام، هذه كلها هداية توفيق، فأنت بين هداية المصلحة وبين هداية الدلالة، وبين هداية التوفيق، ثلاث هدايات؛ هداية مصلحة، هداية دلالة، هداية توفيق، تتوَّج هذه الهدايات أنك تهتدي إلى الجنة، يدخل المؤمنون الجنة بفضل الله عزَّ وجل.
أيها الإخوة؛ معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ هذا الهُدى هداية التوفيق:
﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)﴾
هذا هو الاختيار.
﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)﴾
أيضاً هداية التوفيق.
أخطار كثيرة محدقة بالإنسان لأنه وحده قَبِلَ حمل الأمانة:
شيءٌ آخر؛ يقول الله عزّ وجل في الآية الكريمة:
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
معنى ذلك أنه لا شيء على الإنسان لو اتبع هواه وفق هدى الله عزّ وجل، لأنه ليس في الإسلام حِرْمان، بل هناك تنظيم، كل شهوةٍ أودعها الله في الإنسان فَتَح لها قناةً نظيفة تسري خلالها.
أيها الإخوة الكرام؛ هذا الكتاب هدىً لمن؟ ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ كلمة متقي، مُتقّ اسم فاعل من الفعل اتّقى، اتّقى مزيد، مجرَّده وقى؛ وقى من الوقاية، الوقاية فيها خطر معنى ذلك، هناك أخطار محدقة بالإنسان لأنه وحده قَبِلَ حمل الأمانة، الإنسان أحياناً يقنع بشيء محدود لا يوجد معه أخطار، رُكِّب المَلَك من عقلٍ بلا شهوة، ركِّب الحيوان من شهوةٍ بلا عقل، ركِّب الإنسان من كليهما، الملائكة اختاروا العبادة من دون مسؤولية، هُم مع الله دائماً، والحيوانات اختاروا الشهوة من دون مسؤولية، الحيوان همه أكله فقط لكنه لا يُحاسب، وهو غير مكلَّف، لكن الله خلق الإنسان من طين الأرض، ونَفَخَ فيه من روحه، ففيه نفخةٌ من الله، وفيه قبضةٌ من الطين، فيه نوازع أرضية، وفيه ميول علوية، إذاً يوجد عنده خطر؛ فإذا غلبت نوازعُه الأرضية أَخَلَّ بالأمانة، إذا غلبت نوازعه الأرضية فسد لأن عنده دوافع وعنده شهوات؛ الفساد بالضبط كمركبة فيها محرك، الشهوة هي المحرك، قوة اندفاع، والمنهج هو المِقود، تصور مركبة بلا مِقود، والطريق فيه انعطافات، وفيه حفر، وفيه وديان على اليمين واليسار، فمركبة تنطلق بسرعة عالية في طريق فيه انعطافات، والدنيا ليل لابدَّ من أن تهوي في الوادي؛ فكلمة متقّ مِن اتّقى، واتّقى مزيد من وقى، ووقى من الوقاية، الوقاية من خَطَر، معناها يوجد خطر، لأنك إنسان تحوم حولك أخطار، ما الخطر؟ الخطر أن تتحرّك وفق شهواتك من دون منهج الله عزّ وجل، هذه هي القصة كلها، ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ .
المتقي هو الذي اتّقى عقاب الله عزّ وجل:
إذا أحبّ الإنسانُ المرأة، والْتقى معها لقاءً خارج نطاق الزوجية، هذا اعتدى على إنسانة، قضى وطره دون أن يربطها به بعلاقة زوجية تضمن لها مصالحها ومستقبلها، إذاً هو ماذا فعل؟ اعتدى على الآخرين بدافع من شهوته، الإنسان يحب المال، قد يأكل أموال الناس بالباطل بدافع من حبّ المال، فالشهوات إن لم تنضبط بمنهج الله لابدّ من أن تؤدِّي إلى فساد وقد قال الله عزّ وجل:
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)﴾
ما هو الفساد؟ إخراج الشيء عن خصائصه؛ صمم الله عزّ وجل هذا الماء لا لون له ولا طعم له ولا رائحة، لو كان فيه رائحة غير مقبولة لأصبح الماء فاسداً، لو فيه عكر شديد أصبح الماء فاسداً، لو فيه ألوان غير مقبولة أصبح ماء فاسداً؛ إفساد الماء إخراجه عن طبيعته، هذا هو الإفساد، فلأن الله أودع في الإنسان الشهوات فإذا لم يهتد بهدي الله عزّ وجل لابدّ من أن يفسد، والفساد أساسه مخلوقٌ مُخيّر أودعت فيه الشهوات، تحرَّك وفق الشهوات من دون منهج الله عزّ وجل، لذلك ليس هناك فساد في عالم الملائكة، وليس هناك فساد في عالم الحيوان، الفساد فقط عند الإنسان الذي مُكِّنَ من الشهوات ولم يهتد بمنهج الله عزّ وجل؛ فلذلك لأني أنا إنسان يوجد حولي أخطار؛ خطر الشهوة، خطر تَحَمُّل العقاب على عدواني على الآخرين؛ ما الذي يجري؟ أناس يعتدون على بعضهم بعضاً، وربنا عزّ وجل يحاسبهم حساباً دقيقاً، فأنت أمام خطر أن تغريك نفسك بأخذ ما ليس لك فيعاقبك الله عقاباً أليماً، هذا خطر؛ فالمتقي هو الذي اتّقى عقاب الله عزّ وجل؛ الله عزّ وجل له أسماءُ جلالٍ؛ الله جبار، الله منتقم، الله كبير، الله قهَّار، الله مهيمن، هذه أسماء الجَلال، ورحيم، ولطيف، وحكيم، هذه أسماء الجمال.
ما معنى اتقيت الله؟ اتقيت أسماء جلاله بأسماء جماله، أي أنا أطلب رحمة الله بطاعته، أتّقي غضبه، أتّقي بطشه، أتّقي انتقامه:
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾
وهو:
﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)﴾
قال:
﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)﴾
هذه أسماء الجلال أما إذا أنا أطعته:
﴿ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)﴾
وقال:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)﴾
إذاً كلمة التقوى أنت تتقي غضب الله، تتقي عقابه، تتقي أن تكون تحت أسماء جلاله، وتتقي عقابه الأبدي وهو النار، لذلك:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)﴾
أن تطيعه فلا تعصيه، وأن تذكره فلا تنساه، وأن تشكره فلا تكفره.
من يستقيم على أمر الله يتقي أسماء الجلال ويطلب أسماء الجمال والإكرام:
فيا أيها الإخوة الكرام؛ الهدى إنسان شعر بالخطر، بحث عن الخلاص من خلال هذا الكتاب، لذلك: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ فكلما تمعَّنت، كلما تأمَّلت في هويتك أنت إنسان فيك شهوات أرضية، وفيك مطالب علوية، فإذا غلبت عليك شهوتك فالمصيبة كبيرة جداً، حينما تحركت الشهوة عشوائياً رافقها العدوان على أعراض الناس، وعلى أموالهم، والعدوان مصيره العقاب، فأنت حينما تستقيم على أمر الله تتقي عقاب الله، حينما تستقيم على أمر الله تتقي أسماء الجلال، وتطلب أسماء الجمال والإكرام: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ إن لم يبحث الإنسان عن الحقيقة فهذا الكتاب لا يعنيه، لو جلس إنسان في مكان جميل، وليس عنده هدف، هذا لا يسأل عن شيء، لا يبحث عن شيء، إذا جاء إنسان إلى بلدة غريبة عليه، وله مبلغ ضخم ليقبضه من مؤسسة، وهو لا يعرف عنوان المؤسسة فتجده يسأل لأن هناك هدفاً، الهدف أن يأخذ هذا المبلغ من هذه المؤسسة، والمؤسسة لا يملك عنوانها، يسأل، فأخطر شيء أن تكون إنساناً بلا هدف، أنا ذهبت إلى بلاد بعيدة جداً، قلت كلمة، قيل لي: ماذا رأيتَ؟ قلت: رأيت إنساناً بلا هدف، يأكل، ويشرب، ويستمتع:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)﴾
أخطر شيء أن تكون بلا هدف، وأعظم شيء أن يكون لك هدف عظيم، هذا الهدف يدفعك إلى مكارم الأخلاق.
لذلك أيُّها الإخوة؛ الشيء اللطيف أن المؤمن لا يشيخ أبداً، المؤمن شابٌ دائماً، قد يصل إلى المئة ولكنه لا يشيخ، يبقى شاباً، شابٌ بهمته، لأن هدفه كبير، هدفه الله عزّ وجل.
حينما يكون الله هدفك فأنت في شبابٍ دائم:
النقطة الدقيقة: متى يسأم الإنسان الحياة؟ حينما تكون أهدافه أرضية؛ هدفه أن يتزوج، تزوج انتهى، هدفه أن يكون معه مال، جَمَّع المال، هدفه أن يحتل مكانة رفيعة، احتلّ مكانة رفيعة، والإنسان دائماً يكتشف تفاهة أهدافه المادية، مستحيل أن يمدك شيءً من الدنيا بسعادةٍ مستمرَّة، مستحيل، كلما بحثت عن هدفٍ مادي ووصلت إليه كشفت تفاهته، أما حينما يكون الله هدفك فأنت في شبابٍ دائم.
هناك فكرة ذكرتها كثيراً: إن الإنسان يبحث عن السعادة في أعماقه، وتحتاج السعادة بالمفهوم المادي إلى صحة، وإلى وقت، وإلى مال، ودائماً عنصر من هذه العناصر مفقود، في أول الحياة الوقت موجود والصحة موجودة لكن لا يوجد مال، في منتصف الحياة الصحة موجودة والمال موجود لكن لا يوجد وقت، في آخر الحياة المال موجود والوقت موجود لكن لا توجد صحة، معنى هذا أن الإنسان طوال حياته شقي، دائماً ينقصه شيء، لكن المؤمن غير هذا، المؤمن لا ينطبق عليه هذا الحُكم، لماذا؟ لأن هدفه الله عزّ وجل؛ هو شاب يسعد بالله، هو متزوج يسعد بالله، هو فقير يسعد بالله؛ القصة كلها ألا يكون هدفك محدوداً، إذا كان الهدف محدوداً ووصلت إليه انتهيت أنت، تصبح الحياة مملةً، تصبح الحياة مُتْعِبةً، تصبح الحياة عبئاً؛ لذلك تجد الكبراء، أصحاب الأموال، أصحاب المراتب العالية في المجتمع تجلس معهم تتضايق، مالل، يقول لك: المال أمر تافه، لا شيء فيه، معه أموال طائلة، لا يوجد عنده مشكلة، فالإنسان حينما يفقِد الهدف يصير إنساناً عبئاً، أنا هذا الذي أقوله لكم: يجب أن تختار هدفاً يفوق كل قدراتك، كل إنسان هدفه الله سعيد، في شباب دائم، ليس عنده ملل، ليس عنده سأم، لأنه يبحث عن شيء مهما بذل لن يحيط بالله عزّ وجل، أما الدنيا فمحدودة، تنتهي.
ثَمَن الجنة ضبط الشهوة والشقاء أن تغلبك شهوتك:
إنسان صار معه مال، أكل جميع المأكولات، لم يبقَ عنده الرغبة الجامحة للأكل، تزوج، شيء انتهى، شيء أَلِفَ هذه العلاقة، احتل مكانة رفيعة في المجتمعَ أَلِفَ هذا التعظيم، وهذه المكانة، لكن هو يبحث عن شيء، لذلك توجد نقطة دقيقة، ثم ماذا؟
جمعت المال، ثم ماذا؟ وصلت إلى مكانةٍ عَليَّة، ثم ماذا؟ يوجد قبر بعد هذا، انغمستَ في كل المتع الرخيصة، ثم ماذا؟ السِّمة التي تجمع كل المنحرفين الملل والسأم والضجر، المؤمن لماذا هو أسعد الناس؟ لأن هدفه كبير، موعود بالجنة.
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
أيها الإخوة؛ هذه الآية الكريمة: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي إذا شعرت أن هناك خطراً، الخطر أن تغلبك شهوتك:
﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)﴾
أي غلبتنا شهواتنا، الشقاء أن تغلبك شهوتك وهذا هو الامتحان الصعب، ثَمَن الجنة ضبط الشهوة:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾
الفرق بين المؤمن وغير المؤمن:
أنت حينما تشعر أن هناك خطراً، الخطر أن تغلبك شهواتك على منهج ربك، أنت إذاً الآن مُتَّق، تتقي الخطر، تتقي أن تقع تحت وطأة عذاب الله، تتقي أن تكون تحت وطأة أسماء الجلال، بطش الله شديد، هناك زلازل، هناك أمراض عضالة، هناك قهر، هناك فقر، هناك انقباض، هناك همّ، هناك حزن، تتقي أن تكون تحت وطأة أسماء الجلال، تتقي العقاب الأكبر وهو النار، مادام تتقي تبحث عن الهدى، الهدى في القرآن الكريم، القرآن رسم لك الهدف، ورسم لك الطريق:
﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾
أي ما من جهةٍ في الأرض مؤهلةٍ أن ترسم لك الهدف الصحيح كالله عزّ وجل، ما من جهةٍ في الكون مؤهلة أن ترسم لك الطريق الصحيح لهذا الهدف؛ لذلك المؤمن هدفه الجنة، هدفه أن يعرف الله، وأن يعرف منهج الله، وأن يسلُك الطريق الصحيح؛ عنده توازن، عنده رضا، عنده قناعة، لا يوجد عنده شعور بالقلق للمستقبل، لأن الخط البياني للإنسان المؤمن صاعد صعوداً مستمراً، أما حينما ينسى الله عزّ وجل قد يكون الصعود حاداً والسقوط مُريعاً؛ هذا الفرق بين المؤمن الذي يمشي على منهج الله عزّ وجل، خطُّه البياني صاعد صعوداً مستمراً، بينما غير المؤمن قد يكون صعوده حاداً، وانهياره سريعاً.
بعض الأحاديث الشريفة التي تتعلَّق بسورة البقرة:
أيها الإخوة؛ اسمحوا لي أن أضع بين أيديكم بعض الأحاديث الشريفة التي تتعلَّق بسورة البقرة، قد يسأل أحدكم: ما هذه التفصيلات؟ يقول عليه الصلاة والسلام:
(( عن ابن بريدة عن أبيه: تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ.))
وفي حديثٍ آخر:
(( عن ابن بريدة عن أبيه: تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلَ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ. ))
[ صحيح الترغيب : حسن صحيح ]
في القرآن الكريم، وفي حديثٍ ثالث:
(( وعَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَقَالَ: قَرَأْتَ سُورَتَيْنِ فِيهِمَا اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى. ))
(( عن أنس بن مالك: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ فينا. ))
[ السخاوي: المقاصد الحسنة: أحمد في مسنده : أصله في البخاري ]
جدَّ: أي عظُّم في أعيننا.
(( وعَنْ كَعْبٍ: مَنْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَاءَتَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَقُولانِ رَبَّنَا لا سَبِيلَ عَلَيْهِ. ))
ربنا عزّ وجل وصف المؤمنين والمنافقين والكفار في أوائل هذه السورة:
أوائل هذه السورة مباركة جداً، لأن ربنا عزّ وجل وصف المؤمنين بخصائص كبرى والمنافقين والكفار، هؤلاء الأصناف الثلاث، فالإنسان عليه أن يحرص على أن تنطبق عليه صفات المؤمنين.
هذه الآيات إذا فهمناها فهماً دقيقاً وانطبقت علينا سَلِمْنا وسعدنا في الدنيا والآخرة،
(( وأخرج الإمام مسلم وأحمد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ وَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لا يَدْخُلُهُ الشَّيْطَانُ. ))
وهناك أحاديث كثيرة عن فضل هذه السورة، أرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفِّقنا إلى متابعة فهم هذه السورة والعمل بها.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين