الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الخامس من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الحادية عشرة، والتي قبلها، وهي قوله تعالى :
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَآ أَوْلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا ۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ(10) كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ (11)﴾
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
أي كعادة أهل فرعون، الدأب هو العادة والشأن.
2 ـ عادة فرعون تكذيب الأنبياء ، وعادة الأقوياء والأغنياء تكذيب الدعاة إلى الله:
عادة فرعون تكذيب الرسل، وعادة الأقوياء والأغنياء الشاردين عن الله تكذيب أيَّة دعوةٍ صادقة، لأن حياتهم مبنيةٌ على شهوات، والدعوة الصادقة فيها منهج، فيها افعل، ولا تفعل، فأية دعوة صادقة من عند الله عز وجل فيها حَدٌ لشهواتهم، وحدٌ لعدوانهم، وحدٌ لبغيهم، وحد لتطاولهم، فشيء طبيعيٌ جداً أن القوي أو الغني يعيش حياةً مترفةً، وهذه الحياة المترفة ليست وفق منهج الله، منهج الله فيه عدلٌ، من أروع ما قيل في الشريعة: "إنها عدلٌ كلها، مصلحةٌ كلها، رحمةٌ كلها، حكمةٌ كلها، وأية قضية خرجت من العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى القسوة، ومن الحكمة إلى خلافها، ومن المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة ولو أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل" .
منهج الله يحقق العدل للبشر، يمنع الظلم، يمنع التطاول، يمنع الكبر، فالأغنياء والأقوياء الشاردون عن الله عز وجل من شأنهم، ومن طبيعتهم الفاسدة، ومن عاداتهم المتوارَثة أن يردوا الحق، وأن يكذبوا، ومن شأن الله معهم أن يدمِّرهم، شأنهم التكذيب، وشأنه معهم التدمير، هذا معنى: ﴿كَدَأْبِ﴾ العادة والشأن.
﴿كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا﴾ حينما جاء النبي عليه الصلاة والسلام، مَن الذين آمنوا به؟ الفقراء والضعاف، أما أقوياء قريش فاستكبروا، واستنكفوا، واستَعْلوا.
عادة الله مع المكذبين القصم والهلاك:
وعادة الله مع هؤلاء: ﴿فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ آيةٌ واضحةٌ كالشمس، فشأن الأقوياء والأغنياء التكذيب، وشأن الله معهم الإهلاك.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُون
أما هذه الآية التي بعدها:
﴿ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ وَتُحۡشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ (12)﴾
1 ـ الكافر مهما بلغ من القوة فهو مغلوب:
مهما علَوا، مهما تغطرسوا، مهما اشتدوا:
﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَجْحَدُونَ(15)﴾
﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى(50)﴾
معنى ذلك أن ثمة عادًا ثانية، ونحن نعيشها الآن، تقول عاد الثانية: من أشد مني قوة؟ سياستي الخارجية كسياستي الداخلية، أملي الأوامر، إن ذهب أحدٌ إلى هذه البلاد يقول: لم يُخلق مثلها في البلاد، أموال الدنيا كلها فيها، بلاد بُنيت بناءً تامًا، مرافقها من أرقى المرافق، صناعتها، زراعتها، جمال بلادها، وفرة الأموال.
﴿ ٱلَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ٱلْبِلَٰدِ(8)﴾
﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ(128)﴾
عاد الثانية كعاد الأولى، ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون، وإذا بطشوا بطشوا جبَّارين، خمسمئة طفل يموتون من الجوع كل عام، جوعاً ومرضاً، ولا يرحمون، وكيف هلاكهم؟ بالأعاصير.
﴿ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ(7)﴾
كأن هذا شأن الأقوياء والأغنياء، وشأن الله معهم أن يهلكهم، وأن يدمرهم، ولكن الأحمق يظن حينما يكون الحبل مرخًى، يظن أنه طليق، أما هو ففي قبضة الله، في أية لحظة يدمره الله عز وجل، والدليل :
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلْأَنْعَٰمُ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَٰدِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَىٰهَآ أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَٰهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْءَايَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ(24)﴾
والله الأرض الآن في زينة ما بعدها زينة.
﴿وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَٰدِرُونَ عَلَيْهَآ﴾ يقول لك: البلد الفلاني عنده قنابل تدمر الأرض خمسة مرات، القارات الخمس، قنابل نووية ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَٰدِرُونَ عَلَيْهَآ﴾ أي قادرون عليها استطلاعاً؛ فأيّ بقعة تُصوَّر، أنا اطَّلعت على مجلةٍ مدهشة، الأرض كلها في صورة من القمر، على هذه الصورة مربعٌ صغيرٌ جداً، لما كُبِّر ظهرت أمريكا الشمالية، وعلى هذه الصورة مربع صغير جداً، لما كُبِّر ظهرت ولاية فلوريدا، وعلى هذه الصورة مربع صغير جداً، لما كُبِّر ظهر ساحل من سواحل فلوريدا، عليه نقطة سوداء، لما كُبِّرت ظهر مرج أخضر، وشخص مستلقٍ على قماش، ويقرأ روايةً، وإلى جانبه صحن فيه فواكه، هذه الصورة من المركبات الفضائية ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَٰدِرُونَ عَلَيْهَآ﴾ استطلاعاً، وتدميراً، يقول لك: من مكان بعيد، من قارة أخرى يأتي الصاروخ في غرفة النوم، دقة إصابة مذهلة: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَٰدِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَىٰهَآ أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَٰهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلْأَمْسِ﴾ .
2 ـ الله تعالى يطمئن المؤمنين:
فربنا عز وجل يطمئن المؤمنين؛ مهما رأيت الباطل مستعلياً، مهما رأيته متمَكِّناً، مهما رأيته قوياً، والله هناك بلاد فيها أسلحة لا يصدق العقل حجمها، ومع ذلك تداعت من الداخل، وانهارت من الداخل، وانهيارها والله معجزة، معجزة من معجزات الله عز وجل، وقد قال بعضهم: "عرفت الله من نقض العزائم" ، وكل أمة استعلت لابد أن تُذَل، لكن قال تعالى:
﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ(46)﴾
قد نشاهد، وربما لا يتاح لنا أن نشاهد، وقد نشاهد، وربما لا يسمح عمرنا أن نشاهد، ولكن الله يمهل، ولا يهمل، وقوله تعالى:
﴿ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ(59)﴾
معنى ﴿سَبَقُوا﴾ أنهم فعلوا شيئاً ما أراده الله، أو تفلتوا من عقاب الله، مستحيل، مستحيل وألف ألف مستحيل أن يفعل الكافر شيئاً ما أراده الله، إن خطة الله تستوعب خطة الكافر، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن يتفلَّت الكافر من عقاب الله، لن يسبق الله عز وجل، لذلك ربنا يطمئن المؤمنين: ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ﴾ .
3 ـ الإسلام دين الله ، فكن من أنصاره:
أنت حينما تتصوَّر كفَّار قريش، وهم أقوياء عتاة، أما المؤمنون فضعاف مستضعفون فقراء، ومع ذلك حينما فتح النبي عليه الصلاة والسلام مكة المكرمة، وقد ناصبته قريش العداء عشرين عاماً، ينكِّلون بأصحابه، وأرادوا استئصاله، فكانت معركة الخندق معركة وجود، بقي للإسلام ساعات وينتهي، ولكن لا تقلق على هذا الدين، إنه دين الله، اقلق على شيءٍ واحد؛ أن الله سمح لك أن تتشرف بنصرته، أو لم يسمح لك، فقط ذلك، إنه دينه؛ فإذا شاء نصره بالرجل الفاجر، وإذا شاء سخَّر أعداءَه لنصرته دون أن يشعروا، لأنه دينه، فقلقك لا ينبغي أن يكون على سلامة هذا الدين، إنه دين الله، ولكن من حقك أن تقلق أن الله سمح لك أن تنصره، سمح لك أن تدلي بدلوٍ في نصرته، سمح أن تكون داعيةً له، سمح أن تكون قوةً له، هنا القلق.
﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ﴾ فأنت حينما ترى لعبة سيارات كهربائية، كلكم تعرفونها، وهؤلاء الصغار يتطاحنون، ويضرب بعضهم بعضاً، الذي بيده قطع التيار الكهربائي، إذا فعل هكذا، فكلّ السيارات تقف، فالله عز وجل في لحظة ينهي كل شيء، فيكون مصير هؤلاء العتاة كما قال تعالى:
﴿ إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ(29)﴾
صيحة واحدة فينتهون، إعصار واحد دمر ما مقداره ثلاثين مليارًا، إعصار واحد بشرق أمريكا بنيوجيرسي كلفة دماره ثلاثون مليار دولار، إعصار من عند الله مباشرة، فالله عز وجل عنده وسائل لا تعد ولا تحصى، أحياناً يلقي الرعب في قلب الكافر من الداخل، أحيانا خطأ بسيط يدمِّر ما صنعه.
سيدنا موسى مع بني إسرائيل كانوا قلة قليلةً مستضعفة، شرذمة قليلين، وفرعون وما أدراك ما فرعون؛ بقوته، وطغيانه، وجبروته وراءهم، والبحر أمامهم، بالحسابات الأرضية لا أمل أبداً، قال تعالى:
﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61) قَالَ كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ(62)﴾
وهذه قصة سيدنا يونس لا لأخذ العلم، بل من أجل أن تؤمن بها، سيدنا يونس كان في بطن الحوت، ما من مصيبةٍ على الإطلاق أشد من أن تجد نفسك فجأة في بطن حوت، في ظلام بطن الحوت، وفي ظلام الليل، وفي ظلام أعماق البحر، نبيٌ كريم يجد نفسه فجأة في بطن حوت في ظلماتٍ ثلاث.
﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(87 (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
في أي مكان، وفي أي زمان، وفي أي ظرف ﴿وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ .
والله هناك قصة سمعتها قبل أن آتي إليكم، يقشعر لها البدن: سائق تاكسي، استوقفه شخص فقير، وشبه عاجز، قال له: إلى أين؟ قال له: إلى أقصى جادة في الجبل، وما معي درهم أعطيك إيَّاه، قال له: حاضر، أوصله إلى آخر جادة، فلما نزل من مركبته، أقبل عليه أولاده، وسألوه: أجئتنا بالخبز يا أبت؟ قال: والله ما جئت بالخبز، استحييت من السائق أن أوقفه، فالسائق أراد أن يكمل معروفه، فنزل إلى جادة في الأسفل، واشترى خمس ربطات وذهب إليه، أعطاه الخبز، يقسم بالله من شدة جوع أولاده التهموا نصف الخبز في دقائق، من جوعهم، ونزل، استوقفه سائحان قالا له: خذنا إلى المطار، فأخذهما إلى المطار، ونقداه ألفين وخمسمئة ليرة، والتسعيرة خمسمئة ليرة، وهو في المطار جاءه سائحان آخران طلبا أن يوصلهما إلى فندق في دمشق، أعطوه مئتي دولار -عشر آلاف- فرجع إلى هذا البيت، واشترى لهم ما لذ وطاب من الفواكه، والحلويات، واللحوم، مع مبلغ من المال، قال له: كل هذا الرزق بسببك، لأنني خدمتك.
لكن الناس تصحَّروا الآن، لا يتحرك إلا بمال، فكلما قل الخير تخلى الله عنا، هذا تشجيع من الله، أنت أوصلت عاجز إلى آخر جادة، أردت أن ترحمه، بعد ذلك أمَّنت له خبزًا، هذا وقت، ومال، وبنزين، الله عز وجل أراد أن يكافئك مباشرةً، أكثر من اثنتي عشرة ألف ليرة في يوم واحد مقابل هذه الخدمة.
﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ وَتُحۡشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ﴾ الآن، قال الله عز وجل:
﴿ وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَٰتٍۢ لِّلْعَٰلِمِينَ(22)﴾
الآية العلامة الدالة على شيء، فمن علامات خلق الله عز وجل ﴿وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ﴾
﴿ وَمِنْ ءَايَٰتِهِ ٱلَّيْلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(37)﴾
﴿ وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ(21)﴾
وأضيف إلى هذه الآيات آية فريدة من نوعها، قال تعالى:
﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِى فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَٰتِلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ ٱلْعَيْنِ ۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِۦ مَن يَشَآءُ ۗ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِى ٱلْأَبْصَٰرِ(13)﴾
الآن دقق كيف أن الشمس آية، والقمر آية، والليل آية، والنهار آية، وهذه آية، ونحن المسلمين في أمسِّ الحاجة لهذه الآية.
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ
1 ـ القرآن قوة في البلاغة :
﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِى فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَٰتِلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ﴾ في البلاغة لون رائع مطبَّق في هذه الآية، فهو يذكر شيئاً، ويحذف ما دل عليه في الثاني، ويذكر شيئاً في الثاني، ويحذف ما دل عليه في الأول، فيقولون: البلاغة في الإيجاز، فأصل الآية: قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وفئة كافرة تقاتل في سبيل الشيطان، أواضح ذلك؟ فقال: ﴿فِئَةٌ تُقَٰتِلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ لما قال: ﴿وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾ معنى ذلك أن الأولى مؤمنة، فالبلاغة في الإيجاز، والثانية قال: ﴿كَافِرَةٌ﴾ ما قال: تقاتل في سبيل مَن، ما دام الأولى في سبيل الله، إذاً الثانية في سبيل الشيطان، البلاغة في الإيجاز.
2 ـ بمقاييس الأرض النصر مستحيل في هذه المعركة:
﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِى فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَٰتِلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ﴾ بمقاييس الأرض النصر مستحيل، بمقاييس العَدَد، والعُدَد، والتدريب، والأسلحة، والمدى المُجْدي، والأقمار، والإعلام، والتوجيه المعنوي، المعركة خاسرة، بمقاييس الأرض المعركة خاسرة، لماذا كانت هذه آية؟ لأن هذه الفئة القليلة، الضعيفة، المستضعفة غلبت فئةً كثيرةً قويةً عاتيةً متمردة، آية من آيات الله، فبحسب قوانين الأرض لا يعقل لدراجة أن تسبق مركبة، ولا يعقل لطفلٍ أن يقاوم جماعةً، لكن إذا كان الله معك فمَن عليك، وإذا كان عليك فمن معك؟
هناك مَثَل واقعي من حياتنا اليومية، هذه الدولة الصغيرة بمليوني شخص، لماذا تتحدى كل الشرق الأوسط؟ لأن معها أكبر دولة، تتحدى مَن حولها لا بقوتها الذاتية، بل بدعم أكبر قوة في العالم، إذاً أنت قوي بالله، لو استعنت بالله أعانك، وإذا استنصرت به نصرك.
النصر الاستحقاقي، والنصر التفَضُّلي، والنصرٌ التكويني:
﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِى فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَٰتِلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ ٱلْعَيْنِ﴾ لذلك قال العلماء: هناك نصرٌ استحقاقي، ونصر تفَضُّلي، ونصرٌ تكويني.
﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍۢ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّىٓ إِلَّا مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةًۢ بِيَدِهِۦ ۚ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦ ۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍۢ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةًۢ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ(249)﴾
كما انتصر المسلمون في بدر، قلة قليلة، ألف مقاتل على ثلاثمئة راحلة، بلا عُدَد، ولا خيول مسوَّمة، ولاهم يحزنون، واجهت أكبر قوة في قريش وانتصرت.
وأما النصر التفَضُّلي فربما لا تكون على الحق مئة بالمئة، ولكن حكمة الله اقتضت أن تنتصر، كما انتصر الروم على الفرس، قال تعالى:
﴿ غُلِبَتْ الرُّومُ(2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3) فِى بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ ٱلْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنۢ بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍۢ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ(4)﴾
أما النصر التكويني فكلا الطرفين لا إيمان له بالله، ينتصر الأقوى، فالهليكوبتر مدى مدفعها سبعة كيلو مترات، والمدرعة مدى مدفعها ثلاثة كيلو متر، وطائرة واحدة تدمر مئة دبابة، لأن سلاحها يصل إلى المدرعة، والمدرعة سلاحها لا يصل إلى الطائرة، انتهت العملية، فالقضية تكنولوجيا، قضية حرب بين عقلين؛ العقل الأرجح والأذكى والأقوى ينتصر، ففي النصر الاستحقاقي يكون الله مع المؤمنين، وفي النصر الثاني حكمة الله اقتضت أن ينتصر الأول على شيءٍ من الحق، أما الثالث؛ النصر التكويني فالنصر للأقوى، لذلك قالوا: الحرب بين حقين لا تكون، لأن الحق لا يتعدد، وبين حق وباطل لا تطول، لأن الله مع الحق، وبين باطلين لا تنتهي.
﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِى فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَٰتِلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ ٱلْعَيْنِ ۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِۦ مَن يَشَآءُ ۗ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِى ٱلْأَبْصَٰرِ﴾
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَار
إذاً: هذه الآية تملأ نفوس المؤمنين ثقةً، أن الله يتدخل، من هنا نحن أُمِرنا أن نعد لهم ما استطعنا، قال تعالى :
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(60)﴾
آيتان تحددان عوامل النصر:
هناك آيتان في القرآن الكريم كافيتان لتحديد عوامل النصر، قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾
والآية الثانية: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ وأروع ما في الآية الثانية أن الله ما كلَّفنا أن نعد العُدَّة المكافئة، لا، لا، فقد كلفنا أن نعد القوة المتاحة لنا فقط، لو أننا عرفنا ربنا، وعرفنا معاني كتابنا، واصطلحنا مع الله، والله الذي لا إله إلا هو فهذه العجرفة، والغطرسة، والإجرام من أعدائنا اليهود -قاتلهم الله- لا تكون، لكن نحن ابتعدنا عن ديننا، وابتعدنا عن شرعنا، ولم نقرأ كتابنا.
غيِّر ما في نفسك يغير الله واقعك:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ لو أننا آمنا بالله ورسوله الإيمان الذي يليق بنا، وأعددنا القوة المتاحة، واستعنا بالله، لانتصرنا على أعدائنا، فلا سبيل إلّا أن نعود إلى الله، ولا سبيل إلا أن نصطلح مع الله، ولا سبيل إلا أن نُغَيِّر، ولكن الذي يدهش أن المسلمين في آخر الزمان ليسوا مستعدين أبداً أن يغيروا، ولكنهم ينتظرون من الله أن يغيِّر، وهذا مستحيل، هم ليسوا مستعدين أن يغيروا؛ لا من دخلهم، ولا من إنفاقهم، ولا من استمتاعهم بالحياة، ولا، ولا، ولا، ولكنهم ينتظرون من الله أن يغير قوانينه، وهذا مستحيل، فالناس امتنعوا في بعض البلاد عن شراء بعض البضائع التي تنتمي لبلاد تعادي المسلمين، ترك هذا أثراً كبيراً، أطمئنكم ترك هذا أثراً كبيراً، حتى إن بعض المؤسسات الغذائية الضخمة التي لها فروع في كل أنحاء العالم، خصصت لكل شطيرةٍ تباع مبلغاً لأبناء الأرض المحتلة، شركة من بلد تعادي المسلمين، حرصاً على مصلحتها، فقد توقفت مبيعاتها، هذا متاح لكل مسلم؛ أن يمتنع من شراء بضاعة تنتمي لدولة معادية فقط، لست مسؤولاً، وليس ثمة مشكلة، ولا أحد يحاسبك، فقط أريد بضاعة من بلاد أخرى.
أنا قرأت في موقع معلوماتي كيف أن هذه الشركة الضخمة التي لها مبيعات فلكية في دول الخليج هبطت مبيعاتها إلى رقم لا يذكر، فاضطرت أن تعلن أن كل شطيرةٍ تُباع كذا سنت إلى أبناء فلسطين، تشجيعاً للناس على أن يعودوا لشراء هذه الشطائر، المسلم يملك كل شيء، لكنها تحتاج إلى إيمان، إلى وعي، وشيء يحتاج إلى أن تؤثر الآخرة على الدنيا.
على كلٍ ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِى فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَٰتِلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ ٱلْعَيْنِ ۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِۦ مَن يَشَآءُ﴾ معنى ذلك أن انتصار الضعفاء من آيات الله الدالة على عظمته، والضعيف عنده أسباب القوة، وقد تَكْمُن القوة في الضعف، فنحن ولو افتقرنا إلى بعض مقومّات القوة إيماننا يهبنا قوة.
أيها الإخوة الأكارم، الآية الثانية مهمة جداً، وهي أصل في تركيب النفس، وهي قوله تعالى:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ (14)﴾
لأهمية هذه الآية سأرجئها إلى الدرس القادم.
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق