الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السادس من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الرابعة عشرة، وهي قوله تعالى:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ (14)﴾
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ﴾ الناس في القرآن تعني عامة البشر، وإذا أراد الله أن يخاطب الناس عامة خاطبهم بأصول الدين، أما إذا خاطب بفروع الدين فيخاطب المؤمنين، لأن تطبيق فروع الدين يحتاج إلى الإيمان بأصول الدين، فيخاطب الناس عامةً بأصول الدين، ويخاطب المؤمنين خاصة بفروع الدين، وإذا كان الشيء قاسمًا مشتركًا بين جميع الخلق تأتي كلمة الناس.
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ﴾ فما من إنسانٍ على وجه الأرض إلا وقد أودِعَت فيه هذه الشهوات.
سؤال: من هو المزيِّن؟ قال بعض العلماء: إنه الله، بدليل قوله تعالى:
﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا(7)﴾
وبعضهم قال: المُزَيِّن هو الشيطان، لأن الشيطان يزين للإنسان سوء عمله، وبعض العلماء قال: هذه الشهوات التي أودعها الله فينا، والتي هي في أصل جِبِلَّتنا من تزيين الله لنا، أما حينما يُزيَّن لنا أن نعصي الله بها فهي من الشيطان.
الشهوات حيادية :
الآن ننتقل إلى موضوع آخر، إذاً: الشهوات حيادية؛ يمكن أن تُوظَّف في الخير أو في الشر، في الطاعة أو في المعصية، يمكن أن تكون سلَّماً نرقى به، أو دركاتٍ نهوي بها، يمكن أن تتزوج، وقد لبَّيت نداء هذه الشهوة، وأن تنجب أولاداً، وأن تربي هؤلاء الأولاد، وأن يكونوا أعلاماً في المجتمع، وأن ترقى في الجنة بهم، فكل هذا الخير جاءك من الزواج، وأصل الزواج شهوةٌ نحو المرأة.
يمكن أن تكسب المال، وأصل كسب المال شهوةٌ للمال، لكنك كسبته من طريقٍ مشروع، وأنفقته في وجهٍ مشروع، فارتقيت به إلى أعلى عليين.
إذاً: أصل الجِبِلَّة، أصل التزيين من الله عزَّ وجل، لكن الله زيَّن ورسم منهجًا، قال لك: أودعت فيك حب المرأة فتزوج، الكافر أُودِع فيه حب المرأة فزنى، المؤمن أُودِع فيه حب المال فكسبه من طريقٍ مشروع، غير المؤمن أُودِع فيه حب المال فسرقه، إذاً أصل التزيين من قِبَل الله عزَّ وجل.
هذا ينقلنا إلى أنه لولا الشهوات لما ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات، لولا أنك تشتهي لا ترتقي إلى الله، لأنك تشتهي ترتقي إلى الله مرتين؛ مرةً بامتناعك عن شهوةٍ حرام، ومرةً بممارسة شهوةٍ حلال، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرًا. ))
[ مسلم ، أبو داود ، ابن ماجه ، أحمد ]
فالشهوة إذا مورست بالطريق المشروع ترتقي بها.
التناقض بين الطبع والتكليف ثمن الجنة:
التناقض بين الطبع والتكليف ثمن الجنة، ركِّب في طبعك حب المرأة، فغضضت البصر عن امرأةٍ لا تحل لك، ترتقي، لولا أنك تحب هذه المرأة، وأن تنظر إليها، لمَا ارتقيت بغض البصر عنها، لولا أنك تشتهي المال لا ترتقي بترك المال الحرام، وقد تركل بقدمك مئات الألوف فيها شبهة، إذاً لولا هذه الشهوات لمَا ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات، إنها سُلَّمٌ إلى الله، هي في الوقت نفسه دركاتٌ إلى النار، إن انطلقت بدافعٍ منها، فمارستها بطريقٍ غير صحيح، كانت دركات إلى النار.
إذاً: هي كما أقول دائماً: كالوقود السائل في السيارة؛ إذا أُودِع في المستودعات المحكمة، وسال في الأنابيب المحكمة، وانفجر في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب ولَّد حركةً نافعة، فإن خرج عن مساره دمَّر المركبة ومَن فيها، الوقود السائل خطر فيه قوة انفجار، فإما أن توظِّف هذا الانفجار في تحريك هذه المركبة، فتنتفع بحركتها، وإما أن توظِّف هذا الانفجار في تدمير هذه المركبة، وهكذا الإنسان؛ إما أنه مدمَّر بالشهوات، أو أنه ينتفع بها إلى أقصى درجة.
فحب المال دفع رجلاً من بلد عربي مقيمًا في أمريكا إلى المقامرة، يملك مليوني دولار، خسرها في جلسةٍ واحدة، فذهب إلى بيته، وأطلق النار على زوجته، وخنق أولاده الثلاثة، ثم انتحر، هذه شهوة، ما الذي دفعه إلى القمار؟ حب المال، معه مليونان من الدولارات، إذاً: الشهوات ليس لها حل وسط، إن وظَّفتها في الحق ارتقيت بها، وإن مارستها بلا منهج كانت دماراً عليك، قال تعالى:
﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ(50)﴾
المعنى المخالف: أنه من اتبع هواه وفق هدى الله عزَّ وجل فلا شيء عليه.
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ﴾ كيف ترقى إلى الله؟ لا تحب المرأة، ولا المال، ولا العلو، ولا الجاه، ولا شيء، فكيف ترقى، امسك الآن قبضةً من رمل، وأعطها فقيرًا، هل ترقى؟ لا، لأنه لا قيمة لها عندك، أما إن أعطيته ألف ليرة، وأنت في أمسِّ الحاجة إليها، وهذه الألف ليرة تحل مشكلات كثيرة معك، فأنفقتها في سبيل الله حينئذ ترقى، إن رأيت مثلاً دابّة، وغضضت البصر عنها، هل ترقى إلى الله؟ لا، لأنها غير محببة لك، أما حينما تغض بصرك عن امرأةٍ جميلة لا تحل لك ترقى إلى الله، لولا أنك تحب المرأة، وتحب المال، وتحب العلو في الأرض لما ارتقيت بطاعة الله، إذاً: هذا التناقض بين التكليف وبين الشهوات هو ثمن الجنة.
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6)﴾
اتقى أن يعصي الله.
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41)﴾
أنت في الطريق متاحٌ لك أن تعبد الله آلاف المرات دون أن تشعر، كلما وقعت عينك على امرأة لا تحل لك، فغضضت عنها البصر، ارتقيت، الله أعطاك أدوات الاتصال به، لو فرضنا أن الأمور كلها بيد شخص، يملك كل الأمور، وما سمح لك أن تصل إليه، لا تنتفع به، الله عزَّ وجل عنده كل الخير، لكن جعل لك وسائل ترقى إليه، أودع فيك الشهوات كي تضبطها وفق منهج الله فترقى إلى الله، فهذه المرأة مثلاً، طبعاً أهون عليها ألف مرة أن ترتدي ثياباً خفيفة في الصيف، ثياب شفافة خفيفة مريحة تظهر مفاتنها، هي ترتدي ثيابًا فضفاضة، وسميكة، وتستر وجهها، وتستر خطوط جسمها، من أجل أن ترضي ربها، إذاً: هي عاكست رغبتها في التخفف، والإنسان يحب التخفيف من الثياب في الصيف، إذاً: هي تمارس عبادة اسمها الحجاب، تسهم هذه العبادة في إعفاف الشباب، والمرأة المؤمنة حينما تتحجب فهي تعبد الله، بل إن كل مساحة من ثيابها تتعلَّق بدينها، كل مساحة؛ سماكة الثوب، حجم الثوب، اتساع الثوب، لون الثوب، كل شيء بهذه الكلمات عبادة لله عزَّ وجل.
فحينما تريد أن تصل إلى الله فقد رسم لك الله آلاف الطرق؛ غض البصر وحده طريقٌ إلى الله سالك، حجاب المرأة وحده طريقٌ إلى الله سالك، امتناعك عن المال الحرام طريقٌ إلى الله سالك، أخذك المال الحلال القليل، ولحكمةٍ بالغةٍ بالغة جعل الله كسب المال الحرام سهلاً، وجعل كسب المال الحلال صعباً، لو أن المسألة كانت معكوسة لا نرقى إلى الله، فلو كان الحرام صعبًا جداً، والحلال سهلاً لعزف الناس عن الحرام؛ لا خوفاً من الله، ولكن لأن ذلك أكثر اطمئنانًا، وطلباً للراحة، ولأقبلوا على الحلال، فتعمل المرأة طوال اليوم بأربعمئة ليرة، تأتي امرأةٌ بَغِيّ تأخذها في دقائق، عمل ثماني ساعات بأربعمئة، تأخذها بغيٌّ في دقائق، فلحكمةٍ بالغةٍ بالغة جعل الله المال الحلال صعب الكسب.
ضع مالك في مصرف ربوي، وأنت مرتاح، إذا كان المبلغ كبيرًا فدخله وحده يكفيك طوال حياتك دون عمل، لكنه حرام، فلابد أن تفتح متجرًا، وأن تشتري بضاعة، وأن تبيع، وأن تُديّن، وأن تجمع الديون، وهذه أعمال صعبة، فلأن المال الحرام سهلٌ كسبه، ومحببٌ للنفس كسبه، وأهون على النفس كسبه، ولأن المال الحلال صعبٌ كسبه، يأتي المؤمن فيختار الأصعب، فيرقى إلى الله:
﴿ لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍۢ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ(92)﴾
حينما تمتنع عن دخلٍ حرامٍ سهلٍ، وتعمل عملاً شاقاً من أجل كسب مالٍ حلال، ترقى إلى الله، إذاً حينما تفهم أن هذه الشهوات لولاها لمَا كانت جنة، وليس هناك شيء اسمه جنة لولا هذه الشهوات، هذا الإنسان رُكِّب من شهوةٍ وعقل، فإن غلبت شهوته عقله أصبح دون الحيوان، وإن غلب عقله شهوته أصبح فوق الملائكة، إذاً لا تقل كما يقول بعض الشعراء الجهلة:
يا رب خلقت الجمال فتنةً وقلت:يا عبادي اتقون
طبعاً خلقه فتنة كي تنجح في هذه الفتنة، لا كي ترسب، وما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عوَّضه الله خيراً منه في دينه ودنياه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( إنك لَن تدَع شيئًا للهِ عزَّ وجلَّ إلا بدَلك اللهُ به ما هو خيرٌ لكَ منه. ))
ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تَدَع شيئاً لله ثم لا تعوَّض خيراً منه، عوَّضه الله خيراً منه في دينه، بقي الطريق إلى الله سالكاً، ودنياه، وجاءته الدنيا وهي راغمة، ثم إن هناك حقيقة، وهي أنه ما كان الله ليعذب قلباً بشهوةٍ تركها صاحبها في سبيل الله، لا يعذبك بها، ينزعها من نفسك إكراماً لك، فإذاً أصل التزيين من الله.
لأحد الأئمة رأيٌ رائع: إن أقبلت على هذه الشهوات من طريقها المشروع أحببتها لذاتها، دون أن تخرج عن منهج الله، ولا شيء عليك، أما طبيعة النفس تحب الطعام الطيّب، والمسكن الواسع، والمرأة الجميلة، فأنت أحببت هذه وفق منهج الله، لم تَحِد عن منهج الله ولا خطوة، وهي مباحة، ولا شيء عليك، لكن لا أجر فيها ولا وزر، أما حينما تستعين بها على طاعة الله، وحينما تكسب المال من أجل أن تنفقه في سبيل الله، وحينما تتزوج من أجل أن تنجب أولاداً صالحين يكونون دعاةً إلى الله من بعدك، وحينما تسعى إلى مرتبةٍ علمية كي تدل الناس على الله، أصبحت هذه الشهوات عبادةً من العبادات وأجراً.
لذلك قالوا: عادات المؤمن عبادات، وعبادات المنافق سيئات، حينما تأكل وتسمِّي الله على الأكل، تسمي الله على طعامك، وحينما تقارب أهلك، وهو شهوةٌ محضة، وحينما تنجب أولاداً، والأولاد من مُتَع الحياة الدنيا، فإذا أردت من الزوجة أن تأخذ بيدها إلى الله، وبالابن أن يكون ولداً صالحاً يدعو لك من بعدك، وبالمال أن تنفقه في سبيل الله، ارتقيت لا إلى المباح، بل إلى الثواب والأجر، فلك أجر، وأن تضع اللقمة في فم زوجتك هي لك صدقة، وكما قلت قبل قليل: وحينما تقترب من أهلك لك فيها أجر كما قال عليه الصلاة والسلام : (وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ) .
إذاً: الله هو المزَيِّن، أما الشيطان فيزين لك الزنا، وأكل لحم الخنزير، وشرب الخمر، والعلو في الأرض، فالشهوات بطريقٍ غير مشروع من تزيين الشيطان، وبالطريق المشروع من تزيين الرحمن.
حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات:
الشيء الدقيق في هذا الدرس وهو محوره أنه:
(( حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ. ))
وما من إنسان يصل لمرتبة في الدنيا عالية إلا بعد جهدٍ جهيد، ومعاناةٍ كبيرة، وما من إنسان آثر الراحة والاسترخاء ووصل إلى شيء، هكذا قواعد الحياة، يكفي أن تسترخي، وأن تملأ عينيك من أية امرأة، وأن تتكلم بأي كلام، وأن تأخذ أي مال؛ حلال، حرام، أن تبحث عن المال من أي مصدر، وأن تملأ عينيك بالحرام من أية امرأة، وأن تأكل ما تشتهي من دون ضبط، هذه سهلٌ بسهوةٍ، أما المؤمن فيتحرّى، هل هذا حرام أم حلال؟ هل يحق لي أن أنظر أو لا أنظر؟
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ﴾ لقد جعل الله في مقدمة هذه الشهوات المرأة، فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاء. ))
فالمرأة أحياناً تُذِلّ الكبير، بل رجال عظام يسقطون بامرأة، وليس بعيداً عنكم أن منصباً عالياً جداً في عالم الغرب مُرِّغَ في الوحل بسبب امرأة، ونُشِرت فضائح هذا اللقاء، وسقطات هذا اللقاء على الإنترنت في ألفين وثمانمئة صفحة، ما الذي أذله؟ امرأة، أما المؤمن فمحصَّن من امرأةٍ لا تحل له، ومن مالٍ حرامٍ لا يحِلّ له، ما دمت قد حصَّنت نفسك من المرأة الحرام والمال الحرام فأنت في حصنٍ حصين، ولن يستطيع أحدٌ أن يصل إليك.
ولا يخفى عنكم أن الله عزَّ وجل ذكر الأقارب في آياتٍ عديدة بتسلسل عجيب، قال:
﴿ قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٍۢ فِى سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ(24)﴾
جاء الأب في مقدمة الأقارب، لأن الآية موطن اعتزاز اجتماعي، فلان أبي، أنا ابن فلان، أما في موطن الشهوة ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ﴾ المرأة أولاً.
أما في موطن الفدية قال تعالى:
﴿ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ(11)﴾
الابن غالٍ جداً.
أما في موطن المساعدة قال تعالى:
﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34)﴾
الأخ، وذلك لأن الأب كبير في السن والابن صغير، أما الذي يمكن أن يساعدك هو أخوك، ففي موضع المساعدة الأخ، الفدية الابن، الشهوة المرأة، الاعتزاز الأب.
العلماء قالوا: فتنة النساء فتنتان؛ الفتنة الأولى: قد تستهوي الزوجَ امرأتُه فيقطع رحمه إرضاءً لها، وقد يستهوي الزوجَ امرأتُه فيكسب المال الحرام من أجلها، وهاتان فتنتا النساء ضمن الزواج، ضمن الشيء المشروع، من أجل أن ترضي زوجتك قد تقطع رحمك كله إرضاءً لها، ومن أجل أن ترضي زوجتك قد تكسب المال الحرام.
حدثني أخٌ قال لي: أرادت زوجتي أن تذهب إلى بيت أهلها في مَصيفٍ رائع في أيام العيد، أبوها له زوجتان؛ زوجةٌ شابة يحبها، وزوجةٌ قديمة لا يعبأ بها، هي من القديمة، دخلت على بيت أبيها، انزعج من مجيئها، لأن أخواتها من زوجته الجديدة هناك، وزوجته الجديدة انزعجت، وتبرَّمت، فأعطاها مبلغاً، وصرفها، أما بناته من الثانية فلهم الطعام الطيّب، ولهم الترحيب، ولهم المبالغ المُضاعفة، تقول هذه الفتاة: لن أسامحه حتى الموت، ما الذي حمل هذا الأب على أن يُهين ابنته؟ إرضاءً لزوجته.
فالذي يتزوج أحياناً يغضب الله إرضاءً لزوجته، إما أن يكسب المال الحرام من أجل أن ترضى، وإما أنه يقطع رحمه من أجلها، وهو ضمن الزواج، لذلك فتنة النساء فتنتان: فتنة قطع الأرحام، وفتنة كسب المال الحرام، أما الصحابي الجليل لما طُلِب منه شيءٌ من متاع الدنيا قال لزوجته: "أيتها المرأة إن في الجنة من الحور العين ما لو أطلَّت إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بك من أجلهن أهون من أن أضحي بهن من أجلك".
وهذا الذي يقول في العيد: الله أكبر، حينما يرضي زوجته ويعصي ربه، ما قالها ولا مرة، ولو نطق بها ألف مرة، الله أكبر، أكبر من كل شيء.
(( عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا. ))
امرأة سيدنا عمر -هكذا ورد في السيرة- أنها تدخَّلت في شأنٍ من شؤونه، توسَّطت بواحدٍ من رعيَّته، فقال لها: ما شأنكِ أنت بهذا؟ كل إنسان له حدود وله مقام، فأن تسيِّر المرأة زوجها فهذه مشكلة كبيرة جداً، لذلك العلماء قالوا: فتنة النساء فتنتان؛ قطع الرحم، وأكل المال الحرام، أما الأولاد فتنتهم واحدة ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ﴾ .
قيل الأولاد مجبنة مبخلة محزنة، فالإنسان بعد أن ينجب يصبح أقرب إلى الاستسلام، إلى المسالمة، لا يقف مواقف جريئة، عندي أولاد، وحينما يبخل يقول لك: عندي أولاد، وحينما يحزن، ابنه معه التهاب سحايا، لا ينام الليل، قال عليه الصلاة والسلام:
(( إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ. ))
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَٰلُكُمْ وَلَآ أَوْلَٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ(9)﴾
أحياناً ينساق الإنسان مع هوى نفسه، يريد ابنه أن يكون شخصاً عَلَمَاً في الأرض فقط، أما دينه فلا قيمة له، يحمل شهادة عُليا، طبيب، بمنصب رفيع يفتخر به، الأب المؤمن لا يفخر إلا بابنٍ صالح، أو ولدٍ صالح ينفع الناس من بعده.
أيها الإخوة: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾.
5 ـ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
كلُّ شيء إلى زوالٍ :
هذا حب المال، ولحكمةٍ أرادها الله مالَكَ أي ليس لك، والذهب من الذهاب، والفضة من الانفضاض، كل شيءٍ يزول، والإنسان حينما يموت لا يستطيع أن يأخذ شيئاً.
بلغني أن رجلاً في بلدٍ عربي له تجارة واسعة جداً، في الصيف ذهب إلى بلد جميل في الشمال، في تركيا، وفي الفندق جاءته أزمةٌ قلبية فأودت به، هو في الخامسة والخمسين من عمره، ترك أربعة آلاف مليون، وما صلَّى فرض صلاة، ولا حج، ولا اعتمر، فالمال تجمعه مجزَّءًا، وتدعه مكدَّساً، تعيش فقيراً لتموت غنياً، وأندم الناس رجلٌ دخل ورثته بماله الجنة، ودخل هو بماله النار، ليس لك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدَّقت فأبقيت، الذي لك اثنان منه مستهلكان؛ جزء مما لك تصدَّقت به، وأما الرصيد الذي لم تأكله، ولم تلبسه، ولم تتصدق به، في الأصل ليس لك، ولكنك مُحاسَب عليه، إذاً: الرزق ما انتفعت به، والكسب ما سُئلت عنه ولم تنتفع به.
لكنه في الوقت نفسه المال أكبر قوة للمؤمن، به يرقى إلى الله، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(( لَا حَسَدَ إِلَّا عَلَى اثْنَتَيْنِ؛ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.))
يرتقي الغني المؤمن المحسن إلى مستوى أكبر عالِم بإنفاق المال، فالعلم قوة، والمال قوة، والمنصب الرفيع قوة، به تحق الحق وتبطل الباطل، فأبواب الخير مُفتَّحةٌ أمام الأغنياء على مصارعها، كما أن المال فتنةٌ، ووبالٌ، وإثمٌ، وحسابٌ، وعذاب، هو في الوقت نفسه حيادي؛ إما أن يُوظَّف في الحق أو في الباطل، إما أنه سلَّم ترقى به أو دركات تهوي به.
6 ـ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة
المركبة بحسب تسخيرها واستعمالها حسنا وسوءًا :
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ﴾ الآن المركَب، كل عصر له مراكب، في عهد النبي الخيل أرقى شيء، الآن يقول لك: سيارة شبح، كل وقت له ترتيب، هذه السيارات، أو تلك الخيول، فالجوهر واحد، وسيلة نقل، قال العلماء: هي لرجلٍ أجرٌ، ولرجلٍ سِترٌ، ولرجلٍ وِزرٌ، عنده مركبة وأغوى فتاةً، وأخذها إلى الجبل، وأغلق النوافذ، وتنحّى ناحيةً بعيدة، هذه المركبة كلها وِزرٌ عليه، لأنها سبب الزنا، أداة الزنا، أما إذا ركبها، وأركب أهله معه، وأولاده وبناته المحجبات كانت ستراً له، أما إذا سخرها في طاعة الله، ونقل بها المؤمنين فهي نعمة.
أحياناً أخ عنده سيارة، لكن في أطراف المدينة لا يأتي وحده، بل يأتي ومعه خمسة أشخاص، سهَّل على الإخوان مجيئهم للدرس، وأعرف أناسًا كثيرين لا يأتي إلا مع أربعة، فأنت سخرتها في طاعة الله، فالمركبة يمكن أن تكون أجراً، ويمكن أن تكون ستراً، ويمكن أن تكون وزراً، إذاً هي كذلك حيادية، تجد المؤمنين مركباتهم في خدمة الحق، يوصل المؤمنين، إذا وجد شخصاً له زيٌّ علمي يحب أن يكرمه أمام الناس، وأهله كذلك لهم حق.
إذاً : ﴿وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ﴾ الخيل المسومة أي رعت من مرعىً خِصب، صحتها جيدة، لونها متألِّق.
7 ـ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْث
﴿وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾ النَّعَم هو الإبل، والأنعام الإبل، والغنم، والبقر وما إلى ذلك، هذه ثروة حيوانية كبيرة جداً ﴿وَالْحَرْثِ﴾ وهي المزارع، بستان جميل فيه نبع ماء، فيه أشجار باسقة، يقول لك: أنا عندي مزرعة وبيت، فالمزرعة شيء جميل جداً، فالمزارع، والأنعام، والمركبات، والأموال الطائلة، والنساء، والبنون هذه الشهوات.
ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
لكن ما أروع هذه الآية حينما يقول الله عزَّ وجل: ﴿ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ﴾ والمتاع شيءٌ لا أثر له في المستقبل أبداً، مهما تنعَّمت فيأتي مَلَك الموت لينهي كل شيء، الموت ينهي غنى الغنى، وفقر الفقير، هذا الميت أكل في ألف وليمة، وكل وليمة فيها ما لذ وطاب، أين أنت؟ ركب أجمل مركبة أين هي؟ جاءه الموت فأنهى كل شيء، كلمة متاع، أي شيء آنيّ، سريع الزوال، حتى العلماء قالوا: اللذة أولاً حسية، ولا تأتيك إلا من الخارج، تحتاج إلى مال، وهي متناقصة في تأثيرها، وتزول، وتنقطع، وإذا كان فيها مخالفة تعقبها كآبة، طابعها حسي، وتأتيك من الخارج، ومتناقصة، ومنقطعة، ووراءها كآبة، أما السعادة فتنبع من الداخل، ومتعاظمة، وأبدية، ومستمرَّة.
﴿ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ﴾ لكن الله ينصحنا ويقول: ﴿وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ﴾ .
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
لو آمنت بالله، واستقمت على أمره، وعملت الصالحات ابتغاء مرضاته، كل هذه الدنيا لا تعدل عندك جناح بعوضة، النبي الكريم لا ينطق عن الهوى ذكر ذلك، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))
لو حطّت على يد أحدِنا بعوضة فقتلها هل يشعر أنه مجرم؟ أو قاتل؟ أو ارتكب ذنباً؟ لا شيء أهون على الناس من بعوضة، يقول النبي الكريم: (لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا) ما معنى الدنيا؟ لو كنت مالك شركة مرسيدس كلها لك، أو جنرال موتورز، أو ميتسوبيشي، هذه أسماء الشركات الضخمة التي عندها فائض نقدي يساوي ميزانيات عشر دول، لو أنك تملك هذه الشركة، هي عند الله جناح بعوضة، لا قيمة لها إطلاقاً.
بالمناسبة؛ لا يليق بالله، وبكرمه أن يعطي عطاءً ينتهي عند الموت، هذا ليس عطاء، يليق بكرم الله أن يهبك الأبد، أن يهبك الآخرة، فالعطاء الحقيقي هو عطاء الآخرة، أما عطاء الدنيا.
﴿ إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَءَاتَيْنَٰهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِى ٱلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُۥ قَوْمُهُۥ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ(76)﴾
الآن لو أن رجلاً عنده صندوق حديد، مفتاحه قدر الأصبع، يُوضع فيه عشرة ملايين، إذا كان عنده مئة صندوق حديد، أي مئة مفتاح، تستطيع أن تحملهم بنفسك، فوزنهم كيلو غرامان، يقول لك: ﴿وَءَاتَيْنَٰهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِى ٱلْقُوَّةِ﴾ سبعة رجالٍ أشداء لا يقوون على حمل مفاتيح كنوزه، ومع ذلك:
﴿ فَخَسَفْنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٍۢ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ(81)﴾
هذه الشهوات، فلا يليق بعطاء الله، بعطاءٍ يتناسب مع كرم الله أن ينقطع عند الموت، عطاء الله أبدي سرمدي، أما الدنيا فتنقطع، إذاً لا قيمة لها، اللهم صلِ عليه آثرَ ما عند الله.
إذاً: ﴿وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ﴾ أي لو آمنتم، واستقمتم، واتقيتم، وتقربتم بالأعمال الصالحة هذا أفضل من كل ما في الدنيا، والأنبياء جاؤوا يدعوننا إلى الآخرة، إلى ما عند الله.
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق