- السيرة / ٠5سيرة الأئمة الأربعة
- /
- ٠2الإمام أحمد بن حنبل
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
سؤال ورد :
أيها الأخوة الكرام، لازلنا مع الإمام الجليل أحمد بن حنبل، إلا أن أحد الأخوة الكرام سألني: ما الحكمة من هذه الدروس التي تتعلق بالأئمة الأربعة، الذين يكثر الحديث عنهم في كل مجلس علم، وفي كل درس فقه، وفي كل جامعة, وفي كل كلية؟ .
أيها الأخوة، أضرب لكم المثل التالي: إنسان عنده آلة, صنعت عام ألف وتسعمائة وثلاثين، متواضعة جداً، يعمل بها، صاحب هذه الآلة, إن لم يزر معملاً أرقى من المعمل الذي صنعت به، يظن أن هذه الآلة أرقى آلة في العالم، وعندئذٍ لا يطوِّرها، أما حينما يطلع على معامل أحدث، وأكبر، وأسرع، وأدق, وأكثر فائدةً، تصغر آلته في نظره، وهو الآن يصغر معها إن بقي على ما هو عليه .
الإنسان إذا انفتح على الآخرين، واطلع على ما عندهم، قرأ عن العلماء السابقين، المحققين, العاملين، المخلصين، المتبحرين يصغر, إلا أنه الآن يصغر من أجل أن يكبر، أما لو عزل نفسه عن دراسة أحوال العلماء, والفقهاء، والدعاة، والذين رفعوا راية هذا الدين، إذا عزل نفسه عن هؤلاء العظام, يكبر في نفسه، ويظن أنه أكبر الناس، وهو في الحقيقة أصغرهم، فبين أن تصغر لتكبر، وبين أن تتوهم أنك كبير، ولست في الحقيقة كبيراً، لما يخرج الإنسان يتحجم، ولما يتحجم, يرسم هدفًا كبير لنفسه, يسعى إليه .
أحيانا الإنسان يقتدي بهؤلاء العلماء بجرأتهم، بإخلاصهم، بورعهم، بتواضعهم، بتعففهم، بتقشفهم، بزهدهم، بصدق توكلهم، بحرصهم على رضاء الله عز وجل، يقتدي بهم، والإنسان أحياناً يستفيد من خبرات الآخرين، من هو العاقل؟ هو الذي لا يجعل من نفسه ضحيةً لمعلوماته، قد تتعلم فكرةً أو حقيقةً على حساب نفسك, فأنت الضحية، إذًا: تعلمت بعد أن ضحيت، أما العاقل يستفيد من خبرات الآخرين, لهذا قالوا: السعيد من اتعظ بغيره, والشقي لا يتعظ إلا بنفسه .
إذاً: نحن مع الانفتاح لا مع الانغلاق، مع الإطلاع لا على التقوقع, مع التعاون لا مع التنافس، مع أن تكون جندياً في جيش، لا أن تتوهم أنك قائد جيش، ولا يوجد جيش إطلاقاً .
ثقة الناس بابن حنبل :
أيها الأخوة، ما زلنا مع الإمام أحمد بن حنبل، عن سليمان بن حرب أنه قال لرجل:
((سل أحمد بن حنبل ما يقول في مسألة كذا، فإنه عندنا إمام))
فأحمد بن حنبل ما الذي اكتسبه؟ اكتسب ثقة الناس، وصدقوني أن أثمن شيء تمتلكه ثقة الناس، لأنهم إذا وثقوا فيك, أمكنك أن توجههم، وأمكنك أن تعلمهم، وأمكنك أن ترعاهم، فلذلك أعيد وأكرر ألف تصرف ذكي وحكيم ودقيق يشد الناس إليك، لكن تصرفًا واحدًا أحمق ينفرهم منك، ولعل في الآية الكريمة خير مؤيد لهذه الفكرة، قال تعالى:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾
بسبب الرحمة التي استقرت في قلبك يا محمد كنت ليناً لهم، بهذا اللين اجتمعوا نحوك ، انضموا إليك، وثقوا بك، جعلوك قدوةً لهم، جعلوك أسوةً لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب، لو لم تستقر الرحمة في قلبك, لكان مكان الرحمة القسوة, إذاً: لانفضوا من حولك، فاعفُ عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر .
الناس ليسوا أغبياء، من ظن أن الناس أغبياء, فهو وحده الغبي، الناس يعرفون الحق من الباطل، يعرفون المخلص من غير المخلص, يعرفون الصادق من الكذاب، يعرفون المنتفع من عمل ما من غير المنتفع، ويعرفونه بحدسهم .
في بعض الدول الأجنبية نظام المحلفين، نأخذ من الطريق خمسين رجلاً لا على التعيين من حِرَفٍ متنوعة، ومن ثقافات متنوعة، نعرض عليهم قضية قضائية معقدة، نقول لهم : ما رأيكم؟ رأيهم رأي الفطرة، رأيهم رأي بسيط، لكنه صادق، القاضي أحياناً يعرض القضية على خمسين محلفاً، وهؤلاء يدلون بآرائهم، وفي الأعم الأغلب تأتي آراؤهم صحيحة، لأنهم ليسوا مع هؤلاء، وليسوا مع هؤلاء، لا يتعرضون إلى ضغوط شديدة, فتغيِّرَ مجرى أحكامهم .
إليكم محتوى هذه الفقرة :
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول:
((قدمت صنعاء أنا ويحيى بن معين ، فمضيت إلى عبد الرزاق في قريته، وتخلف يحيى، فلما ذهبت أقرع الباب, قال لي جارٌ له بقّالٌ: لا تدقَّ الباب، فإن الشيخ يهاب، -عندنا الإمام النووي من نوى، أبو سليمان الداراني من داريا، يوجد علماء اشتهرت القرية التي ولدوا فيها، النيسابوري من نيسابور، أكثر العلماء الكبار كانوا من قرى، ولكن هذه القرى أصبحت علماً في تاريخ العلم- .
قال: فجلست حتى إذا كان قبل المغرب خرج, فوثبت وقبَّلتُ يديه، وفي يدي أحاديث انتقيتها، فسلمت عليه، وقلت: حدثني بهذه يرحمك الله، فإنني رجل غريب، قال: ومن أنت؟ قال: أنا أحمد بن حنبل, فتقاصر وضمَّني إليه، وقال: بالله, أنت أبو عبد الله ؟! ثم أخذ الأحاديث، وجعل يقرؤها حتى أظلم الليل، فقال للبقال: هلم المصباح، وكان عبد الرزاق يؤخر صلاة المغرب))
فالمقصود: أين وصل صيته؟ إلى صنعاء، حيث استقبله هذا العالم الجليل، وتقاصر أمامه.
فكن كما يرضي الله عز وجل، واترك الأمر لله، فإنّ الله عز وجل هو الذي يرفعك ، فلا ترفع نفسك، إن رفعتها خفضك الناس، أمّا إن تواضعت لله, رفعك الله عز وجل، عندنا آية بهذا المعنى:
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾
ترى علماء كبارًا؛ هذا أصله قصاب، وهذا نجار، هذا دولاتي، نسمع بعالم كان يعمل (دولاتيًا)، فلما توفي مشى في جنازته أكثر من ألف إنسان، ورفعنا لك ذكرك، وكل آية تتوجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام لكل مؤمن منها نصيب, بقدر إيمانه واستقامته، إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً, ويضع به آخرين، وهذا حقٌّ وصدقٌ .
انظر إلى هذا الموقف من إسماعيل :
قال بعضهم: أخبرني عبد الله بن المبارك، وكان شيخاً قديماً، قال:
((كنت عند إسماعيل، فتكلم إنسان بشيء, فضحك بعضنا، وثَمَّ أحمد بن حنبل, قال: فأتينا إسماعيل, فوجدناه غضبان، فقال: أتضحكون وعندي أحمد بن حنبل؟))
انظرْ إلى العلماء الصادقين، إنهم ملوك .
وهنا نقطة مهمة: إنّ الأقوياء في الأرض ملكوا الرقاب، بإشارة يحركون ملايين الناس، أما الأنبياء فقد ملكوا القلوب، وشتان بين أن تملك الرقاب، وبين أن تملك القلوب .
زارنا ضيف من دولة آسيوية، فالذي رافقه, اعتذر له, أن المطاعم مغلقة اليوم، لأنه يوم عيد مولد رسول الله، قال هذا الرجل: من كم سنة ولد؟ فقال له: من ألف وخمسمائة عام، فصعق, هل من المعقول أنّ إنسانًا من ألف وخمسمائة عام لا تزال ذكراه عطرة في قلوب الناس؟ الأنبياء ملكوا القلوب، أنت يكفي أن تقف أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتنظر إلى مئات الألوف الذين يمشون أمام قبره ويبكون، ماذا أعطاهم هذا الإنسان, ولم يشاهدوه؟ ماذا أعطاهم؟ هل أعطاهم المال؟ كماله رفعه .
انظر إلى عظمة أحمد في قلب يزيد بن هارون :
قال بعضهم:
((ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيماً منه لأحمد بن حنبل, ولا أكرم أحداً مثله، كان يقعده إلى جنبه, ويوقره, ولا يمازحه))
أخوانا الكرام، إن من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم، إنسان مسلم, وقور, مستقيم، هل تصدق أنك إذا أكرمته, فكأنك أكرمت الله عز وجل؟ مجتمع المؤمنين مجتمع منضبط، مجتمع فيه محبة، فيه توقير، فيه احترام، فيه مهابة .
والله مرة دخلنا إلى بيت, أذكر ذلك كثيراً، أحد أخواننا أحب أن يشتري بيتًا، فقال لي: هل تذهب معي لتشاهد البيت؟ قلت له: نعم، دخلنا إلى غرفة, فيها جهاز اللهو, مفتوح على مسلسل، وأمامه ولد مستلقٍ على ظهره، رجلاً فوق رجل, يتابع المسلسل، دخلت أنا، ومعنا اثنين، فلم يتحرك، ما هذا الأدب؟ أين أخلاق المسلمين؟ .
النبي الكريم رأى شاباً يمشي أمام شيخ، فقال له:
((من هو؟ قال: أبي، قال: لا تمشِ أمامه، ولا تقعد قبله، ولا تناده باسمه))
لنا أخ أرسلوه في بعثة إلى فرنسا في دورة تدريبية، قال لي: أحببت أن أتعلم البراتيك، وقف على نهر السين، ووجد شابًا هائمًا، يتعلق نظرُه بمياه النهر، فسأله عن اسمه، وعن مشكلته، قال له: آه, لي في الحياة أمنية واحدة، قال له: ما هي؟ قال: أن أقتل أبي، قال له : ولمَ؟ قال: لأني أحب فتاةً فأخذها مني، انظروا إلى هذا الأب، وإلى هذا الابن .
الأب في الإسلام مقدس، هل تصدقون أن الله سبحانه وتعالى ينتظر من عبده أن يذكره كما يذكر أباه؟ فهل ثمّة آية في هذا المعنى؟ قال تعالى:
﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً﴾
معنى هذا أنّ الأب مقدس، قال تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ﴾
بدأ بالأب، لأنه مصدر الاعتزاز الاجتماعي، أنا ابن فلان، وفي الفقه قضية تحيِّر الناس، وهي أنّ الابن إنْ مات في حياة أبيه، فأولاد هذا الابن المتوفى لا يرثون شيئاً، كيف؟ لكن فات هؤلاء حكمة الشارع العظيم، والنبي قال:
((العم والد))
لو أن هذا الأب نصيبه خمسون ألفًا، والأعمام أعطوا أولاد المتوفى خمسين ألفًا وانتهى الأمر، فالشرع قال: لا، الابن الذي يموت في حياة أبيه لا يأخذ شيئاً، لكن أعمام أولاده الصغار, مكلفون برعاية أولاد أخيهم, حتى نهاية الحياة، وهذا أفضل وأكمل، ولكن الناس الآن أكثروا في قطع الأرحام، ويجري العمل شرعًا بالوصية الواجبة، أما الأكمل أن العم والد، وعليه رعايتهم، وليأخذ هو الخمسين ألفًا من الميراث .
أقوال شتى :
يقول عبد الرزاق:
((ما رأيت أحداً أفقه ولا أورع من أحمد بن حنبل، وما رأيت مثلَه، وما قدم علينا مثلُه))
ربنا عز وجل يبعث على كل مائة عام, مَن يجدِّد لهذه الأمة دينها، وليس معنى هذا أنه واحد، لكن (مَن) تعني أكثر من واحد، وفي كل بلد, هناك رجل مجدِّد، كلما فرغ الدين من مضمونه، وبقي منه الطقوس، والشكليات، والحركات، والاحتفالات، والأناشيد، والولائم، والمزاهر، والكلابيات، والمسابح، والعطور، والمسواك، ولكن لا تقوى، ولا استقامة، تدخل إلى محل تجاري تجد: استقم كما أمرت، ومن تاب معك، والحقيقة لا تجد أيّةَ استقامة .
مرة كنت أصلي في مسجد، وهذه القصة قديمة من عشرين سنة، وهذا المسجد في أحد مصايف الزبداني، فمشيت مع رجل يتجه نحو سيارته، فلما وصلت, وكنتُ قد ظننته إنسانًا ملتزمًا, فوجدت امرأة متفلتة أشدَّ التفلت، كيف جمع بين خروج زوجته، وبين ارتياده المسجد؟.
قال يحيى بن معين:
((واللهِ ما تحت أديم السماء أفقه من أحمد بن حنبل، وليس في شرق ولا غرب مثله))
وقال بعضهم:
((أجاب أحمد بن حنبل عن ستين ألف مسألة بأخبرَنا وحدَّثنَا))
ستون ألفاً مسألة أجاب عنها بالأحاديث، أخبرنا وحدثنا، هؤلاء الذين يحملون السنة, أناس عظام جداً ، هؤلاء الذين نقلوا لنا سنة رسول الله, يجب أن نحترمهم احتراماً كبيراً .
قال بعضهم:
((أجمع المسلمون على أحمد بن حنبل، وقال: كنت إذا رأيته خُيِّل إليَّ أن الشريعة لوح بين عينيه))
أي قضية يجبُّ عنها، وحاجة الناس إلى العالم كحاجتهم إلى الهواء، حاجة الناس إلى الدين حاجتهم إلى الهواء, لأنه كتلة من لحم ودم, فيها شهوات, تريد أن تأكل أطيب الطعام، تريد أن تتزوج، تريد أن تعلو في الأرض، فإذا كانت بلا منهج، فالفساد واقع، بلا منهج يعتدي، العدوان من لوازم أي إنسان يتحرك بلا منهج، فالمنهج أساسي .
وإليكم هذا السؤال: طريق كله منعطافات، وعلى اليمين وديان، وعلى الشمال جبال، وفي الطريق نفسه؛ صخور, وتلال، وحفر، فحاجة هذه المركبة إلى مقود ماسَّة وضرورية، وحاجتها إلى سائق حكيم لازمةٌ حتمًا، لمجرد أن يغفل السائق, يقع الحادث لا محالة، ولمجرد أن يتعطل المقود, يقع الحادث وقوعًا حتميًّا، والإنسان في الحياة الدنيا دونَه مزالق كثيرة، النساء مزلق، المال مزلق، التجارة مزلق، الزواج مزلق، النزهة مزلق .
((يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً, يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل))
الإمام أحمد حجة الله في خلقه :
قال إسحاق:
((إني لأقيس أحمد إلى كبار التابعين، وهو حجة بين الله وبين عبيده في أرضه، ولا يُدرَك فضلُه))
أخواننا الكرام, هناك نقطة مهمة جداً: في كل مجتمع، في المدرسة، في كل دائرة، ومستشفى، لله عز وجل فيه حجةٌ على بقية الناس، يجعل هناك رجلاً مستقيمًا، والضغوط نفسها، ضِيق الدخل نفسه، القسوة نفسها، المغريات نفسها، ومع ذلك فالمؤمن علَم يطبِّق منهج الله عز وجل في كل مكان، في كل مجتمع، في كل مؤسسة، في كل مستشفى، في كل دائرة إنسان مستقيم .
أحياناً يقولون: في الغابات الكثيفة إذا قلعوا أشجار غابة، أو قلعوا أشجارًا للاستعمالات الخشبية, يُبقُون علامات، وحدودًا بين الأراضي، وربنا عز وجل في كل مجتمع له علامات، فالمؤمن حجة الله على مَن في هذه الدائرة، الكل يأخذون مالاً حراماً، وهو لا يأخذ، بل الدنيا تحت قدمه، أنت أنصحك لوجه الله: كن أنت الحجة، وإياك أن تكون أنت المحجوج .
نبوغ الإمام أحمد :
قال بعضهم:
((لقد كاد هذا الغلام أن يكون إماماً في بطن أمه))
هذا الكلام أسوقه للآباء ، أحياناً يكون للأب طفل؛ فيه تفتح كبير، وذكاء، وطيب، وبراءة، فهذا الطفل له مستقبل كبير، فإياك أن تسوقه وأخوته بعصًا واحدة، إذا توافرتْ في الطفل علائمُ الذكاء, والنجابة, وطلب العلم، وحَفِظَ كتابَ الله صغيرًا، فهذا الطفل يجب أن تكرِّس كل حياتك من أجله، وانتبِهْ فقد يكون داعية كبيرًا، أو مصلحًا اجتماعيًا بارزًا، أو معلمًا جليلاً، وكل هذه الخصائص والأعمال في صحيفتك، أسوق هذه النصيحة للآباء الذين عندهم أبناء متميِّزون، ألمعية، تعلق بالدين .
أجد عندنا كثيرًا من الأخوة الصغار الذين أسمع منهم إجاباتٍ صعبٌ أنْ تُصدَّق، إجابة محكمة دقيقة، بلغة فصيحة، وهم صغار جداً، وهذه علامات نجابة، فكل أب له ابن بهذا المستوى, يجب أن يقف حياته، وإمكاناته, وكل جهوده, من أجل تفجير طاقات ابنه، ليكون امتدادًا له، وليكون خليفة له .
قال بعضهم:
((لقد كاد هذا الغلام أن يكون إماماً في بطن أمه))
وربنا عز وجل له حكمة بالغة، يعطي مؤشرات مبكرة، فترى في الطفل النجيب علائم النجابة في سن مبكرة، نحن يهمنا أن نكشف العبقريات، نكشف الطاقات العالية، نكشف الألمعية في الأبناء، فكل أب يهمل ابنه, والله يعد في حقه مجرماً، لأن الابن أكبر ثروة يملكها الأب, والدليل اسمعوا هذا الحديث:
((خير كسب الرجل ولده))
الإنسان قد يحصل مالاً، يكسب سمعة، تجارة واسعة، مرتبة علمية عالية، ينشئ مسجدًا، يعمر ميتمًا، يؤلف كتابًا، النبي يقول:
((خير كسب الرجل ولده))
من ربّى ولده صغيراً سُرَّ به كبيراً، يدخل على قلب الأب من السرور والبهجة الشيء الكثير, إذا رأى ابنه مؤمناً, مستقيماً، صالحاً، متوازناً، ممّا لا سبيل إلى وصفه, وإذا اختار أن يغترب إلى بلاد المشركين ، واكتشف أن لابنته صاحباً، أو أن ابنه ينحرف انحرافاً خطيراً، أو انحرافاً شاذاً، يدخل على قلبه من الألم ما لا سبيل إلى وصفه، فالآباء إذا أرادوا أن يسعدوا, فعليهم بتربية أبنائهم على القيم الإسلامية، وإذا أرادوا أن ينجوا من الكآبة, فليُرَبُّوا أبناءهم تربية رشيدة حكيمة، لذلك هناك مثل بسيط في التعليم .
إذا كان لدى الطالب امتحان في هذا الكتاب، فيمكنه أنْ يستلقي، ويقرأه تصفحًا، فإذا أمكن أن نعطي للجهد وحدات, نقول: لقد بذل جهداً في قراءة هذه الكتاب، فالقراءة الأولى بنسبة خمسة بالمائة، بعد أن ينتهي من قراءته, لم يذكر ولا كلمة منه، وكأنه لم يقرأه، أما إذا جلس على طاولة، وأمسك بيده قلم رصاص، ولخص كل فكرة، ووضع خطًّا تحت الأفكار الرئيسية، ووضع أسئلة مقترحة في كل فصل، وأعاد الأفكار، وكتبها، فقدْ بذل خمسة وثمانين بالمائة من الجهد، بمعنى أنه يمكن أن يذكر كلَّ أفكار الكتاب .
الشيء نفسه في تربية الأولاد, يمكن أن تبذل جهدًا بسيطًا في تربية الأولاد، كأنْ يسأل الأبُ ابنَه: هل نجحت يا بني؟ فيقول: نعم، نجحت، تسأل والدَه: في أي صف ابنك؟ يقول: واللِه لا أذكر، ثم يسأل ابنَه: يا بني, أنت في أي صف أنت؟ فلا يعرف ابنه في أي صف هو، نجح أم لم ينجح، هذه مشكلة، أما عندما يكون للأب عناية بالغة، ولاسيما في دين الابن، انظر كيف أنّ أكثر الناس يهتمون بدنيا أبنائهم، ولا يهتمون بدينهم، فإذا أهملوا دين أبنائهم، وتفلَّت أبناؤهم من منهج الله, يشبُّون وهم لا يعرفون حق آبائهم، أحياناً أب يقف حياته كلها من أجل ابنه، فيسافر خارج البلاد، ويتزوج بأجنبية، ويأخذ إقامة دائمة، وينسى أباه وأمه ، وكأن الذي ربّاه ما فعل شيئاً، إذًا: الإسلام منهج كامل .
عطر جلستك بذكر الصالحين :
قال بعضهم:
((إني لأتزين بذكر أحمد بن حنبل))
بصراحة هل يوجد رجل منا ليس له سهرة مع أقربائه، أو لقاء، أو وليمة، أو أمسية، أو نزهة؟ لا تجد إنسانًا إلا وعنده أقل من لقاء أو لقاءين في الجمعة مع أقربائه، هذا اللقاء ماذا ينبغي أن تقول فيه؟ هناك موضوعات تبعث في النفس الضيق، التشاؤم، والسوداوية، وهناك موضوعات تزين المجلس، بل إن عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمات، فحاولْ في كل جلسة أن تحدث الناس عن عالم جليل، له أعمال طيبة، له موقف نبيل، له كرم، له شجاعة، له فصاحة، له قوة منطق، حاول أن تذكر أشخاصاً تفوقوا على أقرانهم, ترى أن الناس تعلقوا بهم, واستبشروا .
والحقيقة: أنّ الإنسان إما أن يرتفع، وإما أن يسقط، إذا حدثتنا عن الساقطين نسقط معهم، وإن حدثتنا عن المتألقين نتألق معهم، إن حدثنا عن أناس انحرفوا, لعل الانحراف يُزَيَّنُ لنا، لذلك اجتهدْ أن تجعل في كل مجلس حديثاً عن الصالحين، وصحابة رسول الله يشغلون قمة القائمة .
ماذا تفهم من هذا القول ؟
قال أحدهم:
((دخلت على ذي النون السجن، ونحن بالعسكر، فقال: على أي حال سيدنا))
يعني أحمد بن حنبل، العظيم عظيم .
دخل السجن قالوا: إذا لسعت الحشرة حصاناً, تبقى الحشرة حشرةً، والحصان حصاناً، لا ينتقص من قدر الحصان أنْ لسعته حشرة، ولا يزيد من قيمة الحشرة أنها لسعت حصاناً، الحشرة حشرة, والحصان حصان، العظيم عظيم لو دخل السجن، فقال: على أي حال سيدنا، يعني أحمد بن حنبل .
إليكم ما قاله الدهلي عن الإمام أحمد :
قال الدهلي:
((جعلت أحمد إماماً فيما بيني وبين الله))
أنت مؤمن تسعى إلى الله، فيجب أن يكون الشخص بينك وبين الله قدوة لك، تسأله فيجيبك، وتقتدي بأفعاله، وتتخلق بأخلاقه، وتأنس بالقرب منه، وتذكِّرك رؤيته بالله، فعن عمر بلفظ:
((خياركم الذين إذا رُؤوا ذُكِر اللهُ بهم))
إذا رأى رجل شخصًا شهوانيًّا, تقفز نفسُه إلى الشهوات التي يمارسها، وإذا رأى إنسانًا حجمه المالي كبير, تقفز نفسه إلى بيته, وسيارته، وتجارته، وأرباحه، أما إذا رأيت ولياً لله تذكّرَ اللهَ مباشرةً، عن عمر بلفظ:
((خياركم الذين إذا رؤوا ذكر الله بهم))
ما توصل إليه أحمد من العلوم :
قال النسائي:
((جمع أحمد بن حنبل المعرفة بالحديث, والفقه، والورع، والزهد، والصبر))
ودائماً إنْ التقينا بإنسان علْمُه دقيق جداً، ولكن معاملته غير راقية, نقول: ليت أخلاقه كعلمه، أحياناً تلتقي بإنسان أخلاقه عالية جداً، لكن معلوماته متواضعة، تقول: ليت علمه كأخلاقه، أما هذا الإنسان فقد جمع بين المعرفة بالحديث، وبين الفقه, والورع، والزهد، والصبر، فهذه هي البطولة, لذلك لا ينصر هذا الدينَ إلا مَن أحاطه مِن كل جوانبه، ورع، وزهد، وصبر، وجرأة، واستقامة, وعلم، ومعرفة، وتحقق .
متى تألق الإمام أحمد ؟
عن المزني قال:
((سئِل عن أحمد بن حنبل: متى تألق؟ فقال: يوم المحنة، وأبو بكر يوم الردة، وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعلي يوم صفين))
الإنسان قد يتألق بموقف تألقًا رائعًا جداً، سيدنا أحمد بن حنبل تألق يوم المحنة، محنة خلق القرآن .
انظر إلى نصيحة العلماء فيما بينهم :
قال العباس: سمعت أبا جعفر الأنباري, يقول: لما حُمِل أحمدُ بن حنبل, -يراد به المأمون- أُخبِرتُ فعبرتُ الفرات إليه، فإذا هو في الخان، فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر, تعني -أي أتعبت نفسك- فقلت: ليس هذا عناء، قال: فقلت له: يا هذا, الآن أبو جعفر الأنباري, لما علم أن أحمد بن حنبل, حُمل إلى المأمون, ليعترف أن القرآن مخلوق، وإلا أدخل إلى السجن, أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فو الله إن أجبت إلى خلق القرآن, ليجيبنَّ بإجابتك خلقٌ مِن خلقِ الله كثيرٌ .
في بعض البلاد الإسلامية أفتى عالِمٌ بجواز الفائدة، والإيداع بالبنوك، ففي اليوم التالي أُودِع في البنوك أربعة وثمانون مليارًا، ألم يقل له:
((يا غلام, إياك أن تسقط, قال: بل أنت يا إمام إياك أن تسقط، الغلام قال: إني إنْ سقطتُ سقطتُ وحدي، ولكن إن سقطتَ أنتَ سقط معك العالَم))
بلد إسلامي صدرت فتوى من المفتي بجواز الاستثمار الربوي، فردّ عليه في اليوم التالي ثمانية وعشرون عالماً، لكن الأموال أودعت, وإن لم تُجِب, ليمتنعنّ خلقٌ من الناس كثيرٌ، ومع هذا فإن الرجل –المأمون- إن لم يقتلك، فإنك تموت، ولا بد من الموت، فاتَّقِ الله، ولا تجبهم إلى شيء، فجعل أحمد يبكي، وهو يقول: ما شاء الله، ما شاء الله .
انظر إلى طعام أحمد :
قال صالح بن أحمد بن حنبل ابنه الثاني:
((ربما رأيت أبي يأخذ الكسرة, ويجعلها في قصعة، ويصب عليها الماء، ثم يأكلها بالملح))
كان متقشفاً جداً، وكان يأكل من عمل يده، وكان دخله قليلاً، مع كل هذا العلو في الأرض، ومع كل هذه السمعة الطيبة، ومع كل هذا التعظيم, كان فقيراً .
الصفات الخلقية التي يجمعها الإمام أحمد في نفسه :
الحقيقة: أن الحديث عن هذا العالم الجليل حديث يطول، والأقوال فيه كثيرةٌ جداً، قال :
((كان أبو عبد الله لا يجهل، وإن جُهل عليه حلم، واحتمل، ويقول: يكفيني الله، ولم يكن بالحقود ولا العجول، كثير التواضع، حسن الخُلقِ، دائم البشر، لين الجانب، ليس بفظٍّ، وكان يحب في الله، ويبغض في الله، وإذا كان في أمرٍ مِن الدين, اشتد له غضبه، وكان يحتمل الأذى من الجيران))
وفاته :
يقول عبد الله بن أحمد بن حنبل:
((توفي أبي رحمه الله يوم الجمعة ضحوةً، ودفناه بعد العصر, باثنتي عشرة ليلة من ربيع الآخر، سنة إحدى أربعين ومائتين للهجرة، وصلى عليه محمد بن عبد الله بن طاهر، غلبنا على الصلاة عليه، وكنا قد صلينا عليه نحن والهاشميون داخل الدار))
قال:
((مرض أبو عبد الله تسعة أيام، وكان ربما أذِن للناس, فيدخلون عليه أفواجاً، يسلمون عليه, ويردُّ بيده، وتسامع الناس، وكثروا، فأغلق الباعة دكاكينهم))
وقد قيل:
((مشى في جنازته أكثر من ثمانمئة ألف))
خاتمة الدرس :
أيها الأخوة، الناس بعلمائها، والعلماء بورعهم، ولا يكون العالم عالماً إلا إذا كان ورعاً، أمّا كمعلومات؛ فأيُّ إنسان يحصّل المعلومات، فهي ثقافة، أما قيمته ففي ورعه، والباب مفتوح، وكل إنسان ممكن أن يقتدي بهذا الإمام العظيم، وكلُّ إنسان يمكن أن يطلب العلم، ويتعلَّم, ويرقى عند الله، ودائماً المؤمن طموح، وعلو الهمّة من الإيمان، وهؤلاء الأعلام قدوة لنا, فأرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بهؤلاء الذين مضوا إلى ربهم، وقد تركوا آثاراً عظيمة، والإنسان قيمته بما أحدث من أثر .
ذات مرة أخ من أخواننا حضر فترة طويلة عندنا، ثم توفي، أخبرني ابنه صباحاً توجهت إلى موعد الصلاة عليه في جامع في آخر الحي، فأبَّنه رجل من أهل العلم، ماذا قال؟ قال: أخوكم أبو فلان، كان مؤذناً، ترحموا عليه، أنا دهشت إلى هذا التأبين السريع، إذًا: ماذا سيتكلم؟ هل يتكلم عن مساحة بيته؟ عنده تزيينات من جبصين، أثاث فخم جداً، كل دنياه غير خاضعة للحديث عنه، قلت في نفسي: اعمل عملاً يستطيع المؤبِّن أن يتكلم عنك بأقل مِن خمس دقائق، أنت سوف تؤبن فلانًا، ماذا ستقول عنه؟ إذا لم يكن له عمل صالح، فليس له أثر ، إذًا: فلتكنْ لك خدمة في سبيل الإسلام، لتُذكَر من خلالها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ؛ إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ, أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ, أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ))
مرة سألت طلابي سؤالاً, فقلت: أعطوني اسمَ تاجر كبير, عاش في الشام عام ألف وثمانمائة وخمسة وسبعين، انتظرت دقيقتين, فلم يجب أحد منهم، فقلت لهم: وأنا لا أعرف أحدًا، أما سيدنا عمر، صلاح الدين الأيوبي، أبو حنيفة، الشافعي، أحمد بن حنبل، فهؤلاء الرجال ذِكْرُهم على الألسنة، مِن هنا قال سيدنا علي:
((يا بني، مات خزان المال، وهم أحياء, والعلماء باقون ما بقي الدهر))
يقولون لك: عُقِد قرانٌ في الشيراتون، كلف ستين مليونًا، فالحديث عن هذا العقد، وعن هذا البذخ, حديث بمعرض الذم لا المدح، دفعٌ وذلٌّ، يروون أن إنسانًا دفع ليرةً ذهب، وغداً يدفع ليرتين ليس لها قيمة إلا مع الإخلاص، ومهما أردت أن تنتزع إعجاب الناس بالمال, طريق مسدود، لا ارتقاء فيه .
وقد دعيتُ إلى عقد قران يوم الجمعة عقب صلاة الفجر بمسجد, وكان هناك تجلٍّ عمَّ الحاضرين، ومن دون صالات، من دون تكاليف، فالأمور كلما تبسطت, كلما كانت أقرب إلى الواقع، فاللهم ألهمنا الرشاد والسداد .