الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السادس عشر من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الخمسين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيۡكُمۡۚ وَجِئۡتُكُم بِـَٔايَةٍ مِّن رَّبِّكُمۡ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)﴾
وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ:
وكانت الآية التي قبلها:
﴿ قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٌۖ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (47)وَيُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنِّي قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔايَةٍ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةً لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (49)﴾
أولاً: أيها الإخوة، حينما يأتي إنسان ويخاطب الناس يقول: إني رسول الله، فشيء طبيعي جداً أن يقال له: أنت كاذب، ذلك أنّ الرسول معه منهج، والمنهج افعل ولا تفعل، والناس متفلتون، الكافر ليس عنده قيد، طليق من كل قيد، يأكل ما يشتهي، ويلتقي مع من يشتهي، ويذهب إلى أي مكان يشتهي، أي حركته غير مرتبطة بمنهج تبعثها شهواته فقط، فمثل هذا الإنسان إن جاءه إنسان مثله، وقال: إني رسول الله، سيقول له: أنت كاذب، ذلك لأنه سيمنعه من أشياء يحبها.
2 ـ الرسول معه معجزة مناسبة لعصره :
إذاً أن يُكَذَّب الأنبياء شيء طبيعي جداً، أن يُكَذَّب الدعاة إلى الله شيء طبيعي جداً، كيف شهد الله لهؤلاء الرجال الذين هم قمم البشر، شهد لهم أنهم رسله، أيَّدهم بالمعجزات، أيّدهم بشيء لا يستطيعه مخلوق من بني البشر، ولحكمة أرادها الله عز وجل أنّ المعجزة ينبغي أن تتناسب مع العصر، وأن تكون في موضوع تفوق فيها أهل العصر، الآن هناك تفوق بالكمبيوتر مثلاً، يقول لك: أربعمائة وخمسين مليون حرف في الثانية، ففرضاً لو جاء نبي في هذه الأيام فسيأتي بشيء من طبيعة العصر.
في زمن السيد المسيح كان الطب متفوقًا جداً، وفي أيام سيدنا موسى كان السحر متفوقًا جداً، في أيام رسول عليه الصلاة والسلام كانت الفصاحة، والبلاغة، والأدب، والشعر في أعلى درجة، فالمعجزة ينبغي أن تكون تحدياً لقوم النبي فيما برعوا فيه، والإنسان متى يخضع لك؟ سحرة فرعون لماذا حرقوا المراحل كلها، وفي ثوانٍ معدودات خروا لله ساجدين؟ لأنهم سحرة، جاؤوا بأنابيب، ورسموها على شكل أفعى وثعابين، وضعوا فيها معدن الزئبق، وجعلوها فوق مستوٍ ساخن، والسخونة مدَّدت الزئبق، وتحرّك هذا الأنبوب المطاطي، وكأنه ثعبان مبين، فلما رأوا ثعباناً حقيقياً كان قبل دقيقة عصا فإذا هي ثعبان مبين، لأنهم سحرة، ولأنّ هذا الشيء الذي رأوه فوق طاقتهم، خروا لله ساجدين.
الاكتشاف العلمي طريق هداية:
إذا قال طبيب: أنا ألَّفت كتابًا في علم الأجنّة يصبح وكأنه إنجيلٌ لشدة هيمنته على بقية الكتب، وانتشار هذا الكتاب في شتى جامعات العالم، وهو يبين أنّ العظم يتخلَّق بعد اللحم، ثم يكتشف فجأة أنه كان مخطئاً في هذا، وأنّ العظم يتشكل أولاً، ثم يُكسا باللحم، ودخل مرة على طلابه في جامعة أكسفورد ببريطانيا وقال: عندي فتحٌ جديد، وعندي كشفٌ لم أُسبَق إليه، وعندي، وعندي....أي هو قطب في اختصاصه، وهو متوهم سابقاً أنّ العظام تُشكل بعد اللحم وألقى هذه القنبلة، وقال: العظم يتشكل أولاً، على خلاف ما في كتابي، فقام طالب مسلم من تلاميذه، وقال له: يا أستاذ هذه الحقيقة جاء بها القرآن قبل أربعة عشر قرناً، فلم يصدقه، دُهش، فلما جاءه هذا الطالب في اليوم الثاني بالقرآن الكريم مُترجَماً إلى اللغة الإنكليزية قرأ فيه:
﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَٰمًا فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَٰمَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَٰهُ خَلْقًا ءَاخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَٰلِقِينَ(14)﴾
يُروى أنّه أسلم، لماذا؟ لأن هذا هو اختصاصه، سنوات وسنوات، وعقود وعقود، وهو متوهم أن اللحم يتخلق أولاً، والعظام ثانياً، فلما اكتشف العكس وظن أنه سبق كل علماء عصره صُعِق لما رأى في كتاب أُنزل قبل أربعة عشر قرناً يبين ذلك، لذلك قال تعالى:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28)﴾
ذكرت لكم مرة أنّ هناك آية قرآنية لو سمعها عالِم فلك لخر ساجداً، وهي قوله تعالى:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)﴾
من كلمة واحدة، من كلمة مواقع، إنّ هذا النجم العملاق، وهذه المجرة العملاقة التي تبعد عنا عشرين مليار سنة ضوئية، مع أن الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمائة ألف كيلو متر، وفي الدقيقة، وفي الساعة، وفي اليوم، وفي الشهر، وفي السنة، وفي عشرين مليار سنة، كم تبعد عنا هذه المجرة؟
إن أقرب نجم ملتهب إلينا يبعد عنا أربع سنوات ضوئية، لو أردنا أن نصل إليه بمركبة أرضية لاحتجنا إلى خمسين مليون عام، بمركبة أرضية نحتاج إلى خمسين مليون عام كي نصل إلى أقرب نجم ملتهب على الإطلاق، فإذا كانت هذه المجرة تبعد عنا عشرين مليار سنة، أي بقي ضوءها يسير في الفضاء عشرين مليار سنة حتى وصل إلينا، وحتى رصدناه في مراصدنا، هذه المجرة التي أرسلت إلينا هذا الضوء قبل عشرين مليار سنة سرعتها تقترب من الضوء، سرعتها كما قُدِّرت مئتان وأربعون ألف كيلو متراً بالثانية، أين هي الآن؟ لو قال الله تعالى: فلا أقسم بالمسافات بين النجوم لم يكن هذا قرآناً، ولا كلاماً خالداً، إنما قال: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ وكلمة موقع تعني أنّ صاحب الموقع ليس شرطاً أن يكون في الموقع، فقد تركه، هذا موقع فلان، وأين فلان؟ لا نعرف، هذا موقعه، فعلى كلٍّ أيها الإخوة قال تعالى:
﴿ سَنُرِيهِمْ ءَايَٰتِنَا فِى ٱلْآفَاقِ وَفِىٓ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ(53)﴾
ولأنّ هذا العصر هو عصر علم، وتفوق، وفضاء، وذرة، وحواسيب، لذلك سمح الله عز وجل لنفسه أن يوازن ذاته العليَّة مع بعض مخلوقاته، قال:
﴿ ثُمَّ رُدُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوْلَىٰهُمُ ٱلْحَقِّ ۚ أَلَا لَهُ ٱلْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَٰسِبِينَ (62)﴾
الآن الحواسيب المتطورة جداً، الحاسب العادي يقرأ أربعمئة وخمسين مليون حرف في الثانية الواحدة، فحينما تعطي الأمر، وتضغط على الزر تأتي هذه النتيجة على الشاشة فوراً، هذا من صنع الإنسان، فكيف بالواحد الديَّان؟ قال: ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَٰسِبِينَ﴾ حسابه أسرع.
أيها الإخوة، وقال سبحانه: ﴿أَحْسَنُ ٱلْخَٰلِقِينَ﴾ الكُلية الصناعية كالطاولة، لابد أن تستلقي، يستلقي الإنسان على ظهره -لا سمح الله ولا قدر-، لابد أن يستلقي الإنسان على ظهره ثماني ساعات لتصفية دمه، مع تعطيل وقتٍ، وجهدٍ، وألمٍ، ونفقةٍ باهظةٍ، أما هذه الكُلية الطبيعية بحجم البيضة فتعمل بصمت، وأنت نائم، وأنت تمشي، وأنت تعمل، وأنت راكب في مركبتك، أي كل عصر له شيء في تفوق، فحينما تفوق الناس بالسحر جاء موسى بسحر حطّم ما يتوهمون أنه سحر، جاء موسى بمعجزة، وحينما تفوق الناس في الطب السيد المسيح أحيا الموتى، لم يكن هناك طب، يوجد إحياء للميت، يبذلون العناية، يقول الشاعر:
إنّ الطبيب له علم يدلُّ بــــــه إن كان للناس في الآجال تأخير
حتى إذا ما انتهت أيام رحلته حار الطبيب وخانته العقاقيـــــر
والدليل أن الملوك يموتون، ما معنى ملك؟ أي أنّ أطباء العالم في خدمته، قد يأتون له بأطباء من شتى بقاع الأرض، الأدوية النادرة تأتيه، له أعلى عناية على الإطلاق، ومع ذلك يموتون، الأقوياء يموتون، والملوك يموتون، وكل مخلوق يموت، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت، لا يوجد في الطب إحياء ميت، هناك معالجة، وتسكين آلام، وبتر عضو، وعملية جراحية، وتخفيف، ولكن لا يوجد إحياء ميت، ففي عصر السيد المسيح كان الطب متفوقاً فكانت معجزته قوله تعالى: ﴿أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ﴾ إن وجدت في محل ألبسة للأولاد مجسَّمًا من الشمع لطفلة جميلة جداً، وضعها أمام ابنتك التي تأخذ جزءاً من لبّك، هل تُوازَن هذه مع هذه؟ طفلة فيها حياة وحيوية، وابتسامة، وتفكير، ومشاعر، وعواطف، وهناك أجهزة معقدة جداً، تجد في عينها فقط مائة وثلاثين مليون عصيّة ومخروط، في رأسها ثلاثمائة ألف شعرة، لكل شعرة شريان، ووريد، وعصب، وعضلة، وغدة دهنية، وغدة صبغية.
وفي المعدة خمسة وثلاثون مليار غدة هاضمة، وفي الدماغ مئة وأربعون مليار خلية استنادية لم تعرف وظيفتها بعد، هذه هي الطفلة، فوازن بين مجسم لطفلة يوضع في محل ألبسة وطفلة حقيقية، بين وردة صناعية مصنوعة من مادة كيميائية ووردة طبيعية، قال تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَٰلِقِينَ﴾ هذا النبي الكريم قال، قال تعالى: ﴿أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ﴾ طائر من جبصين ﴿فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ﴾ .
وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاة
طائر، يطير وله رئتان، وشرايين، وأوردة، وقلب، وله عينان، وأجهزة كاملة، قال تعالى: ﴿أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ﴾ ﴿ٱلۡأَكۡمَهَ﴾ أي مَن وُلِد أعمى، ﴿وَٱلۡأَبۡرَصَ﴾ هذا اللون الغريب في جلد الإنسان، والذي لا دواء له، ﴿وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾ لكن دقق في كلمة واحدة: ﴿بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ﴾ النبي لا يستطيع بذاته أن يفعل شيئاً، لأنه بشر مثلنا:
﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا(110)﴾
إلا أنه بقدرة الله عز وجل يفعل كل شيء سمح الله له به، هي قاعدة حينما يأتي النبي بمعجزة فهي بإذن الله، وحينما ينبِئُنا بخبر صادق، هذا من علم الله لا يَعلَم إلا أن يُعلَم، ولا يفعل شيئا إلا أن يمكنه الله منه، قال تعالى: ﴿وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمۡۚ﴾ هذا الشيء مستحيل: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةً لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ .
1 ـ لفتة رائعة في قوله : لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين
هذه اللفتة الرائعة: ﴿لَأٓيَةً لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ قد يقول قائل: نحن إن رأينا هذه الآية نؤمن، هنا الإيمان يجب أن يسبق هذه الآية، ما معنى الآية؟ معناها أنه إذا أردت أن تؤمن فأيُّ شيء في الأرض يدلك على الله، البعرة من البعير، والماء من الغدير، والأقدام تدل على المسير، أفسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فِجاج، ألا تدلاّني على الحكيم الخبير؟ فإن أردت أن تؤمن فأيُّ شيء في الأرض يدلك على الله، وإن أردت ألا تؤمن فلن تؤمن، ولو عاصرت الأنبياء مجتمعين، ولو كنت في أكبر محطة فضائية، ولو كنت على (ميكرو سكوب) مجهر يُكَبر أربعمائة ألف مرة، ولو رأيت بعينيك المجرات، ولو غصت في أعماق البحار، وحلَّقت في أعلى الأجواء لا تؤمن، فهي قضية قرار تتخذه من داخلك، إن أردت أن تؤمن كل شيء يدلك على الله، وإن أردت أن لا تؤمن، وأردت الشهوة فلا ترى شيئاً، قال تعالى:
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ(171)﴾
2 ـ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فلابد أن تتأثروا بهذه الآية:
كمثل بسيط: آلة تصوير متواضعة جداً، أرخص آلة في البلد فيها فيلم، وأغلى آلة على الإطلاق ثمنها خمسمائة ألف ليرة، لا يوجد فيها فيلم، فهذه الآلة المتواضعة إن كان بها فيلم فهي تلتقط الصورة، أما التي ليس فيها فيلم فلا تلتقط أية صورة، ما معنى ذلك؟ مهما كنت ذكياً إن لم تُرِد الحق فلا ترى الحق، ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ وإن كنت متوسط الذكاء، بل أقلّ من المتوسط، وأردت أن تؤمن فكل شيء في الكون يدلك على الله:
وفي كلّ شي له آيةٌ تدلّ على أنَّه واحد
[ لبيد بن ربيعة العامري ]
هذه الآية احفظوها، لأن مثيلاتها كثيرة جداً، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةً لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ أي إن أردتم الإيمان، إن كان الإيمان هدفاً لكم هذه آية.
أحياناً تكون في مكان يُتلى فيه القرآن فتجد شخصاً يبكي، ويتأثر، وآخر لا يتأثر أبداً، الذي بكى، وتأثر يعيش أجواء القرآن، والذي لم يتأثر هو بعيد عن أجواء القرآن، لذلك قالوا: إن الإنسان أحياناً يستمع إلى نص قرآني، أو نص نبوي، أو نص من الحِكَم فتتحرك مشاعره ويتأثر، ماذا فعل هذا النص؟ حرّك ما عندك من كنوز فتأثرت، أما من كان خاوياً، وليس عنده شيء يتحرك لو تلوت عليه القرآن كله لا يتأثر، هذا معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةً لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ إن كنتم مؤمنين تتأثرون بهذه الآية، شخص عنده مشكلة كبيرة في البيت، مثلاً هناك خلل بالأنابيب، وحدث طوفان بالماء، وأُتلف الأثاث، وخرج من بيته كالسهم يبحث عن قطعة قد تعطلت في تمديداته الصحية، هذا لا يرى شيئاً في الطريق، لا شخصاً، ولا صديقاً، ولا محلاً لبيع الثريات، ولا محلاً لبيع التحف، ولا محلاً لبيع الطعام، إنه يبحث عن طلبه، فهو أعمى إلا عن طلبه، لذلك قالوا: حُبَكَ الشيء يُعمي ويُصِم، الذي أحب الدنيا أعمته عن كل حقيقة.
وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ
1 ـ وحدة الأصل تعني وحدة الفروع:
﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةً لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ*وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيۡكُمۡۚ وَجِئۡتُكُم بِـَٔايَةٍ مِّن رَّبِّكُمۡ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ هنا عندنا قاعدة ثانية؛ وهي أن وحدة الأصل تعني وحدة الفروع، هناك فروع عديدة، فإن كانت هذه الفروع منبثقة عن أصل واحد فهي متحدة فيما بينها.
الإنجيل من عند الله كما نزل طبعاً، والتوراة من عند الله، والقرآن من عند الله، والأصل واحد، إذاً هذه الكتب ينبغي أن تُصدِّق بعضها بعضاً كما نزلت، لأن اتحاد الأصل يعني اتحاد الفروع، بل إن الإنسان عنده نقل، وهو الوحي، وعنده عقل، من خلق العقل؟ الله جل جلاله، ومن أرسل النقل؟ الله جل جلاله، ومن جبل الإنسان جِبِلّة نفسية معينة؟ الله جل جلاله، ومن خلق الكون؟ الله جل جلاله، لا بد من توافق -هذه الكلمة مستعملة الآن توافقية- بين النقل الذي هو وحي السماء، والعقل الذي هو مقياس أُودع في الإنسان، والفطرة التي هي جِبِلّة جُبِلنا عليها، والواقع الذي هو من خَلْقِه، لابد من اتحاد هذه الأركان الأربعة، لأن الكون خَلْقُه، والجِبِلَّة فطرته، والعقل مقياسه، والوحي كلامه، لا يمكن أن يتناقض كلامه مع مقياس العقل، ومقياس الفِطرة والواقع، هذا هو الحق، إنه شيءٌ جاء به النقل، وأقرَّ به العقل، وارتاحت له الفِطرة، وأيَّده الواقع، هذا هو الحق، لا زلنا في هذه القاعدة الأصولية؛ اتحاد الأصل يعني اتحاد الفروع.
2 ـ بنو إسرائيل حرّموا على أنفسهم أشياء لم يُحرِّمها الله عليهم:
قال تعالى: ﴿وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيۡكُمۡۚ﴾ إن بني إسرائيل حرّموا على أنفسهم أشياء لم يُحرِّمها الله عليهم، وهناك معنى آخر؛ أن الله حرَّم عليهم أشياء تحريم تأديب لا تحريم تشريع، فالنبي عليه الصلاة والسلام، والسيد المسيح أحلّ لهم ما حُرِّم عليهم، إما تأديباً، أو توهماً من قِبَل أنفسهم.
لذلك أيها الإخوة، قد نظن أنه من الخطر الشديد جداً أن نحلل الحرام، هذا جريمة، لكن لا تنسَوا أن هناك جريمة لا تقلّ عنها، وهي تحريم الحلال، تحريم الحلال لا يقلّ انحرافاً في العقيدة عن تحليل الحرام، فأنت مكلف ألا تُحلَّ حراماً، وألا تُحرِّم حلالاً، أحياناً يجتهد الإنسان الاجتهاد من عنده، فيقول: هذا حرام.
خطورة التحليل والتحريم:
حينما أرى رجلاً يتسرع، ويقول: هذا حرام، أعجب أشد العجب، المُحَلِّل والمُحَرِّم هو الله، ومن يجرؤ من بني البشر كائناً من كان أن يَحلَّ شيئاً حرَّمه الله، أو أن يُحرِّم شيئاً أباحه الله، حتى إن رماة أُحد الذين عصَوا رسول الله، صلى عليهم وإن عصوه، قال علماء السيرة: إنهم عصوا أمراً تنظيمياً، ولم يعصوا أمراً تشريعياً، وشتان بين الأمر التشريعي الذي هو من عند الله، وبين الأمر التنظيمي، لو فرضنا أن لهذا الحَرَم بابَين، وأنا قلت: تيسيراً للنظام: يكون الدخول من هذا الباب، والخروج من الباب الآخر، هذا أمر تنظيمي، فإن كان هناك شخص خالف هذا الأمر فهو خالف أمراً تنظيمياً، أما الخمر فحرام، فمن يشربها فقد خالف أمراً تشريعياً، الزنا حرام، فالذي يزني فقد خالف أمراً تشريعياً، فالمسافة كبيرة جداً جداً بين مخالفة الأمر التنظيمي، وبين مخالفة الأمر التشريعي، فرماة أُحد مع أنهم عصوا النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يبقوا في أماكنهم إلا أن الله سبحانه وتعالى سمح لنبيه الكريم أن يصلي عليهم، لأنهم لم يعصوا أمراً تشريعياً، بل عصوا أمراً تنظيمياً، قال تعالى:﴿وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيۡكُمۡۚ وَجِئۡتُكُم بِـَٔايَةٍ مِّن رَّبِّكُمۡ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ الآية إحياء الموتى، وشفاء الأكمه، والأبرص، وإنباء قومه بما في بيوتهم من طعام وشراب قال تعالى:
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسۡتَقِيمٌ (51)﴾
إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
النبي بشر مثلنا ﴿إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسۡتَقِيمٌ﴾ ، أي إن أردت أن تصل إلى الله فالطريق إليه سالك قال:
﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28)﴾
حينما تتعرف إلى الله تسأل كيف الوصول إليه؟ كيف أنال رضاه؟ كيف السبيل إلى أن يحبني الله عز وجل؟ فحينما تعرف الله تنشأ عندك رغبة أكيدة أن تطيعه، وأن تصل إليه، وأن تخطب وده.
قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسۡتَقِيمٌ﴾ قد تجد إنساناً قويا جداً، وبيده كل شيء، لكن لا طريق إليه، ليس بالإمكان أن تقابله، ولا أن تتصل به، ولا أن ترفع إليه كتاباً، مستحيل، فما قيمة قوته؟ وما قيمته أخلاقه؟ وما قيمة عطائه، وكرمه، وفضله إذا كان الطريق إليه ليس سالكاً؟ أما ربنا جل جلاله فبيده كل شيء، لكن الطرائق إليه بعدد أنفاس الخلائق، وأنت في بيتك هناك مئة طريق وطريق إليه؛ أن تكون زوجاً محسناً، أن تكون ابناً باراً، أن تكوني زوجة طائعة لله ولزوجك، أن تكوني ابنة أديبة محجبةً، ومستقيمة عفيفة، وأنت في البيت هناك مئة طريق وطريق إلى الله، وأنت في متجرك هناك مئة طريق وطريق، صدقك عمل صالح، نصحك للمسلمين عملٌ صالح، إتقان عملك عملٌ صالح، رغبتك في خدمة المسلمين عملٌ صالح، لذلك الله بيده كل شيء، لكن الطرائق إليه بعدد أنفاس الخلائق، والآية واضحة جداً: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا﴾ إن أردت أن تلتقي مع الله لقاءً يليق بكماله وتتحمله، أي قال له:
﴿ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِىٓ أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِى وَلَٰكِنِ ٱنظُرْ إِلَى ٱلْجَبَلِ فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوْفَ تَرَىٰنِى ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَٰنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ(143)﴾
استحالة رؤية الله في الدنيا ، وجواز رؤيته يوم القيامة:
أي جبلاً عملاقاً كجبل همالايا تجلى الله عليه فاختفى، فأنت لا تتحمل أن ترى الله في الدنيا، لكنّ النبي وعدنا أنّ المؤمنين يرون ربهم في الجنة كما نرى القمر ليلة البدر، وهناك بعض التفاصيل أنّ الذي ينظر إلى وجه الله الكريم يغيب من نشوة النظرة خمسين ألف عاماً، وأنّ أكبر عقاب يُعاقَب به الإنسان يوم القيامة أنه محجوب عن الله، قال تعالى:
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ(15)﴾
أما في الدنيا فلا نحتمل، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ﴾ اللقاء الذي نألفه، والذي نحتمله، والذي يليق بكمال الله عز وجل، قال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا﴾ .
اعمل عملاً صالحاً للقاء الله:
لو أنّ جنديًا غرًّا التحق بالثكنة قبل يومين، وهذه الفرقة كبيرة جداً على رأسها لواء، لا يمكن أن يقابله لا عميد، ولا عقيد، ولا رائد، ولا مقدم بسبب مكانته العالية، أيستطيع هذا الجندي الغر أن يدخل عليه بلا استئذان؟ مستحيل، أما هذا الجندي لو أنه رأى ابن قائد هذه الفرقة يسبح في مسبح، وأوشك على الغرق اختناقاً، وألقى بنفسه، وأنقذه، وعلم الأب هذا ألا يستطيع هذا الجندي الغِر الذي لم يمضِ على التحاقه بالثّكنة أربعة أيام أن يدخل على باب هذا القائد من دون استئذان، بلى، يستطيع، لأن وجهه أبيض، معه عمل، لذلك الأمر بسيط جداً، قال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا﴾ اخدم عباده، أكرم عباده، واصدقهم وانصحهم، لا تبتزّ أموالهم، لا تؤذِهم في حاجاتهم، لا تؤذهم في مساكنهم، لا تملأ قلبهم خوفاً منك، قال الرسول الكريم:
(( أحبُّ النّاسِ إلى الله أنفعهم للنّاس. ))
لا تقل لإنسان: من أين أنت؟ فهذا عبد لله، إن أكرمته فكأنك أكرمت ربك، فإذا مرّ بك صديق، ومعك ابنك الصغير ماذا يفعل هذا الصديق كي يتقرب إليك؟ يخرج من جيبه قطعة حلوى، ويقدمها لابنك، هي في الحقيقة لك، توسل هذا الصديق إليك عن طريق ابنك، هذا المثل دقيق جداً، إن أردت أن تُكرم ربك فأحسِن إلى عباده، والأصح أحسِن إلى خلقه، إنك إن أحسنت إلى هرة، أو إلى كلب مريض، لو عالجت أحد مخلوقاته لكان الله شاكراً لك، هذا هو الدين بكل بساطة أي هناك بعض الآيات التي قالها سيدنا عيسى، قال تعالى:
﴿ وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَٰنِى بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)﴾
لو أردت أن تضغط الدين كله في كلمتين؛ اتصال بالخالق، وإحسان إلى المخلوق، أي حركة نحو السماء وحركة نحو الأرض، اتصال بالخالق وإحسان إلى المخلوق، هذا هو الدين، هذه حقيقة الدين، قال تعالى:
﴿ فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ (52)﴾
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّه
1 ـ الله يمحّص ويميّز الصالح من غيره:
أحياناً الله عز وجل يقوم بفرز، الهجرة كانت فرز، فمن دخل بالإسلام، لكنه معتز بقومه متعلق ببيته، وماله، وأقرانه، وأقربائه، فلما هاجر النبي رفض أن يهاجر، فهذا فُرِز في الهجرة، الهجرة فرز، حديث الإسراء والمعراج فرز آخر، كل شيء منطقي، أما هذا فغير معقول، يذهب إلى بيت المقدس، ويعود في زمن قصير، فهذا شيء غير معقول، فالذي سمع حديث الإسراء، والمعراج، ولم يكن إيمانه بالله قوياً اهتز، وهناك من ترك النبي عقب الإسراء والمعراج، فالله عز وجل يفرز، قال تعالى:
﴿ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطۡلِعَكُمۡ عَلَى ٱلۡغَيۡبِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَجۡتَبِي مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ وَإِن تُؤۡمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمۡ أَجۡرٌ عَظِيمٌ (179)﴾
الله يبتلي بفتنة أحياناً لحكمة أرادها فيُفرز الناس، ففي معامل الإسمنت كل طبخة تُصب في مكعبات معينة، وهناك جهاز يمتحن قوة تماسك هذه الطبخة، فهناك مكعب إسمنتي يُمسَك من أعلاه، وفي أسفله كفة ميزان تُوضع عليها الأثقال تباعاً، فعلى أي وزن انكسر تكون هذه قوة مقاومته، فإذا كانت الطبخة جيدة جداً فالإسمنت يتحمل قوى ضغط، وهي خمسمائة وخمسون كيلوغرامًا على السنتيمتر المربع، لكن لا يتحمل شد أكثر من خمسة كيلوغرامات على السنتيمتر المربع، لا بد من إسمنت مسلح، لأنه لا يتحمل الشد يُكسر، بينما الضغط خمسمائة وخمسون كيلوغرامًا يتحملها مكعب من الإسمنت ضلعه سنتمتر واحد، أما على الشد فلا يحتمل قوة خمسة كيلوغرامات، يقطع، هذا المثل يدل على أن كل مؤمن عنده قوة تماسك، فهناك مؤمن يفقد تماسكه بضغط معين، أما سيدنا بلال فقد وُضع على الرمضاء في أيام الصيف الحارة، ووُضعت على صدره صخرة ليكفر بمحمد، وهو يقول: أحد أحدٌ، فقوة تماسكه عجيبة، سيدنا سعد بن أبي وقاص ضغطت عليه أمه، إما أن تكفر بمحمد، وإما أن أدع الطعام حتى أموت فقال لها: يا أمي لو أن لك مئة نفس فخرجت واحدة واحدةً ما كفرت بمحمد، فكلي إن شئت أو لا تأكلي.
فكل مؤمن له قوة تماسك، هناك مؤمن قوة تماسكه عجيبة جداً لا تستطيع سياط الجلادين اللاذعة ضغطاً، ولا سبائك الذهب اللامعة إغراءً أن تثنيه عن هدفه، قال تعالى: ﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ﴾
3 ـ حتمية أزلية المعركة بين الحق والباطل:
هناك معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل، لابد لهذه المعركة، والناس لهم ولاءان؛ ولاء للحق أو للباطل، والمعركة مستمرة، والله لا بد أن يفرز عباده المؤمنين، قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِۗ﴾ وقال: ﴿قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ﴾ .
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُون
هنيئًا لمن كان من أنصار الإسلام :
أنا أقول لكم: أيها المؤمنون هنيئاً، وألف هنيئاً لمن كان من أنصار الله، لمن كان جندياً للحق، لمن كان في خدمة الحق، لمن وظف طاقاته في خدمة الحق، لمن أنفق ماله في سبيل الله، لمن أنفق وقته في سبيل الله، لمن أنفق علمه في سبيل الله، لمن أنفق خبرته في سبيل الله، لمن أنفق عضلاته في سبيل الله، هنيئاً له هو الرابح الأول، والويل لمن كان في خندق مضاد للحق، قال تعالى: ﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ﴾ هنيئاً لمن كان من أنصار الله، ولمن وضع كل طاقاته في سبيل الحق، ولا تقلق على هذا الدين، لأنه دين الله، لكن اقلق ما إذا سمح الله لك أن تنصره أو لم يسمح، فإن كنت في خندق آخر فالنتيجة معلومة، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ(36)﴾
﴿ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(12)﴾
إذا كان الله معك كان كل شيء معك، إذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان الله عليك فمن معك.
الملف مدقق