- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله ، سيّد الخلق والبشر ، ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا ، وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا ، وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
السعي لطلب محبة الله عز وجل :
أيها الأخوة المؤمنون ، في خطبةٍ سابقة تحدّثتُ عن الآيات القرآنيّة التي فيها يبيِّنُ الله سبحانه وتعالى أنّه يحبّ هؤلاء وهؤلاء ، إنّ الله يحبّ المتّقين ، إنّ الله يحبّ الصادقين، إنّ الله يحبّ التوابين ، إنّ الله يحبّ المتوكِّلين ، في خطبةٍ بيَّنْتُ ما في القرآن الكريم من آياتٍ توضِّحُ من يحبّ الله سبحانه وتعالى .
وفي هذه الخطبة أيّها الأخوة الأكارم ؛ اخْترْتُ لكم مجموعةً من الأحاديث الشريفة من كتاب الجامع الصغير ، هذه الأحاديث الشريفة تبدأُ كلّها بِقَول النبي عليه الصلاة والسلام : " إنّ الله يحبّ " وهذا شيءٌ مهمّ جدًّا ، لأنّك إذا أحْببْتَ الله عز وجل فهذا تَحصيلُ حاصلٍ ، لأنّه سببُ وُجودك ، ولأنّه سببُ رزقك ، ولأنّك بِهِ تقوم ، وبه تتحرّك ، وإليه المصير ، ولكنّ المُعَوّل عليه أنْ يُحبَّك الله سبحانه وتعالى كي تسْعَدَ بِجَنّة عرضُها السموات والأرض ، لأنّ هذه الدنيا عرَضٌ حاضِر يأكل منه البرُّ والفاجر ، والآخرة وَعْدٌ صادِق يحْكُمُ فيه ملكٌ عادل ، فو الذي نفسُ محمّد بيَدِهِ ما بعد الدنيا من دار إلا الجنّة أو النار . إذا أعْلنْتَ عن حبّك لله ، وإذا ذكرْت حبَّك لله تعالى ، وإذا عبَّرْتَ عن حُبِّك لله ، وإذا أوْحَيْتَ للناس أنـَّك تحِبّ الله ، أقول لك : المُعَوَّل عليه أن يحبّك الله عز وجل ، كيف يحبُّك ؟ في خطبة سابقة تحدّثنا على أنّ الله يحبّ التوابين ، إنّ الله يحبّ المتطهّرين ، إنّ الله يحبّ الصادقين ، إنّ الله يحبّ المتوكّلين ، واليوم نختارُ من بين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعض الأحاديث .
محبّة الله للعبْد تعني أن يكْبر الله عملهُ ويحْفظُه ويرْحمهُ :
يقول عليه الصلاة والسلام : " إنّ الله يحبّ " وقبل أن نُتِمَّ الحديث ، ماذا تعني كلمة يحبُّ بالنِّسْبـة إلى الله عز وجل ؟ بالنّسبة إلينا القضِيّة واضحة إذا أحبَّ إنسانٌ إنسانًا مالَ إليه ، تمنَّى أن يلْتقي معه ، حرِصَ على مرْضاتِهِ ، تمنَّى أن يقتربَ منه ، شوْقٌ ، ولِقاءٌ ، وقُرْبٌ، فهل يُعقلُ أن يُسْحَبَ هذا المعنى ، أن يُطبَّقَ هذا المعنى على حضْرة الله سبحانه وتعالى؟ أَيُعْقَلُ أنّ الله يميلُ أو يُمالُ إليه ؟ أجْمَعَ العلماء أنّ محبّة الله للعبْد تعني بالضَّبْط أنّ الله سبحانه وتعالى يُكْبرُ عملهُ ، ويحْفظُه ، ويرْحمهُ ، يُكْبرُ عملهُ ويحْفظُه مِن كلّ سوء ، ويرحمهُ رحمةً واسعة في الدنيا والآخرة ، إذا أردْتَ أن تفْهمَ ماذا تعني كلمة محبّة الله عز وجل ، قال تعالى متحدِّثًا عن بعض المنحرفين :
﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾
صغير عند الله ، يمْقُتهُ الله عز وجل ، ويغضبُ عليه ، وأما المُطيعُ فيحبُّه الله عز وجل ، ويرضى عنه ، يحْفظُه في الدنيا والآخرة ، يرْحمهُ ، يُغْدقُ عليه من العطايا ما لا سبيل إلى وصْفِهِ ، وأكبر أنواع العطايا أن يمْنحه قرْبهُ .
أيها الأخوة الأكارم ؛ ذاقَ طعْمَ الحبّ من أطاع الله عز وجل ، ذاقَ طعْمَ الحبّ من أخْلصَ لله عز وجل .
محبة الله للإنسان المتقن لعمله :
أيها الأخوة الأحباب ، الحبُّ شطْر الدِّين ، ولا إيمان لِمَن لا محبّة له ، لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول في حقّ المؤمنين :
﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾
الحديث الأوّل ؛ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ ))
هذا الحديث مُوَجّه لأرباب المِهَن ، ولأصحاب الصّناعات ، ولأصحاب الأعمال، حتى لِمَن يعملُ في الخدمات العامّة ، كلّ إنسانٍ ألْبسَهُ الهَ عملاً يحبُّك الله عز وجل إذا أتْقَنْتَهُ ، هذا الذي يُتقِنُ عملَهُ كبيرٌ في نظر الناس ، فإذا كان مسْلمًا ، وإذا كان له مَظْهرٌ ديني ، إذا كان بين الناس يُصلّي ، وأتْقَنَ عملهُ ، احْتَرَمَ الناس دينهُ ، وربّما فسَّرُوا إتْقانَ عملهِ بِسَبب دينِهِ ، ربّما أقبلوا على الدِّين من إتْقان العمل ، إذا أظْهرَ الإنسان أنَّه يُصلّي ، وأنّ له انْتِماء دينياً ، وأنَّه وأنَّهُ ، وأهْمَلَ عملهُ صغُرَ في عَيْنِ الناس ، وإذا صغُر في عَيْن الناس صغُر دينُهُ في عَين الناس ، وإذا صغُر دينهُ في عَين الناس ابْتَعَدَ الناس عن دينِهِ ، شيءٌ خطير ، دينُكَ في إتقان عملك ، محبّة الله لك في إتقان عملك ، إكبارُ الناس لك في إتقان عملك ، إذا أهْملْتَ عملك وجعلْتهُ من الدرجة الثانية ، أوَّلاً هذا الذي اِشْترى هذه الحاجة غير المُتْقنة ، واسْتعملها قليلاً ، ثمَّ فسدَتْ يتألّم ، وهذا عبدٌ من عباد الله تعالى دفَعَ ثمنها مِن كدِّه وعرقِ جبينهِ ، فإذا هي بعد أيّامٍ خرِبَةٌ ، ولا تصلح ، فاسدة ، لأنّ العمَلَ فيها غير مُتْقَن ، هذا الإنسان أسأْتَ إليه ، لأنَّ أحد مخلوقات الله قبل كلّ شيءٍ ، مخلوقٌ خلقه الله عز وجل ، أخذْت مالهُ ، ولمْ تُعْطِهِ ما يُكافئ مالهُ ، أعْطيْتَهُ حاجةً غير مُتْقنةً ، أعْطَيْتَهُ حاجةً اسْتَعملها قليلاً فتَلِفَتْ بين يديه ، أعْطَيْتَهُ ثوْبًا لمْ يشْعُر أنَّه مُتقَن ، وخجِلَ من ارْتِدائِهِ ، ألْقاهُ في زاوِيَة خِزانتِهِ ، دفَعَ ثمَنَهُ بلا مُقابِل ، الذي لا يُتقِنُ عملهُ بادئ ذي بدْء أساء إلى مخلوقات الله تعالى ، والخلْق كلّهم عِيال الله تعالى ، وأحبُّهم إلى الله تعالى أنْفعُهُم لِعِيالِهِ .
من أتقن عمله فقد أحبه الناس و أحبوا دينه :
أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا شيء ، والذي لا يُتْقنُ عملهُ - البُنْد الثاني - صَغُر في نظر الناس ، لعنهُ الناس ، سبَّبَ للناس متاعِب حمَلَتْهم على أن يعْصُوا الله فيه ، صَغُرَ في نظر الناس ، صغر دينه في نظر الناس ، انتقل الضّيق والألَمُ منه إلى دينه ، أهكذا أمرك دينك؟ أهكذا يأمرك الإسلام ؟ أهكذا الإسلام ؟ وصلوا إلى الدِّين كلّه من خلال إهمال العمل .
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ حينما قال الصادق المصدوق ، حينما قال النبي عليه الصلاة والسلام :
((إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ ))
أنت إذا أتْقَنـْتَ عملكَ فأنت قد فعلْتَ شيئًا يحبّه الله عز وجل ، يحبّك الله ، ويحبّك الناس ، ويحبُّ الناس دينكَ ، لكن أيها الأخوة الأكارم ؛ قد يقول قائل : أنا إن لمْ أعْمَل بهذه الطريقة لا أعيشُ ، هنا خللٌ في العقيدة ، قال تعالى :
﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾
هذا الذي لا يُتقنُ عملهُ لِيَعملَ أعمالاً كثيرة تُسبّب له ربْحًا وفيرًا ، تُعينهُ على مواجهة أعباء الحياة ، هذا إنسانٌ مشرك بالله عز وجل ، وإنسانٌ لا يصدّق كلام الله عز وجل، الطبيب عليه أن يجلِسَ جلسةً متأنِّيَةً مع المريض ، فلعلّ كلمةً يقولها المريض تغيِّرُ مَجْرى التَّشْخيصِ كلّه ، لعلّ سؤالاً يسألهُ للمريض يُعطيهِ فكرةً أخرى عمّا يُعانيه ، فإذا أراد الطبيب أنْ يُعالِجَ مَرضاهُ بسُرعةٍ كي يُنجزهم جميعًا في وقتٍ محدود فقد خالف نصّ هذا الحديث ، وكذلك المحامي إذا لمْ يُطالِع اِجتهادات المراجع العليا ، لعلّ اجتِهادًا يعْتمِدُ عليه فيُنقذُ مُوَكِّلهُ من حُكمٍ مُزعج ، وكذلك التاجر ، وكذلك المُدرِّس ، وكذلك الصانِع ، أنت إذا أتْقنْتَ عملَكَ أحبّك الله تعالى ، وأنت إذا أتْقنْتَ عملَكَ أحبّك الناس ، وأنت إذا أتْقنْتَ عملَكَ أحبّ الناس دينَكَ ، وكم من إنسانٍ اهْتَدَى إلى الإسلام لا بالقول بل بالعمل ، وأنت إذا أفْسدْتَ عملَكَ أبْغضك الله ، وأبغضكَ الناس ، وأبغضَ الناس دينكَ .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إنّ الله تعالى يُحبّ من العبْد إذا عمل عملاً أن يُتقنهُ ، العلماء قالوا : مَنْ عمِل عملاً غير مُتقَنٍ على نِيَّة أنَّه إن لم يعْمل بهذه الطريقة ضاعَ فهذا مُشركٌ بالله عز وجل ، ومَنْ يعمل عملاً على مِقدار الأُجرة أيضًا وقع في مُخالفةٍ كبيرة جدًّا ، إما أن تقبَل ، وإما ألا تقبل ، إما أن تقبل بهذه الأُجْرة فَتُقدِّمُ عملاً متقنًا ، وإما ألا تقبل ، عندئذٍ الوِزْرُ يقعُ على غيرك .
شيءٌ آخر ، قصّة لا علاقة لكم بها ، إنسانٌ في دولةٍ عربيّة أتْقَنَ عملاً إتقانًا بالغًا ، ثمّ اعْتزلَ هذا العمل ، فجاءهُ مَنْ يرْجوه أن يُتابِعَ العمل ، ففرضَ عليهم طريقةٍ إسلاميّة في التعامُل ، الإنسان إذا أتْقنَ عملهُ انْتَزَعَ إعْجاب الناس ، وفرضَ عليهم احْتِرام دينه ، المُتْقِنُ لِعَملِهِ يحْترمُ الناس دينَهُ ، والذي يُهملُ عملهُ كأنَّه ينْتقصُ من دينه ، وهو لا يدري .
على الإنسان اختيار حرفة ترضي الله و تنفع الناس :
أيها الأخوة الأكارم ؛ كي أُطمئِنُكم ، أعمالكم التي ترْتزِقون منها ، مِهَنُكم ، حِرفُكم ، وظائفكم ، خدماتُكم ، تِجاراتكم ، صناعاتكم ، زراعتكم ، مكاسبُ الرّزق كلّها أعمال ، إذا كانت في الأصْل مَشروعة ، وتعاملْتَ معها بِطَريقةٍ مَشْروعة ، لمْ تأكل الربا ، لم تُدلّس ، لم تكذب ، لم تغِشّ ، لمْ تُعْسِر ، لمْ تُمْطِل ، الأعمال المَشْروعة ، والأعمال المِهَنِيَّة ، إن كانت في الأصل مشروعة ، أما إن لم تكن مَشْروعة ، فلا تعبأ بِدَخلها ، واجْعَل دخْلها الكبير تحت قدمِكَ، عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
((نفث روح القدس في روعي أن نفساً لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها ، فأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تحملوه بمعصية الله ، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته))
اخْتَرْ حِرْفةً تُرضي الله ، اِخْتَر حرفةً فيها نفْعٌ للمسلمين ، اخْتَرْ حرفةً إذا مارسْتها وكسِبْتَ منها مالاً تنامُ على فراشِكَ قرير العَين :
((نفث روح القدس في روعي أن نفساً لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها ، فأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تحملوه بمعصية الله ، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته))
إذا كانت المِهنةُ في الأصْل مشروعة ، وتعاملْتَ بها بطريقةٍ مَشروعة وأتْقَنْتَها ، وأحْسنْتَ في علاقاتك مع أربابها ، ونَوَيْتَ بها أن تكفي نفْسكَ وأن تكفي أهْلكَ ، ونَوَيْتَ بها مرَّةً ثانيَة أن تتقرّب إلى الله ، ولمْ تصْرِفْكَ عن طاعة ، ولا عن مجْلسِ علْمٍ ، ولا عن فرْض صلاة ، ونوَيْتَ بها خِدمة المسلمين ، هذه بِشارة ؛ انْقَلَبَتْ هذه الحِرفةُ عبادةً لله عز وجل .
الإتقان و الإخلاص في الأعمال و العبادات :
أيها الأخوة الأكارم ؛ قال العلماء في هذا الحديث إنَّ مِنْ معاني الإتقان :
((إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ ))
كأنّني وجَّهْتُ الحديث إلى الأعمال المِهَنِيّة ، ولكن هناك من العلماء منْ وجَّهَهُ إلى أعمال الطاعات والصّلوات ، فبهذا المعنى ؛
((إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ ))
بالإخلاص ، وأن يُتْقِنَهُ بالبُعْد عن الرّياء ، وبالبُعْد عن البِدعة ، إتقانُ العمل أن يكون خالصًا وصوابًا ، خالصًا ما ابْتُغِيَ به وَجْه الله ، وصوابًا ما وافَقَ السّنة ، فإذا أردتَ أن تصرفَ هذا الحديث إلى أعمال البرّ ، والتقوى ، والعبادات ، والصلوات ، والطاعات ، وما إلى ذلك ، فالإتقانُ أن يكون خالصًا وصوابًا ، خالصًا ابْتُغِيَ به وَجْه الله تعالى ، وصوابًا أي وافقَ السنّة ، وإذا صرفْتَ هذا الحديث إلى أعمال المِهَن ، فإتقان العمل شرطٌ أساسي في محبّة الله عز وجل ، ومحبّة الناس ، ومحبّة دينك أيّها المسلم ، هذا الحديث له أسباب وُرود ، نقول في القرآن له أسباب نُزول ، وفي الحديث أسباب ورود .
أبو كُلَيْب كان طفلاً صغيرًا ، عن عاصم بن كليب عن أبيه كليب بن شهاب الحري قال العلاء : قال لي محمد بن سوقة : اذهب بنا إلى رجل له فضل ، فانطلقنا إلى عاصم بن كليب فكان مما حدثنا أن قال : حدثني أبي كليب أنه شهد مع أبيه جنازة شهدها مع رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وعلى وآله وسلم ، وأنا غلام أعقل وأفهم - يا أيها الصِّبيان ، ويا أيّها الغلمان ، غلامٌ صغير كان مع رسول الله ، شهِدَ معه جنازةً ، ويقول عن نفسه إنّه يعْقلُ ويفْهم فلمّا كبرتْ سِنّه روى هذا الحديث ، فنفعَ به المسلمين - فانتهى بالجنازة إلى القبر ، ولم يمكن لها فجعل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم يقول :
((سووا في لحد هذا حتى ظـن الناس أنه سنة فالتفت إليهم فقال : أما إن هذا لا ينفع الميت ولا يضره - أي قبر مُتْقن أو غير مُتقن ، فيه فُرجة ، غير فرجة - ولكن إن اللّه تعالى يحبّ من العبد إذا عَمِلَ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ ))
إهالةُ التراب على الميّت ، وإحكام القبر ، يجبُ أن يكون متْقنًا ، وهذا من أسباب وُرود هذا الحديث .
أيها الأخوة الأكارم ؛ المسلمون اليوم بِأَمسّ الحاجة إلى هذا الحديث الشريف ، إتقانُ أعمالهم ، لِيَظهروا أمام من يُعارضُ الدِّين بِمَظهرٍ كبير ، وأنّ هذا الإتقان هو ثمرةٌ من ثِمارِ دينهم ، وإذا علمَ العبْد أنّ إتقان عملهِ عِبادة بادرَ إليه ، فلعلّ الله سبحانه وتعالى يحبّ هذا العبْد إذا أتْقنَ عملهُ ، ولا تنسى أيّها الأخ الكريم أنّ الذي يُهْمِلُ عملهُ ، في الصّناعة ، في الزّراعة ، في التّجارة ، في الطّبابة ، في أيّ مجال ، إذا أهْمَلَ عملهُ أساء إلى مخلوقٍ من مخلوقات الله ، وإن أسأْتَ إلى ابنٍ فقد أسأْتَ إلى أبيه - الخلق كلّهم عِيالُ الله ، وأحبّهم إلى الله أنْفعُهم لِعِيالِهِ - وصغَّرْتَ نفسك أمام الناس ، وسببت سُمعةً سيئة لدِينِكَ ، والمُسلمُ مَن سلمَ المسلمون مِن لسانِهِ ويدِه .
إغاثة اللهفان :
حديث آخر ، روى ابن عساكر عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال:
((إن الله تعالى يحب إغاثة اللهفان))
من هو اللّهفان ؟ الذي هو في أمسّ الحاجة إلى مُساعدتك ، قد تكون المُساعدة مادّيّة ، وقد تكون عَضَلِيَّة ، وقد تكون عِلْميّة ، الذي في أشدّ حالات الافتقار إليك إذا قدَّمْت له ما في وُسْعِكَ مِن جُهْدٍ ، ومن وقتٍ ، ومن طاقةٍ ، ومن قُدرةٍ مالَ إليك ، وما من شيءٍ أفْعَلُ في النّفْس من إغاثة اللّهفان ، إذا أغثْتَهُ أنقذْتَهُ ، ولا تنسى أنّك يمكنك أن تنقذهُ من الضّلال ، هذا الذي وقعَ في مشَقَّةٍ بالغة ، وحرجٍ شديد ، وقعَ في حاجةٍ كبيرة ، وجئتَ أنت ، ولبَّيْتَ حاجتهُ ، وجبَرْتَ كسْرهُ ، ورأبْت صدْعهُ ، وناولْتَهُ مُرادهُ ، وأغَثْتَهُ ، كأنَّك اشْتريْتَهُ ، مالَ إليك ، ورأى فيك الإحسان ، ورأى فيك المَثَل الأعلى ، عندئذٍ يُصبحُ هذا اللّهفان تربةً خصيبةً جداً جداً بِتَوجيهك ، وبإمكانك أن تأخُذَ بيَدِهِ إلى الله تعالى ، بإمكانك أن تدْعُوَهُ إلى طاعة الله ، وبإمكانك أن تحْمِلَهُ على توبتِهِ من المعاصي ، بإمكانك أن تنقذهُ من براثن الشِّرْك والشكّ ، بإمكانك أن تنقلهُ من الشّقاء إلى السعادة ، على أثَرِ هذه الخِدمة البالغة .
إن الله رفيق يحب الرفق في كل أمر :
أيها الأخوة الأكارم ؛ حديثٌ ثالث ؛ عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها قالت : قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم :
((إِنّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ ))
عرّف بعضهم الرِّفْق بأنّه حُسْن القيادة ، والانقياد إلى الهدف الكبير ، قد تصِلُ إلى هدفك بالعُنْف ، وقد تصِلُ إلى هدفك بالرِّفْق ، إذا وصلْتَ إلى هدفك بالعُنْف ربّما لمْ يتحقّق الهدف ، لأنّ هذا الإنسان لهُ شخْصيَة ، ولهُ مشاعِرَ ، وله كرامة ، إذا حملْتَهُ بالعُنْف سحقْتَهُ ، وإذا سحَقْتَهُ ماذا يستفيدُ من بُلوغِ أهدافهِ ؟ ليس له أهدافٌ عندئذٍ ، تلاشَتْ أهدافهُ ، عن أبي هريرة قال : قالَ عليه الصلاة والسلام :
((عَلِّمُوا ولاَ تُعَنِّفُوا ، فإنَّ المُعَلِّمَ خَيْرٌ مِنَ المُعَنِّف))
أحدُ الشعراء يُخاطبُ النبي عليه الصلاة والسلام :
داوَيْتَ مُتَّئِدًا ودَاوَوْا طُفْرَةً وأشَدّ مِن بعضِ الدَّواء الداءُ
* * *
ربّما كان الدواء أشدَّ إيذاءً من الداء ، قال :
داوَيْتَ مُتَّئِدًا ودَاوَوْا طُفْرَةً وأشَدّ مِن بعضِ الدَّواء الداءُ
* * *
أيها الأخوة الأكارم ؛ حُسْن الانقياد ، وحُسْنُ القِياد إلى الهدف الكبير ، عرَّفَهُ بعضهم بِلِينِ الجانب بالقَول والفِعْل ، والأخْذ بالأسْهَل ، بشّروا ولا تنفّروا ، يسّروا ولا تُعسّروا ، سدِّدوا وقاربوا ، عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت :
((ما خيِّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أمرين إلا اختار أيسرهما ، ما لم يكن إثما ً ، فإِن كان إثماً كان أبعد الناس منه ، وما انتقم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لنفسه ، إلا أن تنتهك حرمة اللّه [تعالى]فينتقم للّه بها ))
لِينُ الجانب بالقَول والفعل ، والأخذ بالأسْهَل ، والدفع بالأخفّ ، ماذا قال سيدنا معاوية بن أبي سفيان ؟ لا أضعُ سيفي حيثُ يكفيني لِساني ، ولا أضعُ لساني حيث يكفيني بناني ، إذا الشيء يُحلّ بالإشارة لا أتكلّم ، وإذا الشيء يُحلّ بالكلمة لا أضرب ، فالدَّفْعُ بالأخفّ حتى في معاملة المرء نفسهُ ، أي نفسُكَ مطِيّتُك فارْفُقْ بها ، الذي يُحمِّلُ نفسهُ ما لا تُطيق ليس رفيقًا بِنَفْسِهِ ، نفسُكَ مطِيّتُك فارْفُقْ بها ، إنّ الله لا يملّ حتى تملُّوا ، افعلوا ما تُطيقون ، رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً يقف في الشمس ، وقد نذر ذلك ، فقال : مُروهُ فلْيَتَحَوَّل ، إنّ الله غنيّ عن تعذيب هذا نفسَهُ .
أيها الأخوة الأكارم ؛ إنّ الله يحبُّ الرِّفْق في الأمر كلّه ، قالوا : في أمر الدِّين والدنيا . وقالوا أيضًا : في معاشرة من لا بدّ من مُعاشرتِهِ ، ليس بحَكيمٍ مَنْ لمْ يُدار مَنْ لابدّ مِن مُداراته ، ومن لا بدّ من مُعاشرتِهِ ، قد تكون الزوجة سيِّئةً ؛ دارِها تعِشْ بها ، الزوجة والولد والخادِم بالرِّفْق يُقْدم ، وبالرِّفْق يُحبّ ، وبالرِّفْق يرْغَب ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
((إِنَّ الِّرْفَق لاَ يَكُونُ إلا في شَيْءٍ إِلاَّ زَاَنُه ، ولاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَ شَانَهُ))
كلُّ ما في الرِّفْق من خَير يُقابلهُ شرّ في العُنْف ، وفي القَسْوَة ، وفي الغِلْظة ، قال تعالى :
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
كلُّكم يعلمُ قصّة سيّدنا معاويَة بن أبي سفيان حينما جاءَتْهُ رِسالة من عبد الله بن الزّبَيْر ، قال له : أما بعْدُ فيا معاوِيَةُ - هكذا باسمه فقط ! - إنّ رِجالَكَ قد دَخَلُوا أرضي فانْهَهُمْ عن ذلك ، وإلا كان لي ولك شأْنٌ والسّلام . ما هذا الكلام ؟ وما هذا الخِطاب ؟ كان إلى جانبه ابنهُ يزيد ، قال : يا يزيدُ ما تقُول في هذا الخِطاب ؟ قال يزيدُ : أرى أن تُرسِلَ له جيشًا أوَّلُهُ عندهُ ، وآخرهُ عنك يأتوكَ بِرَأسِهِ ! ماذا قال معاوِيَة رضي الله عنه ؟ قال : يا بنيّ غير ذلك أفْضَل ، أمرَ الكاتب أن يكتب ؛ أما بعدُ : فقد وقفْتُ على كتاب ولد حواريّ رسول الله ، ولقد ساءني ما ساءَكُم ، والدنيا كلّها هيِّنَةٌ جَنْبَ رِضاه ، لقد نزلْتُ لك عن الأرض ، ومن فيها !! فجاء الجواب من عبد الله بن الزُّبَيْر ، يا أمير المؤمنين - أوّل الكتاب يا معاوِيَة وثاني كتاب يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءَكَ ، ولا أعْدَمَكَ الرأْيَ الذي أحلَّك من قومك هذا المحلّ .
لذلك بالعُنف لا تَصِلُ إلى شيء :
((إِنَّ الِّرْفَق لاَ يَكُونُ إلا في شَيْءٍ إِلاَّ زَاَنُه ، ولاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَ شَانَهُ))
علِّموا ولا تُعَنِّفوا ، كاد الحليم أن يكون نبيًّا ، الحِلْمُ سيِّدُ الأخلاق .
محبة الله عز وجل للإنسان الطّلق السّهل :
حديثٌ رابعٌ ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
((إِنّ اللَّهَ يُحِبُّ السَّهْلَ الطَّلْقَ))
من هو السّهل الطّلْق ؟ طلْقٌ في وَجهه ، سهْلٌ في مُعاملتِهِ ، الطَّلْقُ المُتَهَللُ الوَجه ، البسّام ، الضّحاك ، المُتَيَسِّر في أمْرِهِ غير المتعسِّر ، في بيْعِهِ ، في شِرائِهِ ، في أخْذِهِ ، في عَطائِهِ ، يُشْعرُكَ أنّ الدنيا لا قيمة لها ، هناك وادي من الغَنَم ، قال أحدهم : يا رسول الله لِمَن هذا الوادي ؟ قال : هو لك ، قال : أتهزأ بي ؟َ قال : لا ، هو لك ، قال : أشهدُ أنّك رسول الله تُعطي عطاءَ مَنْ لا يخشى الفقْر ، دَخَل النبي إلى البيت ، فقال : هل عندكم من شيء ؟ قالوا : لا ، قال : فإنِّي صائم ، المُتَهَلِّلُ الوَجه ، البسّام ، الضّحاك ، المُتيسِّرُ في أمرِهِ ، غير المُتعَسِّر في بيعِهِ ، وفي شِرائِه ، وأخذه وعطائِهِ ، من خِلال تصرّفاتِهِ يُشْعرُكَ أنّ الدنيا ليْسَت كبيرة عندهُ ، سَهلاً في مُعاشرة الخلق ، ليِّنَ الجانب ، حسنَ الصُّحْبة ، ذا رفْقٍ في الدنيا ، وفي الدِّين ، سَهْل الانقياد إلى طاعة الله تعالى ، لكنْ يجبُ أن نقفَ وقفةً صغيرة ، المؤمن كما قال بعض العارفين أسْهَلُ شيءٍ وأيْسَرُهُ ، فإذا تُعُرِّضَ لِدِينِهِ كان كالجبل ، يسِرٌ في الدنيا ؛ في الأخذ والعطاء ، وفي البيع والشّراء ، في حاجات الدنيا ، وفي متاع الدنيا ، وفي حُطام الدّنيا ، أما أن تُنْتَهَكَ حُرَم الله تعالى وهو ليِّنٌ ، وهو مُبْتسِم ، وهو مُشرقٌ ؛ فهذا هو النِّفاق بِعَيْنِهِ ، فإذا تُعُرِّضَ لِدِينِهِ كان كالجبل رُسوخًا ، وشُموخًا ، لا تأخذُه في الله لَوْمةُ لائم ، علَّق بعض العلماء على هذا الحديث ؛ إنّ الله يحبُّ أسماءهُ ، ويحبّ من تخلَّق بأسمائه ، والسهولة والطلاقة داخلان في أسمائِهِ ، فهي من الرّحمة والحِلْم ، أقربُ الأسماء إليها الحِلْم والرحمة ، فمَن كان طلْقًا سَهلاً فقد تخلَّق بأخلاق الله ، ومن تخلّق بأخلاق الله أحبّه .
محبة الله عز وجل للشاب التائب :
الحديث الأخير ، رُوِيَ عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
((إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الشَّابَ التَّائِبَ))
من هو الشابّ ؟ قال : مَنْ بلغَ الثامنة عشرة ولمْ يتجاوَز الثلاثين ، من الثمانية عشر عامًا إلى الثلاثين ، قال : هذا الشابّ ، الشبيبة حالها غلبةُ الشّهوَة ، وحِدَّة النّفْس ، وقوّة الطَّبْع ، وضَعْفُ العقل ، وقِلَّة العِلْم ، كلّ أسباب المعْصِيَة مُتوافِرَة في الشابّ ، وكلُّ أسباب العِصْمة ضعيفةٌ عندهُ ، فإذا تغلَّبَ الشابّ على قوّة طَبْعِهِ ، وعلى غلبة شهوته ، وعلى حِدّة نفْسِهِ، وعلى ضَعف عقلِه ، وعلى قلَّة علْمِهِ ، وأطاع الله عز وجل ، ماذا حَدَث ؟ فإنّ الله سبحانه وتعالى يُحبُّه ، ويعْجَبُ منه ، وضحِكَ ربُّكم من شابّ ليْسَتْ لهُ صَبْوَة ، وإنّ الله تعالى ليُباهي الملائكة بالشابّ المؤمن ، يقول : انْظُروا عبدي ترَكَ شَهوتَهُ من أجلي .
أيها الأخوة الأكارم ؛ ورد في بعض الأحاديث القدسيّة أحبّ الطائعين ، وحُبّي للشابّ الطائع أشدّ ، وأبغضُ العُصاة ، وبُغضي للشيخ العاصي أشدّ .
أيها الأخوة الأكارم ؛ ويا أيّها الأخوة الشباب ، وأنتم في هذا السنّ أبواب رِضوان الله عز وجل ، أبواب السّعادة ، أبواب محبّة الله مُفتّحةٌ لكم ، لأنّ البُطولة أن تُطيعهُ وأنت شابّ، والشهواتُ تغلي فيك ، ومع ذلك تغضّ البصرَ عن محارم الله ، أن تُطيعهُ فتأكل المال الحلال فقط ، والمال الحرام بين يديك ، وأنت عفيفٌ عمّا نهى الله عنه ، هذه هي البُطولة ، بِقَدْر الحاجة ، أن تتصدَّق وأنت صحيحٌ شحيح ، تخْشى الفقْر وتأمُلُ الغِنى .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ من عرفَ الله في الرَّخاء عرفهُ في الشدّة ، عالمٌ جليل من علماء الشامّ بلغَ السادسة والتّسعين من عمرِه ، كان منتصِبَ القامة ، حادّ البصر ، مرهف السّمْع ، أسنانهُ في فمِهِ ، كلّما سئِلَ يا سيِّدي : ما هذه الصّحة التي متَّعَك الله بها ؟ قال هذه المقَوْلة الشهيرة : يا بنيّ حَفِظناها في الصِّغَر فحَفِظَها الله علينا في الكِبَر ، من عاشَ تقِيًّا عاشَ قويًّا ، هؤلاء الشباب إذا أطاعوا الله عز وجل يدَّخِرُ الله لهم سعادةً في زواجهم وسعادةً في خريفِ عُمُرهم ، كلّما ازْدادَ عمرهُم ازدادوا وقارًا ، وحكمةً وعلمًا وقوّةً وجاهًا ، أما الذي يُفني شبابهُ في المعاصي فله في حياته الدنيا آخرةٌ قبيحةٌ جدًّا سمّاها الله تعالى أرْذَلَ العُمُر ، قال تعالى :
﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾
فمن أراد أن يحيا سعيدًا فعليه بطاعة الله تعالى ، من أراد أن يحيا كريمًا فعليه بطاعة الله ، من أراد أن يحيا عزيزًا فعليه بطاعة الله .
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها ، وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الساعة البيولوجية :
أيها الأخوة الأكارم ؛ اكْتشف العلماء أنّ الخلايا التي تحت السرير البصري تعمل وكأنّها ساعة بيولوجيــّة داخِلَ الجِسْم لِيَتِمّ مِن خلال عمل هذه الساعة الانسجام بين وظائف الجِسْم ، وتعاقب الليل والنهار ، فهذه الخلايا تسْتشعرُ من خلال الضوء الذي يقعُ في الشبكيّة أنّ الوقت نهارٌ ، أو أنّ الوقت ليلٌ من دون وعي الإنسان ، فلو أنّ الإنسان كان فاقدًا للوَعْي ، ساعةٌ بيولوجِيّة هيّأها الله سبحانه وتعالى في الجِسْم مكانها تحت السرير البصري تعمل كما قال العلماء وكأنّها ساعة ، تعلمُ ما إذا كان الوقت نهارًا أو ليلاً .
ماذا يحدثُ في النهار ؟ قال : يزداد الاستقلاب ، ويزداد اسْتِهلاك الطاقة ، وتزداد حرارة الجسم بِمِقدار نصف درجة ، وتزداد نبضاتُ القلب من عشر إلى عشرين نبْضَة في الدقيقة ، ويزداد ارتفاع الضّغْط في النهار ، ويزداد إدْرار البول من ضِعْفَين إلى أربعة أضعافٍ في النهار ، ويزداد نشاط المخّ ، وتزداد درجةُ لزوجة الدّم وتخثُّره في النهار ، ويزداد عدد الكريات البيضاء في النهار ، وأما في الليل فيزداد عملُ خلايا النمّو في الإنسان ، وينخفضُ اسْتِهلاك المخّ للسّكَر ، وفي الليل يضْعف إيصال الهواء إلى المسالك الهوائيّة في الرّئتين ، أي هناك حوادِث الاستقلاب ، والحرارة ، ونبْض القلب ، والضغط الشرياني ، وإدرار البول ، ونشاط المخّ ، ولُزوجة الدّم ، هناك نشاط يكون في النهار ، وهناك نشاط يكون في الليل ، كيف يعلمُ الجسمُ أنّه في نهار أو أنّه في الليل ؟ الخلايا تحت السرير البصري في الدّماغ ، العلماء قالوا : تعملُ وكأنّها ساعة بيولوجيّة ، هذه الساعة تعْمل ليَتِمّ الانسِجام بين وظائف الأعضاء ووظائف الأجهزة ووظائف الغدد والخلايا ، وبين الليل والنهار .
أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه الخلايا التي تعملُ وكأنّها ساعة تسْتشْعِرُ ما إذا كان الوقت نهارًا أو ليلاً من خلال الشّبكيّة التي يقع عليها ضوء النهار ، فهل بعد هذا الإتقان إتقان وأنت لا تدري ؟ هل بعد إتقان صَنعة الله عز وجل في خلق الإنسان إتقان ؟ هكذا قال الله عز وجل :
﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾
قال تعالى :
﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .