- السيرة / ٠5سيرة الأئمة الأربعة
- /
- ٠2الإمام أحمد بن حنبل
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
ماذا تعني كلمة الرباني ؟
أيها الأخوة الكرام، أنهينا في الدرس الماضي موضوع الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وننتقل اليوم إلى إمام ثالث، هو الإمام الرباني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن أحمد بن بلال بن أسد الدهلي الشيباني، أعني ابن حنبل، وأشدُّ ما لفت نظري كلمة الإمام الرباني:
﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾
معنى الإنسان الرباني، أي أنه لا يتحرك إلا بتوجيهات الله، لا يحب إلا لله، لا يبغض إلا لله، لا يعطي إلا لله، لا يمنع إلا لله، لا يصل إلا لله, لا يقطع إلا لله, كل حياته مشغولة بذكر الله, بالدعوة إلى الله, بخدمة الخلق إلى أن يلقى الله، والله عز وجل أمرنا أن نكون ربانيين .
فهناك إنسان رباني، وهناك إنسان شهواني، الشهواني مع مصالحه، مع نزواته، مع غرائزه، مع أهدافه الخسيسة، أما الرباني ينطلق من توجيهات الله، نفسه ليست له، فنيت نفسه في حب الله، يعطي لله، يمنع لله، يسامح لله، يغضب لله، يرضى لله، لا يتكل إلا على الله، لا يرجو إلا الله، لا يعلق الأمل إلا بما عند الله, لا يخاف إلا الله .
أيها الأخوة، يجب أن نكون جميعاً ربانيين .
ما قاله الشافعي عن أحمد :
1- عن ورعه :
قال حرملة, سمعت الشافعي, يقول:
((خرجت من بغداد، وما خلفت بها أفقه، ولا أزهد، ولا أورع، ولا أعلم من أحمد بن حنبل))
شيء في هذه المقولة يلفت النظر، يا ترى, هل دعاتنا يعرف بعضهم قدر بعض, أم يطعن بعضهم ببعض؟ هل هناك إنصاف؟ هل عندك الجرأة الأدبية أن تقول: فلان إنسان جيد، إنسان عالم، إنسان ورع، وأنت عالم مثله، أم توجد عداوة؟ إن لم ننصف بعضنا، إن لم نعرف قدر بعضنا, نسقط جميعاً من عين الله .
2- ما قاله المزني عن أحمد نقلاً عن الشافعي :
وقال المزني: قال لي الشافعي:
((رأيت ببغداد شاباً إذا قال: حدثنا, قال الناس: صدق، قلت: ومن هو؟ قال: أحمد بن حنبل))
أخواننا الكرام، الدعوة إلى الله دعوتان؛ دعوة إلى الله خالصة، ودعوة إلى الذات مغلفة بدعوة إلى الله، الدعوة إلى الله من خصائصها؛ الاتباع، وإنكار الذات، والتعاون، والاعتراف بالفضل، والدعوة إلى الذات المغلفة بالدعوة إلى الله من خصائصها؛ الابتداع، والتنافس، وإنكار الفضل، والطعن في الآخرين، فقبل أن تدعو إلى الله, يجب أن تتأكد ما إن كنت حقيقةً تدعو إلى الله، أم تدعو إلى ذاتك، وأنت لا تدري .
3- ما وصفه الشافعي :
قال الزعفراني: قال لي الشافعي:
((ما رأيت أعقل من أحمد))
بالمناسبة الإنسان لا يزيد عن أن يكون عقلاً يدرك، وقلباً يحب، والنبي عليه الصلاة والسلام بحكمةٍ بالغة, ربط العقل بالقلب, فقال:
((أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً))
ذات مرة ضربتُ مثلاً: لو وضعنا على طاولة قطعة الألماس, ثمنها ثمانية ملايين ليرة، هي بحجم حبة البندق, وكأس كريستال ثمنه ألف ليرة، وقلنا لك: اختَرْ، ألا أستطيع أن أكتشف عقلك من اختيارك؟ .
إذا كان عقلك أرجح, اخترت قطعة الألماس, ثمنها ثمانية ملايين، فعن أبي قتادة:
((أتمكم عقلا, أشدكم لله خوفا، وأحسنكم فيما أمركم به، ونهى عنه نظرا، وإن كان أقلكم تطوعا))
فإذا رأيت إنسانًا كل همه طاعة الله، كل همه التقرب إليه، كل همه موالاة أحبابه ، معاداة أعدائه، كل عطائه لله، كل منعه لله، كل وقته لله، لا يرضى إلا إذا رضي الله، هذا الإنسان إذا قلت له: ما أعقلك! ففعلاً ليس هناك من هو أعقل منه .
يروى أن أبا سفيان لما فتح النبي مكة المكرمة, قال:
((يا محمد, ما أعقلك، وما أرحمك، وما أوصلك، وما أحكمك!))
لذلك لا يمكن أن يسمَّى العاصي عاقلاً، ولو كان يحمل شهادة بورد، أبداً، لا يمكن أن يسمى العاصي عاقلاً، لكن يسمى ذكياً في اختصاصه، في الاحتيال، في كسب المال، في الإيقاع بين الآخرين، هو ذكي جداً، ذكاء شيطاني، أمّا أن يسمى عاقلاً, فلا، إنما الدين هو العقل، وَمَن لا عقل له لا دين له، لمجرد أن تعصي الله, فأنت مدموغ بالغباء والكفر، لقول الإمام الغزالي:
((يا نفس, لو أن طبيباً منعكِ من أكلة تحبينها، لا شك أنكِ تمتنعين- مثل واقعي؛ رجل معه ضغط شرياني، يقول له الطبيب: اترك اللحم، يقول: حاضر طبيب-, يا نفس, أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله؟ -يقول له الطبيب : اترك الملح، فلا يذوق الملح شهرين، بع بيتك، يعرضه للبيع مباشرة- يا نفس, أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله؟ إذاً: ما أكفركِ !! أيكون وعيد الطبيب -يقول له الطبيب: يصبح معك جلطة انتبه- أشد عندك من وعيد الله جهنم؟ -إذًا: الجلطة أشد وأخوف عندك من جهنم-، قال: إذاً: ما أجهلكِ!))
4- الخصال التي كانت في الإمام أحمد :
وعن الشافعي قال:
((أحمد إمام في ثماني خصال؛ إمام في الحديث، إمام بالفقه، إمام في القرآن، إمام في اللغة، إمام في السنة، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في الفقر))
أما عند الفقر, فهناك تعليق جيد, يقول التجار: إذا لم تملك مكتبًا فخمًا، وسيارة غالية, فلا تستطيع أن تعمل، ولا بد لك من سمعة كبيرة، وهذه أثرها خاص بالتجارة، هذه الكلمات تشير إلى مظهر الغني، مكتب فخم، ومركبة فخمة، ومظاهر فخمة، فترى الناس يشترون، ويوكلونك وكالات، ويثقون بك، أما عند العلماء فبالعكس، كلما كان العالم أكثر زهداً, ارتفع عند الله، لأنه إذا انغمس في الرفاهية, لم يصدقه الناس، ولو ادعى الورع والزهد .
((يا محمد, أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً؟ قال: بل نبياً عبداً، أجوع يوماً فأذكره، وأشبع يوماً فأشكره))
فإذا رأيت عالمًا حياته خشنة، ووسط، فهذا وسام شرف له، لأنه الورع حسن، لكن في العلماء أحسن، والسخاء حسن، لكن في الأغنياء أحسن، والتوبة حسنةٌ، لكنها في الشباب أحسن، والحياء حسن، لكن في النساء أحسن، والصبر حسن لكن في الفقراء أحسن، والعدل حسن لكن في الأمراء أحسن .
ورد عن النبي أنه قال:
((الفقر فخري، والزهد حرفتي, واليقين قوتي، والعلم سلاحي, والمعرفة رأس مالي، والرضى غنيمتي، وذكر الله أنيسي))
مناسبة هذا القول لمضمون الفقرة :
قال بعض العلماء:
((لو أحمد بن حنبل لم يبذل نفسه لِما بذلها له, لذهب الإسلام))
وهناك أمرٌ خطير وقع في عصر الإمام أحمد بن حنبل، فقد شاعت بدعة لا أصل لها، وهي أن القرآن مخلوق، وقد اعتنق هذه البدعة الخليفة، وأي عالم لا يقر أمام الناس بهذه البدعة, يُقتل, ويسجن، ويعذب، وأكثر علماء زمانه قالوا: القرآن، والإنجيل، والتوراة، والزبور, كلها مخلوقة، كما تريدون، والقائلُ منهم يقصد أصابعه عندما يَعُدُّ هذه الكتب، ومَن قال كذلك سلِم من العذاب، إلا الإمام أحمد بن حنبل، فقدْ رفض أن يقر بهذه البدعة، فدخل السجن، وضرب، وعذب سنوات عدة، إلى أن أكرمه الله، وأظهر الحق على يديه .
قال بعض العلماء:
((لو أحمد بن حنبل لم يبذل نفسه لِما بذلها له, لذهب الإسلام))
لذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى, رأى طفلاً صغيرًا أمامه حفرة، كاد أن يقع فيها, فقال له:
((إياك يا غلام أن تقع, فقال: بل إياك أنت يا إمام أن تقع، إني إن وقعتُ وقعتُ وحدي، ولكن إنك إنْ سقطتَ, سقطَ العالَمُ معك))
أحيانًا تكون الأنظار معقودة بعالم يسقط, فيسقط الناس معه، يخيب ظنهم، أحياناً تُعلِّق الآمال على عالم، فإذا تكلم بخلاف قناعته سقط، لذلك قال تعالى:
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾
لماذا ضَنَّ الله عز وجل على هؤلاء الدعاة بالصفات الكثيرة؟ أليسوا صادقين؟ ألم يذكر أنهم صادقون؟ ألا يصلُّون؟ ألا يصومون؟ أليسوا أمناء؟ لماذا ذكر ذلك؟ قال تعالى:
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾
يخشونه فقط، لأنّ هذه الصفة اسمها في البلاغة: صفة مترابطة مع الموصوف ترابطًا وجوديًّا، فإذا ألغينا الصفة, ألغينا الموصوف .
تقول: الطائرة كبيرة، والبيت كبير، صفة عادية، قل: غالية الثمن، واليخت أيضاً غالي الثمن، قل: فخمة، والباخرة فخمة، لكن قل: تطير، فهذه الصفة تنفرد بها الطائرة، فإذا ألغيناها ألغينا الطائرة، الطائرة التي وضعت قرب مسجد الشيخ رسلان, هل تطير؟ هذه مطعم، وليست طائرة، كانت طائرة قبل هذا، ما دامت أنها لا تطير, فإذاً ليست بطائرة، بل هيكل طائرة، وربنا عز وجل لما ذكر الذين يبلغون رسالات الله، ما ذكر من صفاتهم إلا صفة واحدة، هي أنهم يخشون الله، ولا يخشون أحداً إلا الله، فإذا تكلموا بالباطل إرضاءً لمن يخشونه، وسكتوا عن الحق إرضاءً لمن يخشونه، فماذا بقي من دعوتهم؟ انتهت، ليس لنا علاقة باستقامتهم، إنه صائم، ويصلي، صادق، أمين، يهمنا إن سكت عن الحق إرضاءً لمن يخشاه, أو نطق بالباطل إرضاءً له, انتهى أمره، فهذه صفة مترابطة مع الموصوف ترابطًا وجوديًّا, قال تعالى:
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾
الدرجة العلمية التي توصل إليها الإمام أحمد :
أحمد بن حنبل إمام الدنيا، هو إنسان مؤمن، مؤمن كبير، عالم جليل، فقيه، ثم يصل إلى أعلى مرتبة؛ إمام الدنيا .
في الكتب أحيانا يقول لك المؤلِّف: فريد عصره، ووحيد زمانه، الإمام أحمد بن حنبل وصل إلى أعلى درجة، ورغم ذلك جاءه وفد من المغرب معه ثلاثون سؤالاً، طرحوها عليه, فأجاب عن سبعة عشر سؤالاً، والباقي قال لهم: لا أدري، فقالوا: هل من المعقول أنّ الإمام أحمد لا يدري؟ قال لهم: قولوا لمن أرسلكم: إنّ الإمام أحمد بن حنبل لا يعلم .
العلم هكذا، كلمة (لا أعلم) وسام شرف، هل تصدقون أن الذي يعلم كل شيء لا يعلم شيئاً؟ يجب أن تكون دقيقًا في كلامك، سألوك سؤالاً دقيقًا في الفقه, اتركه للغد، راجعه ، لا تتسرع، وإنْ تعطِ جوابًا سريعًا تصغر، كلمة (لا أعلم) أفضل مليون مرة من أن تعطي فتوى غير صحيحة، لأنه تعلق الناس بك ليس شيئًا قليلا، وأنا عندي سواء أن يحرِّم شخص حلالاً، أو أن يحلل حراماً، فهما سيان، وهذا شيء يمكن أن يكون .
بالمناسبة أي إنسان يقول لك: هذا حرام, فشيءٌ سهلٌ، أما أن يقول لك: حلال، فلا بد أن يعطيك الرخصة والدليل، فقبل أن تقول: حلال أو حرام, عُدَّ إلى المليون، وارجع إلى المراجع، أو اسأل، وهذه نقطة مهمة جداً .
ما هي القدرة الذهنية التي كان يتمتع بها الإمام أحمد, وهل كان يستعين بكتاب حينما يحدث ؟
قال علي بن المديني:
((ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل, وبلغني مع ذلك أنه كان لا يحدث إلا من كتاب))
هذا الذي أمامك أمانة في عنقك .
سمعت عن خطيب أنه قادر على أنْ يلقي خطبة، ولو كان يستلقي على الفراش ، لشدة ثقافته وتمكنه، ومع ذلك لا يلقي على الناس خطبةً إلا من ورقة، فقالوا له: لماذا يا سيدي؟ قال: لأن هذه الخطبة أمانة, سوف أحاسب عنها, كلمةً كلمة، وحرفاً حرفاً .
مرة سألوا أحد رؤساء الجمهوريات في أمريكا: كم تعِدُّ لخطاب يلقى في عشر دقائق؟ قال: عشر ساعات، كم تعِدُّ لخطاب يلقى في ساعة؟ قال: ساعة، كم تعد لخطاب يلقى في ثلاث ساعات؟ قال: لا أعدُّ له إطلاقاً، عند ذلك أقول كلَّ ما يخطر على بالي, والله عز وجل جمع لك الناس، وقال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
مَن جمع لك الناس؟ الله عز وجل، إنّهم لم يأتوا رغبةً في شخصك، بل جاؤوا ينفذون أمرًا إلهيًّا، فما دام الله عز وجل هو الداعي, فكيف يكون إعدادك للخطبة؟ لا بد من إتقانها الإتقان كله .
قال علي بن المديني:
((ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وبلغني مع ذلك أنه كان لا يحدث إلا من كتاب))
ولنا به أسوةٌ حسنة، إن هذا العلم دين، حديث حديث، آية آية، تفسير دقيق، ضبط للنصوص، شرح أصولي، لأن هذا أمانة، إن هذا العلم دين, فانظروا عمن تأخذون دينكم .
((ابن عمر دينك دينك، إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا، -استقامت عقيدتهم، واستقامت نصوصهم، واستقامت أخلاقهم-, ولا تأخذ عن الذين مالوا))
أمر وجه من الإمام أحمد إلى علي بن المديني :
قال علي بن المديني:
((أمرني سيدي أحمد بن حنبل ألاَّ أحدث إلا من كتاب))
مرة سيدنا عمر قال:
((كنت قد أعددت كلاماً قاله عني أبو بكر))
قال خطيب يومًا: أصعد إلى المنبر, وليس في ذهني ما أقوله، وأتركه على التيسير.
مرة قال لي شخص حضر خطبة: فتح ثمانية وعشرين موضوعًا، ولم يغلق واحدًا، خطر له خاطر قاله، وهذا خطأ فادح، حدثنا رجل توفي رحمه الله، له أب من رواد مسجد، يلاحظ شخصًا في أثناء الخطبة, يجلس على الباب الخارجي للمسجد، يتسلى مع المارة، والخطيب على المنبر، هل هذا معقول, والخطيب على المنبر؟! فجاء, وقال له: يا رجل، أنت مسلم، وحرام عليك ما تفعله، والخطبة مستمرة، والخطيب على المنبر، قال له : أنت مِن كم سنة لك في الجامع؟ قال له: ست سنوات، قال له: أنا منذ ثمانية وعشرين عامًا، فاذهبْ وأحْضِرْ لي كلمة من كلام الخطيب, حتى أكمل لك الخطبة كلها، فمنذ ثمانية وعشرين عامًا لا يوجد في الخطبة تجديد ولا جديد .
إذا كان الله عز وجل هو الذي دعا الناس إلى المسجد، فينبغي أن تعد كلامك، وإعداد الكلام احترام للحاضرين، واحترام لوقتهم، واحترام لمجيئهم، ولأشخاصهم، لأنهم اختاروك على غيرك .
أحمد بن حنبل حجة الله على خلقه :
قال أحد العلماء:
((أحمد بن حنبل حجة الله على خلقه))
يعني لو فرضنا أن الفساد عمَّ، والناس كلهم مدُّوا أيديَهم إلى الحرام، وأحد الناس يعاني من أشد أنواع الفقر، وما مد يده، فهذا حجةٌ على مَن حوله .
أحيانا يعمُّ الفساد، ويقول لك رجل: أنا أعمل بقدر الراتب، لو وجدت إنسانًا مِن ذوي الراتب المحدود يعمل بإخلاص, فهذا الإنسان حجةٌ على مَن حوله .
كل الناس يطلقون أبصارهم في الحرام، وشاب في مقتبل العمر, يغض بصره غضاً حازماً, نقول هذا الشاب: حجةٌ على الشباب، والله عز وجل في كل زمان له أولياء, هم حجةٌ على من عاصرهم، معظم الناس انحرفوا، وفلان لماذا لم ينحرف؟ .
في الزراعة قاعدة لطيفة: أنت بعت بذورًا لخمسين فلاحًا، وجاءك ثلاثة منهم يقولون: ما نبت البذر، لكنَّ واحدًا نبت عنده البذر نباتًا جيدًا، فهذا الواحد حجة على مائة، ويكون الخطأ منهم، لأنه لو كان الخطأ من البذر لما نبتتْ بذرة واحدةٌ، فالخطأ بالمزارع، لأنّ مزارعًا آخر نبت عنده البذر نباتًا جيدًا، فمعنى هذا: أن هذا المزارع حجة على بقية المزارعين .
الأنبياء حجةٌ على الخلق، فمن هو النبي؟ النبي بشر، ولولا أنه تجري عليه كل خصائص البشر, لما كان سيد البشر، يحب كما نحب, ويشتهي كما نشتهي، ويغضب كما نغضب، ويخاف كما نخاف، ويرجو كما نرجو، ويجوع كما نجوع .
قال عليه الصلاة والسلام:
((أوذيت بالله وما أوذي أحد مثلي، وخفت بالله وما خاف أحد مثلي، ومضى علي ثلاثون ما بين يوم وليلة, لم يدخل جوفي إلا ما يواريه إبط بلال))
إذًا: جاع النبي، وخاف، قال تعالى:
﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ﴾
هذا سيدنا موسى خرج من مصر خائفًا، فالنبي يشبع ويجوع، ويرتوي ويظمأ، ويطمئن، لولا أن النبي عليه الصلاة و السلام تجري عليه كل خصائص البشر, لما كان سيد البشر .
اصغ السمع لهذا القول :
قال أبو الحسن الميموني، قال لي علي بن المديني بالبصرة قبل أن يمتحن، وبعد ما امتحن أحمد بن حنبل، وضرب، وحبس، وأُخرج:
((يا ميموني, ما قام أحد في الإسلام ما قام به أحمد بن حنبل، فتعجبت من هذا عجباً شديداً, وأبو بكر الصديق رضي الله عنه, و قد قام في الردة، وأمر الإسلام ما قام به، قال الميموني: فأتيت أبا عبيد القاسم بن سلام, فتعجبت إليه من قول علي, قال: فقال لي أبو عبيد مجيباً: بأي شيء يا أبا عبيد ذكرت له أمر أبي بكر؟ قال: إن أبا بكر وجد أنصاراً، وأعواناً، وأن أحمد بن حنبل لم يجد ناصراً واحداً))
عندما امتحن ، ودعي إلى أن يقر أنَّ القرآن مخلوق, لم يجد ناصراً واحداً، ضحى بحياته، وقال: أنا لا أقبل، هذه عقيدتي، ودخل السجن، وعُذب، وضُرب بالسياط، ولم يكن له ناصر .
من هنا قال عليه الصلاة والسلام:
((اشتقت لأحبابي، قالوا: أو لسنا أحبابك؟ قال: لا, أنتم أصحابي, أحبابي أناس يأتون في آخر الزمان, الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ, كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، أجره كأجر سبعين، قالوا: منا أم منهم؟ قال: بل منكم، قالوا: ولمَ؟ قال: لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون))
إذا أحَبَّ الشاب في زماننا أن يستقيم, فأولُ مَن يعارضه أهلُه، المسلمون الذين يصلون في المساجد, منهم مَن يريد اختلاطًا، غناء، أجهزة لهو، هكذا، فإذا كان سيدنا أحمد بن حنبل له موقف رائع، وهو أنه حينما نطق بكلمة الحق، و لم يعبأ بأحَدٍ، ولم تأخذه في الله لومة لائم، لم يجد ولا ناصراً واحداً، لكن الله كان معه ثم نصره .
ما قيل عن أحمد :
قال أبو جعفر:
((كان أحمد بن حنبل من أعلام الدين))
وقال بعضهم:
((ما رأيت أحداً أجمع لكل خير من أحمد بن حنبل))
أنا أردت من هذه الدروس الخمسة أو الستة, أن تقول: إنْ قلت: فلان حنبلي، فلان شافعي، فلان حنفي، فلان مالكي، أنْ تدرك أنّ هؤلاء أعلام كبار، هؤلاء جمعوا بين العلم والعمل، جمعوا بين العلم والعبادة، بين العلم والطهر، بين العلم والإخلاص، هؤلاء قدوة لنا، وهم علماء كبار، وخلاصة الأُمّة .
والإمام الحسن البصري، وأنتم جميعا تعرفون قصته، لما أدى واجب العلم، وتحدث في عهد الحجاج بكلام أغضب الحجاج، قال لمن استمع لكلامه:
((يا جبناء، والله لأسقينَّكم من دمه، أول شيء طلب السياف ليقطع رأسه, ثم قال: ائتوني به .
دخل الإمام الحسن البصري رأى الحجاج غاضباً، والسياف جاهز والنطع, تمتم الحسن البصري بكلمات ما فهمها أحد، ثم وقف الحجاج، واستقبله، وقال له: أهلاً بأبي سعيد، وأدناه من مجلسه، ثم أجلسه على سريره، وما زال يدنيه منه، ويثني عليه, حتى قال له: يا أبا سعيد! أنت سيد العلماء، ثم عطره، واستفتاه، وأكرمه، وضيفه، وشيعه .
نظر السياف، -لماذا أحضرتموني إذًا؟- فلحقه الحاجب، وقال له: يا أبا سعيد, لقد جيء بك لغير ما فعل فيك، فماذا قلت لربك؟ قال له: قلت: يا ملاذي عند كربتي، يا مؤنسي في وحشتي، اجعل نقمته علي برداً وسلاماً, كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، فاستجاب الله له، وألقى في قلب الحجاج هيبته وتعظيمه))
أخواننا الكرام، مَن هاب الله, هابه كل شيء، جرِّبْ، لا تخش إلا الله، وسيسبغ الله عز وجل عليك الهيبة والجلال .
يروون قصة سمعتها من رجل, لا يزال حيًّا يرزق، هذا الرجل يكون والده التلميذ الأول للشيخ بدر الدين الحسني، الذي أرسل إليه السلطان عبد الحميد الصدر الأعظم, الدولة العثمانية كانت تبسط سلطانها على الدول العربية كلها، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، مدة أربعمائة عام, وهي دولة تحكم دول شمالَ أفريقيا بأكملها، والشرق الأوسط بأكمله، والعراق, وإيران, والحجاز، فما قيمة صدرها الأعظم -رئيس وزارتها-؟ شخصية كبيرة جداً، فلهيبة الشيخ بدر الدين عند السلطان, أرسل له الصدر الأعظم, يدعوه لحضور احتفال في استانبول.
ركب البارجة، وتوجه نحو بيروت، ثم ركب مركبة إلى دمشق، ودخل على الشيخ, ينقل له دعوة السلطان, لحضور الاحتفال في استانبول، قال له: يا با, أنا لا أحب هذه الزيارات، من شدة هيبته, كان إذا رفض شيئاً, لا يجرؤ أحد أن يعيد عليه الطلب، وكذا الحال إنْ قلت: ليس لديّ رغبة، وأنا مشغول، ومع ذلك يسحبونك بسيف الحياء، شئتَ أم أبيت، سلم عليه، واعتذر منه .
رجع هذا راكبًا البارجة، ووصل إلى الإسكندرون، ثم تذكّر أنّ الصدر الأعظم، يأتي إلى الشام، ويدعو عالماً، ثم يذهب معه، فكَبُرَت عليه أن يرجع خائبًاً، فقرر أنْ يرجع، ويأخذه بالقوة، فرجع خمسة أيام أخرى بالبحر، وصل للشام, دخل عليه، وكان يصلي، فسلم، وقال له: يا با, أنت رجعت، فارتبك، وقال له: نسيت أن أقبل يدك سيدي، فرجعتُ لأقبِّلها، فدَقِّق النظر رعاك الله .
على قدر الطاعة، على قدر الاستقامة، على قدر الإخلاص, يلبسك الله ثوبَ التقوى والهيبة، وأحياناً تجد رجلاً ليس له قدر أبداً، لكثرة معاصيه وتقصيره، فمن اتقى الله, هابه كل شيء .
الظاهر بيبرس، هذا القائد الذي ردّ المغول، من أكبر القواد، ردّ أكبر هجمة تترية على المسلمين وبلادهم، قال:
((واللهِ ما استقر ملكي, حتى مات العز بن عبد السلام، لشدة هيبته))
سؤال وجه إلى بشر بن الحارث :
قلت لبشر بن الحارث:
((ألا صنعت كما صنع أحمد بن حنبل، عندما وقف موقفاً حازماً من موضوع خلق القرآن؟ فقال: تريد مني مرتبة النبيين, لا يقوى بدني على هذا، حفظ الله أحمد بن حنبل بين يديه، ومن خلفه، ومن فوقه، ومن أسفل منه، وعن يمينه، وعن شماله، فالله قد حفظه))
إذا كان الله معك فمن عليك, وإذا كان عليك فمن معك؟ .
انظر إلى هيبة الإمام أحمد في قلوب الخلق :
قال بعضهم: سمعت بشر بن الحارث, يقول: سئل عن أحمد بن حنبل بعد المحنة فقال:
((أأنا أسأل عن أحمد بن حنبل؟ أُدْخِلَ الكير - أي السجن- فخرج ذهباً أحمر))
أي خرج ذهباً، ولماذا الألماس غالٍ؟ هناك قطعة ألماسٍ بثمانية ملايين، حجمها قدر حبة البندق, لماذا؟ لأن الألماس أساسه فحم، ولكنه تحمل ضغطاً بشكل غير معقول، ضغطٌ وحرارة, حوَّلت الفحم ألماسا، فكل واحد منا إذا تحمل ضغطاً وحرارة يصبح ألماسا، لا تصبح ألماسا إلا تحت الضغوط الشديدة، والاستقامة، والتحمل، فأنت معد لجنة عرضها السموات والأرض، هذه لا تأتي بركعتين بلا وضوء، ولا بليرتين تعطيهما فقيرًا، لا بد من انضباطٍ كاملٍ، يصحبه صبرٌ، قال تعالى:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾
مستحيل لا بد مِن فتنة، قال: أُدخِل الإمام أحمد الكير، فخرج منه ذهباً أحمر ، لذلك:
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
بعض الأئمة قال:
((بستاني في صدري، ماذا يستطيع أن يفعل أعدائي بي؟ إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي؟))
لذلك قال بعضهم:
((في الدنيا جنة, مَن لم يدخلها, لن يدخل جنة الآخرة))
أية جنة في الدنيا؟ جنة القرب، أنت استقمْ على أمره، وأطِعْه، وأخلص له، ثم انظر كيف يقربك, و كيف يسعدك, وكيف يدافع عنك, وكيف يلقي عليك ثوب الهيبة؟ .
من علامة الحب والبغض لأحمد بن حنبل :
قال بعضهم:
((إذا رأيتم الرجل, يحب أحمد بن حنبل, فاعلموا أنه صاحب سنة))
فعَن سَلْمَانَ, قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((يَا سَلْمَانُ, لا تُبْغِضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَكَ، قَال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ أُبْغِضُكَ وَبِكَ هَدَانَا اللَّهُ؟ قَالَ: تُبْغِضُ الْعَرَبَ فَتُبْغِضُنِي))
هذا كلام غير معقول، أنْ يبغض رسول الله، مثلاً قال:
((حب الأنصار مِن الإيمان، وبغضهم من النفاق))
إنسان مؤمن، مخلص، مُتَفَانٍ في محبٌّ لله، متفان في طاعته، إن كنت تكرهه, فهذه علامة نفاق، وإن كنت تحبه, فهذه علامة إيمان .
قال:
((إذا رأيتم الرجل, يحب أحمد بن حنبل, فاعلموا أنه صاحب سنة، -مطبق للسنة- وإذا رأيت الرجل, يقع في أحمد بن حنبل, فاعلم أنه مبتدع، إذا وُجِد إنسان يكرهه فاعلم أنه مبتدع))
نحن الآن عندنا سنة نبوية مطهرة، فلو أنّ إنسانًا أعطاك توجيهًا خلاف السنة، و أنت قبلت هذا التوجيه، ورفضت السنة، فهل عندك إيمان؟ لا والله لا إيمان لك، هل يعلو عندك إنسان على رسول الله؟.
قال لي أخ, كان في مؤتمر مفتي دولة بأوروبا الشرقية، يضع خاتمَ ذهبٍ كبيرًا قال: جلس قريبًا مني، قال له: يا أستاذ، يا إمام, الذهب حرام على الرجال، وذكر له حديثًا لرسول الله، فقال له: هناك قول للإمام أبي حنيفة بالجواز، قال له: هل هذا معقول؟ قال له : عجيب أمرك! أنا أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: قال الإمام أبو حنيفة، إذاً: لا يعرف الفرق بين الرجلين .
يقول الإمام الشافعي:
((الحديث مذهبي، فإذا جاء الحديث خلاف كلامي, فاضربوا بكلامي عُرض الطريق))
الحديث قاعدة، أنا أؤكد على هذا، لو تلقيت توجيهاً من أكبر إنسان في الأرض، افرضه من شيخك، ووجدت حديثاً صحيحاً خلاف كلام شيخك، فماذا تعمل؟ يجب أن تلقي بكلام شيخك عُرض الطريق، وأن تأخذ بحديث رسول الله، هذا هو الإيمان، قد يكون مخطئًا، فهو ليس معصوماً، والأصل في التشريع قولُ النبي عليه الصلاة والسلام، فكل واحد منكم يتلقى توجيهاً يخالف توجيهات النبي، ثم ينفذِّها، ولا يعبأ بتوجيهات النبي, فكأن الإيمان قد خُلِع من قلبه، النبي معصوم بأقواله، وأفعاله، وإقراره، وأحواله، لا ينطق عن الهوى، كلامه وحي غير متلو، بنص القرآن الكريم، قال تعالى:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
ما الأشياء التي حصل عليها أحمد بن حنبل ؟
وقال بعضهم:
((ما أعلم في أصحابنا أفقهَ منه، وما رأيت أكمل منه، اجتمع فيه فقه, وزهد، وأشياء كثيرة، وما رأيت مثله في فنون العلم، والفقه، والزهد، والمعرفة، وكل خير، وهو أحفظ مني، وما رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ منه))
الإنسان لماذا يحسد؟ إذا قلت لي الحسد جبلة بالإنسان، أنا لي اعتراض، من خلق هذه الجبلة؟ هل مِن أحَدٍ غير الله ؟ لماذا خلق هذه الجبلة في الإنسان؟ وهل الله عز وجل يخلق في الإنسان صفة سيئة، ويحاسبه عليها؟ مَنْ عنده جواب على هذا السؤال؟ الله أقره وقال:
﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾
أصل الحسد حيادي، لمَ خلقه الله في الإنسان؟ خلَقَهُ مِن أجل أنْ يغار من أخيه، من أجل أن يتنافس معه في الخير، نحن نقرأ عن أحمد بن حنبل، ألا يجب أن نغار، ونكون مستقيمين، ورعين، نتعلم، نعلم، نقف موقفًا جريئًا لا نتخاذل، والحقيقة: أنّ الحسد انحرافٌ للغيرة المشروعة، كيف أنه يوجد زواج وزِنا؟ ربنا سبحانه هو الذي صمم الأنثى ، فلماذا صممها؟ لتكون زوجة، هل صممها لتكون عاهرة؟ لا، هذا انحراف، وهي حيادية ، فقدْ أعطاها صفاتها لتكون زوجةً .
وحينما خلَقَ ربنا في الإنسان روحَ التنافس، أو تسميه تنافسًا، تسميه غيرة، تسميه حسدًا، تسميه غبطة، هلْ أتألّم إنْ سمعتُ عن رجل فاقني؟ لا، بل يجب أن أكون مثله، أصل هذه الجبلة مشروع، وجيد جداً، إما أنْ تنحرفَ هذه الجبلة عند أهل الدنيا فتكون حسداً، وإما أنْ تستقيم عند أهل الدين فتكون غبطة .
فالعلماء قالوا: المؤمن يتمنى أن يكون كمن تفوق عليه في أعمال الآخرة، إنسان حفظ كتاب الله، إنسان طلب العلم، علم العلم، الله رفع شأنه، أنتَ تألمتَ لأنك دونه، فحثثتَ الخطا كي تكون مثله .
الحصيلة العلمية التي توصل إليها الإمام أحمد في العلوم :
قال:
((أحصينا استشهادات أحمد في العلوم, فوجدناه يحفظ سبعمائة ألف حديث، أحد العلماء جمعوا كتبه، وقسموا صفحات كتبه على حياته، فكان يكتب كل يوم تسعين صفحة، منذ أن ولد حتى مات))
أنت كم صفحة تقرأ في اليوم؟ يجب أن نغار جميعًا، قال تعالى:
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾
﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾
وإن قلت: أنا عندي عمل شاق، نقول لك: نظِّمْ وقتك، إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، نظم وقتك، لا بد من أن تقتطع من وقتك الثمين وقتاً لمعرفة الله، وقتاً لمعرفة منهجه، وقتاً لطلب العلم, وقتاً لتربية أولادك، وقتاً كي ترقى به عند الله .
هناك نقطة أحب أن أعلق عليها تهمنا جميعاً:
لو تخيلنا رجلاً سافر إلى بلد أجنبي ليأخذ دكتوراه، وهو فقير، فلو أخذ دكتوراه في اختصاص نادر جداً، يرجع ليشغل أعلى منصب في بلده، ويتقاضى أعلى دخل، هذا مثل افتراضي، نحن نركز على المثل، يرجع رأساً ليسكن أفخر بيت بالشام، وله في المصيف بيت، ويركب أفضل سيارة .
فهناك يجب أن يعمل في بلاد الغرب ويدرس، وجد عملاً مثلاً بألف فرنك لمدة ساعتين, فهذا دخلٌ يكفيه، وجد عملاً لأربع ساعات، ولكن الأجر بأربعة آلاف فرنك، واللهِ هذا أفضل، وجد عمل لست ساعات بستة آلاف فرنك، وجد عملاً ثماني ساعات، وهو يفرح بهذا الدخل الاستثنائي، ولكن على حساب الدكتوراه والعلم، ثم لو وجد عملاً كحارس لأربع وعشرين ساعة بعشرين ألف فرنك, فهل يكون رابحًا بها؟ .
دققوا في المثل، أي إذا كان عملك قد امتص كل وقتك، وأعطاك مليونًا, فأنت أكبر خاسر، عندئذ ألغيتَ وجودك، وألغيت هويتك، كيف تعرف الله؟ كيف تعبده؟ كيف تدعو إليه؟ فالدخل إذا كبر جداً على حساب الآخرة, أصبح أكبر خسارة، لا بد من وقت فراغ، يجب أن تنفقه في طاعة الله .
من أخلاق الإمام أحمد بن حنبل :
قال:
((قدم صديق لنا من خراسان، فقال: إني اتخذت بضاعة، ونويت أن أجعل ربحها لأحمد بن حنبل، فكان ربحها عشرة آلاف درهم، أردت حملها إليه، ثم قلت: حتى أذهب إليه، فأنظر كيف الأمر عنده؟ ذهبت إليه, فسلمت عليه، فقلت: فلان، فعرفه، فقلت: إنه ابتاع بضاعة، وجعل ربحها لك، وهو عشرة آلاف درهم، فقال: جزاه الله عني خيراً، نحن في غنى وسعة، وأبى أن يأخذها))
لقد كان إماماً في الفقه والتعفف والتجمل, وبهذا يرقى الإنسان، أبى أن يأخذها .
قال:
((حُمل إلى الحسن ميراثه من مصر مائة ألف دينار، فحمل إلى أحمد بن حنبل ثلاثة أكياس، كل كيس ألف دينار، فقال: يا أبا عبد الله! هذا من ميراث حلال فخذها, فاستعن بها على علتك، قال: لا حاجة لي بها, أنا في كفاية, فردَّها، ولم يقبل منها شيئاً))
وهذا بعض ورعه .
رحم الله أحمد بن حنبل، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا .