- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
للأنبياء مهمتان كبيرتان ؛ التبليغ و القدوة :
أيها الأخوة الكرام ؛ في الخطبتين السابقتين تحدثنا عن موضوع الحج ، وبقيت خطبة في موضوع الحج متعلقة بزيارة النبي عليه الصلاة والسلام .
أيها الأخوة الكرام ؛ بادئ ذي بدء : للأنبياء مهمتان كبيرتان . المهمة الأولى : مهمة التبليغ . المهمة الثانية : مهمة القدوة . فالمبادئ لا تعيش إلا من خلال المثل العليا ، وإلا من خلال الأسوة الحسنة ، وإلا من خلال النموذج الكامل ، فالمبادئ من دون أن تتمثل في مثل عليا كلام في كلام ، وإذا كانت مكتوبة فحبر على ورق ، لذلك يأتي النبي عليه الصلاة والسلام فضلاً عن مهمة التبليغ - تبليغ ما أنزل الله إليه - هو يجسد في سلوكه هذه المبادئ السامية التي جاء بها فيكون حجة على البشر .
أيها الأخوة الكرام ؛ قيل إن الكون قرآن صامت ، وإن القرآن كون ناطق ، وقيل إن النبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي ، يؤخذ هذا من قول السيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها حينما سئلت عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حينما سئلت عن أخلاقه قالت رَضِيَ اللَّهُ عَنها : " كان خلقه القرآن ".
مقام النبي عليه الصلاة والسلام ثابت لا شك فيه :
أيها الأخوة الكرام ؛ من نعمة الله على المسلمين أن قبر النبي عليه الصلاة والسلام والأصح أن نقول : إن مقام النبي عليه الصلاة والسلام ثابت لا شك فيه ، هو في المدينة المنورة ، وفي بيته الشريف ، بينما بعض المقامات بين أخذ ورد ، واثبات وإنكار ، وهذا يدعو للاضطراب ، مقام النبي عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أحد أن يشك فيه .
شيء آخر : كان من الممكن أن يكون مقام النبي عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة ، وعندئذٍ يزوره حجاج بيت الله الحرام وهم يؤدون مناسك الحج ، ولكن تكرمة من الله عز وجل كان مقام النبي في المدينة لتكون الزيارة إلى المدينة المنورة تكريماً للنبي عليه الصلاة والسلام .
أيها الأخوة الكرام ؛ هذا الموضوع موضوع زيارة النبي عليه الصلاة والسلام يعنينا من عدة زوايا سأحاول أن أعالجها واحدة واحدة .
التوبة إلى الله لا تتم ولا تقبل إلا إذا ضُمّ إلى استغفار الله استغفار رسول الله :
الله جل جلاله يقول في القرآن الكريم :
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ﴾
الإمام القرطبي في تفسيره أشار إلى أن هذه الآية تصدق على زيارة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته وبعد مماته ، وليس هذا لغير النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ﴾
وقد أورد الأزدي قصة مرسلة عن سيدنا علي بن أبي طالب حيث قال : " قدم علينا أعرابي بعدما دفنا رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فرمى بنفسه على قبر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وحثا على رأسه من ترابه ثم خاطبه وهو في قبره قال : قلت يا رسول الله فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله فوعينا عنك ، وكان فيما أنزل الله عليك :
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ﴾
وقد ظلمت نفسي وهأنذا قد جئت إليك لتستغفر لي ، فنودي أن قد غفر لك .
أيها الأخوة الكرام ؛ نريد أن نفهم هذه الآية فهماً عميقاً ، الإنسان حينما يعصي الله أو يعصي رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الإنسان حينما يعصي الله ويعصي رسوله ، كأنما رفض سنة النبي عليه الصلاة والسلام ، فالله جل جلاله تكريماً للنبي ، كما أورد القاسمي في تفسيره أن في هذه الآية تنويهاً بشأن النبي صلوات الله وسلامه عليه ، فالرجل حينما يظلم نفسه بمعصية ربه من خلال خروجه عن سنة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجب عليه أن يستغفر الله، وأن يعتذر من رسول الله ، فلا تتم التوبة إلى الله ولا تقبل إلا إذا ضمّ إلى استغفار الله استغفار رسول الله ، فطاعة رسول الله عين طاعة الله ، ورفض سنة النبي عين معصية الله ، وإرضاء رسول الله عين إرضاء الله ، يستنبط هذا من إفراز الضمير في قوله تعالى :
﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾
بضمير المفرد " والله ورسوله أحق أن يرضوه " لأن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يدعو إلى ذاته ، إنما يدعو إلى ربه ، لأن سنة النبي عليه الصلاة والسلام تشف عن أمر الله عز وجل ، فلذلك طاعة رسول الله هي عين طاعة الله ، ورفض سنة النبي هو عين معصية الله، وإرضاء رسول الله هو عين إرضاء الله ، وإرضاء الله هو إرضاء لرسول الله ، لأن الله عز وجل اصطفى هذا النبي الكريم ، وجعله سيد الخلق وحبيب الحق ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام، أو لأن مقام النبوة في الأصل إنكار للذات وتعريف من بيده ملكوت الأرض والسموات.
التعرف إلى سنة النبي القوليّة و العمليّة :
أيها الأخوة الكرام ؛ القضية في معرفة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضية دقيقة ، لأن الله عز وجل عصم هذا النبي الكريم ، وجعله مشرعاً ، قال تعالى :
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
ماذا يلزم من هذه الآية ؟ يلزم من هذه الآية أن نتعرف إلى سنة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القولية ، كي نأخذ بها تنفيذاً للآية الكريمة :
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
وحينما قال الله عز وجل :
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
قال بعض العلماء : إن معرفة سيرة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العملية فرض عين على كل مسلم كي ينفذ هذه الآية الكريمة :
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
إذاً كما قلت في أول الخطبة : إن النبي عليه الصلاة والسلام له مهمتان كبيرتان ، المهمة الأولى مهمة التبليغ ، والمهمة الثانية مهمة القدوة ، وينبغي أن نعي عنه سنته القولية كي نطبقها ، وينبغي أن نعي سيرته العملية كي نقتدي بها ، ففرض عين على كل مسلم أن يعرف سنة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وأن يعرف سيرته كي يتبع سنته ، ويطبق سيرته .
دليل محبة الله عز وجل اتباع سنة نبيه :
أيها الأخوة الكرام ؛ بقي نقطة دقيقة قال الله عز وجل :
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾
لما كثر مدّعو محبة الله ، والدعوة سهلة جداً ، لا تكلف الإنسان شيئاً إلا أن يقول : أنا أحب الله ، لما كثر مدّعو محبة الله عز وجل طالبهم الله بالدليل ، ودليل محبة الله عز وجل اتباع سنة النبي عليه الصلاة والسلام ، فكل من قال إنني أحب الله نقول لهم :
﴿هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
هل أنت مطبق لسنة النبي عليه الصلاة والسلام ؟
أيها الأخوة الكرام ؛ يستنبط من قول الله عز وجل :
﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ﴾
أن معرفة رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، معرفة فحوى دعوته ، معرفة دقائق سيرته هي من صلب الدين ، من جوهر الدين ، لأنه القدوة ، ولأنه المشرع ، ولأنه المعصوم ، ولأن الله عز وجل اصطفاه ، وأوحى إليه ، وأيده بالمعجزات .
أيها الأخوة الكرام ؛ آية دقيقة يقول الله عز وجل في القرآن الكريم :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾
وهذه الآية نضمها إلى الآية الأولى :
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾
هذه الآية أيها الأخوة تؤكد- كما يقول علماء التفسير - أن المسلمين في بحبوحة من أمرهم ما دامت سنة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم أي في حياتهم ، أي إذا كانت سنة النبي مطبقة في بيوتنا ، إن كانت سنة النبي مطبقة في حياتنا ، في علاقاتنا ، في أفراحنا ، في أحزاننا ، في شؤوننا الكبيرة والصغيرة ، في كل حركاتنا ، في ليلنا ونهارنا ، إذا كانت سنة النبي عليه الصلاة والسلام مطبقةً في حياتنا فنحن في بحبوحة من أن ينالنا عذاب الله عز وجل :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
إن كانت هذه الآية تعني في حياة النبي أي وأنت بين ظهرانيهم ، هو في بحبوحة الدعوة ، أما حينما ينتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى فإذا كانت سنته مطبقة في حياة المسلمين
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ﴾
وهناك بحبوحة أخرى
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾
فالإنسان في بحبوحتين إما أنه مطبق للسنة ،
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ﴾
وإما أنه وقع في خطأ ، أو زلت قدمه ، أو وقع في مخالفة ، فبادر إلى الندم ، والاستغفار ، والتوبة ، إذاً هو في بحبوحة الندم والاستغفار .
فيا أيها الأخوة الكرام ؛ إذا أردتم ضمانة من الله جل جلاله فعليكم بتطبيق سنة النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذه الآية من الآيات الدقيقة التي تبث في النفس الطمأنينة إلى رحمة الله عز وجل :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾
بحبوحة تطبيق سنة النبي ، وبحبوحة الاستغفار والندم والتوبة .
زيارة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكون بمعرفة سنته و الاقتداء به :
أيها الأخوة الكرام ؛ ملاحظة أضعها بين أيديكم ، لو أن الإنسان زار الأماكن المقدسة أو زار مقام النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( ما بَيْنَ قبري وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الجَنَّة ))
والمكان بين منبر النبي عليه الصلاة والسلام وبين قبره اسمه الروضة ، وكل حاج صادق مخلص منيب إلى الله عز وجل يشعر في الصلاة في هذه البقعة المباركة براحة نفسية ، وبسعادة لا توصف ، إنها اسم على مسمى ، وقد يقف الحاج في محراب النبي الذي صلى فيه ، في محراب النبي القديم الذي صلى بأصحابه فيه ، وقد يتأثر ، وقد يبكي ، وقد يذكر عهد النبي، وعهد أصحابه الكرام ، هذا كله لا ريب فيه ، لكن أريد أن أضع بين أيديكم حقيقة دقيقة أوضحها عن طريق مثل ، لو أن عالماً كبيراً له من المؤلفات الشيء الكثير ، وله باع طويل في الفهم والدقة والإبداع ، هذا العالم الجليل لو أن له مكتباً ، وخلف هذا المكتب كرسي ، وله حاجب أمي قفز وجلس على كرسي هذا العالم ، فهل يرتقي مقامه بين أفراد المجتمع إذا جلس في كرسي هذا العالم الجليل ؟ لا يرتقي إذا جلس في مكانه ، ولكنه يرتقي إذا تعلم القراءة والكتابة ، ثم يرتقي إذا نال الشهادة الأولى ، ثم الشهادة الثانية ، ثم الشهادة الثالثة . فنحن أيها الأخوة لا نرتقي إذا وقفنا في المكان الذي وقف فيه النبي ، قد نبكي ، وقد نتأثر ، ولكن لا نرتقي إلا إذا اتبعنا سنة النبي عليه الصلاة والسلام .
أيها الأخوة الكرام ؛ النبي عليه الصلاة والسلام جاء بسنة مطهرة ، لو أننا طبقناها لقطفنا ثمارها ، لو أننا طبقنا سنة النبي القولية والعملية في كل شؤون حياتنا لكنا في حال آخر غير هذا الحال ، لذلك أيها الأخوة الكرام معرفة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، معرفة سنته القولية، معرفة سنته العملية ، الاقتداء به ، اتباع هديه ، هو المقصود من زيارة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
سرّ السعادة الكبرى التي يشعر بها الإنسان حينما يقرأ سيرة النبي أو يزور مقامه :
أيها الأخوة الكرام ؛ بقيت نقطة دقيقة ، ما سرّ هذه السعادة الكبرى التي يشعر بها الإنسان حينما يقرأ سيرة النبي أو حينما يزور مقامه ؟ أي حينما يتصل بشكل أو بآخر بهذا النبي العظيم إما أن يقرأ سيرته القولية ، وإما أن يطلع على سيرته العملية ، وإما أن يزور مقامه الشريف .
أيها الأخوة الكرام ؛ لهذه السعادة سرّ ، المؤمن تصبح نفسه صافية من كل كدر ، نقية من كل شائبة ، سليمة من كل عيب ، حينما تنتشي بحب النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وحبّ النبي جزء من الدين . قال : يا رسول الله أحبك أكثر من أهلي وولدي ومالي والناس أجمعين ، إلا نفسي التي بين جنبي ، قال : يا عمر لما يكمل إيمانك ، فلما قال له : أحبك أكثر من أهلي وولدي والناس أجمعين ونفسي التي بين جنبي ، قال : الآن يا عمر .
إذاً حينما تحب النبي فمحبة النبي جزء من الدين ، لماذا تحب النبي ؟ لأن هناك قواسم مشتركة بينك وبينه ، إن كنت موصولاً بالله عز وجل ، وعلى شيء من الكرم تحب سيد الكرماء ، إن كنت موصولاً بالله عز وجل ، وعلى شيء من الحلم تحب سيد الحلماء ، إذا كنت موصولاً بالله عز وجل ، وعلى شيء من الرحمة تحب سيد الرحماء ، إذا كنت موصولاً بالله عز وجل ، وعلى شيء من العدل تحب الذي كان العدل مهجته ، إذاً متى تحب إنساناً لا بد من قواسم مشتركة بينك وبينه ، ومادام المؤمن على اتصال بالله عز وجل ، وهذه الصلة بالله أورثته صبغة الله التي نوه الله بها في القرآن الكريم ، فمن خلال هذه الصبغة يحب من فاقه في هذا المضمار ، وهذا شأن الإنسان في الحياة ، الذي يعمل في حقل العلم يقدر من فاقه في هذا الحقل ، والذي يعمل في حقل التجارة يقدر من فاقه في هذا الحقل ، وكل إنسان له ثلاث شخصيات ؛ شخصية يكونها ، وشخصية يتمنى أن يكونها ، وشخصية يكره أن يكونها ، فالمؤمن الحق إذا اتصل برسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشكل أو بآخر ، قرأ سنته القولية ، قرأ سيرته العملية ، زار مقامه الشريف ، يشعر بصفاء ونقاء وسعادة ونشوة لا توصف ، هذه حقيقة الشفاعة التي أشار إليها النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله :" من زار قبري وجبت له شفاعتي" وقوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً على أن أكون له شفيعاً يوم القيامة ))
وإن شئت أيها الأخ الكريم الدليل القرآني على ما يشعر به المسلم من سكينة وسعادة حينما يتصل برسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنحو أو بآخر فاقرأ قوله تعالى :
﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾
قال الإمام الرازي في تفسيره : إن روح محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت روحاً قوية صافيه ، مشرقة باهرة ، لشدة قربه من الله ، ولأن قلبه الشريف مهبط لتجليات الله جلا وعلا ، فإذا ذكر النبي أصحابه بالخير والود ، أو ذكره المؤمنون بالحب والتقدير فاضت آثار قوته الروحانية على أرواحهم ، فأشرقت بهذا السبب نفوسهم ، وصفت سرائرهم ، وهذه المعاني يمكن أن نلمحها في قوله تعالى :
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾
أي لشدة اتصال النبي بربه أصبح قلب النبي مهبطاً لتجليات الله ، فأي إنسان اتصلت نفسه برسول الله بشكل أو بآخر ، بنحو أو بآخر اتصالاً فكرياً ، قرأ سنته ، قرأ سيرته ، زار مقامه الشريف يتصل بنوع أو بآخر بهذا المدد الذي يأتي قلب النبي عليه الصلاة والسلام .
أيها الأخوة الكرام ؛ يروى أن بلالاً رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ سافر إلى الشام ، وطال به المقام بعد وفاة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام ، ولقد رأى وهو في منامه وهو في الشام رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول له : ما هذه الجفوة يا بلال أما آن أن تزورني ؟ فانتبه حزيناً ، وركب راحلته ، وقصد المدينة ، فأتى قبر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعل يبكي عنده كثيراً ، فأقبل الحسن والحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنهما وجعل يضمهما ويقبلهما فقالا : نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذنه به لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وأصرا عليه فصعد وعلا سطح المسجد ، ووقف موقفه الذي كان يقفه ، ولما بدأ بقوله : الله أكبر ، وتذكر أهل المدينة عهد رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتجت المدينة ، وخرج المسلمون من بيوتهم ، فما رأيت يوماً أكثر باكياً وباكيةً في المدينة بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك اليوم ، لقد صدق أبو سفيان حينما قال : ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً ، هذه الحقيقة تنسحب على كل مؤمن إلى يوم القيامة ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ، ووالده ، والناس أجمعين))
الآيات الأربع التالية هي جوهر زيارة رسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الحج :
أيها الأخوة الكرام ؛ نخلص من هذا العرض السريع لبعض الآيات الكريمة و الأحاديث الشريفة أن معرفة رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وأعني بها معرفة سنته القولية ، وسيرته العملية ، جزء من الدين ، وأن محبة رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جزء من الدين ، وأن اتصال المؤمن برسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنحو أو بآخر جزء من الدين ، وأن الآيات الكريمة التي قالها الله عز وجل :
﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ﴾
هذه الآيات الأربع التي فيها تنويه لمقام النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ودعوة للمؤمنين كي يقتدوا بهذا النبي العظيم ، هو جوهر زيارة رسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الحج .
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
خطبة الوداع خطبة جامعة مانعة تضمنت مبادئ إنسانية :
أيها الأخوة الكرام ؛ لقد خطب النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع خطبة جامعة مانعة تضمنت مبادئ إنسانية سيقت في كلمات سهلة سائغة ، وقد أوتي النبي عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم ، لقد استوعبت خطبة الوداع في حجة الوداع جملة من الحقائق التي يحتاجها العالم اليوم ، العالم الشارد ، العالم المعذب ، ليرشد ويسعد .
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
أيها الأخوة الكرام ؛ إن الله عز وجل ربى محمداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليربي به العرب ، وربى العرب بمحمد ليربي به الناس أجمعين ، هذا يؤخذ من قوله تعالى :
﴿ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾
فمن المبادئ التي انطوت عليها خطبة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع أن الإنسانية متساوية القيمة في أي إهاب تبرز ، إنسان أبيض ، ملون ، فقير ، غني ، من دول الشمال ، من دول الجنوب ، من دول الشرق ، من دول الغرب ، من العرق الفلاني ، من الجنس الفلاني هذه كلها عنعنات جاهلية ، الإنسانية متساوية القيمة في أي إهاب تبرز وعلى أية حالة تكون ، ووفق أي مستوى تتربع ، يا أيها الناس هكذا قال النبي في خطبة حجة الوداع.
" إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى ، ألا هل بلغت ، اللهم فاشهد" . إذاً أية تفرقة على مستوى البشرية هي تفرقة جاهلية عنصرية ، البشر جميعاً في مستوى واحد ، وفي مكان واحد، وفي تكليف واحد ، وتشريف واحد ، يتفاضلون بالتقوى وبالطاعة ، أما أن يتفاضلوا لغير علة التقوى ، لجنس ، أو لعرق ، أو للون ، أو لحجم مالي ، أو لحجم في القوة ، هذه كلها جاهلية ، وعنصرية تتناقض مع الإسلام ، هذه النقطة الأولى في خطبة حجة الوداع .
والنقطة الثانية أيها الأخوة ؛ النفس الإنسانية ما لم تكن مؤمنة بربها ، مؤمنة بوعده ووعيده ، مؤمنة بأنه يعلم سرها وجهرها . ربما بنت غناها على فقرهم ، ربما بنت عزها على ذلهم ، ربما بنت حياتها على موتهم ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع : " أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، إنما المؤمنون أخوة لا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيبة نفس منه ، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد ".
النفس الإنسانية من دون معرفة بالله ، من دون اتصال به ، تحب أن تأكل كل شيء ، وأن تحرم غيرها من كل شيء .
لذلك المبدأ الثاني في خطبة حجة الوداع : الدماء والأموال والأعراض عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، إنما المؤمنون أخوة لا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه ، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا هل بلغت اللهم فاشهد .
البند الثالث في خطبة حجة الوداع : أيها الأخوة المال قوام الحياة وينبغي أن يكون متداولاً بين كل الناس ، وأنه إذا ولد المالُ المالَ من دون جهد حقيقي يسهم في إعمار الأرض ، وإغناء الحياة تجمع هذا المال في أيد قليلة وحرمت منه الكثرة الكثيرة ، عندها تضطرب الحياة ويظهر الحقد ، ويلجأ إلى العنف ، ولا يلد العنف إلا العنف ، والربا يسهم بشكل أو بآخر في هذه النتائج المأساوية التي تعود على المجتمع البشري بالويلات لهذا قال عليه الصلاة والسلام في خطبة حجة الوداع : " ألا وأن كل ربا في الجاهلية موضوع ، وإن لكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمون ، قضى الله أنه لا ربا ، وإن أول ربا أبدأ فيه - أي أسقطه - ربا عمي العباس بن أبي المطلب . هذا البند الثالث في خطبة حجة الوداع ، وأما البند الرابع فالنساء كم تعلمون أيها الأخوة شقائق الرجال ، ولأن المرأة مساوية للرجل تماماً من حيث أنها مكلفة كالرجل بالعقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق ، ومساوية له من حيث استحقاقها الثواب والعقاب ، إنها مساوية له تماماً في التشريف ، وفي التكليف ، وفي التكريم ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام في خطبة حجة الوداع : "اتقوا الله بالنساء ، واستوصوا بهن خيراً ، ألا هل بلغت اللهم فاشهد ".
أيها الأخوة الكرام ؛ ثم يتابع النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبة حجة الوداع ويقول: " أيها الناس لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض - أي إذا انطلقت القذائف من بلد مسلمة إلى بلدة مسلمة - أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم ، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرونه من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً أمراً بيناً كتاب الله وسنة رسوله ، وإنكم تسألون عني فماذا أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك بلغت ، وأديت ، ونصحت ، فجعل عليه الصلاة والسلام يشير بإصبعه السبابة إلى السماء وهو يقول : اللهم اشهد ، اللهم اشهد " .
أيها الأخوة الكرام ؛ خطبة حجة الوداع والله لا أبالغ تحل مشكلات العالم لأن النبي عليه الصلاة والسلام بالتعبير الحديث وضع يده على الجراح ، لا عنصرية ، ولا تفاوت ، ولا عدوان ، لا على مال ، وعلى عرض ، ولا على دم ، ولا تفرقة بين الرجال والنساء ، هكذا قال عليه الصلاة والسلام في خطبة حجة الوداع ، هذه الخطبة ينبغي أن نقرأها كثيراً ، أن نعيها كثيراً ، وأن نجعلها دستوراً لنا في حياتنا .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .