- الخطب
- /
- ٠3الخطب الإذاعية
الخــطــبـة الأولــى:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظفر بالمحبوب سبيلاً، وجعل الطاعة والخضوع على صدق المحبة دليلاً، وحرك بها النفوس إلى أنواع الكمالات إيثاراً بطلبها وتحصيلاً، وفضل أهل محبته على سائر المحبين تفضيلاً، فبالمحبة وللمحبة وجدت الأرض والسماوات وعليها فطرت سائر المخلوقات.
وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له شهادة مقرًّاً بوحدانية ربوبيته، ووحدانية ألوهيته منقاداً إلى محبته، مذعناً له بطاعته، معترفاً بنعمته، طامعاً في مغفرته، بريئاً إليه من حوله وقوته إلى حوله وقوته.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أقرب الخلق إليه، وأحبهم لديه، وأكرمهم عليه، أرسله للإيمان منادياً والى الجنة داعياً، والى الصراط المستقيم هادياً، رفع الله له ذكره، وشرح صدره، وافترض على العباد محبته وطاعته، فلا يؤمن عبد حتى يكون النبي أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين.
اللهم صلِّ، وسلم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.
يقول أحد هؤلاء الأصحاب الكرام وهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
" ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس يفرطون، وبحزنه إذ الناس فرحون، وبكائه إذ الناس يضحكون، وبصمته إذ الناس يخلطون، وبخشوعه إذ الناس يختالون "
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.
المحبة من أخصّ خصائص الإنسان وبطولة الإنسان أن يعرف من ينبغي أن يحب:
أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، موضوع الخطبة اليوم تلخصه هذه الحكاية القصيرة:
مرّ حكيم على رجل يبكي على قبر، فسأله عن سبب بكائه، فقال: إن لي حبيباً قد مات، فقال له الحكيم: لقد ظلمت نفسك بحب حبيب يموت، فلو أحببت حبيباً لا يموت لما تعذبت بفراقه.
أيها الأخوة المؤمنون، المحبة من أخص خصائص الإنسان، ولكن البطولة ليست في أن تحب، ولكن البطولة كل البطولة في أن تعرف من ينبغي أن تحب، هذا موضوع الخطبة.
للإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، والإنسان مفطور على حبّ الكمال، وحبّ الجمال، وحبّ النوال ( أي العطاء )، وحينما يدرك العقل من خلال التفكر الدقيق في خلق السماوات والأرض أن الكون مسخر للإنسان تسخير تعريف وتكريم، وحينما ينظر الإنسان في الحوادث التي هي أفعال الله، فيرى أنها تنطق بالعدل والرحمة والإحسان، وحينما يفهم الإنسان الفهم القويم للنقل الصحيح، حيث أخبر الله من خلاله أن الإنسان هو المخلوق الأكمل، خلقه في أحسن تقويم، وكرمه أعظم تكريم، خلقه لجنة عرضها السماوات والأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
حينما يتفكر الإنسان في خلق الله، وينظر في أفعال الله، ويتدبر كلام الله، يقوده عقله الذي هو أداته لإدراك الحقائق، وتقوده فكرته التي جبلت على من أحسن إليها، إلى محبة الله ذي الجلال والإكرام، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(( أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً ))
وقد ورد في الأثر أنه:
((لا إيمان لمن لا محبة له))
إن الله جلّ ثناؤه، وتقدست أسماؤه، جعل هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها للخير والرشاد، وشرها أوعاها للغي والفساد، وسلط عليها الهوى لتنال بمخالفته جنة المأوى، وهيأها لأمر عظيم، وأعدها لجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم، واقتضت حكمته جلّ شأنه ألاّ تصل النفس إليها إلا من طريق المصائب والنصب، ولا تعبر إليها إلا على جسر من المشقة والتعب:
(( أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْآخرة حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ، و إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِشَهْوَةٍ ))
المحبة قوت القلوب وغذاء الأرواح:
أيها الأخوة المؤمنون، المحبة هي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وهي الحياة التي من حرمها فهو في جملة الأموات، وهي النور الذي من فَقَدَه فهو في بحار الظلمات، وهي الشفاء الذي من عدمه حلت به الأسقام، وهي اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ))
إذا عرف الإنسان ربه أحبه، وإذا أحبه خطب ودَّه، فاستقام على أمره، وعمل الصالحات ابتغاء وجهه، عندئذ يجد حلاوة الإيمان بعد أن ذاق جحيم الكفران، يقول الله تعالى فيما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه في حديث صحيح:
((لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولأن سألني لأعطينه، ولأن استعاذني لأعيذنه))
المحبة معقد النسبة بين الرب وبين العبد:
أيها الأخوة المؤمنون، المحبة معقد النسبة بين الرب وبين العبد، فإنه لا نسبة بين الله وبين العبد إلا محض العبودية من العبد، ومحض الربوبية من الرب، والمحبة هي معقد هذه النسبة، وهي روح الإيمان والأعمال، وقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، فالمرء مع من أحب، والمحبة هي الميل الدائم بالقلب الهائم، وإيثار المحبوب على جميع المصحوب، وموافقة المحبوب في المشهد والمغيب، وهو استكثار القليل من التقصير، واستقلال الكثير من الطاعة، وهي أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منه شيء، وهي أن تهب إرادتك، وعزمك، وأفعالك، ونفسك، ومالك، ووقتك لمن تحب، وتجعلها حبساً في مرضاه ومحابّه، وقد جرت مسألة في المحبة بمكة المكرمة أيام الموسم، فتكلم الشيوخ جميعاً، وكان فيهم الجنيد، كان الجنيد أصغرهم سناً، قالوا: هاتِ ما عندك يا جنيد، فقال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، فإذا تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فهو مع الله، فهو بالله ولله ومع الله.
من علامات المحبين لربهم:
1 ـ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين:
أيها السادة الأعزاء، آية كريمة في القرآن الكريم تؤكد هذه المحبة، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) ﴾
الذي أجمع عليه العارفون أن الله جلّ جلاله يحبهم، وأنهم يحبونه، فمحبة الرب لرسله وأنبيائه ولأوليائه صفة زائدة على رحمته وإحسانه وعطائه، بل إن رحمته وإحسانه وعطاءه أثر لمحبته، وموجب لها، فإنه لما أحبهم كان نصيبهم من رحمته وإحسانه وبره أتم نصيب، ومحبة العبد لربه فوق كل محبة، ولا نسبة بينها وبين سائر المحابِّ، وهي حقيقة لا إله إلا الله، ومن علامات المحبين لربهم أنهم أذلة أعزة، أذلة على المؤمنين، أي رحماء بهم، مشفقون عليهم، فهم للمؤمنين كالوالد لولده، أعزة على الكافرين، أي هم أشداء عليهم لا يداهنونهم، ولا يرهبونهم.
2 ـ يجاهدون في سبيل الله بأنفسهم وألسنتهم وأموالهم وأيديهم:
والعلامة الثانية أنهم يجاهدون في سبيل الله، يجاهدون بأنفسهم، وبألسنتهم، وبأموالهم، وبأيديهم.
3 ـ لا تأخذهم بالله لومة لائم:
والعلامة الثالثة أنهم لا تأخذهم بالله لومة لائم، لأن الله معهم، وإذا كان الله معهم فمن يستطيع أن يكون عليهم ؟ قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) ﴾
المؤمنون أشد حبا لله من حب المشركين لأندادهم الذين يحبونهم ويعظمونهم:
آية ثانية تؤكد هذه المحبة، قال تعالى:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) ﴾
لقد أخبر الله تعالى من خلال هذه الآية الكريمة أنه من أحب من دون الله شيئاً كما ينبغي أن يحب الله فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً، إن هذا الند ند في المحبة والولاء، لا ند في الخلق والإنشاء، بل إن أكثر أهل الأرض اتخذوا أنداداً من دون الله في الحب والتعظيم، والذين آمنوا أشد حباً لله، أي إن المؤمنين أشد حباً لله من حبّ المشركين لأندادهم الذين يحبونهم ويعظمونهم، ولو ترى هؤلاء المشركين في المحبة والتعظيم لأندادهم وآلهتهم، لو تراهم وهم في النار، وأندادهم معهم يقولون:
﴿ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) ﴾
بل إن هؤلاء المشركين في المحبة والتعظيم يحبون أندادهم وآلهتهم حباً من جنس حب المؤمنين لله، وهو محبة ممزوجة بذل وتعظيم وتقديس يحملهم على عبادتهم بالدعاء، وعلى طاعتهم فيما يشرعون لهم.
﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) ﴾
على كل إنسان أن يعطي دليلاً على صدق محبته لله و لرسوله :
أيها الأخوة المستمعون، أيتها الأخوات المستمعات، لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يُعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي، فقيل لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) ﴾
فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه.
ثم طولبوا بتزكية البينة إذ أن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى البيعة.
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) ﴾
فلما رأوا عظمة الثمن وجلال المشتري، ورأوا أن من أعظم الغبن أن يبيعوا أنفسهم وأموالهم لغير الله بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار، فلما تمّ العقد، وسلموا المبيع، قِيل لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعافها معها
إذا غرست شجرة المحبة بالقلب، وسقيت بماء الإخلاص، ومتابعة الحبيب، أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب وفرعها في السماء.
من الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها:
1 ـ قراءة القرآن بالتفهم والتدبر لمعانيه:
يا أيها الأخوة الأحباب، من الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها، قراءة القرآن بالتفهم والتدبر لمعانيه، وما أريد به، والتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصل إلى درجة المحبوبية بعد المحبة، ودوام ذكر الله على كل حال باللسان والقلب، فنصيب العبد من المحبوبية على قدر نصيبه من الذكر، وإيثار محاب الله على محاب العبد عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابّه، وإن صعب المرتقى.
2 ـ مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته ومعرفتها ومشاهدة آثارها:
ومن الأسباب الجالبة للمحبة، مطالعة القلب لأسماء الله، وصفاته، ومعرفتها، ومشاهدة آثارها، والتقلب في رياض هذه المعرفة، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته أحبه لا محالة، ومشاهدة بره، وإحسانه، وآلائه، ونعمه الظاهرة والباطنة، فإنها داعية إلى المحبة، والخلوة مع الله، ومناجاته، وتلاوة كلامه، والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ومجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما تنتقى أطايب الثمر، ومباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
أوسع باب إلى أن يكون العبد محبوباعند الله أن يكون على شاكلة الذين يحبهم الهم تعالى:
أيها الأخوة الكرام، سالكو طريق المحبة إن أقصر طريق وأوسع بابٍ إلى أن يكون العبد محبوباً عند الله أن يكون على شاكلة الذين يحبهم الله جلّ جلاله، وأن يبتعد عن الصفات التي لا يحبها الله في عباده.
فالله يحب الصابرين، والله يحب التوابين، والله يحب المتطهرين، والله يحب المحسنين، وإن الله يحب المتوكلين، وإن الله يحب المقسطين، ويحب المتقين.
والله لا يحب الظالمين، ولا يحب المعتدين، ولا يحب المفسدين، ولا يحب المسرفين، ولا يحب المستكبرين، ولا يحب الفرحين - أي في الدنيا - ولا يحب الكافرين، ولا يحب الخائنين، ولا يحب من كان مختالاً فخوراً، والسنة المطهرة طافحة بالنماذج الإيمانية التي يحبها الله.
فالله يحب إغاثة اللهفان، وإتقان العمل والعدل بين الأولاد ولو في القبل، ويحب أن يرى عبده تعباً في طلب الحلال، ويحب حفظ الود القديم، ويحب الرفق في الأمر كله، ويحب سمح البيع سمح الشراء، ويحب السهل الطلق، ويحب الشاب التائب، ويحب المؤمن المحترف، ويحب الفقير المتعفف، ويحب الغيور، ويحب القلب الحزين.
وإن الله يبغض البخيل، والسائل الملحف، والغني الظلوم، والفاحش البذيء، والوسخ والشعث، ويبغض البذخين الفرحين المرحين، ويبغض كل عالم بالدنيا، جاهل بالآخرة، ولا يحب الطلاق، والعقوق، ولا يحب كل فاحش متفحش.
أحب الأعمال إلى الله:
وأحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على المسلم، والحب في الله، والبغض في الله، وحفظ اللسان، والصلاة لوقتها، وإطعام الطعام، وأحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مكرم، وأحب البلاد إلى الله مساجدها، وأحب الحديث إلى الله أصدقه، وأحب الطعام إلى الله ما كثرت عليه الأيادي، وأحب العباد إلى الله أنفعهم لعياله، وأحسنهم خلقاً، وأبغض الرجال إلى الله الألد الخصم، ومن كان ثوبه خيراً من عمله، وأبغض الخليقة إلى الله الكذابون.
وفي الأثر القدسي:
((أحب ثلاثاً، وحبي لثلاث أشد، أحب الطائعين، وحبي للشاب الطائع أشد، أحب الكرماء، وحبي للفقير الكريم أشد، وأحب المتواضعين، وحبي للغني المتواضع أشد، وأبغض ثلاثاً، وبغضي لثلاثٍ أشد، أبغض العصاة، وبغضي للشيخ العاصي أشد، وأبغض البخلاء، وبغضي للغني البخيل أشد، وأبغض المتكبرين، وبغضي للفقير المتكبر أشد))
الحب في الله و الحب مع الله:
أيها الأخوة أحباب الله، هناك موضوع بالغ الدقة والخطورة، هناك فرق كبير وخطير بين الحب في الله وبين الحب مع الله، فالحب في الله هو من كمال الإيمان، بينما الحب مع الله هو عين الشرك، إذا تمكنت محبة الله في قلب العبد أوجبت هذه المحبة أن يحب العبد ما يحب الرب، عندئذ يحب العبد رسل الله جميعاً، وأنبياءه جميعاً، وأولياءه، والدعاة إليه، وعامة المؤمنين، ويبغض تبعاً لذلك ما يبغض الله عز وجل من العصاة، والفجار، والكفار، وعلامة الحب في الله والبغض في الله ألاّ ينقلب البغض لبغيضِ الله حباً إذا أحسن إليك، وقضى حوائجك، وألاّ ينقلب الحب لحبيب الله بغضاً إذا وصل إليك من جهته ما تكرهه ؛ إما خطأً، أو عمداً، مطيعاً لله فيه، أو متأولاً، أو مجتهداً، أو باغياً.
الحب مع الله نوعان ؛ نوع يقدح في أصل التوحيد ونوع يقدح في كمال الإخلاص:
أيها الأخوة المؤمنون، الدين كله يدور على أربع قواعد، حب وبغض، ويترتب عليهما فعل وترك، فمن كان حبه، وبغضه، وفعله، وتركه لله فقد استكمل الإيمان، هذا هو الحب في الله، وأما الحب مع الله فنوعان، نوع يقدح في أصل التوحيد، وهو شرك لا محالة، ونوع يقدح في كمال الإخلاص، ولا يخرج من الإسلام.
النوع الأول: حب كما يحب المشركون أوثانهم، وأصنامهم، وآلهتهم التي يعبدونها من دون الله، محبة تأله وميالات، يتبعها خوف ورجاء ودعاء، وهذه المحبة هي عين الشرك الذي لا يغفره الله.
والنوع الثاني: محبة ما زينه الله تعالى في النفوس، من النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث، فيحبها محبة شهوة كالجائع للطعام، والظمآن للماء، هذه المحبة ثلاثة أنواع، إن أحبها لله توسلاً إليه بها، واستعانةً بها على طاعته، ومرضاته، أثيب عليها، يقول أحد الأصحاب الكرام: " حبذا المال أصون به عرضي، وأتقرب به إلى ربي ".
إن أحب هذه الأشياء توسلاً بها إلى الله، وابتغاء مرضاته أثيب عليها، وإن أحبها لموافقة طبعه وهواه، ولم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه، بل نالها بحكم الميل الطبيعي، كانت من المباحات، ولم يعاقب عليها، وإن أحبها وسعى جاهداً لتحصيلها، والظفر بها، وقدمها على ما يحب الله، ويرضاه كان غارماً لنفسه متبعاً لهواه، فالأولى محبة السابقين، والثانية محبة المقتصدين، والثالثة محبة الظالمين.
بطلان مسألة المحبة يبطل مقامات الإيمان و الإحسان:
أخوتنا الأكارم، لو بطلت مسألة المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان، ولتعطلت منازل السير إلى الله، فإنها روح كل مقام، وكل منزلة، وكل عمل، وإذا خلا منها العمل كالميت لا روح فيه، ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها، بل هي حقيقة الإخلاص، بل هي الإسلام نفسه، إذ أنه الاستسلام بالذل، والحب، والطاعة لله، فمن لا محبة له لا إسلام له البتة، بل هي حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وإن الإله الذي يؤلهه العباد حباً، وذلاً، وخوفاً، وتذللاً له، والعقول تحكم بوجوب تقديم محبته على محبة النفس، والأهل، والمال، والولد، فالعقل، والفطرة، والشرع، والنظر كلها تدعو إلى محبته سبحانه، بل إلى توحيده في المحبة، وإنما جاءت الرسل بتقرير ما في الفطر والعقول، إن الله لا يحب القلب المشترك، والعمل المشترك، العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يقبل عليه.
قال بعض العلماء: "عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها، قلب فارغ من محبة الله، والشوق إليه، والأنس به، ومحبة لا تتقيد برضاء الله تعالى، وامتثال أمره، وعلم لا يعمل به، وعمل لا إخلاص فيه، ولا اقتداء، وبدن معطل من طاعة الله، وخدمة عباده، وفكر يجول فيما لا ينفع، ومال لا ينفق منه، فلا يستمتع به جامعه في الدنيا، ولا يقدمه أمامه في الآخرة، ووقت معطل على اغتنام بر، وقربة إلى الله عز وجل، وخدمة من لا تقربك خدمته إلى الله، ولا تعود عليك بصلاح دنياك، وخوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله، وهو أسير في قبضته، ولا يملك ضراً، ولا نفعاً، ولا موتاً، ولا حياةً، ولا نشوراً ".
***
الخــطــبـة الثانية:
المعرفة تقود إلى الحب و الحب يقود إلى الطاعة والطاعة ثمن الإستخلاف و النصر:
أيها الأخوة الأحباب، المعرفة تقود إلى الحب، والحب يقود إلى الطاعة، والطاعة ثمن الاستخلاف، والتمكين، والنصر العزيز المؤزر، وقد ورد في تاريخ الطبري الجزء السادس في الصفحة الواحدة بعد الخمسمئة، وفي كتاب البداية والنهاية الجزء التاسع في الصفحة الواحدة والأربعين بعد المئة أن قتيبة بن مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ توغل في بلاد المشرق فاتحاً، وبعد أن فتح كشغر، واقترب من الصين كتب إليه إمبراطور الصين أن ابعث إلينا رجلاً من أشراف من معكم يخبرنا عنكم، ونسأله عن دينكم، فانتخب قتيبة من عسكره اثني عشر رجلاً، لهم جمال، وأجسام، وألسن، وشعور، وبأس، فكلمهم قتيبة وفاطنهم - أي امتحن ذكاءهم - فرأى عقولاً وجمالاً، فأمر لهم بعدة حسنة من السلاح، والمتاع الجيد، وقد أمر عليهم الهبيرة بن المشمرج، وكان مفوهاً طليق اللسان، وقال لهم: سيروا على بركة الله، وبالله التوفيق، وإذا دخلتم على ملكهم فأعلموه أني قد حلفت ألاّ أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأجبي خراجهم، فساروا وعليهم الهبيرة، فلما قدموا إليه أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم، فدخلوا عليه وقد لبسوا ثياباً بيضاً تحتها الغلائل، ولبسوا النعال، وتطيبوا، دخلوا عليه وعنده عظماء أهل مملكته، فجلسوا فلم يكلمهم الملك، ولا أحد من جلسائه فنهضوا وانصرفوا، وقال الملك لجلسائه: كيف رأيتم هؤلاء ؟ قالوا: رأينا قوماً أشبه بالنساء، فلما كان الغد أرسل إليهم، فلبسوا الوشي، وعمائم الخز، والمطارف، وغدوا عليه فلما دخلوا قيل لهم: ارجعوا، فقال لأصحابه: كيف رأيتم هذه الهيئة، هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال من تلك الأولى، فلما كان اليوم الثالث أرسل إليهم، فشدوا عليهم سلاحهم، ولبسوا البيض، والمغافر، وتقلدوا السيوف، والرماح، وتنكبوا القسي، وغدوا فقيل لهم: ارجعوا قبل أن يدخلوا عليه لِما دخل قلبهم من الخوف، فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء قط، فلما أمسى أرسل إليهم الملك أن ابعثوا إلي زعيمكم، وأفضلكم رجلاً، فبعثوا إليه الهبيرة، فقال الملك له حين دخل عليه، قد رأيتم عظيم ملكي، وأنه ليس أحد يمنعكم مني وأنتم في بلادي بمنزلة البيضة في كفي، وأنا سائلك عن أمر، فإن لم تصدقني قتلتكم جميعاً، قال سل: قال: لِمَ صنعتم ما صنعتم من الزي في اليوم الأول، والثاني والثالث ؟ فقال الهبيرة: أما زينا الأول فلباسنا في أهلنا، وأما زينا في اليوم الثاني فإذا أتينا أمراءنا، وأما زينا في اليوم الثالث فزينا لعدونا، فقال الملك: ما أحسن ما دبرتم دهركم، فانصرفوا إلى صاحبكم قتيبة فقولوا له: لينصرف، فإني عرفت حرصه، وقلة أصحابه، وإلا أبعث عليكم من يهلككم ويهلكه، فقال له هبيرة: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك، وآخرها في نابت الزيتون، وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا قادراً عليها، وغزاك في عقر دارك، وأما تخويفك إيانا بالقتل، فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه، قال: فما الذي يرضي صاحبك، قال: إنه حلف ألاّ ينصرف حتى يطأ أرضكم، قال: فإنا نخرجه من يمينه، فنبعث إليه بتراب من أرضنا فيطأه ونبعث إليه بالمال الذي يطلب نظير أمننا وحمايتنا، وهكذا نزل ملك الصين عند مطلب قتيبة من دون أن يخوض حرباً رهبةً وخوفاً:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) ﴾
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم:
وقد يدور في الأذهان سؤال لا يخفى عليكم، أجاب عنه القرآن فقال:
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) ﴾
وقد يقول قائل: ما العمل ؟ يجيب القرآن الكريم:
﴿ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) ﴾
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (11) ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) ﴾