- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخــطــبـة الأولــى :
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ، ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وآل بيته الطيبين الطاهرين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين .
الجرعة المنعشة التي أعطاها الله للمسلمين تؤكد أصالة هذا الدين وأن وعود الله محققة :
أيها الأخوة الكرام ، مع المنطلق من أن الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح ، الأمة الإسلامية في معظم أقطارها تتالت عليها النكبات في العصر الحديث ، هذه النكبات التي تتالت صنعت عندها ثقافة ، يمكن أن نسميها ثقافة اليأس ، أو ثقافة الإحباط ، أو ثقافة الطريق المسدود ، ولكن شاءت حكمة الله أن يعطي المسلمين ما يسمى بالجرعة المنعشة، هذه الجرعة المنعشة تؤكد لهم أصالة هذا الدين ، وأن وعود رب العالمين ، محققة لا محالة ، وأن زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين ، من هذه الجرعات المنعشة ونحن في ذكراها انتصار أخوتنا في غزة على الجيش الأول في المنطقة ، وعلى رابع جيش في العالم ، وعلى الجيش الأول من حيث تنوع الأسلحة ، ومن حيث حداثتها ، هذه الفئة القليلة التي لا تملك إلا البندقية ، والمعزولة ، والمحصورة ، والجائعة ، حققت نصراً ، لكن الذين ربطوا أنفسهم بالطرف الآخر يشككون في هذا النصر ، والحقيقة أن الذي حدث من خلال هذه الحرب ، وقبل أن أسرد لكم الذي حدث أبين لكم أن سلبيات هذه الحرب رأيناها جميعاً في الأخبار ، لكن إيجابياتها تحتاج إلى بعد نظر .
بعض من مظاهر انتصار أخوتنا في غزة :
الذي حصل من مظاهر هذا النصر أن أعداءنا فقدوا الحسم ، الحسم أي أنهم يبدؤون الحرب وهم ينهونها في أي وقت يريدون ، هذا اسمه حسم ، هذا الذي فقدوه من خلال حربهم مع أخوتنا المقاومين في غزة ، بدؤوا الحرب أما نهايتها لم تكن بيدهم بل كانت بيد الغرب الذي تدخل لإيقافها لمصلحة أعدائنا .
شيء آخر : إن أعداءنا وقعوا فيما يسمى بتوازن الرعب ، كان المسلمون يخافون، أما الأعداء لا يخافون ، المسلمون يدخلون في الملاجئ ، أما هم لا يدخلون ، المسلمون يتلقون الصواريخ ، أما هم لا يتلقونها ، فالذي حصل في هذه الحرب ما يسمى بتوازن الرعب ، دخلوا الملاجئ وأطلقت صفارات الإنذار ، وجاءتهم الصواريخ من كل حدب وصوب ، وهدمت أبنيتهم ، ودخل أعداؤنا جيشاً وشعباً في خوف شديد ، هذا سماه المحللون توازن الرعب ، هذا لم يكن من قبل .
الشيء الآخر الذي يعد من مظاهر انتصار أخوتنا في غزة ونحن في ذكرى هذه الانتصارات ، أن هدفهم الأول منذ تأسيس دولتهم وحتى الآن كان الأمن ، لكن هذا الهدف الكبير تحول إلى هدف آخر خطير ، هدفهم الآن البقاء ، كان هدفهم الأمن فأصبح هدفهم البقاء.
أيها الأخوة ، هؤلاء الذين يطالعون صحفهم وتعليقاتهم ومقالاتهم يتأكدون من هذه الحقيقة ، بل إن بعض الوكالات العالمية تنبأت لهم أن بقاءهم في المنطقة لا يزيد عن عشرين عاماً قادمة ، هذا الذي حصل من خلال المقاومة التي هزت أركان العدو .
من قُتل و هو على الإيمان مات موحداً و طائعاً :
أيها الأخوة ، لكن إذا قلنا : لقد انتصروا ، هذا معنى من معاني النصر ، وهو أن الذي يموت بشظية ، أو بصاروخ ، أو بقنبلة ، وهو مؤمن موحد مستقيم على أمر الله ، يرجو لقاء الله ، هذا عند الله منتصر ، والدليل أن الله عز وجل ذكر أصحاب الأخدود وقد أحرقهم الطاغية عن آخرهم ، ومع ذلك وصفهم الله عز وجل بأنهم هم الفائزون ، هذا معنى دقيق لو أن الإنسان قتل لكنه مات على الإيمان مات موحداً ، مات مستقيماً ، مات طائعاً ، هذا يسمى موته انتصاراً مبدئياً ، مات على مبدئه ، مات على التوحيد ، مات على الإسلام .
أنواع النصر :
أيها الأخوة ، أحد مظاهر هذا النصر أن القنابل التي ألقيت عليهم بالملايين ، القنابل العنقودية ، والقنابل الفسفورية ، والقنابل الخارقة الحارقة ، والطائرات من أحدث أنواع الطائرات في العالم ، بعضها مروحية وبعضها تقليدية ، وكل الأسلحة التي يحوزونها استخدموها ، ومع ذلك الله عز وجل حفظ هؤلاء حفظاً واضحاً ، حفظ لهم حياتهم ، وحفظ لهم معاشهم ، وحفظ لهم معظم مقومات حياتهم ، هذا الحفظ يعد أحد أنواع النصر .
أيها الأخوة ، نصر آخر قد لا ننتبه إليه أن سمعة هؤلاء المقاومين انتشرت في أرجاء الأرض ، صاروا أبطالاً ، أصبحوا مضرب المثل ، وسمعة هؤلاء الذي قتلوهم أو قصفوهم أصبحت في الوحل ، فهذا نوع من أنواع النصر المعنوي ، أنت حينما لا تنتصر نصراً تقليدياً بأن تحتل الأرض لكن تظهر لك بطولات فريدة ، ولافتة للنظر ، وأن العدو سقط في أعين أهل الأرض ، هذا أيضاً نوع من أنواع النصر .
الحرب التي خاضها أهلنا في غزة أحيوا بها معنى الجهاد الذي كان معتماً عليه :
شيء آخر : هذا الإسلام العظيم إذا أضفنا عليه ما ليس منه تشرذمت الأمة وأصبحت فرقاً وطوائف وأحزاب ، وتنتهي هذه الفرقة بالاقتتال ، وقد رأينا هذا في بعض الأقطار الإسلامية ، اقتتال بين فرق المسلمين فإذا أضفنا عليه ما ليس منه تفرقنا ، وتخاصمنا، وتراشقنا التهم ، وتقاتلنا ، وسالت الدماء بيننا ، فإذا حذفنا منه ما علم بالضرورة ضعفنا ، هذه الحرب التي خاضها أهلنا في غزة أحيوا بها معنى الجهاد الذي كان معتماً عليه، والذي لفت نظر العالم وأنا لا أبالغ أن معظم الجيوش في العالم بدأت تفكر في تغيير فلسفتها العسكرية ، فئة لا تملك سلاحاً ضعيفة ، لكنها تهز أركان العدو ، هذا الذي حدا ببعض كبار المسؤولين في البنتاغون أن يقول : ماذا نفعل بحاملات الطائرات ؟ وماذا نفعل بالصواريخ العابرة للقارات ؟ وليس على وجه الأرض دولة تجرؤ أن تحاربنا ؟ لكن ماذا نفعل بهذا الإنسان الفرد الذي أراد أن يموت باختياره ليهز كياننا ؟
لذلك قالوا : بدأت الحرب بالإنسان ثم أصبحت بين ساعدين ، ثم بين آلتين ، ثم أصبحت بين عقلين وانتهت بالإنسان ، والمقاومة أيها الأخوة ، كما قال رئيسنا ـ جزاه الله خيراً ـ :" ليست رجلاً تقتله فتنتهي المقاومة ، المقاومة الآن فكر ينمو ، فإذا قتلوا مقاوماً ظهر من بعده مقاومون ، لذلك الرد على التفوق العسكري كان بالمقاومة ".
أكبر نصر أن يتاح للمسلم أن يكون شهيداً في سبيل الله :
أيها الأخوة الكرام ، والخطط التي رسمت لنا كشرق أوسط جديد لم تحقق ، الخطط التي استهدفت تمزيق كل دولة في الشرق الأوسط إلى دويلات لم تتحقق ، هذا أيضاً يعد نصراً ، وأكبر نصر أن يتاح للمسلم أن يكون شهيداً ، الشهادة وسام شرف يُعلق على صدر الأمة :
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) ﴾
أحياء ، كلام خالق الأكوان ، كلام القرآن الكريم بكل معاني الحياة :
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) ﴾
كشف حقيقة العدو الإجرامية لأهل الأرض :
أيها الأخوة الكرام ، أما الذي لا يصدق أننا لو دفعنا المليارات في أنحاء العالم كي نعري أعداءنا من كل معنى إنساني وأخلاقي وحضاري لا نستطيع ، ولكنهم بهذه الحرب عروا أنفسهم ، بمعنى أن حقيقتهم العدوانية الوحشية الإجرامية كشفت لأهل الأرض ، حتى إن استنكار هذه الحرب الظالمة ، أي طائرات من أحدث الطائرات ، ومروحيات من أحدث المروحيات ، والقنابل العنقودية والفسفورية والحارقة والخارقة لا من أجل أن تنتصر على جيش مكافئ ، بل من أجل أن تقتل طفلاً صغيراً وامرأة ضعيفة ، هل تقبل من ملاكم كبير أن يمسك برضيع ويضربه ؟ وهل تصفق له ؟ شيء لا يصدق ، لذلك لو أنفقنا المليارات كي نعري أعداءنا لا نستطيع ، هم يُلمعون صورتهم سابقاً ، لكنهم بهذه الحرب الظالمة ، الحرب الوحشية ، عروا أنفسهم .
شيء آخر : يبدو أنه نشأ عقدة عند بعض المسلمين بسبب ضعف إيمانهم أن جيشهم لا يقهر ، فلما انتصر المقاومون على الجيش مرتين ، مرة في ألفين وستة ، وقد أحرق في يوم واحد ما يزيد عن تسع وستين مدرعة من أرقى مدرعات العالم ، مرة في ألفين وستة في جنوب لبنان ، ومرة في ألفين وثمانية في غزة ، هذه العصا الغليظة التي أرادها الغرب لتأديب أي دولة شرق أوسطية تقول : لا للغرب ، هذه العصا الغليظة كسرت مرتين ، مرة في ألفين وستة ومرة في ألفين وثمانية ، هذا تطور نوعي لم يكن من قبل ، كما أن الإنسان يحب الحقيقة المرة لأنها أفضل ألف مرة من الوهم المريح ، ينبغي أن يقيم وأن يثمن الإيجابيات التي ظهرت عقب هذه المقاومة التي ابتغى منها أصحابها رضوان الله عز وجل .
على المؤمنين أن يتعاونوا و يتكاتفوا لصدّ مؤامرات العدو عنهم :
أيها الأخوة الكرام ، هذا يذكرنا بقوله تعالى :
﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ .
قد نتوهم أن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وحدهم ، لا :
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ .
يتعاونون ، يتدارسون ، يخططون ، يجتمعون ، في كل عدوان على بلد مسلم ثلاثون دولة كبيرة عملاقة مع الدولة المعتدية :
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ .
معاناة المسلمين من الفتن في الأرض والفساد الكبير بسبب الابتعاد عن المعروف :
أما الذي يلفت النظر :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (72) ﴾
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ .
﴿ إِلَّا تَفْعَلُوهُ ﴾ .
أي إن لم تؤمنوا ، وإن لم تهاجروا ، وإن لم تجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ، و إن لم تؤووا ، وإن لم تنصروا :
﴿ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ .
طائفة من أحاديث النبي الكريم عما ينبغي أن يكون عليه مجتمع المؤمنين :
أيها الأخوة الكرام ، مع طائفة من أحاديث سيد الأنام :
(( المسلمون تتكافأ دماءهم ، يسعى بذمتهم أدناهم ، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم )) .
(( المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن أخو المؤمن يكفُّ عليه ضيعته ويحوطه من ورائه )) .
(( من صلى صلاتنا و استقبل قبلتنا و أكل ذبيحتنا فذاكم المسلم الذي له ذمة الله و ذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته )) .
(( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا )) .
(( ومن مشي مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها لهُ ، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام )) .
هكذا ينبغي أن يكون مجتمع المؤمنين :
(( الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لَا يَظْلِمُهُ ، وَلَا يُسْلِمُهُ ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) .
أخوتنا في غزة رفعوا رؤوسنا عالياً ودافعوا عن المسلمين جميعاً :
أيها الأخوة الكرام ، نقول لأخوتنا في غزة : إن الذين سقطوا شهداء في سبيل الله نذكر أهليهم :
﴿ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) ﴾
وأما الجرحى فنقول لهم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم :
((ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نَصَب، ولا هَمٍّ ولا حزن ولا غَمٍّ، حتى الشوكة يشاكها، إلا كَفَّر اللّه بها من خطاياه)) .
أيها الأخوة ، أخوتنا في غزة رفعوا رؤوسنا عالياً ، دافعوا عن المسلمين جميعاً ، لذلك قال تعالى :
﴿ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ (13) ﴾ .
أقول قولي هذا ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم ، فيا فوز المستغفرين .
* * *
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين .
كل إنسان يموت على نيته وعلى ما عاش عليه :
أيها الأخوة ، كلكم علمتم أن زلزالاً أصاب بلداً اسمه هاييتي ، قريباً من أمريكا ، هذا الذي أصاب هؤلاء لا يسعنا إلا أن نتوجه إلى أسر الضحايا من كل الملل والنحل ومن دون تفريق ولاسيما سكان البلاد الأصليين ، أن نتوجه إليهم بالتعازي سائلين الله جلّ وعلا أن يلهم من بقي من هذه الأسر الصبر والسلوان ، المؤمن لا يشمت أبداً :
(( الخلق كلهم عيال الله ، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله )) .
هذا الموقف ينبغي أن يكون هكذا ، ومن الخطأ الكبير أن يتوهم الإنسان أن كل من أهلكه الله في هذا الزلزال مذنب يستحق الهلاك ، هذا تعميم والتعميم من العمى ، لكن الحقيقة الدقيقة أن كل يموت على نيته وعلى ما عاش عليه كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( إن الله إذا أنزل سطواته على أهل نقمته ، فوافت آجال قوم صالحين فأهلكوا بهلاكهم ، ثم يبعثون على نياتهم وأعمالهم )) .
طائرة سقطت فيها ركاب مؤمنون ، هذا المؤمن يموت على إيمانه ، يموت على نيته ، ذاهب إلى سفر مشروع .
المصاب الجلل الذي أصاب سكان هاييتي هو ابتلاء للمؤمنين وإنذار للكافرين :
أيها الأخوة ، هذا المصاب الجلل الذي أصاب سكان هاييتي في البحر الكاريبي هو ابتلاء للمؤمنين منه ، قال تعالى :
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) ﴾
المؤمنون منهم هذه الآية لهم ، وأما المذنبون ، قال تعالى :
﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(102) ﴾
مئة ألف قتيل ، ثلاثة ملايين مشرد ، بلا مأوى ، أما الناجون فهو تحذير وإنذار ، إذا كان الناجي غير مؤمن فهذا الزلزال تحذير وإنذار ، قال تعالى :
﴿ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) ﴾
الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله :
ولكن ينبغي أن نتذكر إنصافاً للحقيقة ونحن في طوفان الظلم والقتل اليومي للأبرياء ولاعتقالهم ، ولهدم المنازل ، ونهب الأموال ، هذا الظلم اليومي الحاد لم يشهد تاريخ البشرية له مثيلاً ، ولاسيما في المناطق الساخنة في العالم في العراق وفلسطين ، جاء الزلزال ليوقظ الشعور الإنساني لدى الأمم والشعوب ، فبادرت إلى تقديم المساعدات العينية والمالية من كل حدب وصوب ، وأكدت هذه المساعدات أن الإنسان هو الإنسان ، كما فطره الله ، وأن الإنسان أخو الإنسان ، وأن الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله 0
من لم تُحدِث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر :
أيها الأخوة الكرام ، ولكن تركب أنت مركبة في لوحة البيانات تألق مصباح أحمر، دقق إن فهمت هذا التألق أنه تألق تزييني وهو في الحقيقة تألق تحذيري ، هذا المصباح الأحمر حينما يتألق يعني أن الزيت قد انتهى من المحرك ، فإذا تابعت السير أحرقت المحرك ودفعت مبلغاً فلكياً ، وإن فهمته على حقيقته تألقاً تحذيرياً أوقفت المركبة وأضفت الزيت سلم المحرك وتابعت الرحلة .
فأي زلزال هناك تفسيران ، تفسير أرضي محض يقول لك : القاعدتان اللتان في أعماق الأرض ارتطمتا فكان هذا الزلزال ، يبعدون فهمهم لهذا الزلزال عن أي إجراء تربوي إلهي ، هذا فهم .
من لم تُحدِث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر ، هذا فهم خاطئ.
لذلك أيها الأخوة ، وأن تقول كل من مات في هذا الزلزال مجرم أيضاً خطأ ، لا يعلم حقيقة العباد إلا رب العباد :
﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا ﴾ .
رفض بعض أهل الأرض التفسير التوحيدي للكوارث :
أيها الأخوة الكرام :
﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ ﴾ .
أي إذا فسرت الأمور الكبيرة كالحروب ، كالاجتياحات ، كالزلازل ، كالبراكين ، أنت ما أنكرت التفسير العلمي لكن أضفت له تفسيراً توحيدياً ، بعض أهل الدنيا يرفضون هذا التفسير ، قال تعالى :
﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ .
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ .
إذا قدمت تحليلاً إيمانياً توحيدياً وفق كتاب الله وسنة رسوله رفضه الذين لا يؤمنون بالآخرة ، أما إذا قدمت تحليلاً أرضياً شركياً قبله معظم الناس ، هذا من ضعف الإيمان .
أيها الأخوة ، يقول سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : "ثلاثة أنا فيهن رجل ، وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس ما صليت صلاة فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها ".
أنت حينما تسمع كلام الله ، أو كلام رسول الله ، ينبغي أن تعلم علم اليقين أن هذا الكلام هو كلام من عند خالق السماوات والأرض ، وهو الذي ينبغي أن نأخذ به :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ، ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك و نتوب إليك ، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام ، وأعز المسلمين ، انصر المسلمين في كل مكان ، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين ، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين .