الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس التاسع عشر من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الرابعة والستين، وهي قوله تعالى:
﴿ قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءِۭ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡـًٔا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ (64)﴾
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
1 ـ وحدة الأصل تعني وحدة الفروع:
هذه الأديان أو هذه الشرائع أليست من عند الله؟ هناك قاعدة أصولية أن وحدة الأصل تعني وحدة الفروع، فما دامت هذه الشرائع قد جاءت من عند الله عز وجل، والله واحد لا شريك له، إذاً فلا بد من وحدة في هذه الشرائع، القرآن الكريم أشار إلى هذه الحقيقة فقال:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)﴾
كل شيء جاءنا من عند الله من خلال الرسل يتلخص بكلمتين: التوحيد والعبادة، فالدين عقيدة وطاعة، تصور وسلوك، فكر نظري وتطبيق عملي ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ .
قال العلماء: نهاية العلم التوحيد، ونهاية العمل التقوى، الحقيقة أنا مضطر أن أبين الفرق بين أن تُحَصّل علماً أرضياً من جامعات العالم، هذا العلم متعلق بخلق الله، وبين أن تتعرف إلى الله، فرق كبير بين أن تعرف الله، وأن تتعرف إلى قوانين خلقه، قوانين خلق الله عز وجل تعرفها في العلوم العصرية في جامعات الأرض، لكنك إذا أردت أن تعرف الله ينبغي أن تتفكر في خلقه، وفي كلامه، وفي أفعاله، إنها المصادر الثلاث لمعرفة الله عز وجل.
النقطة الدقيقة أنه ما كل ذكي بعاقل، قد يتفوق الإنسان في اختصاصه، قد يبرع في حرفته، قد يبلغ الدرجة العليا فيما هو فيه، أما إن لم يعرف الله، ولم يعرف سر وجوده وغاية وجوده فهو عند الله ليس بعاقل، والآيات التي تتحدث عن العقل والعلم تقترب من ألف آية:
﴿ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ ٱلتَّوۡرَىٰةُ وَٱلۡإِنجِيلُ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (65)﴾
﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٍۢ لَّرَأَيْتَهُۥ خَٰشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)﴾
﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍۢ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(130)﴾
﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(154)﴾
الآن ربنا عز وجل يبين أن هذه الشرائع من عند الله كلها: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءِۭ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ﴾ .
4 ـ لا طاعة إلا لله ورسوله:
القاسم المشترك ألا نعبد إلا الله، العبادة لله وحده، لا يوجد جهة في الأرض مخولة أن تطيعها أبداً، النبي عليه الصلاة والسلام، وهو سيد الخلق، وحبيب الحق يقول الله له:
﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِـَٔايَةٍۢ قَالُواْ لَوْلَا ٱجْتَبَيْتَهَا ۚ قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰٓ إِلَىَّ مِن رَّبِّى ۚ هَٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ(203)﴾
أنا متبع، سيدنا الصديق: إنما أنا مُتَبع، ولست بمبتدع، ولا جهة في الأرض مهما علا شأنها يمكنك أن تعبدها من دون الله، أو أن تطيعها من دون دليل، هذه النقطة في الإسلام مهمة جداً، نحن جميعاً نؤمن أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم بمفرده وحده، بينما أمته معصومة بمجموعها، الله عز وجل أمرنا أن نأخذ من نبيه قال:
﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ ۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ(7)﴾
لأنه عصم نبيه من أن يخطئ في أقواله، وأفعاله، وإقراره، وأحواله، هو المعصوم، في حياة المسلمين إنسان واحد تطيعه من دون أن تطالبه بالدليل هو رسول الله، أما بعد رسول الله فما من إنسان يمكن أن تطيعه من دون دليل أبداً، الصديق رضي الله عنه قال: << أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم >> ، أي راقبوني.
هذه قاعدة أساسية: لا تقبل شيئاً من دون دليل، ولا ترفض شيئاً من دون دليل، فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً، فَأَوْقَدَ نَارًا، وَقَالَ: ادْخُلُوهَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا فَرَرْنَا مِنْهَا، فَذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا: لَوْ دَخَلُوهَا لَمْ يَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ لِلآْخَرِينَ: لا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ. ))
النبي ربّى رجالاً، علمهم كيف يفهمون الأمور، وكيف يزينون الموضوعات: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءِۭ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ﴾ من ينبغي أن تعبده؟ الذي خلقك:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)﴾
لأن الخالق هو الصانع، وقال تعالى:
﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍۢ (14)﴾
5 ـ عبادة الله وحده هي السعادة الحقيقية:
لن تجد في الأرض كلها جهة تملك أسباب سعادتك إلا الله، وهؤلاء البشر حينما تركوا الدين وقعوا في شر أعمالهم، المجتمعات البشرية في بؤس شديد، إما في ترف مع التفسخ، وإما في قهر، وفقر مع الحاجة، لأنهم ما اتبعوا منهج الله عز وجل، وأكاد أقول ما من مشكلة في الأرض على الإطلاق إلا بسبب خروج عن منهج الله، وما من خروج عن منهج الله إلا بسبب الجهل، والجهل أعدى أعداء الإنسان، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به: ﴿أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ﴾ لا ينبغي أن تكون أنت لغير الله، لا يليق بك أن تكون لغير الله، لا يليق بإنسانيتك أن تكون لغير الله، لا يمكن أن تُحسَب على غير الله، أنت إنسان خلقك الله، وكرمك، وجعلك المخلوق المكرم، أنت لله، الماء للتراب، والتراب للنبات، والنبات للحيوان، والحيوان للإنسان، والإنسان لله، وأنت لله: ﴿أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ﴾ لذلك قل:
﴿ يَٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرْضِى وَٰسِعَةٌ فَإِيَّٰىَ فَٱعْبُدُونِ(56)﴾
أيّ مكان في الأرض حالَ بينك وبين طاعة الله ينبغي أن تغادره فوراً، منعك من طاعة الله، لأنك مخلوق لعبادة الله:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)﴾
﴿أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ﴾ لأنه الذي خلق، ولأنه الرب المُمِد، ولأنه المُسيِّر، ولأنه الإله، ولأنه الخبير، ولأنه العليم، ولأنه الغني، ولأنه القوي، ولأنه الرحيم، فكل سعادتك، وسلامتك بطاعة ربك، وكل شقائك، وهلاكك بمعصية ربك، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾
6 ـ الشرك أخطر شيء على وجه الأرض ولا سيما الخفي منه:
﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءِۭ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡـًٔا﴾ إخواننا الكرام، أخطر شيئاً في حياة المسلمين الشرك، الشرك نوعان: جلي وخفي، الجلي فيما أعتقد لا وجود له في العالم الإسلامي في الأعم الأغلب، ليس في عالم المسلمين إله يُنحَت، ويُعبَد من دون الله، إذاً: الشيء الخطير هو الشرك الخفي:
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ(106)﴾
بسبب الشرك الخفي ينافق بعض المسلمين، بسبب الشرك الخفي يخاف بعض المسلمين أن يطيعوا الله، يخافون مما سواه، بسبب الشرك الخفي يغش المسلم في البيع والشراء، يرى أن هذا المال الذي سيحصّله من خلال الغش أغلى عنده من الله، من طاعته، بسبب الشرك الخفي يطيع بعض المسلمين زوجاتهم، ويعصون ربهم، بسبب الشرك الخفي تطيع مخلوقاً، وتعصي خالقاً.
لو أنك وحدت الله لا يمكن أن تعصيه، لماذا تعصيه؟ الأمر بيده، والرزق بيده، والصحة بيده، وأهلك بيده، وأولادك بيده، ومن حولك بيده، ومن فوقك بيده، ومن تحتك بيده، فإذا أرضيت الله وحده رضي الله عنك، وأرضى عنك الناس.
(( اعمل لوجهٍ واحدٍ يكفك الوجوه كلها. ))
(( من جعل الهمومَ همًا واحدًا همَّ آخرتِه؛ كفاه اللهُ همَّ دنياه ))
7 ـ كل هذا من مظاهر الشرك فاحذرها:
إذاً: ﴿أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡـًٔا﴾ الشرك أيها الإخوة أخفى من دبيب النملة السمراء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، نملة سمراء، تمشي على صخرة صماء، في ليلة ظلماء، ألا يُسمَع دبيب أقدامها؟ بالتأكيد لا يُسمَع، الشرك أخفى، أدناه أن تحب على جَور؛ أي إنسان جاءك منه خير مادي فأحببته، وهو ليس على ما ينبغي أن يكون، هذا شرك، أو إنسان نصحك بأدب جَمٍّ، فانزعجت منه لأنه خدش كبرياءك، هذا شرك، أن تحب على جور أو أن تبغض على عدل، حينما ترجو ما عند إنسان فهو شرك، حينما تخاف من إنسان، ولا تخاف من الله، هذا شرك، حينما تحرص على سمعتك أمام الناس، ولا تحرص عليها أمام الله، حين تتجمل أمام الناس، ولا تُحسّن منظر الله عز وجل في قلبك، طهرت منظر الخلق سنين، تطلي بيتك، تنظف مركبتك، تتأنق في ملبسك، هذا منظر الخلق، الخلق ينظرون إليك، إلى بيتك، إلى مدخل بيتك، إلى غرفة الضيوف، إلى نظافة البيت، إلى نظافة الجدران، إلى نوع الأثاث، إلى تنسيق الألوان، لكن الله ناظر إلى قلبك، فيه غش، فيه حسد، فيه بغي، فيه عدوان، فيه لؤم، فيه كبر، فيه غطرسة، أن ترجو غير الله، أن تخاف من غير الله، أن تعطي لغير الله، أن تمنع لغير الله، ألا تغضب لله، ألا ترضى لله، فهذا شرك، وهذا هو الشرك الخفي، وهذا ما تعنيه الآية الكريمة: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ نعوذ بالله من الشرك الخفي.
﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءِۭ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡـًٔا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ﴾ بالتأكيد لن تقول لإنسان: أنت ربي، لكنك تعامله، وكأنه رب، تطيعه طاعة عمياء من دون دليل، ترضيه ولو بسخط الله، تخافه، ولو عصيت الله، اتخذته رباً، أعطاك توجيهاً بلا دليل، فنفذت هذا التوجيه، نهاك عن شيء واجب فتركت هذا الشيء الواجب، أمرك بمعصية فنفذتها، إنك اتخذته إلهاً، واتخذته رباً، وقد قال الله عز وجل:
﴿ ٱتَّخَذُوٓاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَٰنَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعْبُدُوٓاْ إِلَٰهًا وَٰحِدًا ۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَٰنَهُۥ عَمَّا يُشْرِكُونَ(31)﴾
لا تطع أيَّ إنسان مهما كان إنْ أمر بمعصية:
وقد تجد بعض المسلمين لضيق أفقهم، ولجهلهم يعبدون بعضهم بعضاً، يكفي أن شيخه قال له كذا، ولو أمره بمعصية، لو منعه من طاعة، يقول لك بالتعبير الدارج لو قال لي: اللبن أسود، فهو أسود، ما علمنا النبي هذا، علمنا أن نستبصر، علمنا أن نسأل، وقد ورد:
(( أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلَّى به إحدَى صلاتَيِ العَشيِّ وهي العصرُ فصلَّى ركعتَيْن ثمَّ سلَّم فقام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتبِعه أبو بكرٍ وعمرُ وخرج سَرَعانُ النَّاسِ فلحِقه ذو اليدَيْن وأبو بكرٍ وعمرُ مُبتديه فقال : يا رسولَ اللهِ أقصُرتِ الصَّلاةُ أم نسيتَ ؟ فقال : ما قصُرتْ وما نسيتُ، ثمَّ أقبل رسولُ اللهِ وثاب النَّاسُ فصلَّى ركعتَيْن ثمَّ سلَّم ثمَّ سجد سجدتَيِ السَّهوِ. ))
نُسِّي النبي لكي يسنّ لنا سجود السهو، لو أن النبي لم يسهُ في حياته ولا مرة، هذا الحكم معطل ما كنا عرفناه، نحن ننسى، فالنبي ربّى أصحابه أن يسألوا، أن يستوضحوا، صحابي جليل رأى موقع بدر غير مناسب، من شدة غيرته ومحبته وإخلاصه سأل النبي بأدب جم، قال: "يا رسول الله، هذا الموقع وحي أوحاه الله إليك؟" أي إذا كان وحياً لا نقول ولا كلمة، "أم هو الرأي والمشورة" ، فالنبي قال له: "لا، هو الرأي والمشورة، قال: والله يا رسول الله ليس بموقع" ، يخاطب من؟ يخاطب سيد الرسل، يخاطب سيد الأنبياء، يخاطب الذي يُوحى إليه، يخاطب المعصوم، فالنبي عليه الصلاة والسلام بخلق رفيع قال: أين الموقع المناسب؟ فدله عليه، وأعطى أمراً لأصحابه بالتوجه، أي المؤمن الصادق يغار على سمعة المسلمين، يسأل، يستفهم، يستوضح، ينتقد نقداً بناءً، يعترض أحياناً، لأن الله هو قصده، أما إذا كانت الدنيا قصده، ومصالحه تتحقق بسكوته تراه يسكت، أما إذا كان الله قصده ينبغي أن ينطق، أن يسأل، أن يستفهم، أن يستوضح، أن ينتقد أحياناً، فلا معصوم إلا النبي، ما من أحد أصغر من أن ينقُد، وما من أحد أكبر من أن يُنقَد، كل إنسان يُؤخَذ منه، ويُرَد عليه إلا صاحب هذه القبة الخضراء، ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس، وما جاءنا عن أصحابه فعلى العين والرأس، وما جاءنا عن التابعين فعلى العين والرأس، لأن الله شهد لهذه العصور الثلاثة بالخيرية، فعن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. ))
وما جاءنا عن سواهم، فنحن رجال وهم رجال، للإمام علي كرم الله وجهه كلمة رائعة قال: << نحن نعرف الرجال بالحق، ولا نعرف الحق بالرجال>> .
فلان قال: أنت أفهم منه، ولكن يوجد آية، يوجد نص قطعي الدلالة، فلان أفتى بالربا، أنت مثل علمه؟ أنا معي نص:
﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ(279)﴾
لا معصية في القرآن توعّد الله على مرتكبها بالحرب إلا الربا، من هذا الذي يحق له أن يقول لك: الربا مباح؟ من هذا الذي يجرؤ أن يُحل معصية توعّد الله عليها مرتكبها بالحرب؟ البطولة أنك تعرف الرجال بالحق، الحق هو الأصل، والخطأ الشنيع أن تعرف الحق بالرجال، أناس كثيرون يقول لك: هكذا علمنا والدنا، والدك ليس على حق، أبي لم يرد أن نعمل تفرقة بالعائلة، يجمع الأصهار وزوجاتهم على مائدة واحدة، هكذا علمنا أبي، ليس هناك دليل، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: الْحَمْوُ الْمَوْتُ. ))
ليس من المعقول أن يرى الصهر أخت زوجته، وقد تكون أجمل منها، ثم لا يتمناها، ثم لا يملأ عينيه من محاسنها، والدي لم يرد أن يفرق العائلة، هل هذه آية أم حديث؟ هذا كلام والدك، نحن معنا قرآن، معنا سنة، معنا كلام المعصوم، فأنت الأصل أن تعرف الحق، ومن خلال الحق يمكن أن تقيّم الرجال، لذلك: ﴿أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡـًٔا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ﴾ .
8 ـ يجب أن نحرص على التوحيد بأن لا يشوبه شرك مهما صغُر:
إله واحد، أنا أعتقد أنه ما من رجُلين على وجه الأرض من آدم إلى يوم القيامة أحبّا بعضهما بعضاً كرسول الله وأبي بكر رضي الله عنه، فسيدنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما كانا بمنزلة السمع والبصر قرباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر رضي الله عنه، ومع ذلك لما مات النبي عليه الصلاة والسلام ماذا فعل الصديق؟ قال: << من كان يعبد محمداً ـ فقط محمداً لم يقل رسول الله ـ فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت>> .
هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، سيدنا عمر، سيدنا خالد انتصر، وانتصر، فتوهم المسلمون أنه ما من معركة يقودها خالد إلا انتهت إلى النصر، فخاف عليهم الشرك فعزل خالداً، سيدنا خالد تألم، قال له: << يا أمير المؤمنين لمَ عزلتني؟ قال له: والله إني أحبك، قال: لمَ عزلتني؟ قال: والله إني أحبك، فسأله مرة ثالثة لمَ عزلتني؟ قال له: والله ما عزلتك يا بن الوليد إلا مخافة أن يُفتَتن الناس بك لكثرة ما أبليت في سبيل الله>> .
وأنت راقب نفسك لمجرد أن تتكئ على إنسان، لمجرد أن تعقد الأمل عليه، لمجرد أن تتوقع منه الخير، لمجرد أن تعتز به، وأن تنسى ربك، هذا الإنسان الذي أشركته مع الله لا بد أن يخيب ظنك بتوجيه الله إنقاذاً لك من الشرك، الشرك هو الطامة الكبرى: ﴿أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡـًٔا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ﴾ لو أن أتباع الأديان التي جاءتنا من عند الله عبدوا الله وحده، ولم يشركوا به شيئاً، وما اتخذوا بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله لاجتمعوا، وتعاونوا ﴿فَإِن تَوَلَّوۡاْ﴾ فإن أبوا إلا أن يتخذوا بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، فإن أبَوا إلا أن يشركوا، إن أبَوا إلا أن يعبدوا غير الله، فإن أبَوا إلا أن يشركوا بالله، إن أبَوا إلا أن يتخذوا بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله قال: ﴿فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ﴾ .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون
هذا هو الإسلام، الإسلام هو الاستسلام لله، والذي يلفت النظر في القرآن الكريم أنه ما من نبي في القرآن إلا وقد وُصِف بأنه مسلم، بل إن فرعون حينما أدركه الغرق قال:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾
الإسلام بالمعنى الواسع لا بالمعنى الذي يعني أن هذا الدين الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، بالمعنى الواسع الاستسلام لله، والآية الدقيقة:
﴿ إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلْإِسْلَٰمُ ۗ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْيًۢا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ(19)﴾
أي أصل الدين عند الله الإسلام، أن تستسلم لله، وألا تعبأ بمن دونه، قال: ﴿فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ﴾ .
﴿ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ ٱلتَّوۡرَىٰةُ وَٱلۡإِنجِيلُ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (65)﴾
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ
1 ـ مزاعم اليهود في إبراهيم :
فاليهود قالوا كان إبراهيم يهودياً، والنصارى قالوا كان إبراهيم نصرانياً، فقال الله عز وجل: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ ٱلتَّوۡرَىٰةُ وَٱلۡإِنجِيلُ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ الحجة قوية، هذا النبي الكريم، هذا أبو الأنبياء حينما أرسله الله للخلق ما كان هناك يهودية ولا نصرانية، لذلك قال الله عز وجل:
2 ـ رد الله على مزاعم اليهود في إبراهيم:
﴿ هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ حَٰجَجۡتُمۡ فِيمَا لَكُم بِهِۦ عِلۡمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٌۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ (66)﴾
أي بسيدنا عيسى ﴿فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٌۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾ أي الحق صارخ، الحق واضح، الحق جليّ، فحينما ترى كلاماً لا ترتاح له، ولا يتفق مع الفطرة السليمة، ولا مع العقل الصريح، ولا مع النقل الصحيح، ولا مع الواقع الموضوعي هذا باطل، الحق ما جاء به النقل الصحيح، وأيّده العقل الصريح، وارتاحت إليه الفطرة السليمة، وأكّده الواقع الموضوعي هذا هو الحق: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ ٱلتَّوۡرَىٰةُ وَٱلۡإِنجِيلُ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ*هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ حَٰجَجۡتُمۡ فِيمَا لَكُم بِهِۦ عِلۡمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٌۚ ﴾ .
3 ـ لابد من تمحيص الكلام:
بعضهم قال: "لي صديق كان من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظّمه في عيني صِغر الدنيا في عينيه" النص طويل، إلى أن قال: "وكان لا يدلي بحجة إلا إذا رأى قاضياً فهِماً، وشهوداً عدولاً، وكان خارجاً عن سلطان الجهالة، فلا يتكلم بما لا يعلم، ولا يماري فيما علم" .
أي مسلم لا فهِمَ كتاب الله، ولا قرأ كتاب الله، ولا اطلع على حديث رسول الله، ولا فهم أحكام الفقه، لكن يقول لك سمعت ندوة من فضائية، أي يقبل على مزاجه، ويرفض على مزاجه، ويُقَيم على مزاجه، وكأن الحديث في الدين كلأٌ مباح لكل الناس، من يجرؤ أن يكتب على بيته الدكتور فلان، اختصاصي في أمراض القلب، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ماذا يفعلون به؟ يضعونه في السجن، من يجرؤ أن يكتب المهندس فلان، وهو جاهل؟ من يجرؤ أن يكتب المحامي فلان، وهو جاهل؟ هناك محاسبة، ومساءلة، لكن كل شخص من دون أن يطلب العلم، من دون أن يقرأ القرآن، من دون أن يفهم القرآن، من دون أن يقرأ سنة النبي العدنان، من دون أن يفهمها، من دون أن يفهم أحكام الفقه، من دون أن يعرف أصول العقائد يتكلم في الدين، فيقبل، ويرفض، ويُقَيم، ويطعن، ويمدح، هو مرتاح، أيّ علم حصّلته حتى تتكلم بهذا الكلام؟ لابد من أدب مع الله، اطلب العلم.
الآن في البلد مجلات طبية كثيرة، إذا اشترى شخص عدة مجلات، وقرأ في كل مجلة مقالتين أو ثلاثًا، وهناك أسئلة وأجوبة، هذا في الأمراض الباطنية، والقلبية، والرئوية، والبولية...إلخ هذا بعد مطالعة عشرين، أو ثلاثين مجلة، وقرأ مقالاتهم، وقرأ السؤال والجواب، هل يكون طبيباً؟ هذا والله حال المسلمين اليوم، سمع خطبة، قرأ كتابًا، قد يكون فيه دَسٌّ لا يعلمه إلا الله، سمع ندوة من إنسان باع دينه بدنياه، ليس منضبطاً، فيقبل، ويرفض، ويزكي، ويقبّح، ويطعن، يقبل على مزاجه، ويرفض على مزاجه، أهكذا؟
مرة قلت للإخوة الكرام في إحدى الخطب: خذوا دينكم عن الأرضيات لا عن الفضائيات، لأن الذين يتحدثون في بعض هذه الفضائيات ينسجمون مع مموليها، وينسجمون مع أن تتسع رقعة شعبيتهم على حساب دينهم، كل شيء أصبح حلالاً، الرقص، والغناء، والتمثيل، والموسيقى، وسفر المرأة بلا محرم، لم يبق شيئاً، والربا، لم يبقَ شيئاً، بقي الإسلام شكلاً، غلاف بلا مضمون، قال تعالى:
﴿ هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ حَٰجَجۡتُمۡ فِيمَا لَكُم بِهِۦ عِلۡمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٌۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ(66) مَا كَانَ إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصۡرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسۡلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (67)﴾
4 ـ كان إبراهيم عليه السلام حنيفاً مسلماً:
كان إبراهيم حنيفاً مسلماً، أي مائلاً إلى الله، أكد علماء العقيدة أن العبادة طاعة طوعية، وليست طاعة قسرية، ممزوجة بمحبة قلبية، فلو أطعت الله ولم تحبه ما عبدته، ولو أحببته، ولم تطعه فما عبدته، لا تكون عابداً إلى إذا أطعته طاعةً طَوعيةً، ممزوجة بمحبة قلبية.
كان حنيفاً مائلاً إلى الله، أي إنسان قوي شهرَ عليك سلاحاً، وقال لك: أعطني ما في يديك من طعام، فأطعته وأعطيته الطعام، هل تكون قد عبدته؟ أعوذ بالله، مستحيل، أنت مقهور، لذلك نعجب في القرآن أن الله جمع العبد على عباد تارةً، وجمع العبد على عبيد تارةً أخرى، فقال تعالى:
﴿ مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ (46)﴾
وقال:
﴿ وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى ٱلْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا(63)﴾
قال العلماء: العبيد جمع عبد القهر، بينما العباد جمع عبد الشكر، فالمقهور في وجوده وفي استمرار وجوده إلى الله هذا عبد قهر جمع عبيد، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ﴾ أما الذي تعرف إلى الله طواعيةً مبادرةً منه عن اختيار، عن محبة فهذا عبد الشكر يُجمَع على عباد، قال تعالى:
﴿ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ(42)﴾
فرق دقيق بين العبيد والعباد، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصۡرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسۡلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ﴾ التركيز على الشرك، طامة المسلمين الكبرى الشرك، اتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، فكان بأسهم بينهم.
5 ـ الدعوة إلى توحيد الله لا إلى الأشخاص والأفكار:
هناك من يدعو إلى ذاته بدعوة مغلّفة إلى الله، هذا لا يتبع بل يبتدع، هذا لا يتعاون، بل يتنافس، هذا لا يُقِرّ بفضل الآخرين، بل ينتقص منهم، هذا لا يسالم بل يعادي، وما من فرقة ضالة في تاريخ المسلمين إلا وهي تتصف بصفات أربع، تأليه الأشخاص: ﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَٰنَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾ وفي أي دين إذا اتُّخِذ رجال الدين أرباباً من دون الله انحرف هؤلاء، تأليه الأشخاص، وتخفيف التكاليف، واعتماد النصوص الموضوعة والضعيفة، والنزعة العدوانية، بينما أهل الحق يتّبعون ولا يبتدعون، يعتمدون النصوص الصحيحة، عند الأمر والنهي يتعاونون ولا يتنافسون: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ﴾ .
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ ۚ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ(159)﴾
﴿ إِنَّ أَوۡلَى ٱلنَّاسِ بِإِبۡرَٰهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۗ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (68)﴾
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين
أولى الناس باتباع إبراهيم النبي والمؤمنون:
﴿إِنَّ أَوۡلَى ٱلنَّاسِ بِإِبۡرَٰهِيمَ﴾ نقول نحن في الصلاة: "اللهم صل على سيدنا محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل إبراهيم" ﴿لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۗ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾
أيها الإخوة الكرام ﴿إِنَّ أَوۡلَى ٱلنَّاسِ بِإِبۡرَٰهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۗ﴾ الذين طبقوا دينه الحنيف، والنبي عليه الصلاة والسلام هو دعوة أبينا إبراهيم، كما قال عن نفسه:
(( إِنِّي...دَعْوَةِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةِ عِيسَى ))
وإبراهيم أبو الأنبياء: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۗ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ وفي درس قادم إن شاء الله نتابع هذه الآيات التي مطلعها:
﴿ وَدَّت طَّآئِفَةٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يُضِلُّونَكُمۡ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ (69) يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ (70)﴾
الملف مدقق