الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث عشر من دروس سورة آل عمران، ومع الآية السابعة والثلاثين.
الآية التي قبلها:
﴿ إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ (36)﴾
هذا ذكرناه في الدرس الماضي.
الدرس اليوم الآية السابعة والثلاثون، وهي قوله تعالى :
﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ (37)﴾
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَن
1 ـ ما علاقة المسلم بهذه الآية ؟
أي تقبلها بأعلى أنواع القبول، وحينما تكون مخلصاً لله عز وجل يتقبل الله عملك، وقد ذكرت في الدرس الماضي أن كل آية في القرآن الكريم ينبغي أن تسأل نفسك حينما تقرؤها: ما علاقتي بهذه الآية؟ وما موقفي من هذه الآية؟ وأين أنا من هذه الآية؟ لماذا تقبلها ربها بقبول حسن؟ لأن التي نذرت ما في بطنها محرراً من كل شائبة، من كل شرك، من كل حظٍّ نفسي، فكلما ارتقت نياتك الطيبة كلما كان القَبول حسناً، هذه قاعدة، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(( إنَّ الصَّدقةَ تقعُ بيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ قبل أن تقعَ في يدِ السَّائلِ . ))
[ تخريج الإحياء للعراقي بسند ضعيف ]
فحينما تنفق نفقة خالصة لله عز وجل، وربما لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك، ولا تبتغي إلا وجه الله عز وجل يتقبل الله منك هذه الصدقة بقبول حسن، وحينما تصلي الليل، لا ترجو سمعة، ولا رياء، لكنك تريد أن تؤدي واجب العبودية لله عز وجل، وأن تناجيه بالليل يتقبل الله منك هذه الصلاة، ويلقي في قلبك السكينة، والأمن، وتقول: صليت صلاة لا أنساها حتى الموت، كلما كان إخلاصك أشد كان القبول حسناً:
﴿ إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ* فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ* فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾
وأضخم شيء تملكه نيتك الطيبة، أعظم رأسمال تملكه نيتك الطيبة، أنت ضعيف، ولكنك قوي بالله، أنت عاجز، ولكنك تحسن بالله، أنت فقير، ولكنك غني بالله، هذا الذي ناجى ربه قال: يا رب كيف نُضام في سلطانك؟ لا نُضام في سلطانك، وكيف نذِلّ في عزك؟ كيف نفتقر في غناك؟ وكيف نُضطهد، والأمر لك؟ سبحانك إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت.
يا رب، لا نُضطَهد في سلطانك، ولا نذل في عزك، ولا نفتقر في غناك، أنت وليّنا.
﴿ ٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ ۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِ ۗ أُوْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ(257)﴾
وإذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان الله عليك فمن معك ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾
وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا:
1 ـ حرص الوالدين على الولد من رعاية الله له:
حينما تجد أباً وأماً يحرصان حرصاً لا حدود له على راحة ابنهما فهذه محبة الله أودعها في قلب الأب والأم، حينما تجد إنساناً يحرص على مصلحة إنسان حرصاً شديداً فهذه عناية الله.
2 ـ لو جاءتك نعم من الخلق فينبغي ألا تنسى الحق:
لو جاءتك نِعمٌ من الخلق فينبغي ألا تنسى الحق، ولو جاءتك نِعَمٌ من جهات عديدة فينبغي ألا تنسى المُنعِم، ينبغي أن تكون مع المنعِم لا مع النعمة، وليس من الأدب ألا تشكر الناس، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ ))
ومن لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، كان عليه الصلاة والسلام تعظم عنده النعمة مهما دقّت، وكل واحد منا محاط بنعم لا تعد ولا تحصى، لكن وجود الشيء قد ينسي قيمته، ينبغي أن ترى النعم وهي موجودة عندك، لا حين تفتقدها ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ .
3 ـ تنافسُ الناس على كفالة مريم:
تنافس كل من حولها على كفالتها، بل تنازعوا، بل كادوا يختصمون.
﴿ ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۚ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ أَيُّهُمۡ يَكۡفُلُ مَرۡيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ (44)﴾
من هذه الفتاة الصغيرة؟ من هذه المولودة التي تنافس الناس على كفالتها؟
إذا كان الله معك تنافس الناس في خدمتك، وإذا لم يكن الله معك تخلّى عنك أقرب الخلق إليك، فالعبرة أن تكون مع الله حتى يكون الله معك، وإذا كان الله معك سخر لك كل من حولك كي يعتنوا بك، ثم جرت قرعة بين أقربائها، ورست هذه القرعة على سيدنا زكريا.
﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ﴾ المعنى: وكفّلها الله زكريا، طفلة وُلِدت حديثاً من أم نذرتها لله بإخلاص شديد فتولى الله العناية بها.
موطن الثقل في هذه الآية: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ﴾ .
كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا
المحراب: المكان الطاهر، بعضهم يسمي المحراب هذا محراباً، لأنه يُحارَب فيه الشيطان، أو لأنه متقدم، أو لأنه مكان للإمام، لكن كلمة المحراب على إطلاقها تعني البناء الشامخ، القصر.
فكلما دخل عليها زكريا مكان إقامتها -ويبدو أن المكان جيد- وجد عندها رزقاً، بصرف النظر عن حقيقة هذا الرزق، لكن هذه الآية تنقلنا إلى موضوع الكرامة، ما من مؤمن يخطب وُدّ الله عز وجل بأية طريقة إلا وله عند الله كرامة، هذه الكرامة هي خرق للعادات، أو استثناء من بعض القوانين، أو شيء متميز، ليس من الحكمة أن نروي الكرامات، ولا من الحكمة أن ننكرها، الكرامة لا تُنكَر، كما أنه ينبغي ألا تُروى، لأن أصحابها ليسوا أنبياء، أصحابها أولياء، والولي ليس معصوماً، لكن النبي معصوم، النبي حينما يُخَصّ بمعجزة ينبغي أن يتحدى الناس بها، ينبغي أن يظهرها، ينبغي أن يتحدث عنها لأنه معصوم، لكن الولي إذا خُصَّ بكرامة ينبغي ألا يتحدث بها، بل ينبغي ألا يتاجر بها، بل ينبغي أن يبقيها بينه وبين الله، هي ليست للتحدي، ليست للنشر، هي بينك وبين الله، لكن الله أراد بطريقة أو بأخرى أن يشعرك أنه يحبك، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
(( مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، فَإِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ. ))
[ البخاري ، مسلم ، الترمذي ، ابن ماجه ]
لمجرد أن تعقد الصلح مع الله، لمجرد أن تنيب إلى الله، أن ترجع إليه، أن تتوب من ذنوبك، أن تريد رضاء الله عز وجل، تجد الله عز وجل يقربك، يوفقك، يكرِّمك، يملأ صدرك غنىً، يملأ صدرك أمناً، يملأ صدرك تفاؤلاً، يلهم من حولك، يقدم لك كل الخدمات، يرفع شأنك، يعلي ذكرك، هذا كله خرق للعادات، أي لك معاملة خاصة، أي لك معاملة استثنائية، هذه كرامة من الله لك، ما من مؤمن صادق يخطب ود الله عز وجل إلا وله كرامة، والكرامة خرق للعادات، أي معاملة خاصة، أمر مُيسَّر، زواج ميسر، عمل مُيسَّر، سمعة طيبة، أولاد أبرار، زوجة صالحة، حكمة، قلب ممتلئ أمناً، طمأنينة، تفاؤلاً، رضىً، هذه كرامة الله لك، وقد تُخرَق لك بعض العادات، فعليك ألا ترويها لأحد، لأنها ليست للتحدي، هذه بينك وبين الله، لكن أعظم كرامة على الإطلاق، ولا تحتاج إلى خرق للعادات هي كرامة العلم:
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍۢ ۚ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾
أنت بالعلم ترقى، بالعلم تستقيم، بالعلم تعمل صالحاً، بالعلم تتصل بالله، بالعلم تقف الموقف الكامل، فأعظم كرامة على الإطلاق أن يعلمك ما لم تكن تعلم، ﴿وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ انظر إلى هؤلاء الأقوياء ماذا آتاهم الله، آتاهم الله القوة والملك، وبعضهم لا يحبهم الله عز وجل، آتى الملك لفرعون، وهو لا يحبه، وآتى سليمان الملك، وهو يحبه، وآتى قارون المال، وهو لا يحبه، وآتى عثمان بن عفان المال، وهو يحبه، فما دام الشيء قد أوتي لمن يحب، ولمن لا يحب فهو ليس دليلاً على أنه كرامة من الله عز وجل، ولكن ماذا آتى الأنبياء والمرسلين؟
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَٱسْتَوَىٰٓ ءَاتَيْنَٰهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ(14)﴾
الناس صنفان؛ عالم ومتعلم، ولا خير فيمن سواهما إطلاقاً، يقول الإمام علي كرم الله وجهه: "الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمَجٌ رعاع أتباع كل ناعِق، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، فاحذر أن تكون منهم" .
إذاً : ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ﴾ فسواء كما قال بعض المفسرين أنه وجد عندها فاكهة ليست في موسمها، أو قال كما بعض علماء القلوب: وجد عندها علماً عن الله عز وجل ليس في مستوى سنها، أيُّ الكرامتين كانت شيئًا متميزًا، فريدًا من نوعه؟ فينبغي أن تؤمن بالكرامة، وينبغي ألا تنكرها، وينبغي ألا ترويها للناس، فهي إشعار من الله لك أنه يحبك، ينبغي أن تبقى بينك وبينه، هذا معنى قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ﴾ أي ليس في الأرض كلها شيء أعظم من ولد صالح، من شاب نشأ في طاعة الله، من طفل يصلي، من طفل ينقل لك كلام الله، ينقل لك كلام رسول الله، شيء يملأ قلب الأب طمأنينةً، وفرحاً، وراحةً، وسعادةً.
فيا أيها الإخوة الكرام، علاقتنا بهذه الآية؛ اِجهَدْ أن تعتني بأولادك، اجهد أن يكونوا معك في المسجد، اعتن بهم، بالِغ في تكريمهم، بالِغ في تقديم حاجاتهم، بالغ في توجيههم، في لفت نظرهم إلى الله عز وجل، اجلس معهم، خذهم معك، الزمهم، هذِّبهم، أدِّبهم، عرِّفهم بكتاب الله، عرفهم بسنة رسول الله، عرِّفهم بأبطال المسلمين، ليكونوا معك في حِلّك وترحالك، علمهم أن ينفقوا.
واللهِ حدثني أب اليوم أن ابنه، وهو في المسجد طلب منه مالاً بإلحاح شديد، أعطاه مبلغاً من المال، وهو صغير جداً، فذهب إلى مكان التبرع لبناء مساجد، وألقى هذا المبلغ عند هؤلاء، قلت: والله هذه بادرة طيبة جداً؛ أن طفلاً صغيراً جداً أراد أن يفعل شيئاً يقلد به الكبار، يجب أن يُشجَّع، فهذه الآيات ذكرت أن سيدنا زكريا دخل على مريم فوجد عندها رزقاً قال: ﴿قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ﴾
6 ـ الأولى الاقتصار على النص في تعيين الفاكهة:
على اختلاف المفسرين: لعل هذا الرزق فاكهة في غير موسمها تكريماً لها، أو لعلها نطقت بحق في غير سنها، أي أنت لا تصدق أن طفلاً صغيراً يلقي كلمة مضبوطة فيها شرح دقيق لآية أو حديث يأخذ قلبك، قد تستمع لهذه الخطبة من كبير فتقول: والله الخطبة جيدة، لكن هو في سن بمستوى هذه الخطبة، أما طفل صغير يتلو كلام الله، يتلو حديث رسول الله، يقول لك كلاماً طيباً فهذا شيء يلفت النظر، لعل الرزق هذا أو ذاك، على كل نحن مع النص ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ﴾ الإخبار من الله عز وجل يجب أن نقف على حدود النص، فلا نزيد شيئاً، ولا ننقص شيئاً، ويجب أن نسكت حيث سكتت الآية، وجد عندها رزقاً أي شيئا متميزًا، شيئًا يلفت النظر، شيئًا ليس كغيره من الأشياء، لذلك: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ﴾ يؤيد المعنى الثاني قول الله عز وجل:
﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾
[ سورة الواقعة ]
أي العلم رزق، والفهم رزق، ماذا أوتي النبي الكريم يوسف؟ أوتي تأويلاً لكتاب الله:
﴿ وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُۥ عَلَيْكَ وَعَلَىٰٓ ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَىٰٓ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْحَٰقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(6)﴾
فالتأويل علم، وهو من كرامة الله لهذا النبي الكريم، إذاً على اختلاف أقوال المفسرين فالرزق هنا شيء متميز، شيء يلفت النظر، شيء ليس في مستوى هذه الطفلة الصغيرة، ﴿قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ﴾
قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
﴿بِغَيۡرِ حِسَابٍ﴾ قال العلماء: أنه كثير جداً، لا يُحصى، أو ليس بثمن، فالله يهب كل شيء لعبده المؤمن من دون جهد منه، قال تعالى :
﴿ وَوَهَبْنَا لَهُۥٓ إِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَٰلِحِينَ(84)﴾
فالابن هبة، وتحوُّل نقطة الماء إلى طفل يضحك، ويبتسم، ويسأل، ويجيب هل هذه قضية سهلة؟ تعلم علم اليقين أن هذا الطفل نقطة ماء أُودِعت في رحم أمه، فكان طفلاً، إذا دخلت إلى البيت هشّ لك وبشّ، سألك، وجلس في حجرك، وداعبك، هذا الذي يملأ البيت سروراً، أليس هدية من الله عز وجل؟
المعنى البسيط، كل بيت فيه طفل، والطفل هدية من الله عز وجل، معنى ﴿بِغَيۡرِ حِسَابٍ﴾ أي من دون ثمن، ماذا فعل هذا الزوج حتى استحق هذا الطفل؟ تزوج فقط، من خلقه في بطن أمه؟ من أحسن تقويمه؟ من صوّره؟ من جعله كائنًا سليمًا معافى؟ متوازنًا، يتكلم، يمشي، يسأل، يجيب، يحفظ كتاب الله، من؟
﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ﴾ لها معنيان: الأول بغير حساب، أي لا يُعَدّ ولا يحصى، أي النعم التي أسبغها الله عليك لا تعد ولا تحصى، كبد أصابه تشمّع، والعملية تكلف كما سمعت من ثمانية إلى عشرة ملايين ليرة، ونسبة نجاحها ثلاثون بالمئة، زرع كبد في فرنسا، الذي عنده كبد سليمة معنى هذا عملياً أن معه عشرة ملايين ليرة، والكلية عمليتها تكلف مليونين، هذا إذا كانت متقنة، وتبديل الأسنان وزرعها يكلف مليون ليرة، فأنت عندك أجهزة كاملة وتامة، قال تعالى:
﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ(9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10)﴾
هذا خَلق الله في الإنسان:
تتحرك، تقوم، تأكل، تشرب، عندك جهاز هضم، وجهاز دوران، جهاز عصب، جهاز فرز، عضلات، أعصاب، دماغ، ذاكرة، من أجل أن تقول: الرائحة لطيفة فلا بد من عشرين مليون نهاية عصبية، كل نهاية تنتهي بسبعة أهداب، وكل هدب مُغمّس بمادة معينة، تتفاعل مع الرائحة، وينشأ من تفاعلها شكل هندسي، هذا الشكل ينتقل إلى الدماغ، وهذه الرائحة تُعرض على ذاكرة شمية فيها عشرة آلاف بند، إلى أن يأتي هذا الشكل مطابقاً لهذا البند، تقول: هذه ياسمين -ما شاء الله - رائحة طيبة، من أجل أن تتحرك عكس الصوت هناك جهاز في الدماغ يحسب تفاضل دخول الصوتين إلى الأذنين، والتفاضل واحد على ألف وستمئة وعشرين جزءاً من الثانية، تعرف بهذا الجهاز الدقيق جهة الصوت، فإذا سمعت بوق مركبة تتحرك إلى عكس الاتجاه، ولولا هذا الجهاز لتحركت إلى أمام المركبة دون أن تشعر.
إذاً: أنت محاط بنعم لا تعد ولا تحصى، في الشبكية عشر طبقات، وفيها مئة وثلاثون مليون عصية ومخروط، والعصب البصري فيه تسعمئة ألف عصب، وفي رأسك ثلاثمئة ألف شعرة، لكل شعرة وريد، وشريان، وعصب، وعضلة، وغدة دهنية، وغدة صبغية، هذا خلق الله، عندك ذاكرة تتسع لسبعين مليار صورة، الذي يعيش ستين عاماً تقريباً في ذاكرته سبعون مليار صورة، حجمها بحجم حبة العدس، عندك دماغ فيه مئة وأربعون مليار خلية سمراء استنادية، لم تُعرَف وظيفتها بعد، ويوجد عليها أربعة عشر مليار خلية قشرية، فيها المحاكمة، والتذكر، والتصور، والاستنتاج، والاستقراء، وما إلى ذلك، الدماغ آية، والشعر آية، والعينان آية، واللسان آية، كل حرف تحركه سبع عشرة عضلة، فكلمة فيها خمسة حروف، تقريبًا مئة حركة، إذاً: جملة فيها عشر كلمات ألف حركة، إذاً: خطبة ساعة كم حركة تحركت عضلات الوجه حتى أصدرت هذه الأصوات: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ*وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ*وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ ما هذا الحليب، حليب الأم في الصيف بارد، وفي الشتاء حار؟ فيه كل مناعة الأم، فيه مادة تمنع التصاق الجراثيم بأمعاء الطفل، والأغرب من هذا أن كثافته تتغير في الرضعة الواحدة، فإذا فحصت حليب الأم في أول الرضعة يكون الدسم أربعين بالمئة، والماء ستين بالمئة، في آخر الرضعة يكون الدسم ستين، والماء أربعين، وتتبدل نسب المواد كل يوم تماشيًا مع نمو الطفل ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ*وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ*وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ .
﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ﴾ منحك الوجود بغير حساب، منحك الإمداد بغير حساب، منحك الهدى والرشاد بغير حساب، منحك طفلاً بغير حساب، منحك خبرة، منحك قدرة على كسب المال، أي لو أن إنساناً اختل ميزان عقله فأقرب الناس إليه يسعى ليلاً نهاراً لإدخاله مستشفى المجانين، أهله يقولون: لم نعد نحتمله، هو الذي اشترى البيت، وهو الذي ربى الأولاد، وهو اقتنى الأثاث، يُسعى إليه ليكون نزيل المستشفى، إذاً أعطاك عقلاً، أعطاك محاكمة، أعطاك جسماً، أعطاك سمعاً، أعطاك بصراً، أعطاك لساناً لتنطق، أعطاك أجهزة، أعطاك قلباً، أعطاك رئتين، معدة، أمعاء، بنكرياساً، أعطاك غدداً صماء، أعطاك جهازاً عضلياً، أعطاك جهازاً عظمياً، ألا نشكر الله عز وجل؟
﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ﴾ كل واحد منا لديه حرفة يعيش منها، من مكّنك من هذه الحرفة؟ هذا طبيب، وهذا مهندس، وهذا مدرس، وهذا جراح، وهذا تاجر، وكل واحد له حرفة يتقنها، ويكسب رزقه منها.
﴿فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ*فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ ككلمة مختصرة: أي شيء تقدمه لله عز وجل بإخلاص شديد يتقبله الله منك بأعلى قَبول، ويثيبك عليه أضعافاً مضاعفة.
﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ (38)﴾
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ
بماذا شعر؟ شعر أنه يتمنى مثل هذا الغلام، مثل هذه الفتاة، هذه الغيرة، هذه خاصة بالإنسان رائعة جداً، إن استخدمتها لأمر الآخرة ترقى بك لأعلى عليين، تكون الغبطة، وإن استخدمتها لأمر الدنيا تهوي بها إلى أسفل سافلين، تكون الحسد، هي خاصة حيادية، تتمنى ما عند الآخرين، أي إنسان، دخلت إلى بيت أربعمئة متر الله يبارك له، شيء جميل، الله يبعث لنا بيتًا مثل هذا، أركبك أحدهم مركبته الفخمة جداً، والله شيء جميل، هذه غير التي لدي، هذه أجمل بكثير، أتم الله عليه، أنت دائماً تتمنى ما عند الآخرين، فإن كان الذي عندهم من الدنيا فهو الحسد، وإن كان ما عندهم من الآخرة فهو الغِبطة، لذلك النبي الكريم استخدم كلمة الحسد بمعنى الغبطة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. ))
[ البخاري ومسلم واللفظ له ]
﴿هُنَالِكَ﴾ قال بعض العلماء: هي ظرف مكان، في هذا المكان، في المحراب عندما رأى مريم، وهي تنطق بكلام رائع جداً، أو رأى عندها فاكهة في غير موسمها، حينئذ تمنّى أن يكون له ولدٌ له عند الله هذه المكانة، ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا﴾ أي في هذا المكان بالذات، أو في الوقت الذي سمع من هذه الفتاة كلاماً طيباً تمنى أن يكون له غلام في هذا المستوى، والإنسان ينبغي أن يغار.
﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ ﴾ هذه خاصة بالإنسان، أنت إذا التقيت بحافظ لكتاب الله ألا تتمنى أن تكون مثله؟ تتمنى والله، إذا التقيت بإنسان يفهم كلام الله فهماً عميقاً ألا تحب أن تكون مثله؟ إن التقيت بإنسان شجاع، أبلى في سبيل الله كسيدنا خالد ألا تحب أن تكون مثله؟ إذا التقيت بإنسان غني، لكنه متواضع، وينفق ماله في سبيل الله، ويملأ بإنفاقه قلوب الناس فرحاً، ويمسح الدموع عن كل البائسين بماله، ألا تحب أن تكون غنياً مثله تنفق هذا المال في طاعة الله؟
﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ ﴾ ينبغي أن تشتهي ما عند الناس من خير الآخرة.
قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً
1 ـ الذرية الطيبة من أعظم النعم:
﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةًۖ﴾ تكاد الذرية الطيبة تكون أعظم عطاء إلهي بعد الإيمان به، هذه تملأ القلب طمأنينة:
﴿ وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍۢ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا(74)﴾
مع شيء من التفصيل: الأب الذي يجهد في تربية أولاده، والعناية بهم، وإرشادهم إلى الحق، وإكرامهم، وتأمين حاجاتهم، ويجهد في تنشئتهم تنشئة إسلامية طيبة، يتعب كثيراً، لكنه بعد أن يبلغوا أشدهم، ويرى منهم طيباً، وصلاحاً، وتقوى، وطاعة لله، والله كلما نظر إليهم يشعر قلبه براحة لا توصف، هذه قرة العين التي تحدّث الله عنها، قال تعالى في الدعاء: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍۢ﴾ والأب الذي لا يحب أن يوجه أولاده، بل هو مشغول، وعنده عمل، فأهملهم، وتركهم للشارع، فلما كبروا فوجئ أنهم أولاد عاقون، فوجئ أنهم بعيدون عن الله، لا يصلون، يقترفون المعاصي والآثام، والله لو بلغ الإنسان في الدنيا أعلى مقام، ولو جمّع أعلى ثروة، ولو حصّل أعلى شهادة، ولم يكن ابنه كما يتمنى فهو أشقى الناس.
يا أيها الآباء، يا أيها الشباب: اعتنوا بأولادكم، أولادكم سبب سعادتكم في الدنيا والآخرة، أما هذه الفتاة التي سيّبها أبوها، وأعطاها حريتها فانحرفت تقف يوم القيامة أمام ربها وتقول: يا رب، لا أدخل النار حتى أُدخل أبي قبلي، لأنه كان سبب جهالتي.
الأبوّة مسؤولية أيها الإخوة، تجد الأب مستقيمًا، ومن رواد المسجد، لكن أولاده أين هم؟ أين يسهرون؟ مع مَن يجلسون؟ من يصاحبون؟ كيف صلاتهم؟ كيف أخلاقهم؟ فلا بد أن تتمنى، وأنت تجهد، وأن تسعى لتربية أولادك.
﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥ﴾ تمنى أن يكون له غلام كهذه الفتاة، وبهذا العلم، أو هذه الكرامة.
﴿قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ﴾ يا أيها الإخوة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( فَإِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفُ اللَّيْلِ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جَلَّ وَعَزَّ فَقَالَ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ. ))
[ البخاري ، مسلم ، الترمذي ، النسائي ]
أنت صلِ قبل الفجر ركعتين، وفي السجود: يا رب، ارزقني ولداً صالحاً ينفع الناس من بعدي، يا رب، ارزقني زوجة صالحة، يا رب، ارزقني رزقاً حلالاً طيباً، يا رب، اهدني إليك، واهدِ بي، هناك أدعية لطيفة جداً، أنت إذا استيقظت قبل الفجر، ودعوت الله بدعاء من خيرَي الدنيا والآخرة، فينبغي لله عز وجل أن يشعرك أنه يستجيب لك هكذا، فلماذا ذكر الله لنا هذه القصص؟ كي نقتدي بهؤلاء الأنبياء العظام.
﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ﴾ حدثني أخ قال لي: عندي ابن إذا دُهِس بالسيارة سأحتفل، أقسم بالله أنه سيحتفل، لأنه عاق، وشارب خمر، وزانٍ، وشرس، ومجرم، وله ابن كالملائكة، تشتهي الأولاد منه، فالفرق كبير جداً بين ابن عاق وابن بار، بين ابن مؤمن عنده حياء، وخجل، وبار بوالديه، وابن سيئ، فإذا اعتنى الأب بأولاده فأغلب الظن، ليس يقيناً، أغلب الظن أن الله عز وجل يستجيب له.
حدثني أخ يخطب في بعض المساجد، وقد وضع ابنه بمدرسة في الحضانة، قال لي: مرة استيقظنا متأخرين، صنعت أمه له شطيرة، وقالت لابنها الصغير في الحضانة: كُلها في الطريق يا بني، الوقت ضيق جداً، وقف هذا الابن، وقال: يا أمي، وخاطب أباه قائلا: يا أبت الأكل في الطريق دناءة، إذا علّمت طفلاً صغيراً شيئاً فهو أمر لا يصدق، علّمته القرآن، علّمته السنة، علّمته الآداب، علّمته الطاعة لله ورسوله، هذا أكبر ثروة تملكها على الإطلاق، ومعنى ذلك أنك لا تموت، ولو مت لا تموت، هذا صدقة جارية ينفع الناس من بعدك.
والله مرة حضرت تعزية أحد خطباء دمشق الأعلام، وكان صالحاً، ولا أزكي على الله أحداً، وكان جريئاً، ومستقيماً، وصالحاً، وفي أضخم مساجد دمشق، أقيمت له التعزية في أضخم مسجد، وجاء الناس زُرافات ووحداناً ليعزّوا أهله، ففي اليوم الثالث أُلقيت كلمات كثيرة، وقام ابن هذا الخطيب العالم فألقى خطبة لا تقلّ عن خطبة أبيه، وكان بين المُعزّين وزير الأوقاف، فعيّنه خطيباً في هذا المسجد مكان أبيه لتوّه، معنى هذا أن الأب لم يمت، إذا اعتنيت بابنك، وجعلته داعية كبيراً، جعلته عالماً، جعلته إنساناً صالحاً، ربيته تربية عالية، معنى ذلك أنك لن تموت، ولو مت فلن تموت، إنه صدقة جارية إلى ما شاء الله، فكل واحد في البيت عنده ثروة ابنه، إنه ثروة، لكنها تريد جهداً كبيراً، تعتني بعقيدته، ولغته، وتعلمه القرآن، والسنة، وآداب الإسلام، تهيئ له عملاً، تهيئ له زوجة، وتبذل في ذلك جهداً كبيراً، هذه رسالة الأب، وقد جعل الله في هذا ترتيباً عجيباً، الأبوة الصالحة طريق للجنة، والبنوّة الصالحة طريق للجنة، والزوجة الصالحة طريق للجنة، فأنت ضمن بيتك عندك طرق للجنة لا تعد ولا تحصى، أما إذا أنشأته على الملهيات، وعلى ما يُعرَض في هذه الشاشة من سقوط أحياناً، ومن فضائح، ومن خيانات، ومن مواقف مثيرة، إذا كانت تغذيته الوحيدة ما يُعرَض في هذه الصحون المنتشرة، إذا غُذِّي بهذه الفضائيات فقط، ثم فوجئت أنه يزني، أو يشرب الخمر، أو أنه له أصحاب سيئون، ماذا تفعل؟ والله يدخل على الأب عندئذ من الآلام ما ينسيه ما رضعه من أمه.
انتبهوا يا أيها الإخوة، نحن في زمن صعب، نحن نشأنا في الخمسينات والأمور منضبطة جداً، الآن أيّ رفيق يمكن أن يجعل ابنك ساقطاً، أيّ صديق يمكن أن يعلمه أشياء لا ترضي الله، لأن الرذيلة منتشرة، والمعصية واسعة جداً، أينما ذهبت فهناك من يدعوك إلى معصية الله، فإذا كان الآباء قبل خمسين سنة يحتاجون إلى بعض العناية بأولادهم، فاليوم هم بحاجة إلى مليون ضعف كي يصونوا أولادهم عن الحرام، وهذا الابن قدرك، شئت أم أبيت، فلا بد أن تعتني به، والآيات واضحة ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ﴾ .
أيها الإخوة، كتعليق سريع: هذه القصص التي وردت في القرآن الكريم صدقوني ليست العبرة منها أن تستمتع بقصة وقعت في الماضي، لا والله، ما هذا مراد الله عز وجل، مراد الله من هذه القصص أن يكون هؤلاء الأنبياء، وهم قمم البشرية أن يكونوا قدوة لك، كيف أن امرأة عمران نذرت ما في بطنها محرراً؟ فقلِّدها، وقدم شيئًا لله عز وجل، قدِّم اختصاصك، قدِّم خبرتك، قدم مهنتك، قدم مالك، قدم علمك، لله، ولنفع المسلمين، هذه أولاً.
كيف تمنى زكريا عليه السلام ابنًا صالحًا، والتمني من حقه، كيف دعا الله بإخلاص، والدعاء مستجاب؟ أنت تمنَّ شيئاً طيباً، وقمْ في الليل، وقل: يا رب، ارزقني ولداً صالحاً، ارزقني زوجة صالحة تسرّني إن نظرت إليها، وتحفظني إن غبت عنها، وتطيعني إن أمرتها، فيستجيب الله لك، يا رب، ارزقني رزقاً حلالاً طيباً، ارزقني علماً نافعاً، ارزقني إخوة مؤمنين طيبين.
عندما أطلق النبي الكريم سراح سفّانة بنت حاتم الطائي، قالت: إني داعية لك، قال: اسمعوا وعوا، قالت سفّانة بنت حاتم الطائي: "يا رسول الله، جعل الله بِرّك في مواقعه" ، أحياناً تعتني بإنسان عناية بالغة، ثم تُفاجَأ أنه تنكّر لك، ونسي كلّ فضلك، أحياناً تعمل عملاً طيباً مع إنسان لا ينساه لك مدى الحياة، فمن أدعية هذه المرأة الحَصِيفة للنبي: جعل الله بِرّك في مواقعه، فأنت إذا دعوت الله، يا الله اجعل برّي في مواقعه، أي أن أقدم خدمات لإنسان لا ينساها، أي أن أستفيد منه، أستفيد منه في الآخرة يا رب، أدعوه إلى الله فيلتزم، وأنا أتمنى ألا تفهموا هذه قصة، هذه مبادئ، هذه منهج، يجب أن تغار، قال تعالى في حق سيدنا زكريا: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥ﴾
يجب أن تدعو الله عز وجل، فإنّ الله رب زكريا، وربنا أيضاً، إلهه، وإلهنا، والله موجود دائماً، مثلما فعل ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ﴾ أنت في عمل لا يرضي الله -لا سمح الله- يا رب غيّر لي هذا العمل، يا رب عمل فيه رضا، لا امرأة فيه، ولا معصية، ولا فسوق فيه، ولا فجور، يا الله، فإن كان عملك لا يعجبك فادعُ الله عز وجل، إن كان في بيتك مشكلة فادعُ الله عز وجل، عندك ابنة كبرت، ولم يأتِ من يخطبها، يا رب هيئ لي زوجاً صالحاً لهذه البنت، كل يوم ادعُ الله عز وجل، عندك ابن شارد عن الله، يا رب ردّه إليك رداً جميلاً، فأنت لك قائمة طلبات، قم قبل صلاة الفجر، وادعُ الله عز وجل، فلعل الله يستجيب لك، وهو سبحانه ينتظرك، يا داود، لو يعلم المعرضون بانتظاري لهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم، لتقطعت أوصالهم من حبي، ولماتوا شوقاً إلي، يا داود هذه إرادتي في المعرضين، فكيف بالمقبلين؟
(( مَن جَاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَن جَاءَ بالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ. ))
[ صحيح مسلم عن أبي ذر الغفاري ]
ناجِ الله عز وجل، صلِّ الليل، خاطِبه، اخطُب وُده، اطلب منه، يا رب أعطني، أَغنني، وفقني، يا رب اشفني، يا رب نجحني، يا رب ارزقني ذرية طيبة، هذا هو المؤمن، يسأل الله دائماً.
(( مَن لم يَدعُ اللَّهَ سبحانَهُ، غَضبَ علَيهِ. ))
عنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمِلْحَ ، وَحَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ. ))
إن الله يحب من عبده أن يسأله شسع نعله إذا انقطع، إن الله يحب من عبده أي يسأله ملح طعامه، إن الله يحب من عبده أن يسأله حاجته كلها، ألا يوجد عندك حاجات لله عز وجل؟ والله يوجد قوائم، ضع كل يوم قوائم، ولكن قبل كل شيء تريد نفساً طاهرة، واستقامة.
﴿ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ(55)﴾
لكن: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ إن اعتديت على أخيك المؤمن لا يحبك، ولا يستجيب لك، الدعاء بحاجة لاستقامة، ورزق حلال، أطب مطعمك، أي اكسب مالاً حلالاً، واشترِ به طعاماً، فهذا الطعام طيب، أي أنشِئ علاقة لك مع الله.
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( يا معاذُ هل تَدري ما حقُّ اللَّهِ على العِبادِ؟ وما حقُّ العبادِ على اللَّهِ؟ قلتُ :اللَّهُ ورسولُهُ أعلَمُ قالَ: فإنَّ حقَّ اللَّهِ على العبادِ أن يعبُدوهُ، ولا يُشرِكوا بِهِ شيئًا، وحقُّ العبادِ على اللَّهِ إذا فعَلوا ذلِكَ أن لا يُعذِّبَهُم. ))
إله، عن طريق النبي الكريم بالحديث الصحيح يقول: (وحقُّ العبادِ على اللَّهِ إذا فعَلوا ذلِكَ أن لا يُعذِّبَهُم) فمن منا لا يحب ألّا يعذب؟ من منا لا يحب أن يبقى صحيحاً طوال حياته؟ أن يُمِدّ الله في عمره، أن يرزقه الله ذرية طيبة، وزوجة صالحة، ورزقاً حلالاً، وسمعة طيبة؟ هذا ما يتمناه كل الناس، السبب بيدك، السبب اسأل الله، احفظ الله يحفظك، يا سيدي ما هذه الصحة؟ قال له: يا بني حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكِبر، من عاش تقياً عاش قوياً.
الملف مدقق