وضع داكن
26-04-2024
Logo
الخطبة : 0395 - سلسلة الأخلاق2 ، النهي عن الكذب - مركز التذوق و الشم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، و ما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلَّى الله عليه وسلم رسولُ الله سِّيدُ الخلق والبشر ، ما اتَّصلت عينٌ بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذرِّيته ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهمَّ ارحمنا فإنك بنا راحم ، و لا تعذِّبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيء قدير .

حسن الخلق هو جوهر الدين :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ في خطبتين سابقتين بيَّنت لكم بفضل الله عز وجل أن الإيمان كلَّه حسن خلق ، و أن حسن الخلق هو جوهر الدين ، و أن هذا الدين كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي :

((إن هذا الدين ارتضيته لنفسي ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق ، فأكرموه بهما ما صحبتموه))

[ شعب الإيمان عن جابر بن عبد الله ]

 المظهر الذي يجذب إلى الدين هو حسن الخلق ، و الشيء الذي ينفَّر من الدين هو سوء الخلق ، و أنت على ثغرة كما قال عليه الصلاة و السلام :

((أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك))

[ ورد في الأثر ]

 أي أيُّ مسلم يمثِّل بمفرده الإسلام ، فإذا أساء نفَّر الناس منه ، وإذا أحسن دخل الناسُ في دين الله أفواجاً ، وتحدَّثت في الخطبة السابقة بالذات عن الصدق و الكذب ، وكيف أن الصدق يهدي إلى البر ، و كيف أن البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ، و يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وكيف أن الكذب يهدي إلى الفجور ، و أن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ، و يتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ، و بينت لكم أن الصدق يقتضي أن تعتقد ما هو واقع ، و أن تقول ما هو واقع ، وأن تعمل وفق منهج الله عز وجل ، فإذا سلمت عقيدتك ، و استقام لسانُك ، واستقام عملك وصلت إلى الجنة ، وإذا اعتقدت اعتقاداً زائغاً ، وتكلمت بغير ما تعلم ، و بغير الواقع ، ولم تنضبط بمنهج الله عز وجل فهذا هو الطريق إلى النـار ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((إِنَّ الصـِّدْقَ يَهـْدِي إِلَـى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكـــَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا))

[ البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ]

 بشيء من التفصيل أيها الأخوة لا زلنا في موضوع الصدق و الكذب ، لأن أخطر شيء في حياتنا هو الكذب ، ونحن أحوج ما نحتاج إليه هو الصدق ، لو صدقنا فيما نعتقد و فيما نقول ، وفيما نفعل لكانت حياتنا غير هذه الحياة ، ولكنا بحال غير هذا الحال ، ولرضي الله عنا ، وأكرمنا ، لأن الله عز وجل لا يحب الكاذبين .

 

أشنع أنواع الكذب أن تكذب على الله :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ أشنع أنواع الكذب ، أخطر أنواع الكذب ، أشدُّ أنواع الكذب بشاعة ، أشدّها خطورة هو أن تكذب على الله ، هو أن تقول على الله ما لا تعلم ، أو أن تقول على الله بخلاف ما تعلم ، أن تقول على الله ما لا تعلم ، أن تنطلق من جهل في حديثك عن الله عز وجل ، أن تحلِّل ، وأن تحرِّم ، وأن تقول : الله كذا ، والله كذا ، و هكذا سيفعل ، و هكذا سيعفو ، أن تقول على الله ما لا تعلم ، أن تنطلق في حديثك عن الله بغير علم ، فهذا كذب على الله ، و هذا من أبشع أنواع الكذب ، و هذا من أشنع أنواع الكذب ، وهذا من أخطر أنواع الكذب ، لماذا؟ لأنه لعبٌ بدين الله :

((ابن عمر دينك دينك ، إنه لحمك و دمك ، خذ عن الذين استقاموا ، و لا تأخذ عن الذين مالوا))

[ العلل لابن أبي حاتم ]

 أن تقول على الله ما لا تعلم ، أن تنطلق في الحديث عن الله بجهل .
 في سورة الأعراف آية أيها الأخوة رُتِّبت فيها أنواع المعاصي ، و أنواع المعاصي كما تعلمون ؛ الفحشاء ، والمنكر ، والإثم ، والعدوان ، والشرك ، والنفاق ، والفجور ، والكفر ، والإلحاد ، هل تصدِّقون أن الله عز وجل جعل بعد أن رتَّب هذه المعاصي ترتيباً وفق خطورتها ، جعل أبشع أنواع هذه المعاصي في آخر الآية ، قال تعالى :

﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾

[سورة الأعراف: 33]

 لأنك إذا قلت على الله ما لا تعلم ضلَّلت الناس ، أوردتهم موارد الهلكة ، أغريتهم بشيء حرام ، أو أبعدتهم عن شيء حلال ، أو طمعوا في شفاعة لم يرِد النبيُّ عليه الصلاة و السلام أن تُفهم عنه بهذه الطريقة ، الشفاعة حقٌّ ، أما أن تفهم الشفاعة أن النبي عليه الصلاة و السلام لن يدخل الجنة حتى يدخِل كلَّ أمَّته قبله هكذا بلا قيد ، ولا شرط ، ولا قاعدة ، فهذا فهم ساذج جدا للشفاعة .
 فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ ما دام الموضوع عن الصدق والكذب يجب أن نعلم علم اليقين أن أخطر أنواع الكذب ، وأن أبشع أنواع الكذب ، وأن أشنع أنواع الكذب ، وأن أكثر أنواع الكذب خطورةً هو أن تكذب على الله ، هو أن تقول : الله كذا ، يغفر لمن يشاء ، و يعذب من يشاء ، وتفسِّر الآية كما تريد ، وكما تشتهي .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ يقول الله عزوجل في القرآن الكريم :

﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾

[سورة فصلت: 23]

 ظنُّكم السيّئ هو الذي أرداكم ، هو الذي أهلككم ، قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾

[سورة فاطر: 33]

 الغرور يوهمك أن الله كذا ، وهو فوق ذلك ، وهو منزَّه عن ذلك .

 

العقيدة أخطر شيء في حياة كل إنسان :

 فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ أخطر شيء فيك عقيدتك ، فإذا صحَّت صحَّ كلُّ شيء ، و إن فسدت فسد كلُّ شيء ، بل إن أكبر خطأ يرتكبه الإنسان أقلُّ من أقلِّ عقيدة فاسدة ، لأن العقيدة الفاسدة لن تتوب منها ، لكن الخطأ يمكن أن تتوب منه ، ما قولكم أن النبي عليه الصلاة و السلام سيد الخلق وحبيب الحق ، سيد ولد آدم ، سيد الأنبياء و المرسلين ، هو الإنسان الذي تربَّع على قمة الإنسانية ، هو الذي أقسم اله بعمره الثمين ، قال تعالى :

﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾

[سورة الحجر: 72]

 هو الذي أثنى الله عليه فقال :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة القلم: 4 ]

 هو السيد الأول ، هو المخلوق الأول ، و مع ذلك قال تعالى :

﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾

[سورة الحاقة : 44-47]

 على علُوِّ قدره ، و على رفعة شأنه ، و على أنه المخلوق الأول ، و على أنه سيد الأنبياء و المرسلين ، و مع كل ذلك قال تعالى :

﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾

[سورة الحاقة : 44-47]

 قال علماء التفسير : أي لأهلكنـاه إهلاكاً سريعاً ، ألم تسمعوا أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما دعي ليمثِّل ببعض القتلى من المشركين ، قال هذه الكلمة ، و الله الذي لا إله إلا هو إنها تُكتب بماء الذهب ، قال عليه الصلاة و السلام : لا أمثل بهم فيمثل الله بي و لو كنت نبياً . فقال تعالى :

﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾

[سورة الحاقة: 44-45]

 هذه هي العدالة الإلهية ، هذا هو الصراط المستقيم ، هذا هو الكمال البشري ، يرتقي عند الله باستقامته ، وبورعه ، وبعلمه ، وبخوفه من الله .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ الله عز وجل أيَّده بالمعجزات لينطق بالحق ، وما ينطق عن الهوى حينما ينطق معظم الناس عن الهوى ، حينما يتحدثون وفق أهوائهم ، حينما يتحدثون من أجل مصالحهم ، حينما يتلاعبون بالألفاظ و الأفكار و القيم من أجل ما يَصْبون إليه من مكاسب دنيوية ، حينما ينطلق معظمُ الناس في هذا الطريق ينبئُنا ربُّنا جلّ و علا أن نبيَّه الكريم لا ينطق عن الهوى ، قال تعالى :

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

[ سورة النجم : 3-4]

 و كلّكم يعلم أن أولى صفات النبي عليه الصلاة و السلام هي الصدق ، لذلك كلما ورد اسمُ النبي صلى الله عليه وسلم في أوساط الجاهليين كانوا يقولون : ما جرَّبنا عليه كذباً قط.

 

أخطر أنواع الكذب أن تكذب على رسول الله :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ فأشنع أنواع الكذب ، وأخطر أنواع الكذب ، و الكذب الذي يهلك صاحبَه أن تقول على الله ما لا تعلم ، إن كنتَ تعلم فتكلَّم ، وإن كنت لا تعلم فاسأل من يعلم ، قال تعالى :

﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً﴾

[سورة الفرقان: 59]

 كن وقافاً عند كتاب الله ، تحدَّث في حدود معلوماتك ، إياك أن تحرِّم من دون دليل ، إياك أن تحلِّل من دون دليل ، إياك أن توزِّع ألقابَ الكفر والإيمان من دون دليل ، ليس هذا من شأنك ، هذا من شأن الله عز وجل ، و لا يقلّ الكذبُ على رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الكذب على الله ، لذلك أخطر أنواع الكذب أن تكذب على الله وعلى رسوله ، كيف يكذب الإنسان على رسول الله ؟ كيف يكذب ؟ حينما يروي حديثاً موضوعاً وضعَه الكذَّابون ، وضعه الزنادقةُ ، وضعه أهلُ الأهواء في الدين ، حينما يروي حديثاً موضوعاً ويعلم أنه موضوع، ولا ينبِّه الناسَ على أنه موضوع ، فهذا كذبٌ على رسول الله ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ))

[البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو]

 حديثٌ لا أقول هو حديث صحيح بل إنه حديث متواتر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ))

[البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو]

 إذا رويتَ حديثاً موضوعاً و تعلم أنه موضوع لمصلحة أو لأخرى ، و لم تنبِّه الناس إلى أنه موضوع فهذا افتراء على رسول الله ، لذلك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ))

[البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو]

 و قد يقول قائل : أنا لا أعلم أن هذا الحديث موضوع ، و أنا لا أتعمد الكذب على رسول الله ، نقول له : حسناً ، استمع إلى هذا الحديث الآخر ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((مَنْ حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ))

[ الترمذي عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ]

 يرى ، هنا لا يرى أنه كذبٌ ، نقول له : لماذا لم تتحقَّق ؟ لماذا لم ترجع إلى سنده؟ لماذا لم تعتمد الكتبَ الصحيحة ؟ لماذا لم تسأل علماءَ الحديث عن هذا الحديث قبل أن ترويه للناس ؟ أنت لا تعلم أنه موضوع ، و لكن هذا العذرَ لا يكفي ، هذا العذرُ لا يحميك من عذاب الله عز وجل ، لأنك تفتري على الله ، لأنك تلعب بدين الله ، لأنك تحلِّل ما حرَّم الله ، أو تحرِّم ما أحلَّ الله ، أو توهم الناسَ أن الله كذا و كذا ، وهو منزَّهٌ عن كذا وكذا .
 فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ الافتراءُ على النبي صلى الله عليه وسلم أن تكذب على لسانه ، أن تقول للناس : قـال عليـه الصلاة و السلام وهو لم يقل هذا ، أن توهم الناسَ أن النبي عليه الصلاة و السلام قال كذا و كذا ، وهو لم يقل كذا و كذا ، فهذا من الكذب على رسول الله.

 

الحكمة من أن الكذب على النبي خطر كبير :

 لماذا الخطرُ كبيرٌ أن تكذب على النبيِّ ؟ لأن النبيَّ عليه الصلاة و السلام مؤيَّد بالمعجزات ، و ما أيَّده اللهُ بالمعجزات إلا من أجل أن تصدِّقه في كلِّ ما يقول ، فإذا نقلت عنه قولاً ما قاله فقد وظَّفت هذه المعجزات للحديث الكاذب ، وهذا لعبٌ خطير بدين الله ، لأن الله عز وجل يقول :

﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾

[ سورة الحشر: 7 ]

 و النبي عليه الصلاة و السلام مشرِّع ، أقوالُه ، وأفعالُه ، وإقراراتُه تشريع ، المصدرُ الثاني بعد القرآن هو قولُ النبي عليه الصلاة و السلام ، هو أفعالُ النبي عليه الصلاة و السلام ، هو إقرارُ النبي عليه الصلاة و السلام ، فهذا كذبٌ شنيعٌ جداً ، أن تكذب على الله عز وجل ، أو أن تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول اللهُ عز وجل :

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾

[سورة الأنعام: 93]

 أي ليس في الأرض كلِّها إنسانٌ أشدُّ ظلماً لنفسه ، وأشدُّ إهلاكاً لها من هذا الإنسان، قال تعالى :

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾

[سورة الأنعام: 93]

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ أحدُ المشتغلين في حقل الدين ، في بلد إسلامي غيرِ هذا البلد أصدر بعض الفتاوى لمصلحة تراءت له ، فلما حضرته الوفاةُ ودخل في غمرات الموت رفع يديه ، وأشهد من حضر ، وقد روى هذه القصَّةَ أحدُ الذين حضروا وفاته ، رفع يديه إلى السماء وقال : أُشهِدكم أنني بريء من الفتاوى التي أصدرتُها في كذا و كذا و كذا ، لأنه شعر أنه سيحاسب حساباً دقيقاً ، فلك أن تقول ما تشاء ، و لكن لكل قول حساب ، كلُّ قول تقوله سوف تُحاسب عنه .

 

من كذب ليضحك الناس فقد وقع في إثمٍ كبير :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ شيء آخر يمكن أن يمسَّ موضوعنا ، وهو أن الإنسان يحبُّ إذا جلس في مجلسٍ ، إذا كان في ندوةٍ ، في نزهة ، في لقاء أن يُضحِك الناسَ ، أن يكون خفيفَ الظلِّ ، ظريف النكتة ، مستملَحًا - أي مستحسَناً في حركاته و سكناته - فمن كذب ليضحك الناس فقد وقع في إثمٍ كبير ، دعْكَ من هذا الحقل ، و دعْك من هذا النشاط ، ودعك من هذه الضحكة الشيطانية ، و دعك من خفّة الظل الشيطانية ، والتزِم جانبَ الحق ، روى الإمامُ أحمدُ و التزمذي و أبو داود و الدارمي عن ابن حكَم عن أبيه عن جدَّه أنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ويل - معنى ويل أي الهلاك - حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ فَيَكْذِبُ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ ))

[الترمذي عن ابن حكَم عن أبيه عن جدَّه]

 أي أن تُلصِق كلاماً قاله زيدٌ ، وزيدٌ لم يقله ، أن تنهش عِرضَ فلان كي تضحك الناسَ ، أن تتَّهم فلاناً كي تكون ظريفاً في المجلس ، أن ترى حدثاً تكمله من خيالك كي تكون مستملَحاً بين الحاضرين ، هذا كذبٌ ، وهو كذبٌ خطيرٌ لأنه يفتِّت العلاقات الاجتماعية ، و يضعف تماسكَ المجتمع ، حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ فَيَكْذِبُ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ ))

[الترمذي عن ابن حكَم عن أبيه عن جدَّه]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ النبي عليه الصلاة و السلام حينما أسلم عكرمةُ بن أبي جهل، من أبو جهل ؟ أبو جهل أعدى أعداء الله ، سخَّر كلَّ إمكاناته ، وكل طلاقة لسانه ، وكل فصاحته ، وكلَّ وجاهته ، وكل مكانته ، وكل قوته ، من أجل تأليبِ الناس على الإسلام ، من أجل محاربة النبي ، وأمضى كلَّ حياته في حرب النبي ، وحينما أسلم ابنُه عكرمةُ ، وهو في طريقه إلى النبي صلى الله عليه و سلم وجَّه أصحابَه توجيهاً يُسجَّل بماء الذهب ، قال عليه الصلاة و السلام :

(( جاءكم عكرمة مسلماً ، فلا تسبوا أباه ، فإن سبَّ الميت يؤذي الحي ، و لا يبلغ الميت ))

[الحاكم عن عبد الله بن الزبير ]

 إذا نهى النبيُّ عليه الصلاة والسلام عن سبِّ أبي جهل إكراماً لابنه ، وكلكم يعلم من أبو جهل ، فما قولك بمن يكذب ليضحك الناسَ فيتَّهم أخاه المسلم بشيء ما فعله ؟ بكلام ما قاله ، بتصرُّف ما سلكه ، أتضحك الناس على حساب زيد ؟ أتجعل من زيد قصَّةً مضحكةً للناس ؟ أهكذا المؤمن ؟ أهكذا المسلم ؟ أهذا يرضي اللهَ عز وجل ؟

(( وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ فَيَكْذِبُ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ ))

[الترمذي عن ابن حكَم عن أبيه عن جدَّه]

 لكن بعض العلماء أجاز أن تكتب قصَّة من خيالك تقع ، لكنها لا تشير إلى أشخاص معروفين ، أشخاص رمزيِّون ، يمكن أن تؤلِّف قصَّة لم تقع ، لكنها واقعية يُستنبَط منها موعظة كبيرة ، و القصة كما تعلمون لها أثرٌ كبير في توجيه الناس ، فأن تكتب قصةً من خيالك ، لكنها تؤدِّي هدفاً نبيلاً و تهيّئ لها أشخاصاً رمزيِّين ، هذا ليس من أنواع الكذب التي نهى عنها النبي عليه الصلاة والسلام ، كلُّكم يعلم كيف أن بعض الكتَّاب كتب قصصاً على ألسنة الحيوانات ، و كلها مواعظ بليغة ، فهذا ليس من أنواع الكذب ، هذا عملٌ أدبيٌّ يرتقي برُقِيِّ هدفه ، و يسفل بانحطاط هدفه ، فإذا كان الهدفُ نبيلاً ، إذا أردت أن تبثَّ قيمَ الشجاعة و التضحية والإيثار ، قيم التديّن الصحيح و قيم البذل من خلال قصة اجتماعية هادفة رصينة ، فهذا ليس من الكذب الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة و السلام .

 

شهادة الزور :

 ولكن بقي نوعٌ من الكذب خطيرٌ جداً ، إنه شهادة الزور ، كلكم يعلم أن حقوق العباد أساسها المشاححة ، بينما حقوق الله عز وجل أساسها المسامحة ، فالحياة لا تنتظم إلا بإحقاق الحق ، إلا أن يُعطى كلُّ ذي حق حقَّه ، أحدُ الوسائل المعينة التي تبرز الحقَّ ، أحد الوسائل التي تدعم الحقّ ، أحد الوسائل التي يستند إليها الحقُّ هي الشهادة ، قال تعالى :

﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾

[سورة البقرة: 283]

 قد تشهد حادثاً ، و قد يُتَّهم السائقُ ظلماً بأنه تسبَّب في قتل فلان ، و قد رأيت رأي العين أن السائق بريء ، وأن هذا الذي قتل هو الذي خالف الأنظمةَ ، إذا طلب منك هذا السائق أن تشهد بما رأيت و قلت له : أنا ليس عندي وقت ، لا أريد وجع الرأس ، لا أحب هذه المتاهات ، قال تعالى :

﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾

[سورة البقرة: 283]

 كم من دعوة باطلة تتهافت بشهادة صادقة ، وكم من افتراء خطير يُقوّض بشهادة صادقة ، وكم من حق يُحقُّ بشهادة صادقة ، و كم من باطل يبطل بشهادة صادقة ، فربّنا عز وجل جعل الشهادة أحدَ أركان القضاء ، و جعل الشهادة أحد الوسائل المعينة لإظهار الحق وإبطال الباطل ، فما قولكم برجل يستخدم هذه القيمة العظيمة العادلة الرائعة استخداماً سيجعلها باطلاً ؟ إنه شاهد الزور ، لذلك الشيء الذي لا يُصدَّق أن الله سبحانه و تعالى قال :

﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾

[ سورة الحج : 30]

 و كلكم يعلم أن العطف يقتضي التجانس ، فالله عز وجل جعل عقوبة شاهد الزور كعقوبة عابد الوثن ، لأن شاهد الزور ضيَّع الحقَّ ، ودعَّم الباطل ، لأن شاهد الزور أورث الأحقاد ، لأن شاهد الزور ضلَّل القاضي ، لأن شاهد الزور غيّر الحق ، لذلك في الإسلام بعضُ الآثام يُعاقب عليها المرءُ مرّتين ، قال تعالى :

﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً﴾

[سورة الأحزاب: 30]

 قال العلماء : هذا عقابُ من كان قدوةً لغيره ، أي الأب حينما يكذب يُعاقب عن كذبه ، و عن كذب أولاده الذين قلَّدوه ، والأم حينما تتبذَّل في ثيابها تُعاقب مرتين ، مرة عن تبذلها ، ومرة عن تبذُّل ابنتها تقليداً لها ، كل إنسان يحتل موضعاً قيادياً ، الأب يحتل موضعاً قيادياً في أسرته ، الأم ، المعلِّم ، مدير المستشفى ، مدير المدرسة ، كل إنسان أُنيط به أمرُ مجموعة من الناس فهذا موضعه موضعٌ قيادي ، فإذا أساء فعقابُه مضاعف ، و إذا أحسن فأجره مضاعف ، له أجره وأجر من عمل بعمله إلى يوم القيامة ، العلماءُ قالوا : شاهدُ الزور يرتكب جريمتين ؛ الجريمة الأولى أنه عطَّل هذه الوسيلة التي شرعها اللهُ عز وجل لإحقاق الحق و إبطال الباطل ، عطَّلها ، وثانياً استخدمها استخداماً معاكساً ، حينما كانت دعماً للباطل ، وتضليلاً للقاضي ، فهذا كذب من أشنع أنواع الكذب ، لأنه كذبٌ متعلِّق بحقوق البشر .
 كلكم يعلم أن هناك يمين لغو ؛ لا واللهِ و إي والله ، هذه يمين لغو ، و هناك يمين منعقدة حينما تنوي أن تحلف اليمين ، و تحنث باليمين فعليهم كفَّارة ، إما أن تصوم ثلاثة أيام ، وإما أن تطعم عشرة مساكين ، إلى آخر الآية ، أما يمين الغموس فحينما تحلف على شيء لتنقل الحق من فلان إلى فلان ، هذه اليمين لا كفارة لها ، لأنها تغمس صاحبها في النار ، هذه اليمين يحتاج صاحبُها إلى أن يجدِّد إسلامَه ، انظر كم هي الحقوق عند الله عظيمة ، حينما قال الله عز وجل:

﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾

[سورة إبراهيم: 10]

 هذه " من" للتبعيض ، قال علماء التفسير : الله يغفر بعضَ الذنوب التي بينه و بين عباده ، أما الذنوب التي لها علاقةٌ بالعباد فلا يغفرها إلا العبادُ ، فتوجَّه إلى من له حقٌّ عليك ، إما أن تعطيه حقَّه وإما أن يعفوَ عنك ، وإما أن تفعل شيئاً من هذا القبيل .

 

شاهد الزور يزور الحقائق و يضلل القاضي :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ شاهد الزور يُعاقب مرتين ؛ عطَّل وسيلة نافعة لإحقاق الحق، وعطَّل وسيلة نافعة لإرشاد القاضي ، وجعل من هذه المهمة المقدَّسة أداةً لتزوير الحقائق ، ولتضليل القاضي ، ولدعم الباطل ، فلذلك قال تعالى :

﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾

[ سورة الحج : 30]

 وقد نبَّه النبيُّ عليه الصلاة والسلام إلى هذه الآية ، عَنْ أَيْمَنَ بْنِ خُرَيْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ :

((يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ إِشْرَاكًا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ))

[الترمذي عَنْ أَيْمَنَ بْنِ خُرَيْمٍ]

 وقد وصف الله المؤمنين بأنهم لا يشهدون الزور ، قال تعالى :

﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾

[سورة الفرقان: 72]

 ومقولة الإمام علي كرَّم الله وجهه حينما وضع أربع أصابع على صدغه الأيمن ، و قال : "بين الحق و الباطل أن تقول : سمعت أو أن تقول رأيت " شاهد الزور لا ينبغي أن يقول : سمعت ، شاهد ، هل رأيت بعينك ؟ بين الحق والباطل أربع أصابع ، بين أن تقول : رأيت أو سمعت ، والحديث الشهير الصحيح الذي رواه الإمام البخاري و مسلم :

((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ))

[البخاري عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ]

 إشفاقا عليه .

 

فروع الكذب الخطيرة :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ شهادة الزور أحدُ فروع الكذب الخطيرة ، اليمين الغموس أحد فروع الكذب الخطيرة ، أن تضحك الناسَ فتكذب أحد فروع الكذب الخطيرة ، أما أخطرُ هذه الأنواع فأن تكذب على الله ، هل هناك أخطر من الكذب على الله ؟ الكذب على الله أن تقول على الله ما لا تعلم ، هذا كذب خطير ، لكن الأخطر منه أن تقول على الله بخلاف ما تعلم ، جريمتان ؛ أن تقول على الله بخلاف ما تعلم ، أن تقول على الله ما لا تعلم ، فهذا كذب خطير، لعبٌ بدين الله ، إحقاق للباطل و إبطال للحق ، أما أن تقول على الله بخلاف ما تعلم فهناك جريمتان ؛ الأولى جريمة الجهل ، و الثانية جريمة أخلاقية ، من أجل مصلحة دنيوية زوَّرت الحقائق ، ووجَّهت الآيات ، وذكرت الأحاديث ، هذا كلُّه كذب ؛ و نعوذ بالله من هذه الأنواع الخطيرة التي ذكرها الله في القرآن الكريم .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، و زنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، و اعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتَّخذ حذرنا ، الكيَّس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت ، و العاجز من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله الأماني ، و الحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

مركز الشّم و التذوق :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ في الأسبوع الماضي تحدّثت عن الشمِّ ، و كيف أن في الأنف عشرين مليون خليَّة عصبية شمِّية ، و أن كلَّ خلية لها سبعة أهداب عليها مادة دهنية مذيبة تتفاعل مع الروائح تفاعلاً كيماوياً ، فينشأ من هذا التفاعل شكلٌ هندسي يُرسل إلى مركز الشّم في المخ على شكل إشارة ، ومركز الشم في المخ يستعرض هذه الرائحة فيدركها أوَّلاً ، يتذوَّقها ، ثم يتعرف عليها ثانياً .
 من لوازم هذا الموضوع أن الله جل و علا جعل على اللسان خلايا خاصة ، تنتشر على شكل نتوءات يمكن للإنسان من خلالها أن يتذوَّق الحلوَ و الطيِّب من الطعام ، و أن يلفظ المرَّ و الحمضي منه ، وأن يتجرَّع الماءَ العذب الفرات ، وأن يلفظ الملح الأجاج ، فمن وضع على اللسان هذه الخلايا الذوقية ؟ بعضها يتذوق الحلو ، و بعضها المر ، بعضها المالح ، وبعضها الحامض ، هذه الخلايا المتوضِّعة على اللسان موزَّعة في أنحاء اللسان ، بعضها في مقدِّمة اللسان لتذوُّق الطعم الحلو ، بعضها في مؤخِّرة اللسان لتذوُّق الطعم المر ، بعضها على جوانب اللسان لتذوق الطعم الحامض و المالح .
 أيها الأخوة الأكارم ، بحثٌ طويلٌ ولكنَّ الشيء الذي يلفت النظر أن حساسية الخلايا الذوقية المتخصِّصة للطعم المرِّ تبلغ حساسيتُها عشرة آلاف ضعف عن حساسية الخلايا التي تتذوَّقُ الطعم الحلو ، لماذا ؟ لأن الله جلَّ حكمتُه جعل كل طعام سامٍّ مؤذِ مرَّ الطعام ، هذا التوافقُ توافقٌ حكيم ، الطعام الذي ينفعك حلو المذاق ، والطعام الذي يؤذي مرُّ المذاق ، لذلك كل أنواع السموم لها طعم حريف مر ، فلئلا يتسمَّم الإنسان حساسية الخلايا المتخصصِّة لتذوّق الطعم المر ، حساسيتها عشرة آلاف ضعف عن حساسية الخلايا المتخصِّصة لتذوق الطعم الحلو ، هذه واحدة .
 الشيء الثاني ، توافق الطعم المر مع الضرر ، هذا التوافق ، هذا من حكمة الله جل و علا .
 شيء آخر هو أن اللعاب الذي في الفم يسهم بشكل فعَّال جداً في إذابة الطعوم تمهيداً لتذوُّقها من قِبَل الحُلَيمات الذوقية المتوضِّعة على اللسان .
 و شيء ثالث هو أن البخار أو أن الغاز - إن صحَّ التعبير - المنتشر من هذا الطعام يتلقَّفه الأنفُ ليشمَّه ، فطعمُ الطعام أساسه شمٌّ و ذوق ، فكل طعام نأكله ، ونستطيبه ، ونحمد الله عليه ، ساهم في تكوينه خلايا الشم مع خلايا الذوق ، و الإنسان حينما يُصاب برشح شديد يشعر أن طعم الطعام قد اختلف في فمه ، هذا من فضل الله جلَّ وعلا ، أما في الدماغ فهناك مركز آخر للذوق ، كما أن هناك مركزاً للشم ، ومركزاً للذوق ، وهذا المركز يستطيع أن يفرِّق بين عشرة آلاف طعم ، عشرة آلاف طعم يمكن أن يفرِّق بينها مركزُ الذوق في الدماغ ، و كما يحدث في الشم يصل هذا الطعم إلى الدماغ فيشعر به ، ثم يتعرَّف عليه ، و التعرف عليه بأن يجري هذا الطعم على عشرة آلاف طعم في الذاكرة الذوقية ، فإذا توافق هذا الطعم مع طعم مسجَّل في الذاكرة قال : هذا طعام كذا ، وهذا الطعام فيه المادة الفلانية ، إلى آخره .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ ألِحُّ على هذا الموضوع بأن بين جوانحنا جسماً فيه إعجاز في الخلق ، فيمكن أن تعرف الله معرفة دقيقة جداً من خلال جسمك الذي بين يديك ، وهذا أقرب شيء إليك ، قال تعالى :

﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الذاريات: 21 ]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور