الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثاني عشر من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الثالثة والثلاثين، وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ (33) ذُرِّيَّةَۢ بَعۡضُهَا مِنۢ بَعۡضٍۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)﴾
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ
أيها الإخوة، هذا الذي يؤمن أن الله قدّر على كل مخلوق عمله، ولا جريرة له به، هذا إنسان خاطئ! لأن الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان مخيرًا، فإن أحسن فله من الله جزاء، وإن أساء فعليه من الله وِزر، فالله عز وجل يصطفي، من يصطفي؟ يصطفي الذي يحبه، يصطفي الذي يعبده، يصطفي الذي يخافه، يصطفي الذي يرجو رحمته، لا بد أن يكون من العبد سبب للاصطفاء، وهذه الفكرة، وهذا المعنى يملأ القلب تفاؤلاً، في أي مكان، في أي زمان، في أي عصر، في أي مصر، في أية مرتبة، في أية درجة من السلّم الاجتماعي، في أي وضع ما دمت محباً لله، مستقيماً على أمره، تتقرب إليه بخدمة خلقه فلا بد أن تُصطَفى بطريقة أو بأخرى، قد يرفع الله شأنك، قد يُعلي قدرك، قد يُجري الخير على يديك، يلهمك أن تنطق بالحق، قد يجعل هدى كثيراً من خلقه على يديك، وهذا نوع من الاصطفاء، لأن الله عز وجل حينما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم قال:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)﴾
2 ـ لابد من سبب للاصطفاء :
قال علماء التفسير: هذه تنطبق على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى كل مؤمن بقدر إيمانه، واستقامته، وإخلاصه، أنت مخلوق كريم، أنت مخلوق مميّز، أنت مخلوق سخّر الله لك ما في السماوات، وما في الأرض جميعاً منه، فينبغي أن تعمل عملاً تستحق أن يصطفيك بطريقة أو بأخرى، لأن باب النبوّة مقفل، وباب الصدّيقية مقفل، فسيدنا أبو بكر كان أفضل من وطأ الأرض بعد الأنبياء، ولكن باب البطولة مفتوح إلى يوم القيامة، باب أن تكون مؤمناً كبيراً، باب أن تكون محسناً عظيماً، باب أن تكون عارفاً بالله، باب أن تكون من أحباب الله، هذا الباب مفتوح على مصراعيه لكل الخلق.
لكن ربنا عز وجل في هذه الآية يبيّن حالة أولئك النخبة، أولئك القمم، قمم البشرية، الأنبياء فالله اصطفاهم على علم، وحينما تقول: النبوّة هبة هذا كلام صحيح! ولكن دعني أوضح لك الحقيقة.
حينما تُضطَّر دولة -مثلاً للتقريب- أن تعين سفيراً في أقوى دولة في العالم ماذا ينبغي أن تكون مواصفات هذا السفير؟ ينبغي أن يكون محصلاً لعلومٍ شتى، علوم الحقوق، والآداب، والعلوم، هكذا في بعض الدول، لا بد من اختصاصات ثلاث، اختصاص علمي، واختصاص أدبي، واختصاص حقوقي، لا بد أن يكون ملمّاً باللغة الأجنبية، لابد أن يكون من أسرة راقية، لابد أن يكون ذا هيئة مرضية، لا بد من ذكاء فطري، لا بد، ولا بد... لأنه سيمثل أمة، سينطق بلسان دولة، سيعبر عن ثقافة، فحينما يُصطَفى مثل هذا الإنسان ليكون سفيراً في دولة عظمة هناك مؤهلات حصّلها بجهده؛ دراساته، واهتماماته، وثقافته، هذه كلها حصّلها بمفرده، بجهده الشخصي، بناءً على هذا التفوق، وعلى هذه الاختصاصات عُيِّن سفير، بعد أن يُعيَّن معه صلاحيات واسعة، معه حقيبة دبلوماسية، معه شيكات مفتوحة، معه ميزات كثيرة، هذه تأتيه هبة، أما الذي اصطُفِي بسببه تفوقه في اختصاصاته الثلاث.
إذاً: حينما نتوهم أن أي إنسان هكذا أراده الله نبياً فكان نبيًّا.
3 ـ الاصطفاء هو الانتقاء والاختيار :
﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ﴾ يقول لك: اصطفى، أي انتقى من بين خلقه، انتقى من بين الملايين المملينة، انتقى إنساناً محباً لله، يطيعه، يحسن إلى خلقه، يتقرب إليه، فهذا حال الأنبياء اصطفاهم على علم، اختارهم من بين خلقه لأنهم قِمم، لأنهم ذروة الكمال البشري، لأنهم على محبة لا توصف، وعلى ورع لا يوصف، وعلى خير لا يوصف، وعلى إحسان لا يوصف، وعلى حكمة لا توصف، فلا بد من جانب اختياري، ولا بد من جانب كسبي، بُني عليه الاصطفاء،
﴿ وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَٰهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ(32)﴾
كلمة اصطفى وحدها تعني هذا الذي قلته، وإن الله اصطفى من بني آدم سيدنا آدم، يقول عليه الصلاة والسلام في بعض أحاديثه :
(( آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة، ولا فخر. ))
معنى ذلك أن سيدنا آدم في مرتبة عالية جداً جداً: (آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة، ولا فخر)
4 ـ آدم أول مخلوق بشري على وجه الأرض:
﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ﴾ سيدنا آدم أول مخلوق بشري على وجه الأرض، ليس له أب، ولا أم، فقد حُرِم تربية الأب والأم، لذلك تولّى الله تربيته بنفسه، فأسكنه الجنة، ونهاه عن هذه الشجرة، وجاء إبليس اللعين فزيّن له الأكل من هذه الشجرة، ولم يكن وقتها كذب ولا نفاق!
﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَٰنُ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍۢ لَّا يَبْلَىٰ (120)﴾
فصدقه سيدنا آدم.
﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ(121)﴾
وفي آية أخرى :
﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُۥ عَزْمًا (115)﴾
على المعصية، واستغفر ربه، وتاب عليه وأخرجه من الجنة لا عقاباً، ولكن تعليماً لكل الخلق الذين سيأتون من بعده، لأن الله عز وجل في الأصل قال:
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى ٱلْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوٓاْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّىٓ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(30)﴾
إذاً خروج سيدنا آدم من الجنة لحكمة تربوية أرادها الله عز وجل، كأن الله ربّى بني آدم بآدم، وإن هذا الشيطان عدو لكم.
فيا أيها الإخوة: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحًا﴾ بعد آدم عُبِد غير الله في الأرض! فكان سيدنا نوح أول نبي جاء إلى البشر بعد أن وقعوا في الشرك، وآل إبراهيم، وإبراهيم أبو الأنبياء، ونبينا صلى الله عليه وسلم من ذريته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني:
(( دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشارَةُ عِيسَى ))
﴿ رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ(129)﴾
(دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ ، وَبِشارَةُ عِيسَى) فإبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ﴾ وقصة اليوم هي قصة آل عمران على العالمين، أريد أن أكرر أن الاصطفاء يعني أن جانباً من سبب الاصطفاء يعود إلى المخلوق، هذا الجانب الكسبي، لا يُنكَر أن النبوّة وهبية، ولكنها بُنيت على اصطفاء، والاصطفاء أساسه الكسب! كما بيّنت في مثل السفير.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ لو أردت أن أوسّع معنى الاصطفاء، التوسيع يعني أنّ أي واحد من الإخوة المؤمنين إذا تفوق في معرفة الله، وحرص على طاعته حرصاً كبيراً، وبذل مما أعطاه الله من علم أو من مال، أو من جاهٍ، أو من حكمة، أو من خبرة، أو ما شاكل ذلك، وبذل هذا في سبيل الله فلابد أن يرى من الله قبولاً، ونوعاً من الكرامة، مستحيل وألف ألف مستحيل أن تخطب ودّه، ثم لا يكافئك، أن تخطب ودّه ثم لا يكرمك، أن تخطب ودّه ثم لا تجد من الله معاملة استثنائية تشعر أنه يحبك! سمِّ هذا إن شئت اصطفاءً، كما قال بعض العلماء: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ هذه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل مؤمنٍ مطيعٍ مخلصٍ محبٍ منيبٍ له من هذه الآية نصيب!
فإن أردت أن تكون متميزاً، إن أردت أن يخصّك الله بعلم، أن يعلمك ما لم تكن تعلم، ليكون فضل الله عليك عظيماً، إن أردت أن يخصّك الله بلسان طليق في تعريف الناس بالله، إن أردت أن يخصّك الله بمال تنفقه في سبيل الله، إن أردت أن يخصّك الله بجاهٍ تحمي به الضعفاء المؤمنين، إن أردت أن يخصّك الله بعمل طيب يمسح دموع البائسين، إن أردت أن يخصّك الله بعمل عظيم ينجي به على يديك من عباده المؤمنين فالباب مفتوح على مصراعيه، هناك أبواب أُغلِقت بنص القرآن الكريم، وهناك أبواب مُفتَّحة، وقد ورد في الأثر بأن علوّ الهمة من الإيمان.
نحن في التعليم لو أن طالباً أراد أن ينجح فقط، لا ينجح، يرسب، يقول: أنا أريد المعدّلات فقط، النهايات الصغرى، في الأعم الأغلب أنه لا ينجح، أما حينما يطلب الطالب التفوق لعله ينجح، ولعله يتفوق، فأنت إن أردت أن تكون وراء الباب في الجنة ربما لا تدخلها، أما إن أردت أن تكون طموحاً مع المتفوقين فلعل الله يرحمنا جميعاً ولعل الله يقبلنا جميعاً.
أنا أريد أيها الإخوة أن تشعروا أن أبواب رحمة الله مفتوحة دائماً، ولا علاقة لها لا ببلد، ولا ببيئة، ولا بمجتمع، ولا بطبيعة، أبواب رحمة الله مفتّحة لكل عباده المؤمنين، وفي أي عصر، إن صدقت رأيت شيئاً لا يصدق، إن صدقت الله رأيت شيئاً لا يصدق، وما من مسلم مؤمن يخطب ودّ الله عز وجل إلا أكرمه الله إكراماً يراه هو، ويراه من حوله، وإذا شئت أن تفسر هذا الإكرام، أو هذه الكرامة، أو هذه المعاملة الخاصة، أو هذا الخير الذي يُجرى على يديك، أو هذا المنطق السديد الذي تنطق به، أو هذا العمل الطيب الذي قُدّر لك، أو التفاف الناس حولك، هذا كله بيديك، بشرط أن تقدم لله ما يؤهلك أن تنال منه هذا العطاء.
ما رأيت أدباً أعظم من أدب النبي عليه الصلاة والسلام، حينما سأل الله موجبات رحمته، وعزائم مغفرته، الله يرحم كل خلقه، لكن إن أردت رحمته فقدّم ثمنها، ثمنها أن تتوب، ثمنها أن تؤدي العبادات بإتقان، ثمنها أن تطيع الواحد الديّان، ثمنها أن تحسن إلى خلقه جميعاً، هذه كلها ثمن رحمة الله، ولعلي وضّحت معنى الاصطفاء فهناك جانب من العبد، جانب من العبد كسبي أساسه الاصطفاء، وهناك جانب وهبي! اخترنا هذا الإنسان من بين الأوائل، من بين المتفوقين، من بين الذين يتقنون اللغة الإنكليزية -فرضاً- من بين الأوائل، ثم منحناه صلاحيات كثيرة، الصلاحيات وهبية، أما الاختيار فقد بني على أساس كسبي، فالاصطفاء هذا معناه، الله اصطفى، والاصطفاء الضيّق اصطفاء الأنبياء بابه مغلق، وأمره منتهٍ! الاصطفاء الواسع أن تكون متميزاً، ألا ترى إنساناً أمضى حياته في طاعة الله، ألا ترى شيخوخته!
والله أيها الإخوة، زرت أحد علماء مدينة في الشمال، والله ما رأيت ملِكاً في ملكه أكبر شأناً هكذا! الإنسان إذا أمضى حياته في طاعة الله، إذا مضى حياته في الدعوة إلى الله، إذا أمضى حياته في التقرّب إلى الله، فهذا له معاملة خاصة، وله شأن كبير، ففي السابعة والتسعين كان أحد علماء دمشق الأجلاء رحمه الله، لديه قامة منتصبة، وبصر حاد، وسمع مرهف، وأسنان كاملة في فمه، سُئل: يا سيدي، ما هذا الصحة التي حباك الله بها؟ قال: يا بني، حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقيّاً عاش قوياً.
لك استثناءات في الصحة، لك استثناءات في السمعة، لك استثناءات في الرزق، لك الاستثناءات في الحياة الاجتماعية، محبوب، لأن الله قال:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ(159)﴾
فالتف الناس حولك ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ تتصل بالله فيمتلئ قلبك رحمة، فتكون ليّناً للناس، فيلتفون حولك، وينقطع المرء عن الله، فيمتلئ قلبه قسوة، فينعكس غِلظة، فينفض الناس من حوله، هذا قانون! معادلة رياضية مائة بالمائة، فأنا أريد كما يقال أحياناً التطبيق العملي، أنا ما علاقتي بهذه الآية؟
5 ـ آدم أول مخلوق بشري على وجه الأرض :
﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ أنا ما علاقتي بهذه الآية؟ لي علاقة متينة جداً! أنا حينما أخالف المجموع العام.
﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ(116)﴾
الناس أين يسهرون؟ في لقاءاتهم ماذا يتكلمون؟ نساء ورجال، واختلاط، ومزاح لا يرضي الله، ونظرات خبيثة، وتعليقات لاذعة، ومال يكسبونه بالحرام، وعلاقات كلها آثام، فإذا كنت مع المجموع فتحمل ما يتحمله المجموع، أما إذا خفت، واطمأن الناس، إذا أطعت، وعصى الناس، إذا صليت بالليل، والناس نيام، إذا غضضت بصرك عن الحرام، والناس يفتحون عيونهم هكذا، إذا ضبطت لسانك، والناس يتكلمون، إذا ضبطت جوارحك، والناس يسقطون، مقابل ذلك لك معاملة متميزة، لك كرامة عند الله، لك استثناء، لك تكريم، لك عطاء، لك اصطفاء، إن شئت أن تسميه اصطفاء.
مرة التقيت بأخ كريم يعمل قصّاباً، وأنا أحترم كل المهن، لأن كل حرفة تقدم خدمة هي حرفة مقبولة عند الله، ولكن هذا القصّاب من جيل أحد علماء القرآن الكريم الكبار، وكان هذا العالم فيما مضى قصّاباً! فقال لي مداعباً: إن هذا فلان، الأستاذ الجليل، العالم الجليل كنت معه في الحرفة، لكن قلت له: أين الثرى من الثريا؟ فرق كبير بين أن تكون من كبار علماء القرآن، وقد أمضيت كل حياتك في قراءة القرآن، وتعليم القرآن، وحفظ القرآن، وبيان أحكام القرآن، وبين أن تكون محترفاً حرفة تعيش منها، وانتهى الأمر، لابد من التفوق، ولابد من التميز، لمَ يريد الناس أجمل بيت، وأجمل زوجة، وأعلى دخل، وأجمل مكتب تجاري؟ انظر إلى الناس يتنافسون في بيوتهم، في مركباتهم، في إنفاقهم، في حفلاتهم، في أفراحهم، حتى في أتراحهم يتفوقون، يقول لك: سار خلفه خمسمائة سيارة! يفتخر بها، كلفنا القبر مبلغًا ضخمًا، حتى إذا مات ميّتهم يفتخرون! لماذا لا نتنافس في الآخرة؟ لماذا لا نحب التفوق في الآخرة؟ وباب التفوق مفتوح إلى يوم القيامة، هذا معنى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض
﴿ذُرِّيَّةَۢ بَعۡضُهَا مِنۢ بَعۡضٍۗ﴾ خصائص واحدة! الجبلّة واحدة، الفطرة واحدة، الإمكانات واحدة، ولو لم تكن واحدة لما كان هناك من معنى للتكليف، لا تكليف إلا بالإمكانات كيف نُكلّف ما لا نطيق؟ ماذا قال الله عز وجل؟
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (258)﴾
كل التكاليف التي أمرنا الله بها من وسعنا، وفي إمكاننا تطبيقها، هذا معنى ﴿ذُرِّيَّةَۢ بَعۡضُهَا مِنۢ بَعۡضٍۗ﴾ .
2 ـ النبي بشر تجري عليه كل خصائص البشر :
لولا أن النبي بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر، لو لا أن النبي يجوع كما نجوع، ويخاف كما نخاف، ويشتهي كما نشتهي، وانتصر على بشريته لمَا كان سيد البشر! فعَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَمَا لِي وَلِبِلالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلالٍ. ))
واضطُهِد في الطائف، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك. ))
عَنْ سَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قُلْتُ:
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ. ))
[ البخاري ، والترمذي ، واللفظ له ]
هناك مضائق في الحياة لا بد أن تمر بها، تضيق جداً على الأنبياء، الإسلام في بعض اللحظات انتهى! قضية ساعة، وينتهي الدين في الخندق! حتى قال بعض من كان مع النبي: أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته؟ كأنه كفر بنبوة النبي!
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)﴾
لابد من الابتلاء.
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)﴾
"يا إمام، أندعو الله بالابتلاء، أم بالتمكين؟ قال: لن تُمَكَّن قبل أن تُبتلى" ، فعلى المؤمن أن يوطّن نفسه على أن هناك ابتلاء، وهناك مضائق لابد أن يعبرها، وهناك شدة بعضها نفسي، وبعضها مالي، وبعضها صحي، فيُبتَلى الإنسان بصحته، ويُبتلى بماله، ويُبتلى بأهله، ويُبتلى بمن حوله! أتصبرون؟ لا بد أن نصبر، والصبر مرتبة عالية جداً، والدليل بأن الصبر أجره غير محدود!
﴿ قُلْ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍۢ (10)﴾
حينما تقرأ قوله تعالى ألا يقشعر جلدك؟ حينما يتحدث ربنا عن نبي كريم ويقول:
﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَٱضْرِب بِّهِۦ وَلَا تَحْنَثْ ۗ إِنَّا وَجَدْنَٰهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ ٱلْعَبْدُ ۖ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ(44)﴾
هل منا رجل لا مشكلة له؟ عنده مشكلة؟ فإن كان صابراً فهو عند الله في مكانة عليّة، ﴿إِنَّا وَجَدْنَٰهُ صَابِرًا﴾ ، حينما تقرأ قوله تعالى :
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى(37)﴾
إذا ذهبت إلى بيت الله الحرام، وعاهدت ربك على الطاعة، وعُدت من بيت الله الحرام، وأنت عند عهدك ألا تشعر بسعادة لا توصف؟ قد تخسر الدنيا، وقد تخسر بعض ما في الدنيا، ولكن تربح نفسك، وتربح آخرتك، وأنت من الفائزين ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ*ذُرِّيَّةَۢ بَعۡضُهَا مِنۢ بَعۡضٍۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ .
إليكم أيها الإخوة هذه القصة:
﴿ إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ (35)﴾
عمران زوجها، وهو أبو السيدة مريم، وجدُّ سيدنا عيسى ﴿إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ﴾ .
1 ـ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي :
لابد من تسخير الولد لخدمة الدين :
ينبغي أن نقتدي جميعاً بهذه المرأة العظيمة! أرادت أن تقدم ما في بطنها لله، تصورته مولوداً ذكراً يكون في خدمة الخلق، وفي الدعوة إلى الله! كم من أبٍ مسلم همه الأول أن يكون ابنه عالماً من علماء المسلمين، داعية من الدعاة الصادقين؟ يهمه أن يكون طبيباً، مهندساً، معه بورد معه إف آر إس، معه أكريجيه، يهمه أن يكون وسيم الشكل، دخله كبير، يفتخر به، يسير مع زوجته الكاسية العارية! هذا ابني، وهذه زوجته! كم من المسلمين يتمنى أن يكون ابنه عالماً، عالماً كبيراً، داعية كبيراً، مَن مِن المسلمين قال: يا رب: إني نذرت هذا الابن لك؟
والله سمعت عن بعض الصالحين قصة أثارت مشاعري، رجل من صالحي هذه البلدة اختار أحد أولاده النجباء، وقال له: حصّتك من تجارة أبيك كحصّة إخوتك جميعاً، لكنك مفروز أنت لخدمة هذا الدين، ولك مثل حصصهم كاملة، ولا يزال حيّاً يُرزق في خدمة المسلمين، والعلماء الصالحين!
هل يوجد أب يقدم ابنه؟ والله أنا أغبط كل أب عنده ولد ذكر أو أنثى، وقد تكون الأنثى أفضل من الذكر، هكذا في القرآن الكريم! هذا الولد ممكن أن يكون عالمًا كبيرًا، داعية كبيرًا، مصلحًا اجتماعيًا كبيرًا، إنسانًا كبيرَ القلب، فاعتنِ به، الجنة مفتحة لك أبوابها من خلال هذا الولد! ليكن معك في المسجد، اعتنِ بصحته، اعتنِ بطعامه، وشرابه، اعتنِ بدينه، اعتنِ بثقافته اعتنِ بتدريسه، اعتنِ بمستقبله، حينما تسعى ليكون ابنك في خدمة الحق وأهله فأنت من أعظم السعداء في الأرض!
هذه المرأة هكذا، قالت: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي﴾ وإن كان الإنسان ليس لديه ولد، فهل معه اختصاص؟ يحمل ليسانس في اللغة الإنكليزية؟ ألا يستطيع أن يترجم بعض الكتب الإسلامية الراقية إلى اللغة الأجنبية؟ مئات الملايين ضالة وشاردة، وهذه كلها تحتاج إلى داعية، قد تجد في اللغة الإنكليزية فرضاً فقرًا شديدًا في الكتب الإسلامية! المترجم مهمته أن يربح لا أن ينقل الحق للآخرين، معك ليسانس لغة أجنبية فاجعلها في خدمة الحق، معك مال؟ اجعله في خدمة الخلق! أنت في منصب رفيع؟ اجعله لإنصاف الضعفاء والمساكين!
لا يوجد أحد ليس له ميّزة في الحياة، وكل هذه الميزات طُرق إلى الله، وأنا أكرر وأقول: الجنة كل من وصل إليها نَعِمَ بها، ولا يُعتد بالوسيلة التي دخل إليها!
قد تجد إنسانًا همه الأول بناء المساجد، كل اهتماماته بالرمل، والإسمنت والرخص، وما إلى ذلك، هذا يدخل الجنة من أوسع أبوابها، لولا من بنوا هذا المسجد، وأنشؤوا مرافقه كيف نجلس هنا؟ إنسان التفت إلى بناء المساجد، وإنسان التفت إلى إقامة الشعائر، وآخر التفت إلى تأليف الكتب إنسان التفت إلى رعاية الفقراء والمساكين، وغيره التفت إلى رعاية المرضى، فأبواب الجنة مفتحة على كل مصاريعها، بشرط أن يكون لك عمل شرعي بنيّة عالية، فالجنة لك! إياك أن تتوهم أن الجنة للدعاة فقط، لا، لطبيب يعالج المسلمين بإخلاص، ولمهندس يبني بيوتاً للشباب المؤمنين، ولمحامٍ يدافع عن الحق بإخلاص شديد، ولتاجر يقدم سلعة بسعر معتدل جيدة لكل المسلمين، ولمعلم يعلم أبناءنا، ولمربٍ يربي بناتنا، لأي إنسان بشرط أن يكون عملك مشروعاً، وتسلك به الطرق المشروعة، وأن تبتغي به كفاية نفسك، ورعاية أهلك، وأولادك، وخدمة المسلمين، وألاّ تشغلك عن واجب، أو فريضة، انقلب عملك إلى عبادة، الدين واقعي، وهذا الدين دين الحياة.
﴿إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ﴾ قدِّم شيئًا لله عز وجل، قدم خبرتك، قدم حرفتك، قدم اختصاصك، أنت محام قدم شيئًا من خبراتك للفقراء المظلومين، طبيب، عالِج مرضى فقراء، غني، قدِّم من مالك، عالم، قدم من علمك، خبير، قدِّم خبرتك، قدم شيئاً، والله امرأة فيما أعلم أصيبت بمرض عضال في دماغها، ورم خبيث، فنذرت إن شفاها الله لتكونن في خدمة المسلمين، فشفاها الله! لا تملك من حطام الدنيا شيئاً فماذا تفعل؟ بدأت تصنع طعاماً طيباً، ومتقناً للأغنياء، وتأخذ ثمنه فتوزعه على الفقراء، لا تملك إلا فن الطهي فطهت، هذا الفن صار لها باباً إلى الجنة!
مرة كنت في المطار فرأيت أن كل مسافر يتجه إلى بوابة، يسمونها (غيت)، استلهمت من هذا أن كل إنسان له بوابة خروج في هذه الدنيا! هل يمكن أن تستيقظ كل يوم كما كنت البارحة، إلى ما شاء الله؟ مستحيل، إذاً كيف يموت الناس؟ استيقظ على تطور لم يكن من قبل في جسمه، زار طبيبًا، وطبيبين، وثلاثة، كنّ الطبيب، ونظر في القضية، وطلب منه أن يجري تحليلاً، وتصويراً طبقياً، وإيكو، الأمر بدا متفاقمًا، بعد حين توفي! إذاً هذه بوابة، فكل إنسان له بوابة، فإذا كنا أبطالاً نجعل من بوابة الخروج بوابة إلى الجنة، لابد من ذلك،
كــــــــل مخلــــــــوق يمــــوت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت
واللّيـلُ مهمــا طـالَ فلا بدّ من طُلوعِ الفجْـرِ
والعُمرُ مهمـا طـَالَ فلا بدّ مـن نُزولِ القَبــرِ
هذه امرأة عمران قالت: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرًا ﴾
النبي يباهي بأمته الصالحة:
كم من ولد في الطريق؟ تجد أولاد الأزقة يسبّون الدين، يتكلمون في العورات، ينهالون ضرباً على أصدقائهم، يتكلمون بعبارات لا تُسمع، هذه تربية المسلمين! والله ما أصدق في حياتي للحظة واحدة أن النبي حينما قال:
(( تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فإِنِّي مُكَاثِرٌ بكم الأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ))
والله ما أصدق لحظة في حياتي أن النبي يباهي بمثل هذه الأمة! يباهي بالمؤمنين، يباهي بالشباب المؤمن، يباهي بأطفال مؤمنين، أطفال الصحابة كانوا على شيء لا يوصف من الأدب، ومحبة الله ورسوله، والذكاء المتّقد.
مرّ سيدنا عمر بالمدينة فوجد أطفالاً، فلما رأَوه بهيبته تفرقوا إلا غلامًا ظل واقفاً بأدب، ولم يهرب! فقال له: "يا غلام، لمَ لمْ تهرب مع من هرب" ؟ فقال له: "أيها الأمير، لستَ ظالماً فأخشى ظلمك، ولستُ مذنباً فأخشى عقابك، والطريق يسعني ويسعك!" ، هكذا كانوا أطفال الصحابة.
دخل وفد على سيدنا عمر بن عبد العزيز للتهنئة بالخلافة، يتقدمهم غلام صغير، فغضب، وقال له: "اجلس، وليقم من هو أكبر منك سنّاً" ، فقال له: "أصلح الله الأمير! المرء بأصغريه؛ قلبه ولسانه، فإذا وهب الله عبداً لسانا لافظاً، وقلباً حافظاً فقد استحق الكلام، ولو أن الأمر كما تقول أيها الأمير –بالحجم- لكان في هذه الأمة من هو أحق منك بهذا المجلس" ، هذا كلام طفل في العاشرة من عمره!
اسمع أطفالنا، اسمع كلامهم بعد الانصراف، انظر كيف يفعلون، شيء مؤلم جداً، هل يوجد بيت ليس فيه أولاد؟ هذا الأب المسلم لمَ لا يقول كامرأة عمران: رب إني نذرت لك هذا الغلام لمرضاتك، لمَ لا تعتنِي به؟ لمَ لا تأتي به إلى المسجد؟ لمَ لا تصلي به إماماً في البيت؟ لمَ لا تعلمه القرآن؟ لمَ لا تعلمه محبة النبي العدنان؟ لمَ لا تنشئه على طاعة الله؟ لمَ تبعده عنك؟ لمَ تجعله في الطريق يتعلم كلاماً بذيئاً فاحشاً؟ هذه قدوة، أنا أريد أن يكون هذا القرآن مُطبَّقاً في حياتنا، فما قيمة هذه القصة لو أبعدناها عن حياتنا؟
﴿إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ﴾ أي محرر من كل شائبة! لا تبتغي إلا وجه الله، لكن معظم الآباء يقولون لك: هذا لكبري! هذا يعينني عندما أكبر، والولد ضروري جداً في الحياة، ويبتغي به الدنيا، ولا يبتغي به الآخرة! لو ابتغى به الآخرة لجاءته الدنيا، وهي راغمة! أما لأنه ابتغى به الدنيا، أخذ شهادة عليا، فسافر ولم يعد، تزوج هناك، وبقي، وضنّ على أهله باتصال هاتفي مرة في السنة! دخلت مع أب ابنه بمنصب رفيع جداً، تكلم مع أبيه كلامًا غير معقول أبداً، قال لوالده: اجلس هنا! والده محترم جداً، يوجد أبناء عاقّون.
فيا أيها الإخوة: ﴿فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ﴾ قدمت ما في بطنها لله عز وجل قالت: ﴿فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ﴾ تصوُّر هذه السيدة، امرأة عمران أنها ستنجب ولداً ذكراً يكون في خدمة الخلق في المعبد، يعبد الله، ويدعو إليه، قال تعالى:
﴿ فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ (36)﴾
رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى
1 ـ المرأة لها عمل جبار :
اختلف الأمر، طبعاً الرجل بإمكانه أن يخالط الناس دون أن يُقال عنه كلمة، لكن المرأة غير ذلك، فهي مكرمة عند الله، ومشرفة، لكن لها اختصاص آخر.
﴿ وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ ٱلْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)﴾
(( انصرِفي أيَّتُها المرأةُ وأعلِمي من وراءكِ من النِّساءِ أن حُسنَ تَبعُّلِ إحداكنَّ لزوجِها وطلبَها مَرضاتَهُ واتِّباعَها موافقتهُ يعدِلُ ذلِكَ كلَّهِ. ))
والجهاد كما تعلمون ذروة سنام الإسلام! والمرأة لها دور خصها الله به شرفها، وكرمها، وكلفها، لكن أعطاها اختصاصاً؛ أن ترعى زوجها وأولادها، والرجل له دور آخر، الرجل يعبد الله، ويجاهد، ويلتقي مع الناس، لكن المرأة لها عبادة من نوع آخر، فكلما سترت مفاتنها عن الشباب ارتقى دينها، ماذا تفعل المرأة المسلمة؟ تسهم في إعفاف الشباب عن طريق ثيابها الفضفاضة الساترة، المرأة الفاسقة ماذا تعمل؟ تسهم في إثارة الغرائز، كم من شاب نظر إليها فوقع في العادة السرية مثلاً؟ كم من شاب نظر إليها فزنى بغيرها؟ مثلاً، فالمرأة المسلمة لها عبادة تتميز بها، وهي أن كل سنتيمتر من ثيابها متعلقة بدينها، فكلما كان ثوبها صفيقاً، أي ثخيناً وفضفاضاً، وحجبت مفاتنها عن الخلق كلما ارتقت عند الله عز وجل، لها عبادة أخرى! لكن السيدة امرأة عمران وجدت أن الغلام هو الذي يحقق أمنيتها في الحياة، فجاءت أنثى! فقالت: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ﴾ .
قال بعض العلماء: إنّ الله عز وجل يعلم ماذا وضعت، فكيف تقول: ﴿إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ﴾ هو الذي يخلقها في بطنها، هذا معنى.
المعنى الأرقى: هو أن الله يطمئنها أنها وإن كانت أنثى، لكنها سيكون من نسلها أنبياء كبار، كالسيد المسيح عليه السلام، فأنت قد تأتيك أنثى، وأنت لا تعلم أنه قد تنجب ولداً ذكراً يملأ الأرض علماً.
فأنت لا تدري إذا أنجبت بنتاً طاهرة عفيفة نقية أن تنجب ولداً يملأ الأرض علماً، أو يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وحينما أُسأَل عن فتوى الإجهاض قبل أربعين يومًا أقول له: لعل هذا الذي تحاول إسقاطه يكون خيراً لك من كل أولادك! هو هدية من الله عز وجل.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى
﴿وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ﴾ أنت عليك أن تنوي نية طيبة ، وانتهى الأمر ، وعلى الله الباقي ﴿وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ﴾ ثم قالت: ﴿وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ﴾ اختلف العلماء أيضاً في هذا، فقال بعضهم: يا رب، أنا أتمناه ذكراً كي يكون في المعبد، فيعلم الناس دينهم، وكي يكون في خدمة أهل الحق، وها هو أنثى، وهناك تفسير آخر: وقد تكون الأنثى خيراً من الذكر ﴿وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ﴾ كل كائن له خصائصه.
﴿وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ﴾ يعني العابدة ﴿وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ﴾ .
وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم
لذلك كل إنسان ليلة عرسه لو دعا بهذا الدعاء الثابت عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( أَمَا إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَرُزِقَا وَلَدًا لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ. ))
هذا دعاء إذا تقبله الله سيأتيك ولد يسرك إن نظرت إليه، وتطمئن على أحواله، ويكون ذكراً طيباً لك، وقرة عين، فلا تنسَ أن تدعو الله يوم العرس، لأنه قد يأتي ولد فيه نزغة من الشيطان، كل يوم هو معك في مشكلة، كل يوم في مخفر، كل يوم تأتيك الشكاوى عليه، وهناك غلام كله ذِكرٌ طيبٌ حسن.
﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ (37)﴾
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا
1 ـ لا شيء في الأرض أغلى من فتاة مؤمنة طاهرة :
لا يوجد شيء في الأرض أغلى من فتاة مؤمنة.
﴿وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ طاهرة عفيفة، صاحبة حياء، صاحبة وفاء، تنتظر زوجاً مؤمناً، تقصر طرفها عليه.
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ يمكن أن تبتغي بشيء وجه الله، والله لا يقبله منك، الذي يضع لقمة في فم زوجته يراها يوم القيامة كجبل أحد! عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ. ))
2 ـ أعظم شيء أن يكون لك بيت طاهر :
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ﴾ إن أعظم شيء أن يكون لك بيت طاهر، بنات طاهرات، شباب أطهار، أسرة متماسكة، أسرة محبة لله، فلا تسمع كلمة خطأ عن هذه الأسرة، ولا سمعة سيئة أبداً، وهذا من نِعم الله عز وجل، يقول لك: أنا عشت ثمانين سنة لا أحد تكلم كلمة عن ابني، ربّاه تربية عالية.
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ﴾ نبي كريم تكفلها ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ﴾ وفي درس قادم إن شاء الله نتابع شرح هذه الآيات.
خاتمة فيها عبرة من الآية:
الذي أريده منكم أن تفهم كل آية بطريقة عملية، أن تسأل نفسك دائماً: ما علاقتي بهذه الآية؟ ما الفائدة من تلاوتها؟ إن لم يكن لك علاقة بها فعلاقتك أن تهب لله شيئاً من أولادك، ومن بناتك، ومن اختصاصك، ومن حرفتك، من مالك، ومن علمك، ومن خبرتك، أن تقدم شيئاً خالصاً لله عز وجل!
حدثني أخ طبيب أسنان فقال: جاءتني موظفة في التعليم فقيرة جداً تريد إصلاح أسنانها، التكلفة باهظة فاعتذرت، وخرجت، قال لي: أصررت على أن أقوّم أسنانها، قال لي: والله ما سعدت بخدمة إنسان كخدمة هذه المرأة الفقيرة، ولم آخذ منها شيئًا، والمبلغ كبير جداً! قال: في كل حياتي المهنية لم أسعد بإنسان دخل إلى عيادتي، لأنه قدم لها هذا الشيء لله عز وجل، أسنانها تثير الضحك أمام طالباتها، فلما أصلح لها أسنانها، وابتغى بذلك وجه الله، ملأ الله عز وجل قلبه سعادة، هل يوجد أحد ليس له حرفة؟ ألا يمكن أن تخصص جزءاً من حرفتك لوجه الله، لخدمة عباد الله الصالحين؟ طبيب، مهندس، محام، تاجر، مزارع، لا يوجد إنسان لا يملك اختصاصًا، ويمكن أن يهب جزءاً منه لله عز وجل اقتداءً بالسيدة امرأة عمران.
الملف مدقق