الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس عشر من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الخامسة والأربعين، وهي قوله تعالى:
﴿ إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ وَجِيهًا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلًا وَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ (46)﴾
إِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
أيها الإخوة، بدأنا بقصة جديدة، قصة السيدة مريم، حيث جاءتها الملائكة.
1 ـ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ
قال تعالى: ﴿إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ﴾ لأنّ الله عز وجل أمره كن فيكون:
﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82)﴾
بعض العلماء يقول: إنه حتى في هذا تقريب لنا، أمره أسرع من هذا فكلمة، (كن) تحتاج حركتين، وكلمة (فيكون) حركتين، أي أربع حركات.
الزمن معدوم بين إرادة الله وخلقه، ولكن شاءت حكمة الله أن يجعل لكل شيء سبباً في الدنيا، ما وظيفة هذا السبب؟ وظيفته أنّ العقل الذي أودعه الله فيك مبادئه ثلاث؛ أحد هذه المبادئ هو السببية، فعقلك البشري لا يستوعب شيئاً من دون سبب، لا يمكن أن تقبل شيئاً من دون سبب، لا يمكن أن تدخل بيتك فإذا المصابيح متألقة، وقد أقفلت البيت بنفسك، ولا أحد معه مفتاح البيت سواك، تقول: حتماً دخل لص، لِمَ قلت: حتماً دخل لص؟ لأنك لا تستوعب أن تتألق مصابيح البيت من دون سبب، من دون إنسان دخل البيت، إذاً: عقلك لا يقبل شيئاً إلا بسبب، وقد صُمم الكون على مبدأ السببية، الفاكهة من الشجرة، والشجرة من البذرة، تضع البذرة في التراب، فتصبح فسيلة، ثم شجرة تثمر، الماء من البئر، البيضة من الدجاجة، كل شيء له سبب، قال تعالى:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا(83)إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا(84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا(85)﴾
حتى إن الله جل جلاله حينما يحب أن يعطي فإنه يعطي بسبب، وحينما يؤدب فإنه يؤدب بسبب، وهو مسبِّب الأسباب، لكن كل شيء يقع في الكون له سبب ونتيجة، وعقلك لا يستوعب الأمر إلا بسبب، لكنّ الله سبحانه وتعالى قُدرته كن فيكون.
نحن إن أردنا أن نبني بيتاً نحتاج إلى سنوات لشراء أرض، واستصدار ترخيص، وحفر الأرض، وإنشاء الدعائم والهيكل، فقد نحتاج إلى سنوات، لكن للتقريب فقط، الإله العظيم إذا قال: كن، فلا يوجد هناك وقت أبداً، الوقت معدوم بين كلمة كن وأن ترى بناءً شامخًا، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ يؤكد هذا المعنى حديث صحيح من الأحاديث القدسية، فعَنْ أَبِي ذَرٍّعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى :
(( يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. ))
[ مسلم، الترمذي، ابن ماجه، أحمد، الدارمي ]
كن فيكون.
لو أراد الله لغرقت الأرض بالأمطار، لأن هناك حكمة بالغة، فتقنين الله تقنين تأديب لا تقنين عجز، وقد اطَّلعت على بحث علمي مفاده أن في الفضاء الخارجي سحابة يمكن أن تملأ محيطات الأرض كلها ستين مرة في اليوم بالمياه العذبة، فمن الممكن أن يكون في دمشق ألف ميليمتر، وألفان، وترون بأعينكم أن أماكن في العالم تجتاحها الفيضانات، وقد أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذا، وهذه الإشارة من دلائل نبوَّته، بعد أن وُضع في المقاييس في شتى بقاع الأرض، وبعد أن أُخِذت كميات الأمطار الهاطلة في كل أنحاء الدنيا، اكتشف علماء الجغرافية أن كمية الأمطار الهاطلة في الأرض لا تتغير أبداً، لا تزيد، ولا تنقص، ولكنها تتبدل في توزعها، أحياناً يصيب الشرق الأوسط جفافاً، وأحياناً يصيبُ إفريقيا جفافاً، وأحياناً المغرب، وأحياناً أوروبا، وأحياناً شرق آسيا.
الجفاف ينتقل من مكان إلى مكان تأديباً من الله عز وجّل، وأحياناً تنزل الأمطار الغزيرة تأديباً من الله، فتنتقل من مكان إلى آخر، وتأتي هذه السيول على كل البيوت، وتتلف المحاصيل، وتُنهي كل شيء.
فربنا عز وجل جعل كمية الأمطار واحدة، فقال عليه الصلاة والسلام -بلا مقاييس، بلا جامعات، بلا مخابر، بلا نشرات، بلا تواصل إعلامي، بلا أقمار صناعية، بلا كل شيء- وهذا حديثٌ عن النبي قبل ألف وأربعمائة عام:
(( مَا عَامٌ بِأَمْطَرَ مِنْ عَامٍ. ))
فأمر اللهِ عز وجل كن فيكون، (لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ، وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا َكمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ) ولكن شاءت حكمة الله أن يكون خلقه وفق مبدأ السببية في الدنيا، لماذا؟ أنت إذا رأيت شيئاً بلا سبب تقيس عليه الكون، تقول: هذا الكون بلا سبب، ولا يحتاج إلى خالق، ما دمت رأيت شيئاً بلا سبب تجعله قانوناً، لكن الله لحكمةٍ أرادها جعل لكل شيءٍ سبباً، هذا المبدأ الذي تشاهده، والذي رسخ في عقلك يهديك إلى مسبب الأسباب، مثلاً هذه الدجاجة من البيضة، وهذه البيضة من الدجاجة، وهذه الدجاجة من البيضة، لا بد أن تنتهي هذه السلسلة، أن تنتهي عند بيضة أو دجاجة، فإذاً: مَن خلقها؟ من مسبِّب الأسباب؟ هو الله عز وجل، فكأن الله يأخذ بيدنا بنعومةٍ، وبلطفٍ إليه.
أيها الإخوة، انتبهوا الآن، إنّ الإنسان أحياناً يظن أن السبب يخلق النتيجة، الإنسان أحياناً يظن، أو يتوهم أن السبب يخلق النتيجة، فقد وقع في الشرك، فكل من أخذ بالأسباب، واعتمد عليها فقد أشرك، كل من أخذ بالأسباب، واطمأنّ إليها فقد أشرك، فالله عز وجل من حين إلى آخرَ يبين لنا من خلال أفعاله أنّ السبب لا يخلق النتيجة، إنما يترافق مع النتيجة، النتيجة من خلق الله عز وجل، فنُفاجَأ أنّ امرأةً لم يمسسها بشر أنجبت طفلاً بلا أسباب! نتيجة بلا سبب، كن فيكون، أو أنّ شاباً وشابةً فُحِصا طبياً فهُما تامَّا الخلق، ولا ينجبان، قال تعالى:
﴿ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَٰثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُۥ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(50)﴾
السبب إما أن يُلغى في الحالة الأولى، وإما أن يُعطّل في الحالة الثانية، يُلغى أو يُعطل ترسيخاً للتوحيد، كي تعلم أن الله مسبب الأسباب، وأن الله خالق النتائج، وأن النتيجة ليست من السبب، بل هي من خلق الله عز وجل، لذلك يكاد العالم اليوم ينقسم قسمين؛ قسمٍ في الغرب شاردٍ عن الله، أخذ بالأسباب، وأَلّهَهَا، واستغنى بها عن الله، والقسم المقصِّر في الشرق لم يأخذ بها جهلاً منه أن الله هو كل شيء.
هذا مثلٌ بسيط: هذا الذي يأكل الفاكهة من دون أن يغسلها توهماً منه أن الله هو الذي يحمي، وأن الله لا يضرُّ مع اسمه شيء، يقول لك قل: بسم الله، وكُلْ، هذا جهلٌ كبيرٌ، فالذي يتوهم أنه لا حاجة للأخذ بالأسباب، توكّل على الله، هذا جهل فاضح، سيدنا عمر كان مع جيشه على مشارف الشام، فسمع أن فيها طاعوناً، فأحجم عن دخولها، قال له بعض الصحابة: "يا أمير المؤمنين، أَتَفِرُّ من قضاء الله" ؟ نظر إليه، وقال: "نعم أفر من قضاء الله إلى قضاء الله" .
لو أنك تملك أرضين؛ إحداهما مُعشبة، والأخرى مُجدِبة، أليس إن رعيت غنمك في المُعشبة رعيتها بقضاء الله، وإن أرسلتها إلى المُجدبة أرسلتها بقضاء الله، فنحن نَفِرُّ من قضاء الله إلى قضاء الله، السلامة أيضاً قضاء من الله، أرأيتم إلى هذا الفهم العميق، أردت من كلمة "كن فيكون" أن الله قادر أن يخلق شيئاً بثانية، كن فيكون، حتى كن فيكون تقريب وتوضيح، هو الزمن معدوم بين مشيئة الله وبين فعله، ولكن شاءت حكمته أن يجعل لكل شيء سبباً، يمكن لأب أن يجد أمامه ابنًا عمره عشرون سنة، كاملاً، مثقفًا، يحمل شهادة عليا، ابنه كن فيكون، الطريق طويل جداً، يجب البحث عن زوجة، وعن بيت، وتفرش البيت، وتتفق مع أهل الزوجة، وتقيم عرساً، وتدخل بها، وتحمل، وكل يوم ألم، وكل يوم حالة، وكل يوم شيء متعب، وبعد ذلك تنجب، والطفل يحتاج إلى رعاية تامة، يومًا يحبو، ويومًا يمشي، ويومًا ينظف، ويومًا يقول: بابا، بالتسلسل حتى يمضي عشرون عاماً، فتجده فتى أمامك، إن الله قادر، كن فيكون، في ثانية، ولكن شاءت حكمة الله أن يجعل لكل شيء سبباً، السبب من أجل أن يكون لك عمل، لو كان كل شيء جاهزاً لما كان للحياة معنى، من أجل أن يكون لك عملاً، من أجل أن ترقى عند الله في تربية أولادك، وأن ترقى عند الله بتعلم حرفة تكسب منها رزقك، لولا أن الله قد جعل لكل شيءٍ سبباً لما ارتقى إنسانٌ على وجه الأرض.
إنقاذاً للتوحيد من حين لآخر يُلغى السبب:
الله مسبِّب الأسباب، لكن إنقاذاً للتوحيد من حين لآخر يُلغى السبب، أو يُعطَّل، يُلغى السبب في السيدة مريم، أو يُعطل في الشاب والشابة اللذين لا ينجبان، قال تعالى: ﴿إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ منهُ ﴾ أي كلمة، سيدنا عمر عزل سيدنا خالدًا، قال له: "لم عزلتني؟ قال له: والله إني أحبك، قال: لمَ عزلتني؟ قال: والله إني أحبك يا أبا سليمان، قال: لمَ عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: والله إني أحبك، في الرابعة ألحّ عليه، فقال: والله ما عزلتك يا بن الوليد إلا مخافة أن يُفتتَن الناس بك، لكثرة ما أبليت في سبيل الله".
فقد توهم الناس أنّ أية معركة يدخلها خالد لا بد أن ينتصر، فإنقاذًا للتوحيد، ومن أجل أن يعرف الناس أن النصر من عند الله، لا من عند خالد، عزله، واستمر النصر، فأخطر شيء في التوحيد أن تُشرِك، أن تتجه إلى غير الله، أن تُعلِّق الأمل على غير الله، أن ترجوَ غير الله، أن تخاف من غير الله، أن تُرضي غير الله، أن تُغضب غير الله، التوحيد ألّا ترى إلا الله، وألّا تعبد إلا الله، هو المعطي، والمانع، والخافض، والرافع، والمعز، والمذل، والرزاق يُعطي ويأخذ، ويرفع، ويخفض، ويُعز، ويُذل، إذاً: هذه خرقٌ لسنن الكون، السيدة مريم معجزة، واتفقنا فيما مضى على أنّ خرق القوانين والسنن والعادات الثابتة للأنبياء معجزة، وللأولياء كرامة، وللضُلَّالِ ضلالة، قد يُؤتى الإنسان بمساعدة الجن شيئاً من خرق العادات، هذا فيه ضلالة، لأنها تُوَظَّف في الباطل، وقد يؤتى المؤمن الكريم عند الله كرامة، وقد يُؤتَى النبي معجزة.
2 ـ عيسى ابن مريم كلمة الله:
قال تعالى: ﴿إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ﴾ هو كلمة سيدنا عيسى، كن فيكون، وكما قال بعض العلماء: كلمة عيسى تعريب كلمة يسوع، واليسوع هو المُخَلِّص، والمسيح لقبه، وكلكم يعلم أن للإنسان اسماً، ولقباً، وكنيةً، ونسباً، إذا قلنا: سيدنا عمر، فهذا اسمه، وإذا قلنا: أبو حفص، فهذه كنيته، وإذا قلنا: الفاروق فهذا لقبه، وإذا قلنا: القرشي فهذا نسبه، فللإنسان اسم، وكنية، ولقب، ونسب، فسيدنا عيسى اسمه عيسى، لقبه المسيح، لماذا نُسب إلى أمه مع أنه لم يَرِد في القرآن الكريم دون أن تستنبطوا شيئاً من هذا، لم يَرِد في القرآن الكريم اسم امرأة على الإطلاق، بعضهم اجتهد، وقال نكتب مثلاً: ندعو حضرتكم لحضور عقد قران فلان على كريمة فلان، ويخفي اسمها، وقد فعل هذا بعضهم، لكنّ النبي عليه الصلاة والسلام صرّح بأسماء بعض النساء، فإذاً: الاستنباط ظن، على كلٍ الواقع أنه لم يرِد في القرآن الكريم كله اسم امرأة إلا السيدة مريم، من أجل أن يكون هذا توكيداً أن المسيح ابن مريم، وليس له أب، هذا إعجاز.
استنباط لطيف : ليس في القرآن خطاب بلفظ محمد ، لكن بلفظ الرسالة أو النبوة:
ولكن هناك استنباطات لطيفة، وهي أنه لم يرِد في القرآن الكريم اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخطاب: يا محمد، هناك قوله تعالى:
﴿ إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ (55)﴾
وهناك :
﴿ يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسْمُهُۥ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُۥ مِن قَبْلُ سَمِيًّا(7)﴾
وهناك قوله :
﴿ يَٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَٰبَ بِقُوَّةٍۢ ۖ وَءَاتَيْنَٰهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيًّا(12)﴾
ليس في القرآن كله يا محمد، هناك:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَٰفِرِينَ(67)﴾
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰٓ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا(59)﴾
هذا لعلوّ مقامه عند الله عز وجل، ما خاطبه باسمه أبداً، خاطبه بمرتبته، لكن في أعلى مقام، الإنسان له نشاطات كثيرة، يأكل، ينام، يستريح، يذهب، ويسافر، ولكن قد يُقام له حفل تكريمي كبير لنيل شهادة عليا هذا يوم من أيام العمر، يوم يتزوج مثلاً بالتقريب، يوم ينال شهادة كبرى، يوم يؤسس شركة فرضاً، يوم يتعين في منصب رفيع، هذه أيام معدودة.
في المواقف العظمى التي وقفها النبي خُوطب بأنه عبد الله، أعلى مقام أن تدعو إلى الله، قال تعالى:
﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا(19)﴾
وقوله :
﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى(9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10)﴾
وفي الإسراء قوله تعالى:
﴿ سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِۦ لَيْلًا مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا ٱلَّذِى بَٰرَكْنَا حَوْلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنْ ءَايَٰتِنَآ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ(1)﴾
أي في أعلى مقام يُنادى بأنه عبد لله، ونحن ديننا دين العبودية لله.
يروى أن رجلاً كان مشركاً بالمعاصي والآثام، معاقراً الخمر والزنا، وما شاكل ذلك، وكان غنياً مُترفاً عنده الجواري، طرق بابه رجل صالح، ففتح عبدٌ الباب، فقال له هذا الرجل: قل لسيدك إن كان حراً فليفعل ما يشاء، وإن كان عبداً فما هكذا تصنع العبيد، العبد يطيع سيده، فهذا العبد دخل على سيده، وقال له: إنّ في الباب رجلاً يقول لك: إن كنت حراً فافعل ما تشاء، وإن كنت عبداً فما هكذا تصنع العبيد، فقال: أدرِكه، فهذا السيد فعلت هذه الكلمة في نفسه فعلاً عجيباً، فتبعه حافياً من دون نعل إلى أن أدركه، وتاب على يده، فسُمي بِشر الحافي، هذا الولي الكبير العارف بالله سبب توبته هذا الرجل الصالح، قال له: إن كنت حراً فافعل ما تشاء، وإن كنت عبداً فما هكذا تصنع العبيد.
نحن عبيد لله عز وجل، من منّا يملك أن يعيش إلى ساعة قادمة، من منّا يملك ألا يكون في جسمه شيء خطير، والحقيقة أن أخطر الأمراض ليس لها أعراض، فإذا كنت تملك المستقبل فقل: أنا، أما إذا كنت لا تملك دقيقة واحدة فقل: الله، والقاعدة الثابتة إن قلت: الله، تولاك الله، وإن قلت أنا: تخلى الله عنك، وهل أنت أكرم من أصحاب رسول الله، في حُنين قالوا: نحن لن نُغلَب من قِلة، نحن كُثر، أيها الإخوة الكرام، وفي بدر قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍۢ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(123)﴾
احفظ هذين الدرسين، إذا وحّدت، وقلت: الله، تولاك بعنايته، وإذا قلت: أنا، ونسبت الأمر إلى ذاتك، وعلمك، وخبرتك، ومكانتك، ونسبك، ومن حولك، وجماعتك تخلى الله عنك، لذلك دخل أحد كبار العارفين بالله إلى مسجده، وحوله عشرات الألوف فقال: "اللهم لا تحجبني عنك بهم، ولا تحجبهم عنك بي" .
ينبغي ألا ترى إلا الله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، ينبغي أن تعبده وحده، أما الذي ينطق بالعلم من بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام فهذا رفيق في الدرب:
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِى ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلًا (27)﴾
هذا رفيق في درب الإيمان، ولكن ليس هو الوجهة، الوجهة لله عز وجل، والدليل سيدنا الصديق، أنا لا أعتقد أن في الأرض رجلين يحب بعضهما بعضاً كحب الصديق لسيدنا رسول الله، ومع ذلك حينما توفي النبي قال أبو بكر البكَّاء المخلص الذي ذاب في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا فعل؟
(( جَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُذِيقُكَ اللَّهُ الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْحَالِفُ، عَلَى رِسْلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلَا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ. ))
هذا هو التوحيد، ديننا دين التوحيد، ديننا دين مبادئ لا دين أشخاص، دين مضامين لا دين عناوين.
يا أيها الإخوة الكرام، قال تعالى: ﴿إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ وَجِيهًا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ﴾
3 ـ ألاَ تحب أن تكون وجيها في الدنيا والآخرة ؟
لو وقفنا عند هذه الكلمة، ألا تحب أنت أيها المؤمن أن تكون وجيهاً؟ ورد في بعض الأشعار:
أطع أمرنا نرفع لأجلك حُجبنـــــا فإنا منحنا بالرضى مــــن أحبنـا
ولُذ بحمانــــــــــا واحتمِ بجنابنــا لنحميك مما فيه أشرار خلقــنـــا
وعن ذكرنا لا يشغُلَنَّك شاغـــــل وأخلص لنا تلقَ المسرة والـهنــا
وسلِّم إلينا الأمر في كل ما يكــن فما القرب و الإبعـاد إلا بأمرنــا
أيا خجلتي منه إذا هو قـال لــــي أيـا عبد سوء ما قـرأت كتابنــــا
أما تستحي منّا ويكفيك ما جـرى أما تخجلن من عُتْبنا يوم جمعــنا
أما آن أن تُقلع عن الذنب راجعاً إلينا وتنظــر ما به جـاء وعــدنـا
إلى متى أنت باللـذات مشغـــــــول وأنت عن كــل ما قدَّمــــتَ مسؤول
أيها الإخوة ، دققوا في كلمة ﴿وَجِيهًا﴾ أنت حينما تطيع الله فلك من هذه الآية نصيب.
قلت لكم في دروس سابقة: إنّ قراءة القرآن الدقيقة، المتأنية، التي فيها تَدَبُر تعني أن تسأل نفسك السؤال الدائم: أين أنا من هذه الآية؟
أنت حينما تُؤثر طاعة الله على حظوظ نفسك، حينما تطيع الله عز وجل تكن لك من هذه الآية نصيب، يرفع الله لك ذكرك.
رأى رجل من أهل الكتاب في الطريق رجلاً من كبار علماء المسلمين، وهو عبد الله بن مبارك يركب فرساً، وكان بهيَّ الطَّلعة، جميل الصورة، منير الوجه، أنيق الملبس، وحوله إخوانه الكرام يحُفُّون به، هذا الرجل الذمي رآه كأنه ملِك، وهو فقير جداً، ويعمل في تنظيف المجارير، ومقهور، وجائع، وبائس، فقال له: يقول نبيكم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فأيُّ سجن أنت فيه يا سيدي، وأيُّة جنة أنا فيها؟ فأجابه ابن المبارك أن ما أنت فيه إلى ما ينتظر العاصي هو في جنة، وما أنا فيه إلى ما ينتظر المؤمن من نعيم مقيم أنا في سجن، وفي أحد الأحاديث القدسية، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ :
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. ))
[ مسلم، الترمذي، ابن ماجه، أحمد، الدارمي ]
الإنسان حينما يتعرف إلى الله يُعلي الله قدره، انظر إلى هذه الآية: ﴿وَجِيهًا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ﴾ لك مكانة، أي بالتعبير الدارج أنت غالٍ على الله، لست هيِّناً على الله عز وجل، يُدافع عنك، ويُعلي قدرك، ويحفظك، ويؤيدك، ويوفقك، ويشفيك، ويطمئنك، ويُيَسر لك أمرك، هذه بعض نتائج الإيمان، تعيش حياة طيبة، هنيئة، فيها رضى عن الله عز وجل، قال تعالى: ﴿وَجِيهًا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ﴾ ولكل مؤمن من هذه الآية نصيب، إن أطعت الله كنت وجيهاً في الدنيا، يُعلي الله قدرك، يرفع ذكرك، يحميك من عدوك، يجعل عدوك في خدمتك شاء أم أبى، إذا كان الله معك خدمك عدوك، وإذا كان عليك تطاول عليك قريبك، إذا كان الله معك خدمك عدوك اللدود دون أن يشعر، وإذا كان الله عليك تطاول أقرب الناس إليك عليك.
4 ـ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ
قال تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ﴾ الناس يبحثون عن مقام، عن ثروة، عن مركبة، عن بيت فخم، عن تجارة رابحة، عن امرأة جميلة، يبحثون عن متاع الدنيا، لو أنهم ذاقوا طعم القرب، لو أنهم شعروا أنهم في عناية الله، ورحمته، وحفظه، وتأييده، لو أنهم قرؤوا القرآن فذابوا خشوعاً لله، لو أنهم صلَّوا صلاة مودع لكانوا مع الله في مناجاته، إن أردت أن تحدث الله فادْعُهُ، وإن أردت أن يحدثك الله فاقرأ القرآن.
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنْ الصَّالِحِين
1 ـ الأنبياء يحتاجون إلى معجزات:
قال تعالى: ﴿وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلًا وَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ﴾ هذه المعجزات، المعجزة قبل النبوة تسمى إرهاصًا، أي إشارة من الله، هذا الطفل الذي قال: إني عبد الله، وقد وُلِد لتوّه، هذا شيء غير مألوف إطلاقاً، قال تعالى: ﴿وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلًا وَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ﴾ السبب في أن الأنبياء يحتاجون إلى معجزات هو أنهم حينما يأتون بمنهج الله فهناك حدود وقيود.
قد تجد في الهند مثلاً ثمانمئة ألف شخص يدينون بالبوذية، دين وضعي من وضع البشر، تجد في بلاد العالم مئات الملايين يدينون بديانات ما أنزل الله بها من سلطان، قد يقول أحدكم: كيف انتشرت هذه الأديان الباطلة؟ الجواب سهل جداً؛ هذه الأديان لا منهج فيها، ليس فيها افعل ولا تفعل، ليس بها تكليف، فيها ولاء فقط، وإعلان الولاء سهل جداً، تعال إلى هذا المكان، وقم بحركات إيمائية، وتمتم تمتمات، ثم افعل ما تشاء خارجه، قضية سهلة جداً، لكنّ منهج الله عز وجل تجد فيه آلاف الأوامر والنواهي، أنت محاسَب حتى في خلوتك في البيت، مُحاسَب مع أقرب الناس إليك؛ مع أولادك، مع زبائنك، في تجارتك، في زراعتك، في بيعك، في شرائك، في طبك، مُحاسَب حساب دقيق، أنا والله لا أبالغ، منهج الله لو أردت أن أضع رقماً لبنوده لكانت أكثر من خمسمائة ألف بند، لكنّ المسلمين مسخوا هذا المنهج إلى خمسة بنود، صوم وصلاة وحج وزكاة، أما بيوتهم فليست إسلامية، وتجارتهم ليست إسلامية، وبيعهم ليس إسلامياً، واحتفالاتهم ليست إسلامية، وأنماط حياتهم وسفرهم وإقامتهم، وكل نشاطاتهم ليست إسلامية، بقي لهم من الدين اسمه، ومن القرآن رسمه، وهل من الممكن أن يتحكم مصمم أزياء يهودي في فرنسا في ثياب المسلمات في العالم كله؟ أيُّ إسلام هذا؟ أين قول الرسول عليه الصلاة والسلام:
(( وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ. ))
أنت ترى هذه الأيام ملياراً ومئتي شخص مغلوبين، لأنّ مصمم الأزياء يتحكم في ثياب نسائهم، يكشف عورات النساء فيقلدونه، يُظهر مفاتن المرأة فيقلدونه، هم يَتَّبِعون،
(( لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا وذِراعًا بذِراعٍ، حتَّى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ، قُلْنا: يا رَسولَ اللَّهِ، اليَهُودُ والنَّصارَى؟ قالَ: فَمَنْ. ))
(( لتُنقَضَنَّ عُرَى الإسلامِ عروةً عروةً فكلما انتُقِضَت عروةٌ تشبَّثَ الناسُ بالتي تليها وأولُهنَّ نقضًا الحكمُ وآخرُهن الصلاةُ. ))
قال تعالى: ﴿وَجِيهًا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ﴾ بماذا تشعر لو أدركت أن الله تعالى يحبك، وأنك مقربٌ إليه، بماذا تشعر؟ كما قال بعضهم: "كدت بأخمُصي أطأُ الثُريَّا" ، أي شعوره أنّ الله يحبه شعور لا يوصف، شعورك بأن الله معك يجعلك تصبح أقوى إنسان، إذا كان هناك دولة ضعيفة تدعمها دولة كبيرة تجد بأنهم يتغطرسون غطرسة لا تُحتمل، لهم تصريحات لا تُحتمل، لأن دولة قوية تدعمهم، فأيهما أقوى أن تكون مع الله أم مع أمريكا؟ إذا كنت مع الله فمن يجرؤ على النيل منك؟ لكنّ المسلمين تَخَلَّوا عن دينهم، وقصَّروا في طاعة ربهم، فجاءت شراذم الآفاق يتَحدَّونهم.
أيها الإخوة، قال تعالى: ﴿وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلًا وَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ﴾ معنى الصالحين، أي عملٌ صالح، كلمة جامعة شاملة، أي في حركاته، وسَكَنَاتِه، وإقامته، ونومه، واستيقاظه، وأكله، وشربه، وزواجه، وتربية أولاده، وبيعه، وشرائه، وكسبه للمال كله وفق المنهج لأنه صالح، موقفه كامل، سواء أمرض ابنه، أم كان عليه دين، أم أقرض إنساناً، أم عمل دعوة في بيته، أي كيفما تحرك يمثِلُ كمال الشرع ﴿وَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ﴾ وهناك رأي آخر يقول: ﴿وَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ﴾ لعطائنا.
أنت تريد أن تضع رئيساً للجامعة، هل من الممكن أن تعيِّن أميَّاً لا يقرأ ولا يكتب حتى لو كان قريبك، وتحبه، وتحب أن تنفعه؟ هذا شيء مستحيل، يجب أن يكون معه دكتوراه على الأقل، إن كان لك قريب معه دكتوراه، ومتميز، ومتفوق، وله مؤلفات هذا من الممكن التفكير فيه، ووضعه رئيساً للجامعة، والنبي من شدة أدبه مع الله كان يقول:
(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ. ))
هناك ملِك له ولد، وقال له: يا بني، اطلب، وتمنَّ عليّ، لو طلب منه مركبة فرضاً لأعطاه عشرة، لو طلب قصراً لأعطاه قصوراً، قال له: أحب أن أكون رئيساً للجامعة، يقول له: لا، هذا منصب يحتاج إلى دكتوراه، لك أن تفعل كل شيء، لكن أن تكون في منصب علمي، فهذا يحتاج إلى مؤهل، فإذاً: ﴿وَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ﴾ هذا يعني أنه مؤَهل لعطائنا، أهَّل نفسه للجنة، الدنيا مدرسة لو نفهم حقيقتها، الدنيا كلها من أجل أن تؤهل نفسك لعطاء الله عز وجل، أن تَصلُح لعطاء الله.
الآية الكريمة:
﴿ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُۥ وَأَوْرَثَنَا ٱلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَٰمِلِينَ(74)﴾
لولا أننا جئنا إلى الأرض، وتعرَّفنا إلى الله في الأرض، وغضضنا بصرنا، واستقمنا على أمر الله في الأرض، وبذلنا الغالي والرخيص، وأنفقنا مالنا في الأرض، وتزوجنا وفق سُنَة رسول الله في الأرض، وكسبنا المال الحلال وأنفقناه في الأرض، لما كنا في الجنة، ﴿وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُۥ وَأَوْرَثَنَا ٱلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ﴾ لذلك في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، هي جنة القرب.
أيها الإخوة، شأن هذه السيدة الكريمة السيدة مريم كشأن سيدنا زكريا، قال تعالى:
﴿ قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٌۖ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (47)﴾
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ
هذه معجزة، أي الذي خلق الأسباب قادر على إلغائها أو تعطيلها :
﴿ وَيُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ (48) ﴾
﴿ٱلۡكِتَٰبَ﴾ المُنَزَّل عليه، ﴿وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾ أي تطبيقه، حيثما وردت الحكمة مع الكتاب، الكتاب مطلق كتب الوحي المُنزَّل على أنبياء الله ورسله، والحكمة سُنة رسول الله، أي تبيان ما في الكتاب، أو الأسلوب العملي لتطبيقه، ﴿وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ﴾ هنا عطف الخاص على العام، قال تعالى:
﴿ وَيُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنِّي قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (49)﴾
وفي درس آخر إن شاء الله أتابع تفسير هذه القصة.
الملف مدقق