الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس التاسع من دروس سورة آل عمران، ومع الآية العشرين، وهي قوله تعالى :
وجه ربك أي ذاته العَليَّة.
حينما يفكر الإنسان ليبرر، يفكر ليغطي سلوكه المنحرف، ليُسبِغ على سلوكه المنحرف مبررات، ومسوِّغات معقولة، إنه يستخدم فكره لغير ما خُلِق له.
لذلك مرةً جاءني شابٌ وقال لي: أنا ملحد، قلت له: والله إن كان إلحادك عن منفعةٍ تنتفع بها فلست مستعداً أن أجلس معك ولا دقيقة، أما إن كان إلحادك عن قناعةٍ بريئةٍ فأنا أجلس معك، فأقسم لي بالله إنه عن قناعةٍ، ولا عن انتفاعٍ، فالمنتفع بكفره لن يؤمن.
كنت أضرب مثلاً لعله طريفٌ، أن إنساناً عنده دابة يعمل عليها، فلما ماتت بنى عليها بناءً، وأعطى اسماً لوليٍّ من عقله، من اختراعه، وجاءه الناس بالهدايا، والإكرامات، وعاش في بحبوحةٍ ما بعدها بحبوحة، هل هناك قوة في الأرض يمكن أن تقنعه أن الذي دُفن هنا حمار؟ أو دابة؟ لا، مستحيل، هو دفنه بيده، قناعته بأن هذا المدفون دابة أشد من قناعة الذي يجادله، ولكن هذا الدخل الكبير الذي جاءه بسبب هذه الخدعة، هذه لن تجعله يقرُّ بالواقع، هو منتفعٌ بهذا الافتراء، فالإنسان حينما ينتفع بكذبٍ، أو بنفاقٍ، أو له مصلحة هذا لا يُناقَش، والأولى ألا تناقشه، وإلا فلست على علمٍ، ولست على وعيٍ إطلاقاً، المنتفع بكفره لا يناقش، المنتفع بنفاقه لا يناقَش، المنتفع بفكرةٍ معينة، بطرحٍ معين، برأيٍ معين، بمذهبٍ معين، المنتفع لا يناقش، لأنه استخدم عقله لغير ما خلق له، لذلك كلمة الجدل أينما وردت في القرآن ليست ممدوحةً، بل هي مذمومة: (مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ) والمسلمون حينما تخلفوا عن تطبيق منهج ربهم دخلوا في متاهاتٍ فيما بينهم، وأوتوا الجدل، وجُعل بأسهم بينهم، ويأتون بجزئيَّات الدين ويكبِّرونها، ويجعلونها أصلاً في الدين، ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا خالفهم أحدٌ في رأيهم، هذا أيضاً من حب الدنيا.
لذلك أكبر تهمة تُوجَّه للمنحرفين عَقَدياً وسلوكياً أن تقول لهم: أنتم لستم على ما كان عليه النبي وأصحابه.
ثلاث نصائح تكتب على ظفر: اتبِعْ لا تبتدعْ، اتضع لا ترتفع، الورِع لا يتسع، أنفق باعتدال، لا تسرف، والمترَفون في القرآن الكريم في ثمانية مواضع هم كفار:
﴿ وَقَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱلْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَٰهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مَا هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ(33)﴾
[ سورة المؤمنون ]
فاتبع لا تتبع، اتضع لا ترتفع، الورِع لا يتسع .
إذا عم النقاش غير الموضوعي فعليك بكتاب الله وسنة رسوله:
أيها الإخوة، مرة ثانية: هناك عقل صريح، هذا أداة معرفة الله، وهناك عقلٌ تبريري، هذا أداة لتغطية الانحراف، وما كلُّ فكرٍ تقرؤه فكر صريح، قد يكون فكراً تبريرياً، قد يكون فكراً لتغطية انحرافٍ شديد، الإنسان منطقي في الأساس، حتى لو ارتكب جرائم يفلسف هذه الجرائم، ويجعلها مبررة، حتى لو أكل أموال الناس بالباطل، يفلسف هذا الانحراف، حتى لو كان زير نساءٍ، له كلامٌ مزينٌ يقوله، فالعبرة ما جاء به الوحي، فهناك مقولات لا تنتهي، هناك طروحات لا تنتهي، هناك آراء لا تنتهي، العبرة أن تصطفي من كل هذه المقولات ما جاء به الوحي، لأنه من عند الله، ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه لا ينطق عن الهوى، القاعدة الثابتة التي لا تتزحزح، ولا تتزلزل الكتاب والسنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( تركتُ فيكم أَمْرَيْنِ لن تَضِلُّوا ما تَمَسَّكْتُمْ بهما: كتابَ اللهِ وسُنَّةَ نبيِّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. ))
[ أخرجه الإمام مالك في الموطأ ]
هذا منهج، هذا صراط مستقيم، هذا حبل الله المتين، هذه سنة النبيين، إذا انتشر الجدال، وعمَّ النقاش السفسطائي، إذا فشا الحوار غير الموضوعي فقل: ﴿فَقُلۡ أَسۡلَمۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِۗ﴾ فعندنا نقل، وهو الدين، وعندنا عقل، العقل له دورٌ في التأكُّد من صحة النقل قبل أن نقرأ النقل، وله دورٌ في فهم النقل بعد أن نقرأ النقل، له دورٌ قبل النقل في التأكد من صحته، ودورٌ بعد النقل في فهمه، لكن لن يكون العقل حَكَمَاً على النقل، لأن العقل قد يخطئ، وقد يصيب، وقد يبالغ، وقد يرتبط بواقع معيِّن، فكما أن أجدادنا لو قاموا من قبورهم، ورأوا ما فعله الإنسان من إنجازات لا يصدقونها، لأن عقولهم وقتها مرتبطة بواقعٍ معين، لكن حينما يرَوْنَ أن هذه الأشياء المستحيلة أصبحت واقعاً، إذا أنكروها فليسوا على صواب، إذاً: العقل مرتبط بالواقع، أما النقل فمرتبط بخالق الأكوان بشكلٍ أو بآخر.
وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ
﴿فَقُلۡ أَسۡلَمۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡأُمِّيِّـۧنَ﴾ الأميين هنا أي مشركي العرب؛ لا دين لهم، هم على فطرةٍ فيها سذاجة.
﴿ أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ ۚ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىٰٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَٰذِبٌ كَفَّارٌ(3)﴾
ففي الجزيرة كان هناك مشركون، وكان هناك أهل كتاب.
معنى : أَأَسْلَمْتُمْ
﴿وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡأُمِّيِّـۧنَ ءَأَسۡلَمۡتُمۡۚ﴾ أيها الإخوة، ﴿ءَأَسۡلَمۡتُمۡۚ﴾ ، أي أسلِموا، يعني ألم تسلموا بعد؟ ﴿ءَأَسۡلَمۡتُمۡۚ﴾ ، أي أسلموا، وماذا تنتظرون؟
هذا المعنى الأول.
هو تهديد، أأسلمتم أم لم تسلموا؟
أول معنى تقرير، وفيه معنى الإنشاء (الأمر) وفيه معنى الاستفهام التقريري، ألم تسلموا بعد؟ وفيه معنى الطلب، أسلِموا، ومعنى التهديد أأسلمتم، أم لم تسلموا؟
فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ
1 ـ مهمة الأنبياء التبليغُ والقدوةُ :
﴿وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡأُمِّيِّـۧنَ ءَأَسۡلَمۡتُمۡۚ فَإِنۡ أَسۡلَمُواْ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ ٱلۡبَلَٰغُۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ﴾ الإنسان مخيَّر، ومهمة الأنبياء تنتهي بالتبليغ ليس غير، هناك مهمَّتان كبيرتان للنبي الكريم؛ إحداهما مهمة التبليغ، وثانيتهما مهمة القدوة، ولعل مهمة القدوة أخطر، وأبلغ من مهمة التبليغ، فأيّ إنسان أوتي فصاحةً، وبياناً، وذاكرةً، وفهماً، وحفظاً يُبَلِّغ، لكن الذي يؤثر، هناك مَن يقنعك، وهناك من يحملك على اتخاذ موقفٍ معين، الذي يقنعك فصيحٌ بليغٌ عالم، أما الذي يحملك على أن تقف موقفاً إيجابياً من الدين فهو القدوة، لذلك نحن في حاجةٍ ماسةٍ إلى قدوةٍ صالحة.
كيف قيل: إن النبي عليه الصلاة والسلام قرآنٌ يمشي، نحن في حاجةٍ إلى مسلمٍ يتحرَّك أمامنا، مسلم صادق، أمين، عفيف، طاهر، منصف، متواضع، رحيم، هذا أبلغ كما كنت أقول لكم دائماً: حالُ واحدٍ في ألف أبلغُ من قول ألفٍ في واحد، قول ألف رجلٍ فصيحٍ في واحد ربما لا يؤثرون، وحال إنسانٍ مخلصٍ، متصلٍ بالله، وحال واحدٍ أبلغ من قول ألف.
إذاً: ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡأُمِّيِّـۧنَ ءَأَسۡلَمۡتُمۡۚ فَإِنۡ أَسۡلَمُواْ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ﴾ لذلك ما كل ذكيٍ بعاقل، قد تكون متفوِّقاً في اختصاصٍ نادر، ويدرُّ لك هذا الاختصاص أرباحاً طائلة، وأنت عند الله لست بعالم، ولست بعاقل، مَن هو العاقل؟ الذي عرف الحقائق الكُبرى؛ الذي عرف الله عزَّ وجل، وعرف حقيقة الكون، وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان، وعرف مهمة الإنسان في الأرض، وسر وجوده وغاية وجوده، فإذا عرف ذلك، وطبق ما عرف صار حكيماً، فالذي يؤتى الحكمة وهي أن تعرف، وأن تعمل وفق ما عرفت، فقد أوتي خيراً كثيراً.
﴿فَإِنۡ أَسۡلَمُواْ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ﴾ ليس هناك إثنينية، الحق واحد، فإن لم تكن على الحق -لا سمح الله ولا قدر- فأنت على الباطل، إن لم تستجب لله فأنت تتبع الهوى، أبداً، لك عقلٌ صافٍ يأمرك أن تؤمن بالله وأن تطيعه، ولك نزواتٌ، وشهواتٌ، وغرائز تأمرك أن تشبعها بأيَّة طريقة، فإن لم تكن على الحق فأنت على الباطل حتماً، وليس هناك خطٌ ثالث، فهما خطَّان لا ثالث لهما؛ أن تكون متبعاً للحق، وأتباع الحق متوادُّون، متحابّون، متناصحون، كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا. ))
لو كنا جميعاً على الحق لكان بيننا من الود والحب الشيء الذي لا يوصف، وهكذا كان أصحاب النبي رضوان الله تعالى عنهم أجمعين، كانوا على مودةٍ فيما بينهم، وكان بأسهم على غيرهم، أما المسلمون حينما أصابوا ذنوباً كثيرة صار بأسهم بينهم، وصار دينهم الجَدَل.
الإسلام والله بسيط أيها الإخوة، الإسلام بسيط جداً، وينبغي أن نبسِّطه، هو هواء ينبغي أن نستنشقه دائماً، حاجتنا إلى الدين كحاجتنا إلى الهواء، استنشاق الهواء ليس فيه تعقيد، ولا فاتورة، ولا عدّاد، أينما ذهبت فهناك هواء تستشنقه، لذلك الدين حاجتنا إليه أساسية جداً، الإنسان خُلِقَ ضعيفاً، خُلِق هلوعاً، خُلِق عجولاً، ما الذي يلغي ضعفه؟ اتصاله بالله.
﴿ إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا(21) إِلا الْمُصَلِّين(22)﴾
ما الذي يلغي ضعفه؟ أن يستعين بالله.
وما لي سوى فقري إليك وسيلةٌ فبالافتقارِ إليك فقري أدفع
أنت قويٌ بالله، أنت عالمٌ بالله، أنت حكيمٌ بالله، أنت غنيٌ بالله.
3 ـ من الإسلام التسليم بأحكام الله كلها من غير نقاش :
أيها الإخوة: ﴿فَإِنۡ حَآجُّوكَ فَقُلۡ أَسۡلَمۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِۗ﴾ جميل جداً أن تعلل، وأن تبيِّن، وأن توضح، والأجمل من ذلك أن تتبع، والمؤمن الصادق لا يعلِّق تطبيقه لأمرٍ من أوامر الله على فهمه، أو على فهم حكمته، هو عندئذٍ يعبد نفسه، هو عندئذٍ لا يعبد ربه، متى يعبد ربَّه؟ حينما يثبت له أن هذا أمر الله، فيطبقه، فهمه أو لم يفهمه، اقتنع به أو لم يقتنع به، أحب ذلك أو لم يحب، لأن في اعتقاده أن علة كل أمر أنه أمر.
مرة كنت في جلسة، نشب جدلٌ طويل بين التعدد وعدم التعدد، الذي يتحدَّث عن التعدد هو قد عدّدَ، يعني تزوج عدة زوجات، ويقول: هو الأصل، والذي بقي على زوجة واحدة يقول: لا التوحُّد هو الأصل، واختلفوا، قلت كلمةً: أنا مرةً سمعت سؤالاً موجهاً إلى أستاذة في الجامعة في مصر عن التعدد، أجابت إجابةً لم أرَ إجابةً أكثر وضوحاً وأصوليةً منها، قالت: كيف لي أن أدلي برأي في التعدد، وقد سمح الله به؟ ما دام قد سمح الله به فلا معنى أن أدلي برأيي في التعدد.
فالإنسان يجب أن يوطن نفسه على أنه إذا رأى أن هذا أمر الله انتهى الأمر، لا يمكن أن يُخضِع أمراً إلهياً للمناقشة العقلية، يفكر فيه بعقله ليكتشف إيجابيَّاته فقط، ليكتشف حكمته، أما أن يضعه على بساط البحث ليقبله أو ليرفضه، معاذ الله، عندئذٍ ليس مؤمناً.
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًا مُّبِينًا(36)﴾
4 ـ تطبيق أحكام الله لابد أن تكون ابتغاء مرضاته:
بالمناسبة إخواننا، هناك معنى دقيق جداً، أنت حينما تكتشف أن هذا الشيء لصالحك تفعله وتضعف درجة العبادة فيه، وحينما ترى شيئاً يتضارب مع مصالحك، وتضع قدمك فوق مصالحك، وتطبق هذا الشيء ابتغاء مرضاة الله، يرتفع هنا مستوى العبادة في هذا الشيء، إذاً: دائماً مستوى التعبد يرتفع وينخفض بحسب ما إذا كان هذا الشيء واضحاً جداً أنه لصالحك، والإنسان إذا قام ونظف أسنانه قبل أن ينام، هل يشعر أنه يضحي في سبيل الله؟ لا والله، هو يصون أسنانه، لأنه واضح جداً أن صيانة الأسنان لمصلحة الإنسان، إذاً: إذا قام بهذا العمل لا يشعر أنه يعبد الله، مع أن تنظيف الأسنان من السنة، لكن درجة التعبد في هذا العمل ضعيفة، والمصلحة تغلب عليها، أما حينما يُقال لنبيٍ كريم وهو أبو الأنبياء: اذبح ابنك،
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْىَ قَالَ يَٰبُنَىَّ إِنِّىٓ أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنِّىٓ أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِىٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ (102)﴾
وابنه نبيٌ مثله، وبلغ معه السعي، وهو فتىً في ريعان الشباب، ولا يعلم من هو الابن إلا الأب، فيقول: ﴿قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِىٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾ هنا تنتفي المصلحة، وينتفي المنطق، فأنت حينما تقبل على تنفيذ أمرٍ تعارض مع مصلحتك، فآثرت طاعة الله على مصلحتك، أنت ارتقيت إلى أعلى مستوى في العبودية لله، فإن فعلت هذا انصياعاً لله، وامتثالاً لأمره دون أن تكشف حكمته، الآن يكافئك الله على هذا الانصياع، وعلى هذا التعبُّد أن يكشف لك حكمته، فتجمع بين مرتبة العلم وبين مرتبة العبادة، هذا شيءٌ دقيقٌ جداً، المؤمن لا يعلق أبداً على تطبيق أمرٍ إلهي فهمه لهذا الأمر، لا يجعل فهمه، وفهم حكمته، وتعليله عقبةً أمام التطبيق، ينطلق من قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ ولكن يكافئه الله أنه يكشف له حكمة هذا الأمر كما قيل: "مَن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم" ، يكشف الله له حكمة هذا الأمر فيغدو عابداً عالماً في وقتٍ واحد.
لكن أنا لا أقبل أبداً أن تضع الأمر الإلهي على بساط البحث، فإن قبله عقلك طبقته، وإلا تقول: ما قنعت بهذا الأمر، هذا ليس سلوك المؤمن إطلاقاً.
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ أنت مع إنسان من جنسك، لكنه عالم في الطب، يقول لك: دع الملح، ربما لا تجد حاجة إلى أن تسأله: لماذا؟ يقول لك: هكذا قال الطبيب، أنت لاحظ نفسك مع الخبراء الذين تستأجر خبرتهم، تنفذ تعليماتهم بدقةٍ بالغةٍ مثيرةٍ للدهشة، لأنك تعتقد بأنهم خبراء، لكن مَن هو أخبر الخبراء؟ قال تعالى:
﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍۢ (14)﴾
﴿فَإِنۡ حَآجُّوكَ فَقُلۡ أَسۡلَمۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡأُمِّيِّـۧنَ ءَأَسۡلَمۡتُمۡۚ فَإِنۡ أَسۡلَمُواْ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ ٱلۡبَلَٰغُۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ﴾ أنت بلِّغ، وعلى الله الباقي، أنت إن بلَّغت أدّيت الذي عليك، وبقي الذي لك.
ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ بِغَيۡرِ حَقٍّ وَيَقۡتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡقِسۡطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)﴾
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
1 ـ معنى : وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
سؤال جدلي: لو أنهم قتلوا النبيين بحق أعليهم وِزر؟ هذا السؤال مرفوض، لأن هذا ليس قيداً احترازياً -كما يقول علماء الأصول- هذا قيد وصفي، يعني أنّ أيَّ قتلٍ للنبي هو بغير الحق، ليس قيداً احترازياً، إنما هو قيدٌ وصفي، ومن شأن قتل الأنبياء أن يكون بغير الحق.
2 ـ الكفر بآيات الله الكونية والتكوينية والقرآنية:
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ﴾ وآيات الله كما تعلمون؛ آيات الله الكونية الدالة على عظمته، وآيات الله القرآنية الدالة على علمه، وآيات الله الفعلية الدالة على حكمته، فحينما يكفر الإنسان بها أي لا يعبأ بها، ولا يتخذها وسيلةً لمعرفة الله عزَّ وجل، وبالمقابل هذا الذي أمره ونهاه، وهذا الذي أعطاه منهجاً، يتوهَّم أن هذا المنهج سيحدُّ من حركته، ويلغي حريته في الحركة، مثل هذا الإنسان، كما قال الله عزَّ وجل، يكفر بآيات الله ويقتل النبيين بغير حق، بل: ﴿وَيَقۡتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡقِسۡطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
لا أَحَدَ أشقى ممّن يقف ضد الحق :
لا أرى أن في الأرض أشقى ممن يقف ضدَّ الحق، ممن يقف معادياً لأهل الحق، ممن يكون في خندقٍ مضادٍ لخندق المؤمنين، هذا أشقى إنسان على الإطلاق؛ أن تكون مناهضاً للحق وأهله، أن تكون عدواً للمؤمنين، أن تكون عدواً لوحي السماء، هؤلاء أشقى الناس على الإطلاق، وأذَكِّر بقوله تعالى:
﴿ إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ۖ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ (4)﴾
هما امرأتان؛ حفصة وعائشة، لهما شأنٌ مع رسول الله، فالردُّ كان: ﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ۖ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ﴾ في حياتنا المادية أيعقل أن امرأتين انتقدتا النظام يستنفر الجيش كله، والقوى الجوية كلها، والقوى البحرية كلها، والقوى البرية كلها، وكل أفراد الشرطة؟ غير معقول، فما معنى الآية؟ قال الله عزَّ وجل: إن أردت أن تكون عدواً للحق، مناهضاً له، فاعلم مَن هو الطرف الآخر، الطرف الآخر هو الله، ورسوله، وجبريل، والملائكة، وصالح المؤمنين.
إذاً: أشقى إنسان على الإطلاق هو الذي يناهض الحق وأهله، هو الذي يعادي الله ورسوله، هو الذي يؤذي المؤمنين، هو الذي يبني مجده على أنقاضهم، هذا إنسان من أشقى البشر.
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ بِغَيۡرِ حَقٍّ وَيَقۡتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡقِسۡطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ بئس هؤلاء، بئس القوم قومٌ خافهم المؤمن، بئس القوم قومٌ مشى بهم المؤمن بالتقية، يخاف أن يعلن إيمانه، بئس القوم قومٌ يقتلون المؤمنين، يقتلون الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
﴿ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ (22)﴾
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِين
1 ـ المسلم بعمله الصالح :
مَن أنت؟ أنت عملك الصالح، بعملك الصالح تسلم وتسعد وترقى، فإن كان عملك سيِّئاً أنت أشقى الناس، هكذا.
﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ﴾ أي أن عملهم صار شريراً، طابعه الشَر، أو عملهم مقبول، لكن نياتهم ليست سليمة، أنت قد تكون بعمل ظاهره مقبول، لكن النيات دنيوية، النيات شهوانية، النيات مكاسب، فحينما تكون النية سيئةً يُحْبَط العمل، أو حينما يكون العمل سيئاً لا قيمة لنيته، فشرطان كلٌ منهما لازمٌ غير كافٍ؛ ينبغي أن يكون عملك صواباً، وفق منهج رسول الله، وينبغي أن يكون عملك خالصاً لوجه الله، فإن فعلت هذا وذاك، كان الله معيناً لك.
﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ﴾ عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
(( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا. ))
3 ـ أخطر شيءٍ أن تكتشف أنك لست مفلحاً في الدنيا والآخرة:
أخطر شيءٍ أن تكتشف أنك لست مفلحاً في الدنيا ولا في الآخرة، الدنيا تنتهي، والموت ينهي كل شيء، ينهي قوة القوي، وينهي غنى الغني، وينهي وسامة الوسيم، وينهي صحة الصحيح، وينهي مرض المريض، والآخرة عُمْلَتها الرائجة العمل الصالح الخالص لوجه الله، فإن كان لك عمل صالح ليس لوجه الله، حبط العمل، وإن كان عملك -لا سمح الله- سيئاً ولو أن نيته صالحة لا قيمة له عند الله، فلا تنسوا هذه الحقيقة: أن يكون خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة. قال تعالى:
﴿ ٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلْمُنَٰفِقَٰتُ بَعْضُهُم مِّنۢ بَعْضٍۢ ۚ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ۚ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۗ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ(67)﴾
﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(71)﴾
4 ـ ينبغي تغيير المنكر بمراتبه وضوابطه الشرعية:
أيها الإخوة الكرام، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ بِغَيۡرِ حَقٍّ وَيَقۡتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡقِسۡطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ﴾ هناك حقيقةٌ ينبغي أن تكون واضحةً لديكم؛ أنت حينما ترى منكراً ينبغي أن تقوِّمه؛ بيدك إن كنت أميراً، وبلسانك إن كنت عالماً، وبقلبك إن كنت ضعيفاً، فتقويم المنكر باليد من أُولى خصائص الأمراء، وتقويم المنكر باللسان من أُولى خصائص العلماء، وتقويم المنكر بالقلب من صفات الضعفاء، هذه ناحية.
الناحية الثانية: إذا كنت قادراً على أن تقوِّم المنكر بيدك، ليس مقبولاً منك أن تقوِّمه بلسانك، وإن كنت قادراً على أن تقوِّمه بلسانك، ليس مقبولاً منك أن تقوِّمه بقلبك، هذه مراتب أيضاً، وحينما لا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر يعمُّنا البلاء، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ۖ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ(25)﴾
والله عزَّ وجل:
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍۢ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117)﴾
ولم يقل: صالحون، الصالح الذي لا يأمر ولا ينهى يهلك، أما المُصلِح فهذا الذي ينجو من عذاب الله، وقال عليه الصلاة والسلام:
(( لا يحل لمؤمنٍ أن يُذل نفسه، قالوا: يا رسول الله، وما إذلال نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يقوم له.))
أنت لست مُكلَّفاً أن تأمر بمعروفٍ، أو أن تنهى عن منكرٍ، وتأتيك مصيبةٌ بعدها لا قِبَل لك بتحمُّلها، هذا ما كلفك الشرع به، فإن نتج عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنةٌ أشد من المنكر الذي تُنكره ففي هذه الحالة يقرر علماء الفقه أنه ليس عليك أن تنكر هذا المنكر، لأنك لا تتحمل نتائج ما تنكر.
ومن علامات آخر الزمان أن ترتفع النخوة من رؤوس الرجال، وأن يذهب الحياء من وجوه النساء، وأن تُنزَع الرحمة من قلوب الأمراء، فلا رحمة في قلوب الأمراء، ولا حياء في وجوه النساء، ولا نخوة في رؤوس الرجال.
ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿ أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ كِتَٰبِ ٱللَّهِ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنۡهُمۡ وَهُم مُّعۡرِضُونَ(23)﴾
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ
ورد في أسباب نزول هذه الآية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيت المِدْراس على جماعةٍ من يهودٍ فدعاهم إلى الله، فقال نعيم بن عمرو:
على أي دينٍ أنت يا محمد ؟
فقال النبي: إني على ملة إبراهيم.
فقالا: إن إبراهيم كان يهودياً.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم.
فأبيا عليه، فنزلت هذه الآية: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ كِتَٰبِ ٱللَّهِ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنۡهُمۡ وَهُم مُّعۡرِضُونَ﴾ هؤلاء اليهود الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، والذين يرفضون أن يحتكموا إلى الكتاب، ما الذي حملهم على ذلك؟ قال:
﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامًا مَّعۡدُودَٰتٍۖ وَغَرَّهُمۡ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ (24)﴾
2 ـ مشابهة المسلمين لليهود في بعض أقوالهم وأفعالهم:
وهؤلاء الذين قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم سيشفع لنا، ولو فعلنا ما فعلنا، هذا المرض نفسه، أنت إما أن تتعلق بالحقائق، وإما أن تتعلق بالأماني، والله عزَّ وجل يقول:
﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَآ أَمَانِىِّ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوٓءًا يُجْزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدْ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا(123)﴾
فاليهود قالوا: ﴿لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامًا مَّعۡدُودَٰتٍۖ﴾ والمسلمون قالوا: نحن أمة محمدٍ مرحومة، إذاً افعلوا ما تشاؤون، هذه فِرْيَةٌ ما أنزل الله بها من سلطان، هذه مقولةٌ قلناها نحن، لكن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ(19)﴾
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ :
يا مَعْشَرَ قريشٍ! اشْتَرُوا أنفسَكم من اللهِ، لا أُغْنِي عنكم من اللهِ شيئًا، يا بني عبدِ مَنَافٍ! اشْتَرُوا أنفسَكم من اللهِ، لا أُغْنِي عنكم من اللهِ شيئًا، يا عباسُ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ! لا أُغْنِي عنكَ من اللهِ شيئًا ، يا صفيةُ عَمَّةَ رسولِ اللهِ! لا أُغْنِي عنكِ من اللهِ شيئًا، يا فاطمةُ بنتَ مُحَمَّدٍ! سَلِينِي من مالي ما شِئْتِ لا أُغْنِي عنكِ من اللهِ شيئًا. ))
(( ومَنْ أبْطأَ بهِ عملُهُ لمْ يُسرِعْ بهِ نَسبُهُ. ))
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُون
1 ـ يخترعون عقائد زائغة ثم يصدقونها:
﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامًا مَّعۡدُودَٰتٍۖ وَغَرَّهُمۡ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ﴾ هم يفترون ما يشاؤون، ثم يصدِّقون ما يفترون، شيء مضحك، إنسان اخترع شيئاً، ثم صدَّقه، هو اخترع مجموعة عقائد زائغة زائفة فاسدة، ثم تعلق بها واتخذها حجة، واطمأن إلى مصيره المستقبلي.
هناك مثل سأضربه لكم: طالب أوهمه زميله الكسول أن المدرس يعطي السؤال قبل يومين من الامتحان مقابل هدية معينة، فهذا الطالب استراح، عامٌ بأكمله لم يدرس فيه كلمة، على أمل أن يذهب قبل الامتحان إلى المدرس، ويقدم له هدية، فيعطيه السؤال، ما الذي غرّه في هذا المدرس؟ كلام صديقه الكسول، ثم اكتشف فجأةً أن المدرّس نزيه جداً وطرده من البيت، وخسر العام كله.
هذا المثل البسيط لو كبَّرناه؛ أوهمك رجل أن الله غفور رحيم، الله لا يدقق، بالتعبير العامي لا يدقق على تصرفاتك، الله غفور رحيم، كل أمة محمد مرحومة، "ضع رأسك بين الرؤوس وقل: يا قطاع الرؤوس"، لن يحدث شيء، ضعها برقبتي، هذا كلام العوام، فكيف إذا فوجئت أنك سوف تُحاسَب عن كل شيء؛ عن كل بسمة، وعن كل قِرش أكلته حراماً، وعن كل كلمة لم تكن صواباً، وعن كل حركة لم تبتغِ بها وجه الله.
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
لكن ماذا تفعل بقوله تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾
ماذا تفعل بقوله تعالى:
﴿ وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـًٔا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍۢ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ (47)﴾
ماذا تفعل؟ فيا أيها الإخوة ما الغرور؟ أن تتوهم عن الله أشياء ليست صحيحة، هو منزهٌ عنها، أما الجواب الصاعق:
﴿ فَكَيۡفَ إِذَا جَمَعۡنَٰهُمۡ لِيَوۡمٍ لَّا رَيۡبَ فِيهِ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٍ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ (25)﴾
أين الأماني؟ أين الأحلام؟ أين التوهُّمات؟ ﴿فَكَيۡفَ إِذَا جَمَعۡنَٰهُمۡ لِيَوۡمٍ لَّا رَيۡبَ فِيهِ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾ إذاً: هذا معنى قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامًا مَّعۡدُودَٰتٍۖ وَغَرَّهُمۡ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ﴾
3 ـ صحّح اعتقادك إن لم يكن صحيحا:
لذلك أيها الإخوة الكرام، يا أيها المؤمنون امسحوا عقائدكم، قوموا بجرد، فأية عقيدة لا توافق الكتاب والسنة انبذوها، وإلا هي مدمرة، لأن كل خطأ بالاعتقاد يقابله خطأ في السلوك، لابد من أن تتفحَّص ما ترسَّب في نفسك خلال هذا العمر، هل هناك عقيدة غير صحيحة؟ هل هناك غرور معيَّن؟ هل هناك اغترار بالله؟ هل هناك حديث موضوع تظنُّه صحيحاً؟ هل هناك وهم تظنه حقيقةً؟ لأن هنا مشكلة.
﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ(45)﴾
هناك صعق، فهم اعتقدوا أنه: ﴿لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامًا مَّعۡدُودَٰتٍۖ وَغَرَّهُمۡ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ* فَكَيۡفَ إِذَا جَمَعۡنَٰهُمۡ لِيَوۡمٍ لَّا رَيۡبَ فِيهِ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٍ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾ .
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
كيف يكون حالهم؟ أو كيف يصنعون إذا حُشروا يوم القيامة، واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادَّعوها في الدنيا؟ وجُوزوا بما كسبوا من كفرهم واجترائهم على الله عزَّ وجل ﴿لِيَوۡمٍ لَّا رَيۡبَ فِيهِ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٍ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾ فابحث عن الحقيقة المرة، وأعرض عن الوهم المريح، والحساب دقيق، والله عزَّ وجل عادل، إذا كان النبي الكريم جاء ليتفقد أحد أصحابه وقد توفاه الله فقام ليصلي عليه فقال:
(( كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. ))
[ البخاري ، والنسائي ، وأحمد ]
أبى أن يصلي عليه وهو صاحبه، صحابي جليل، فقال أحدهم: (عَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ) سأل الجل في اليوم الثاني أأديت الدين؟ قال: لا، سأله في اليوم الثالث: أأديت الدين؟ قال: لا، سأله في اليوم الرابع: أأديت الدين؟ قال: نعم، قال: الآن ابترد جلده.
(( يُغفَرُ للشهيدِ كلُّ ذنبٍ إلّا الدَّين. ))
فتقول لي أنا: أحج وأعود كيوم ولدتني أمي، أقول لك: لا، هذا فهم ساذج، في الحج لا يُغفَر إلا ما كان بينك وبين الله، ما كان بينك وبين العباد لا يُغفَر إلا بالأداء أو المسامحة، تقول لي: أنا صمت رمضان إيماناً واحتساباً، أقول لك: صيامك لرمضان يغفر لك ما كان بينك وبين الله، وما كان بينك وبين الناس لا يغفر إلا بالأداء أو المسامحة، وهكذا، حقوق العباد –أيها الإخوة- مبنية على المشاححة، وحقوق الله مبنية على المسامحة.
الملف مدقق