الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس العشرين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية التاسعة والستين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يُضِلُّونَكُمۡ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ (69)﴾
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ:
1 ـ الإنصاف الرباني مع أهل الكتاب:
﴿وَدَّت﴾ يعني رغبت، تمنت ﴿طَّآئِفَةٌ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ دائماً وأبداً القرآن الكريم يعلمنا الحكم الموضوعي، لم يقل الله عز وجل: ود أهل الكتاب، لو أن واحداً منهم لا يتمنى ذلك فرضاً، ورأى نفسه مشمولاً بهذه التهمة لابتعد عن هذا الدين، لكن الله عز وجل يعلمنا كيف ندلي بأحكام دقيقة صحيحة، وجزء كبير من علمك أن تقيّم من حولك وفق أسس سليمة، أما هذا الذي إذا أحب يجعل هذا المحبوب ملَكاً لا يخطئ، وإذا أبغض يجعله مجرماً فهذا إنسان عامي، ودائماً التعميم من العمى الأعمى يُعمّم، أما البصير فلا يُعمّم، علمك لا يعني أن يكون الدماغ محشوّاً بمعلومات لا تنتهي، علمك ينبغي أن يكون في مظهره العملي إنصاف، وتقييم موضوعي.
2 ـ التقييم الأخلاقي الصحيح دليل العلم:
وقد ذكرت لكم من قبل أن الموضوعية في الوقت نفسه قيمة علمية وقيمة أخلاقية، والأخلاق والعلم يلتقيان في الموضوعية، فإذا قيمت الإنسان تقييماً صحيحاً فأنت أخلاقي، وأنت إذا قيمته تقييماً صحيحاً فأنت علمي، فأنت تنتمي إلى العلم، وتنتمي إلى الخُلُق إذا قيّمت من حولك تقييماً دقيقاً أخلاقياً.
أما هذا الذي ينحاز انحيازاً أعمى، الجهة التي انحاز إليها يراها فوق البشر، والذي تركها يراها دون البشر، فهذا إنسان غير متوازن، فينبغي إن سُئلت عن جهةٍ، أو عن إنسانٍ أن تذكر ما له وما عليه.
النبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى صهره زوج ابنته زينب مع الأسرى، وكان مشركاً، وجاء ليحارب، ولو أتيح له لقتل، ولو انتصر لقتل، قال النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه:
(( حَدَّثَنِي وَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي. ))
كصهر ممتاز، لكن انظر إلى هذا الحكم الموضوعي، الله عز وجل يقول: ﴿وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ يعني بعضهم، وأنت في حديثك ابتعد عن التعميم، قل: بعض هؤلاء، بعض المسلمين، قل: بعض المحامين، بعض الأطباء، بعض المدرسين، بعض المهندسين، بعض الأغنياء، أما أن تقول: الأغنياء كذا وكذا... فهذا كلام غير موضوعي، والله هناك غني تتمنى أن تكون غنياً مثله من شدة سخائه، وتواضعه، ومحبته للخير، وقد وظف ماله كله في سبيل الحق.
لنعوِّد أنفسنا ألا نطلق أحكاماً جائرةً، ألّا نطلق أحكاماً عامةً، لنعوّد أنفسنا ألا نعمم، بل نخصص.
3 ـ قل: أحسب فلاناً كذلك، ولا أزكّي على الله أحداً:
هناك ملاحظة أخرى، أنت مقتنعٌ أن فلانًا جيد جداً، أو أن فلانًا سيئ جداً، قل: فيما أعلم، فيما يبدو لي، قل: أنا لا أزكي على الله أحداً، الله أعلم بما في النفوس، ولكن أنا أرى كذا، هذا الحكم الذي فيه تحفُّظ حكم رائع جداً، فمن جهة لا تعمم، ومن جهة جزء من علمك يُعدّ إنصافاً في أحكامك، إذا كنت منصفاً في أحكامك فأنت على شيء من العلم، أما إذا كنت متطرفاً في أحكامك، تغالي، تبالغ.
إنّ المؤمن لو جاءته إساءة من مؤمن يبقى على محبته، ولو جاءه خير من منافق يبقى على بغضه، هذا شيء دقيق جداً، لو أن مؤمناً اجتهاداً، أو خطأً، أو سهواً أساء إليك، وهناك أشخاص إذا أساء إليه إنسان يجعله كافراً، يكيل له الصاع عشرة، يخرجه من دينه، وإذا أعطاه إنسان شيئاً من الدنيا يجعله فوق الملائكة، وهو ليس كذلك، هذا الحال التذبذبي يمدح بلا حدود، ويذم بلا حدود، هذا موقف لا يليق بالمؤمن، المؤمن إذا سئل يجيب إجابةً فيها موضوعية، وفيها إنصاف، ما له وما عليه. طبعاً هذا التعليق من قوله تعالى: ﴿وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ ما قال الله عز وجل: ود أهل الكتاب، طائفة منهم، حتى في الجماعات الإسلامية بكل مجتمع إسلامي هناك الصادق، والمخلص، والمتفوق، والمستقيم، وهناك المنافق، وإنسان يراوغ، وإنسان يخادع، هذا المجتمع عينة عشوائية، أيضاً الحكم على جماعة بأكملها حكم فيه تطرف.
الأطباء عندهم قاعدة رائعة يقولون: ليس عندنا مرض، بل عندنا مريض، كل إنسان له حالة معينة ﴿وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يُضِلُّونَكُمۡ﴾ .
4 ـ التقرب إلى الله راحة وطمأنينة ، والبعد عنه اختلال في التوازن:
السبب: الحقيقة هناك سبب وجيه جداً؛ هو أن الإنسان له فطرة، وهذه الفطرة جِبِلّتها أن تعرف الله، وأن تطيعه، فلمجرد أن تعرف الله، وأن تطيعه، وأن تتقرب إليه ترتاح نفسك، وتشعر كأن جبالاً أزيحت عن كاهلك، هذه الفطرة، لو أن الإنسان خرج عن قواعد فطرته فعصى الله، أخذ ما ليس له، كان قوياً فبنى قوته على أنقاض الناس، كان غنياً فبنى غناه على فقر الناس، ولو أن الناس يعظمون شخصاً، أو لو أن الناس لا يعرفون الحقيقة، لكن الإنسان كما قال الله عز وجل:
﴿ بَلْ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)﴾
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(18)﴾
فالإنسان لمجرد أن يعصي الله، أو أن يتبع هواه، أو أن يأخذ ما ليس له ينشأ عنده حالة اسمها اختلال توازن، أو كآبة، أو شعور بالذنب، سمها ما شئت، شعور بالذنب، عقدة نقص، كآبة، اختلال توازن، هذا الإنسان الذي عصى الله يعني غلبته شهوته، قال تعالى:
﴿ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ(106)﴾
غلبه طمعه، غلبته محبته للنساء، فلم يلتزم شرع الله، غلبته محبته للمال، فأخذ ما ليس له، غلبته شهوة العلو في الأرض، فتحدث بما ليس واقعاً، تحدث عن نفسه كلاماً غير صحيح.
إن الإنسان حينما يخطئ، حينما يأكل مالاً حراماً، أو حينما تضعف نفسه أمام طاعة الله عز وجل ينشأ عنده حالة مرضية اسمها اختلال توازن، اسمها كآبة، إحساس بالنقص، هذه الحالة وصفها الله عز وجل قال تعالى:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ(124)﴾
5 ـ الضالّ يتمنى أن يكون الناس كلُّهم مثلَه:
هذا الإنسان الذي اختل توازنه فخرج عن قواعد فطرته ماذا يتمنى؟ يتمنى أن يكون الناس جميعاً مثله، وإذا كان الناس جميعاً مثله ترتاح نفسه، يقول: لا يوجد أحد جيد، هكذا الإنسان، الإنسان حسود، طماع، أكثر المنحرفين يعممون، البشر كلهم يكذبون، كلهم منافقون، كلهم يأخذون ما ليس لهم، هذا تعميم ساذج، تعميم مضحك، لأن الإنسان حينما ينحرف، وحينما يختل توازنه، وحينما يصاب بكآبة، وحينما يشعر بالمعيشة الضنك يكون عنده شعور يخفف عنه هذا الشعور المنحرف، عنده رغبة إذا تحققت خف عليه الشعور.
اليوم سألني رجل فقال: هناك كساد شديد، قلت له: مما يخفف عنك أن الكساد عام في البلد كله، أكثر المصالح فيها كساد، ليس هناك مادة متداولة بين أيدي الناس، كل شيء فيه كساد، فلما رأى كل شيء فيه كساد خففت عنه، أما لو توهم أن الكساد في حرفته فقط يتألم أشد الألم.
هؤلاء الذين خرجوا عن فطرتهم، وعصوا ربهم، وأخذوا ما ليس لهم يتمنون أن يضلوا المؤمنين، فإذا ضلوا يقولون: لا أحد جيد، أحياناً طالب لا يكتب وظيفته، تسأله: أين وظيفتك؟ يقول: لم يكتب أحد وظيفته، فكلما وسّع دائرة التقصير يرتاح.
إن هؤلاء سبب رغبتهم أن يضلوا المؤمنين اختلال توازنهم ﴿لَوۡ يُضِلُّونَكُمۡ﴾ لكن في الحقيقة: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ﴾ .
6 ـ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
إذا كنت مقصراً، وأقنعت إنساناً أن يقصر هل تنجو من عذاب الله؟ لا، إذا كان الإنسان فاسدًا، وأقنعَ إنساناً آخر أن يفسد معه لا يُحاسَب على ذلك؟ هذا الكلام فيه سذاجة مطلقة، المقصِّر يُحاسب، كما قال سيدنا عمر: << لو أن أهل بلد ائتمروا على قتل واحد لقتلتهم به جميعاً>> .
ليس في الإسلام شيء كلما اتسع تخف عقوبته كما هو عند الغرب:
ليس عندنا في الإسلام أن الشيء كلّما اتسع تخف عقوبته، مثلاً: في بريطانيا والعياذ بالله انتشر الشذوذ انتشاراً كبيراً جداً، عندئذ أصدروا قوانين تبيحه، وتغطيه، القانون يعبر عن الشعب، فليس عندنا شيء في الإسلام إذا اتسع وانتشر يصبح مشروعًا، هذه في عالم أهل الدنيا، في عالم المادة يقولون لك: هذا واقع، في بعض البلاد في أوروبا الدولة توزع المخدرات، يقول لك: أمر واقع، نعطيهم مخدرات بحقن معقمة أفضل من أن يأخذوها بحقن غير معقمة، العالم الغربي نموذجه: كل شيء إذا اتسع وعمّ أصبح مشروعاً.
أيها الإخوة، حتى إن أطباء النفس في العالم الغربي النموذج عندهم هو الإنسان المتفلت، فمن يدرس عندهم، ويأتي إلى بلاد المسلمين، إذا زاره مريض عنده كآبة ينصحه بصاحبة، ينصحه بمعصية، بانحراف، لأن الشيء إذا عمّ هناك يصبح مقبولاً، أما عندنا فالحق لا يتغير، الحق حق، والباطل باطل.
أكبر خطأ يقع فيه الدعاة حينما يريدون أن ينزلوا بالإسلام إلى مستوى الواقع المر، فيبيحون هذا وهذا...انتهى الإسلام، أما الداعية الموفق فينبغي أن يأخذ بيد الناس إلى الإسلام، لا أن يهبط بالإسلام إلى مستوى المدعوين.
هناك ظاهرة خطيرة جداً، حتى الداعية يكون حوله مجموع كبير، والناس كلها تثني عليه، يتهاون في بعض الأمور، فليس عنده شيء حرام في النهاية، ويبقى الأمر تجمعًا مصلحيًا فقط، أما أمانة العلم فتقتضي أن هناك حدوداً لا يُفرَّط بها أبداً.
سيدنا عمر -لعلّي ذكرت لكم هذا كثيراً- ضحّى بملك اسمه جبَلة، ولم يضحِّ بمبدأ، فنحن لا نستطيع أن نرقى إلا إذا حافظنا على مبادئنا.
فهذه الطائفة من أهل الكتاب ودت لو تُضِلّ المؤمنين بدافع أنها انهارت أمام نفسها، فعلى مستوى أسرة واحدة إذا كان هناك شاب يغض بصره، ويؤدي الصلوات الخمس، شاب له مسجد، شاب عُرِض عليه مبلغ ضخم، وفيه شبهة فركله بقدمه، أخوه المتفلت يحقد عليه، ويسعى جهده كي ينتقص منه، وإذا أخطأ هذا الأول خطيئة تُكبّر مليون مرة، ويُشهر به ليشفي قلبه.
السيئ راحته النفسية أنه لا يوجد أحد جيد، كل الناس سيئون، والذي يأكل المال الحرام راحته النفسية أن لا أحد نزيه، والذي عنده نفس منحرفة اتجاه النساء يقول لك: لا أحد عفيف، والبنت غير الطاهرة تقول: لا يوجد بنت طاهرة، وهذا شيء ثابت، والحقيقة خلاف ذلك، ففي كل مكان هناك أناس طيبون، وشباب طاهرون، وفتيات ورِعات، والتعميم من العمى.
7 ـ لا يقتنع بالفساد والضلال إلا فاسد ضالٌّ:
﴿لَوۡ يُضِلُّونَكُمۡ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ﴾ هم ضالون، مضلون، محاسبون، مُعذَّبون، سواء أضللتم أم لم تضلوا، يعني أن تقنع إنساناً أن يفسد لا يعفيك هذا من الحساب، وهناك حقيقة مهمة جداً، تجد صفًّا فيه طالب فاسد، له انحرافات أخلاقية، انحرافات في كسب المال، الصف فيه خمسون طالباً، استطاع أن يفسد واحدًا فقط، لماذا لم يستطع أن يفسد الآخرين؟ فهذا الذي أفسده هو مثله، عنده رغبةً بالفساد، هو ما أضله، لكن حرّك ما فيه من الفساد.
والدليل في أي مجتمع ترى إنساناً فاسداً يقنع إنساناً أن يفسد هذا الذي اقتنع بالفساد هو في الأساس فاسد، ولولا أنه راغب بالفساد ما فسد معه، في أي مكان، في أي مدرسة، في أي معهد، في أي جامعة، ترى الفاسد يستقطب الفاسدين، قال تعالى:
﴿ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ(42)﴾
لذلك: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ﴾ يعني هم أضلوا أناساً على شاكلتهم، هكذا المعنى، لا يوجد إنسان منحرف الأخلاق يقنع إنساناً بالانحراف إلا أن الذي أقنعه منحرف في الأصل مثله، لكن صادف هوىً من نفسه حينما أقنعه، ما أضلَّ إلا من كان ضالاً على شاكلته، ما أفسدَ إلا من كان فاسداً على شاكلته.
﴿ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يُضِلُّونَكُمۡ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ (69) يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ (70)﴾
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُون
1 ـ أهل الكتاب كفروا بالنبي مع أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم:
هذه الآيات الكريمة كفروا بها، ولم يقبلوا أنها من عند الله، ولم يقبلوا أن محمداً عليه الصلاة والسلام هو رسول الله، مع أنهم قرؤوا في كتبهم أنه سيأتي نبي يستنصرون به، وكانوا يتحدّون خصومهم بهذا النبي، فلما جاء النبي، وتحقق ما في كتبهم؛ في التوراة والإنجيل أنكروا نبوته، وأنكروا رسالته، لكنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، بربك أية معرفة دقيقة جداً، صحيحة جداً، واضحة جداً كمعرفة الأب بابنه، هل سمعت أن أباً يقول لابنه: ما اسمك يا بني؟ مستحيل، وأيهما أكبر أنت أم أخوك؟ مستحيل، هذه أشياء بدهية، قال تعالى:
﴿ ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَعْرِفُونَهُۥ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(146)﴾
الإنسان أحياناً يكابر، يتعامى لمصلحة، لذلك المنتفع بكفره لا يمكن أن يؤمن، أما المقتنع بكفره يمكن أن يؤمن، وفرق كبير بين المقتنِع والمنتفِع، المقتنِع يؤمن كان واهماً فرأى الحقيقة، كان مخطئاً فرأى الصواب، أما المنتفِع فهو يدافع عن منفعته، لذلك: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ﴾ .
2 ـ مَن آثر رضوان الله ربح الدنيا والآخرة:
بالمناسبة:
(( مَن حاول أمرًا بمعصيةٍ، كان أَبْعَدَ لِمَا رَجَا، وأَقْرَبَ لِمَجِيءِ ما اتَّقَى. ))
ومن كتم الحق لمصلحة دنيوية كُتِب عند الله كافراً، وضاعت منه المصلحة الدنيوية، هذه قاعدة رائعة جداً، من آثر ما عند الله على الدنيا ربح رضوان الله والدنيا، ومن آثر الدنيا على رضوان الله خسر رضوان الله والدنيا، من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً.
﴿ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ (71)﴾
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون
1 ـ إلباس الباطل ثوب الحق من عمل أهل الكتاب ومَن شابههم من المسلمين:
فلان مُصر على أكل الربا، يريد أن يقنعك أن الربا بنسب قليلة معفو عنه، ما الدليل؟ يقول لك قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضْعَٰفًا مُّضَٰعَفَةً ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(130)﴾
فالنهي عن الأضعاف لا عن النسب اليسيرة، هو مُصِرٌّ على أكل الربا، لكن يريد أن يأتيك بكلام من عند الله، أو بكلام لرسول الله يقنعك أن الربا يجوز، قال تعالى:
﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ(279)﴾
موضوع المغالطة، موضوع لا يرغب أن يصلي الجمعة فيأكل حبة ثوم، يقول لك:
(( مَن أَكَلَ مِن هذِهِ الشَّجرةِ قالَ: أوَّلَ يومٍ ( الثُّومِ ) ثمَّ قالَ: الثُّومِ والبصلِ والكرَّاثِ، فلا يقربنا في مساجدنا ؛ فإنَّ الملائِكَةَ تتأذَّى ممَّا يتأذَّى منهُ الإنسُ. ))
هناك نهي يا أخي، أنا لا أستطيع الصلاة في المسجد، يأتي بالآيات، ويلوي أعناقها، يأتي بالأحاديث ويلوي أعناقها، يأتي بالنصوص الضعيفة ويعدّها صحيحة، يريد أن يقنعك أنه على حق.
التقيت مع شخص قال لي: من قال لك إن الخمر حرام؟ قلت له: أعوذ بالله، قال لي: هذا الخمر هناك إرشاد لعدم شربه، ولكن لا يوجد تحريم له، أعطني آية فيها الخمر حرام، قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰٓ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا(43)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90)﴾
لكن الله ما قال: إنه محرم.
2 ـ طرق إلباس الباطل ثوب الحق عديدة مختلفة:
عملية إدخال الحق بالباطل، والباطل بالحق عملية الآن واسعة جداً، قد تقرأ كتاباً مطبوعاً في الأسواق، هذا الكتاب افعل أي شيء إباحي، وأنت مغطى بالقرآن الكريم، يقول لك: هذا فهم للقرآن معاصر، تحت هذا الباب يوجد جهود لا يعلمها إلا الله، إدخال الحق بالباطل.
هناك من يقول لك: إن السنة النبوية ليست لهذه الأزمنة، هذه سُنَّة مرحلية، نكتفي بالقرآن، ثم تأتي أحكام القرآن، يقول لك: هذا غير معقول، لا يتناسب مع إنسان القرن العشرين.
هذه عملية إدخال الحق في الباطل والباطل في الحق، لأن الطرف الآخر أعداء المسلمين عندهم يقين قطعي أنه لا أحد يستطيع أن يواجه المسلمين جِهاراً إلا بأساليب خفية، فأرادوا أن يفرّغوه من قيمه، أن يفرّغوه من أحكامه، أن يفرّغوه من منهجه، ويبقى الإسلام مظاهر، مساجد، زيًّا، كتبًا، تراثًا إسلاميًا، ثقافة إسلامية، فنًّا إسلاميًّا، أما المضمون فعلماني، إباحي، بعيد عن الدين بعد الأرض عن السماء، هذه العملية اسمها إدخال الحق بالباطل، والباطل بالحق.
هو لا يحب أن يكون كافراً، وفي الوقت نفسه الدنيا محببة له، فكيف السبيل إلى الجمع بينهما؟ يقول لك: إيماني في قلبي، هذه جديدة، تكون المرأة سافرة، ومتبذلة في سفورها، وتبرز كل مفاتنها، وتصلي، الصلاة وحدها، أنا إيماني في قلبي، هذا أهم شيء، وأنا لا أريد أن أؤذي أحداً، ولكن هكذا الموضة، ماذا أفعل؟ فهذه عملية إدخال الحق في الباطل، والباطل في الحق.
﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ أحياناً يقول لك البيئة، الثقافة، العصر، الوضع العام، الإنسان في هذا العصر مضطر أن يعصي الله، والله لا يؤاخذه أيضاً، هذا الكلام يحتاج إلى بحث طويل، قضية المغالطة، إدخال الباطل بالحق والحق بالباطل، الإسلام صريح واضح، قال تعالى:
﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9)﴾
الآية الكريمة أن جهد الكفار جميعاً من آدم إلى يوم القيامة يتلخص بأن نفتري على الله غير الوحي، قال تعالى:
﴿ وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا(73)﴾
هذه الآية تلخص كل جهود الكفار من آدم إلى يوم القيامة، قال تعالى:
﴿ وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلً ا(73) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)74) إِذًا لَّأَذَقْنَٰكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَوٰةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)﴾
قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ (71) وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ ءَامِنُواْ بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجۡهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكۡفُرُوٓاْ ءَاخِرَهُۥ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ (72)﴾
السخرية من المستقيمين طريق من طرق الإضلال
الإنسان الشارد عن الله عز وجل في المرحلة الأولى يقنع إنساناً آخر أن يضل مثله، فإن لم يستطع يسخر منه، قال تعالى:
﴿ إِنَّهُۥ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّٰحِمِينَ(109) فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰٓ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ(110)﴾
آية ثانية:
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)﴾
العبرة أن تضحك آخراً، لأنه من ضحك أولاً ضحك قليلاً، وبكى كثيراً، ومن ضحك آخراً ضحك كثيراً، وبكى قليلاً.
﴿وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ أول مرحلة الإضلال، ثاني مرحلة السخرية، ثالث مرحلة الاحتيال، الآن يوجد مرحلة ثانية: ﴿وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ ءَامِنُواْ بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجۡهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكۡفُرُوٓاْ ءَاخِرَهُۥ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ﴾ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ
مِن حيلِ اليهود الإيمان في الصباح والكفر في المساء:
إنها حيلة، يأتي فريق من أهل الكتاب يؤمنون برسول الله، ويعلنون إسلامهم، ويصلون مع المسلمين، هذا في الصباح، فإذا جاء المساء يقولون: لا، نحن كنا نظن أن هذا الدين حق، وهو ليس بحق، ونحن العلماء، هؤلاء الضعاف يُفتَنون، لقد آمنوا، ثم اكتشفوا أن هذا الدين باطل فتركوا، هذه عملية مراوغة.
ربنا عز وجل حينما كشف هذه الخطة أبطلَ مفعولها، وحينما كشف هذه الخطة أثبت الوحي للنبي الكريم، النبي لا يعلم أنهم اتفقوا فيما بينهم، اتفقوا اتفاقاً في أعلى درجات الكتمان؛ أن يؤمنوا إيماناً خُلّبياً، صورياً صباحاً، ثم يكفرون مساءً، فلعل ضعاف الإيمان يكفرون معهم، فالله عز وجل فضحهم، فلما فضحهم أبطل مفعول مؤامرتهم، وأثبت للنبي الوحي، وهو دليل نبوته صلى الله عليه وسلم، وردعهم أن يفعلوا مثل ذلك مرة أخرى، وهذه حكمة الله عز وجل في فضيحتهم.
﴿ وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ ءَامِنُواْ بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجۡهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكۡفُرُوٓاْ ءَاخِرَهُۥ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ(72) وَلَا تُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمۡ قُلۡ إِنَّ ٱلۡهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٌ مِّثۡلَ مَآ أُوتِيتُمۡ أَوۡ يُحَآجُّوكُمۡ عِندَ رَبِّكُمۡۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ (73)﴾
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ
1 ـ عصبية اليهود لبني جنسها:
هذه الآية فيما بين اليهود، قالوا: ﴿وَلَا تُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمۡ﴾ يعني نحن لا نؤمن برسول إلا من ملتنا، إلا ليهودي مثلنا، ولا تؤمنوا لهذا النبي العربي، لأنه ليس يهودياً.
2 ـ أيّ نبيٍّ جاء بالحق فهو هدى الله:
﴿قُلۡ إِنَّ ٱلۡهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ﴾ الهدى الحقيقي ما كان من عند الله عن طريق نبي عربي، أو نبي غير عربي، الأصل أن الهدى هدى الله، فأي نبي جاء بهذا الهدى فهو هدى، وهو الحق، الهدى ليس له قومية، هناك أنبياء من بني إسرائيل، هناك أنبياء من أمم أخرى، وهناك سيد الأنبياء من هذه الأمة العربية، وقد كرمها الله، وشرفها بهذا النبي.
خيرية هذه الأمة متعلقة بشروط:
نحن بهذه البعثة العظيمة أصبحنا خير أمة أُخرِجت للناس، طبعاً هذه الخيرية مرتبطة بإيماننا بالله عز وجل، وبأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، وقد قال بعض العلماء: هذه الخيرية علتها:
﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ۗ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَٰبِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ(110)﴾
هذه علة الخيرية، فإن كان الإيمان ضعيفاً، أو لم نأمر بالمعروف، ولم ننهَ عن المنكر، بل جعلنا المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، بل أمرنا بالمنكر، ونهينا عن المعروف فقدنا خيريتنا.
من هنا وفّق العلماء بين هذه الآية وبين الواقع، قالوا: هناك أمة الاستجابة، وهناك أمة التبليغ، فأنت إن آمنت بالله، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر فأنت من أمة الاستجابة، وتنطبق الآية علينا، ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ يعني أصبحتم خير أمة أخرجت للناس، فإن لم نأمر بالمعروف، ولم ننهَ عن المنكر، ولم نؤمن بالله فقدنا علة خيريتنا، فنحن إذاً من أمة التبليغ، وأمة التبليغ مثلها مثل أية أمة لا فضل لها إطلاقاً، وهذا المعنى يُستنبَط من قوله تعالى:
﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ(18)﴾
فإن لم نؤمن بالله واليوم الآخر، إن لم نأمر بالمعروف، ولم ننهَ عن المنكر فنحن أمة ممن خلق، هانَ أمر الله علينا فهُنّا على الله، لا يوجد أي ميزة فكونوا واقعيين، كونوا علميّين، ليس لك أي ميزة إذا ما أمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، والتزمت الشريعة، وآمنت بالله.
لا قيمة للأنساب في الإسلام:
تقول لي : أنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ابنته قال لها:
(( يا مَعْشَرَ قريشٍ! اشْتَرُوا أنفسَكم من اللهِ، لا أُغْنِي عنكم من اللهِ شيئًا، يا بني عبدِ مَنَافٍ! اشْتَرُوا أنفسَكم من اللهِ، لا أُغْنِي عنكم من اللهِ شيئًا، يا عباسُ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ! لا أُغْنِي عنكَ من اللهِ شيئًا، يا صفيةُ عَمَّةَ رسولِ اللهِ! لا أُغْنِي عنكِ من اللهِ شيئًا، يا فاطمةُ بنتَ مُحَمَّدٍ! سَلِينِي من مالي ما شِئْتِ لا أُغْنِي عنكِ من اللهِ شيئًا. ))
(( ومَنْ أبْطأَ بهِ عملُهُ لمْ يُسرِعْ بهِ نَسبُهُ. ))
قال تعالى:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)﴾
هذا عم النبي، في الإسلام الأنساب ليس لها أي قيمة إطلاقاً، العبرة بالأعمال، قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)﴾
<< يا سعد لا يغرنك أنه قد قيل: خال رسول الله، فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له فقط >> .
هذه المعاني مريحة جداً، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ ٱلۡهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ﴾ مع أي شخص جاءني على العين والرأس، النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ، وَإِنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ ))
أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ
1 ـ حسد اليهود وعدمُ تحمُّلهم كون النبي من العرب:
﴿أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٌ مِّثۡلَ مَآ أُوتِيتُمۡ﴾ هذا حسد وبَغي، هم لم يحتملوا أن يُؤتى أحد النبوة مثلما أوتيها بنو إسرائيل ﴿أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٌ مِّثۡلَ مَآ أُوتِيتُمۡ﴾ وهذه مشكلة المشكلات، إنسان له ميزة، إنسان آخر لأنه شاركه بهذه الميزة يطعن به لا يحتمل، هذا مرض اجتماعي كبير، هناك إنسان عنده تفوق اجتماعي، أيّ إنسان اقترب من مستواه الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو التجاري، أو النسبي، أو هذه الأقنعة المزيفة يقيم عليه الدنيا ولا يقعدها، ما الذي حصل؟ غيرة، ما الذي حصل؟ حسد، وبغي، وعدوان، ﴿أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٌ مِّثۡلَ مَآ أُوتِيتُمۡ﴾ لا تحتملون؟
2 ـ اليهود فضَّلوا عدم الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام:
﴿أَوۡ يُحَآجُّوكُمۡ عِندَ رَبِّكُمۡۗ﴾ يعني إذا آمنتم أصبحت الحجة قائمةً عليكم، فلمَ لم تلتزموا؟ أنا لا أؤمن أفضل لي، أيضاً كلام مضحك وساذج.
﴿أَوۡ يُحَآجُّوكُمۡ عِندَ رَبِّكُمۡۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أيها الإخوة، عدم إيمان هذه الطائفة من أهل الكتاب إما حسداً من عند أنفسهم، لأن الهدى جاء إلى أمة العرب ﴿أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٌ مِّثۡلَ مَآ أُوتِيتُمۡ﴾ أو لئلا تقوم الحجة عليهم، فجاء النبي ومعه المنهج فلم يصدقوه، وكلا الحجتين باطلة، يقول الله عز وجل: ﴿قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ﴾
قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم
1 ـ فضلُ الله لا يُصرف عن صاحبه:
الفضل بيد الله، لا يستطيع أحد في الكون أن يصرف عن إنسان خيراً أراده الله له، ولا أن يجلب له شيئاً ما أراده الله له، قال تعالى:
﴿ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍۢ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ(2)﴾
الخير بيد الله وحده، يعطي الخير من يشاء، يعطي النبوة لمن يشاء، يعطي الإيمان لمن دفع ثمنه، يُسبِغ رحمته على من جاء بموجباتها، يسبغ مغفرته على من دفع ثمنها، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ﴾
2 ـ لا تحسد أحدا لفضل الله عليه، فالله واسع الفضل، عليم بمن يستحقه:
إن الفضل بيد الله، لا تحسد أحداً ﴿وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ، واسع في فضله، عليم بأحوال الناس، ﴿وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ﴾ الإنسان قد يؤخذ، فيتوهم شيئاً لم يقع، قد يكون الطرف الآخر متكلمًا، بليغًا، فصيحًا، قد يقنعك بشيء، وهو لا يملكه، وقد ينفي عنه شيئاً واقعاً فيه، وهو متلبّس فيه، أنت تُؤخَذ بالكلام، لكن الله عز وجل عليم، عليم بالحقائق، عليم بخبايا النفوس، عليم بما تنطوي عليه الأنفس، واسع في فضله، عليم في معرفته، الله عز وجل فضله كبير وعلمه قطعي، علمه مطلق، والفضل بيده.
علاقتك مع الله، مدحُك لإنسان لا يرفعه عند الله، وذمك لإنسان لا يخفضه، والمثل الشهير: إن كنت تملك كيلو من معدن ثمين ذهب، وتوهمه الناس معدناً خسيساً يبقى ذهباً غالي الثمن، وإن كان معك كيلو من المعدن الخسيس، وأقنعت الناس أنه ذهباً يبقى معدناً خسيساً، مدحك وذمك لا يغير طبيعة الأشياء، ولا يغيرها.
﴿ قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ(73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(74)﴾
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
مشيئة الله موَضَّحة في القرآن الكريم:
فضله عظيم، ويختص به من يشاء، يمكن أن تفهم المشيئة عائدة إلى الله، لكن الله في مشيئته في آيات كثيرة جداً قنّنها، ووضح نظامها، قال تعالى:
﴿ أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ ۚ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىٰٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَٰذِبٌ كَفَّارٌ (3)﴾
﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)﴾
﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)﴾
إن عزوت المشيئة إلى الله فلها نظام دقيق في آيات كثيرة، ولك أن تعزوها إلى الإنسان، فمن شاء فضل الله يؤتيه الله من فضله، من شاء رحمة الله يؤتيه الله من رحمته، ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ يعني في بعض الآيات:
﴿ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِۦ ۚ وَٱلظَّٰلِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًۢا(31)﴾
من الذي أدخله في رحمته؟ الذي لم يظلم، واضحة، فكلاهما يصب في خانة واحدة، إن عزوت المشيئة إلى الله فالمعنى أن هذه المشيئة مُقنّنة بآيات كثيرة جداً، وإن عزوتها إلى الإنسان فالإنسان مُخير، فإذا أراد فضل الله فهو بين يديه، وإن لم يرده ابتعد عنه ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ وفي الدرس القادم إن شاء الله نبدأ بقوله تعالى:
﴿ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمًاۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ (75)﴾
الملف مدقق