الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الرابع من دروس آل عمران، ومع الآية الثامنة، وهي قوله تعالى:
﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ (8)﴾
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ:
أيها الإخوة، قال علماء التفسير: ما دام الله جل جلاله يأمرنا أن ندعوه بألا تزيغ قلوبنا، معنى ذلك أن الأمر بيدنا، يؤكِّد هذا المعنى أن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ يَٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ(5)﴾
معنى (زاغ) أي انصرف إلى شيءٍ آخر غير الدين؛ انصرف إلى الدنيا، انصرف إلى معصية، انصرف إلى متعةٍ رخيصة، أو توجه إلى جهةٍ شريكة لله عزَّ وجل، أشرك؛ أي كان متجهاً إلى الله فزاغ قلبه، اتجه إلى غير الله، كان مقبلاً على طاعة، فزاغ قلبه، فأقبل على معصية، كان محسناً، فزاغ قلبه، فأساء، كان طاهراً، فزاغ قلبه، فانحرف، لأن الله عزَّ وجل يأمرنا أن ندعوه ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا﴾ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( ما قلبٌ من قلوبِ بنِي آدمَ إلا وهو بينَ أُصبُعينِ من أصابعِ الرحمنِ يُقلِّبُه كيف يشاءُ ثم قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ نفسُه: اللهمَّ يا مُقلِّبَ القلوبِ والأبصارِ ثبِّتْ قلبِي على دِينِك. ))
ينبغي أن نفهم هذا الحديث فهماً دقيقاً جداً، أي أن الله عزَّ وجل جعل قلوبنا بيده لسبب واحد؛ من أجل أن يعيننا على إيماننا، فلو أن أحدنا أراد شيئاً طيباً، ملأ الله قلبه انشراحاً، وإذا أراد أحد الناس سوءاً، ملأ قلبه انقباضاً، فلأن القلب بيد الله عزَّ وجل، يعطينا دفعة التشجيع، أو دفعة ردع، يجب أن نفهم هذا الحديث: (ما قلبٌ من قلوبِ بنِي آدمَ إلا وهو بينَ أُصبُعينِ من أصابعِ الرحمنِ يُقلِّبُه كيف يشاءُ) يملؤه ثقةً، وطمأنينة، وأمناً، وراحةً، أو يملؤه خوفاً، وقلقاً، وانقباضاً، فإن كان القرار صائباً ملأه أمناً، وراحةً، وانشراحاً، وإن كان القرار مخطئاً ملأه خوفاً وقلقاً، فإذا أردت أن تجمع بين هذه الآية وبين الحديث الصحيح (ما قلبٌ من قلوبِ بنِي آدمَ إلا وهو بينَ أُصبُعينِ من أصابعِ الرحمنِ يُقلِّبُه كيف يشاءُ) لصالحنا، لصالح إيماننا.
هناك معنى آخر: أنت حينما ترى من هو أقوى منك لا ينبغي أن تخاف، لأن قلب هذا القوي بيد الله؛ فإما أن يملأه عطفاً عليك، وإما أن يملأه حقداً عليك، فقلبه بيد الله لا تخف منه، خف أن يسمح الله له أن يصل إليك.
﴿ وَحَآجَّهُۥ قَوْمُهُۥ ۚ قَالَ أَتُحَٰٓجُّوٓنِّى فِى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَىٰنِ ۚ وَلَآ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْـًٔا ۗ وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ(80)﴾
إذا شاء الله لقويٍ أن يتسلَّط عليك، تسلط عليك، إذاً لا تخف من القوي، بل خف أن يسمح الله له لأن قلبه بيد الله، هذا المعنى الثاني.
ذكرت لكم سابقاً أن الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى أدّى أمانة التبيين، والعلماء مكلَّفون من قِبَل الله عزَّ وجل أن يبينوا، فبيَّن، بلغت الحجاج مقالته، فقال: والله يا جبناء لأَروِيَنَّكم من دمه، وأمر بقتله، بكلمة، فجيء به ليُقتَل في حضرته، فلما دخل هذا الإمام الجليل على الحجاج رأى السيَّاف واقفاً، والنطع ممدوداً، وكل شيءٍ جاهزٌ لقتله، فحرَّك شفتيه، ولم يفهم أحدٌ ماذا قال، فإذا بالحجاج يقف له، ويستقبله، ويقرِّبه، حتى أجلسه على سريره، واستفتاه في موضوعٍ، وضيفه، وعطَّره، وشيَّعه إلى باب القصر، صُعِق السياف والحاجب، فتبعه الحاجب، فقال له: يا إمام لقد جيء بك -اسمه أبو سعيد- قال له الحجاج: أنت يا أبا سعيد خير العلماء، تبعه الحاجب، قال له: يا إمام، لما دخلت حرَّكت شفتيك، فماذا قلت بالله عزَّ وجل؟ قال له: قلت: يا ملاذي عند كربتي، يا مؤنسي في وحشتي، اجعل نقمته عليَّ برداً وسلاماً، كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
أقوى الأقوياء قلبه بيد الله، والله عزَّ وجل قادر أن يلهم عدوَّك أن يخدمك، وقادر أن يجعل أقرب الناس إليك يتطاول عليك، لأن قلوب العباد بيد الله، فأنت علاقتك مع الله.
﴿ مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ (55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)﴾
فعلاقتي ليست مع الدواب، ولكن مع مَن بيده ناصية الدواب، فإن أرخى الزمام وصلت إلي، وإن شدَّ الزمام أبعدها عني، هذه حقيقة في التوحيد مهمة جداً، الأرض مليئة بالأقوياء، مليئة بالأشرار، مليئة بالحاقدين، مليئة بالكفَّار، مليئة بقُساة القلوب وهم لا يرحمون، ولكن قلبهم بيد الله، فإذا أرد الله لمؤمنٍ خيراً ألقى هيبته في قلوب الأقوياء، فـ: (ما قلبٌ من قلوبِ بنِي آدمَ إلا وهو بينَ أُصبُعينِ من أصابعِ الرحمنِ يُقلِّبُه كيف يشاءُ) يقلبه لصالحك، يملؤه رضىً، وأمناً، واستبشاراً، وتفاؤلاً حينما تصطلح مع الله، ويملؤه خوفاً، وضيقاً، وقلقاً حينما تبتعد عن الله، فـقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، أما قلوب الآخرين أيضاً بيد الله، فإما أن تمتلئ محبةً لك، وعطفاً عليك، ورغبةً في خدمتك، وإما أن تمتلئ نقمةً، وحقداً، وقسوةً.
إذاً: هذه الإزاغة التي ندعو الله ألّا تكون هي إزاغة القلب الابتدائية، أما الإزاغة الجوابية الجزائية فهذه من عند الله عزَّ وجل، فحينما تختار المعصية -لا سمح الله- فالله عزَّ وجل بحسب هوّيتك أنت مخير، جاء بك إلى الدنيا، وأنت مخير، لأن هويتك مخير، لأن أصل تركيبك مخير، إذاً: يسمح الله لك أن تنصرف إلى ما أردت، فسماح الله لك أن تنصرف إلى ما أردت هو إزاغة الله.
ومثل ذلك كمثل طالبٍ في الجامعة لم يقدِّم امتحانًا، ولا عرف داومًا، ولا اشترى كتابًا، ولا التقى المدرس، أُرسِل له إنذار تلو الإنذار، فأصرّ على موقفه، بعد كل هذه المحاولات لإرجاعه للجامعة، صدر قرار بترقين قيده، فهذا القرار تجسيدٌ لرغبة هذا الطالب.
﴿فَلَمَّا زَاغُوا﴾ انصرف إلى الدنيا، إلى المعصية، لم يعبأ بالتوحيد، لم يطلب العلم، أراد الشهوة، الآن، سمح الله له أن يحقق رغبته، سماح الله له أن يحقق رغبته هو الزيغ الذي جاء في هذه الآية، أقوى دليل: ﴿فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ وقِس على هذا كل شيء، قِس على هذا إذا وجدت في القرآن آيةً يُشَمُّ منها أن الله يُضِل العباد، إذا قلت: إن الله يُضلهم، أي ذاك الضلال الجزائي، المبني على ضلال اختياري، أنت مخير، وفي اللحظة التي تفقد فيها اختيارك تُلغى هويتك، وتُلغى الأمانة، ويُلغى التكليف، وتلغى المسؤولية، ويُلغى الثواب، ويُلغى العقاب، وتُلغى الجنَّة، وتُلغى النار، لمجرَّد أن تفقد اختيارك، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، لو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلَّف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعْصَ مغلوباً، ولم يُطَعْ مُكرهاً.
إذاً : ﴿فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ هذه الإزاغة الجزائية، التي هي في حقيقتها سماح الله لك أن تفعل ما أردت، فأنت مخير.
مثل أوضح، أنت صيدلي، وبحاجة إلى موظف يعينك في فتح الصيدلية، هذا الموظف يجب أن يكون على علمٍ بالأدوية وخصائصها، أعلنت عن مسابقةٍ، وجاءك عدد من المرشحين لهذه الوظيفة، الآن تمتحن أحدهم؛ وضعت له مجموعة أدوية على الطاولة، قلت له: وزِّع هذه الأدوية وفق أنواعها؛ السموم، والفيتامينات، والمسكنات...إلخ، أنت الآن تمتحنه، فأمسك هذا المرشح للوظيفة علبة دواء سموم، واتجه إلى خزانة الفيتامينات، لو أنك منعته ما فحصته، ينبغي أن تسمح له أن يذهب حيث يشاء، هو في طور امتحان، أنت الآن تمتحن علمه، أمسك علبة دواء سموم، واتجه بها إلى خزانة الفيتامينات، سماحك له هو إزاغتك.
﴿فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ أي سمح لهم أن يتجهوا الوجهة التي أرادوها، واختاروها من عند أنفسهم، يقاس على ذلك كلمة الضلال، فأينما عُزِيَت كلمة الضلال إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلالٍ اختياري، فـ ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا﴾ لماذا يقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍۢ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍۢ وَٱجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَٰنًا نَّصِيرًا(80)﴾
لماذا؟ لأنه قد تدخل مدخلاً صادقاً، ولا تخرج صادقاً، لمَ لمْ يقل الله عزَّ وجل: رب اجعلني صادقاً؟ لا، المعنى دقيق، آلاف الحقول قد تدخلها صادقاً، ولا تخرج منها صادقاً، أنت قد تنشئ مستشفى خيرياً، ثم ينقلب هذا المستشفى إلى مستشفى ابتزازي يبتز أموال الناس بالباطل، يمكن أن يبدأ المشروع خيرياً، ولا ينتهي خيرياً، يمكن أن تبدأ دعوة بإخلاصٍ شديد، ولا تنتهي هذه الدعوة بالإخلاص الذي دخلته فيها.
إذاً: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا﴾ معنى ذلك أن الإنسان عليه أن يبقى مستعداً لأية معركةٍ مع الشيطان، الشيطان لا ييأس، ولكل طورٍ من أطوار الإيمان شيطانٌ يثبّط عزيمة الإنسان، حتى إذا بلغت قمة النجاح يغريك الشيطان بالغرور، كل نجاح له مطب، فيجب أن تكون يقظاً.
كنت أقول: بلوغ القمة صعبٌ جداً، طريقٌ وعر، صعب، التواءات، حُفَر، أكمات، حتى إذا بلغت القِمة هناك مطبٌ خطير، مطب الغرور، والغرور طريقٌ إلى القاع ناعم الملمس، تنزلق به سريعاً إلى القاع، فقبل الزواج هناك مطبَّات، وبعد الزواج ثمة مطبات، عندك أولاد فثمة مطبات، لا ولد لك فثمة مشكلة، رزق وفير مشكلة، قليل مشكلة، فـ ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا﴾ الإنسان عليه أن يؤمن، وعليه أن يصون إيمانه، وعليه أن يجدد إيمانه، والإيمان يخلَق في جوف بني آدم، ويهترئ، فلابدَّ من تجديده، والتجديد يكون بأن ترفع مستوى طلب العلم، والتجديد يكون عن طريق المبالغة في الاستقامة، والتجديد يكون عن طريق العمل الصالح، أن تزداد علماً، وأن تزداد انضباطاً، وأن تزداد عطاءً، بهذا يتجدد الإيمان.
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ﴾ فكلمة (رحمة) كلمةٌ جامعةٌ مانعة، مطلق عطاء الله أن يرحمك، يرحمك فيسبغ عليك صحةً، يرحمك فيملأ قلبك أمناً، يرحمك فيسمح لك أن تتصل به، يرحمك فيذيقك من حلاوة القُرْب، يرحمك فيعطيك الحكمة، لو تحدَّثت عن الرحمة ساعاتٍ وساعات لا تنتهي منها، رحمة الله مطلق عطاء الله، هنا يحضرني قوله تعالى:
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍۢ دَرَجَٰتٍۢ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾
هناك شركات عملاقة، فائضها النقدي يفوق ميزانية مجموعة دول، فائضها النقدي فقط ﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ رحمة الله تعني الأبد، تعني سعادة إلى أبد الآبدين، رحمة الله تعني جنةً فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، رحمة الله في الدنيا هذا الأمن الذي يناله المؤمن.
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)﴾
أي إذا قلت: يا رب ارحمني، فهو دعاء واسع جداً، أي يا رب أصلح لي جسدي، يا رب يسِّر لي رزقي، يا رب اجعل أهلي على خير ما يرام، اجعل زوجتي صالحة، اجعل أولادي أبراراً، يا رب صلني بك، ارزقني عملاً صالحاً يقربني إليك، يا رب تجلَّ على قلبي، يا رب أذقني طعم القرب منك، هذا معنى ارحمني يا رب.
ويقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ(158)﴾
إلى رحمته، فأنت تقرأ النعي (إلى رحمته تعالى)، كلمة فرِّغت من مضمونها، أي مات فلان، لا، لا، لو أنه مؤمن انتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا، لأن الدنيا كلها متاعب، فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ:
(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ. ))
كان عبئًا.
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا﴾ والقلب قلب النفس، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ. ))
أما يستحيي الإنسان أن يحقد بقلبه على أحد، والله مطلعٌ على قلبه؟ يا إخوان الكبائر الباطنة أخطر ألف مرة من الكبائر الظاهرة، الكِبر مرض قلبي خطير، العُجب مرض قلبي خطير، حب الذات مرض قلبي خطير، أن تتوهَّم أنك أفضل الناس مرض قلبي خطير.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا(49)﴾
هذا مريض الذي يمدح نفسه باستمرار.
إذاً: ﴿رَبَّنَا﴾ دعاء، وهذا من أدعية القرآن، وحبَّذا لو جمعنا أدعية القرآن، حبذا، ودعونا الله بها ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا﴾ الإنسان معرَّض للفتنة في أية لحظة، يجب أن يكون يقظاً دائماً.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعًا(71)﴾
من الشيطان، فقد يأتي عن أَيْمانهم.
﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ(71)﴾
هذه موظفة مثلاً يجب أن تهديها إلى الله، الظاهر أن فيها خيرًا، اقعد معها جلسات طويلة على انفراد، لعل الله عزَّ وجل يهديها على يدك، أنت داع، هذه خلوة، دع خيراً عليه الشر يربو، وإن درء المفاسد مقدمٌ على جلب المنافع، لا مؤاثرة في الخير، والخير كله في المؤاثرة، أنا لا أضحي بديني من أجل امرأة، ﴿وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ﴾ يوسوس له، فعل خيرٍ فيه مطب، فيه شُبهة، يا نصيب خيري، وريع هذا الياناصيب للعجزة، والله شيء جميل! أدخله بالياناصيب، فدائماً الشيطان إذا رأى الإنسان على الإيمان فتجده أولاً يطمع بالإنسان أن يكفر، فإن يئس من أن يكفر زين له الشرك؛ يوهمه أن هناك جهة بيدها كل شيء، لابد أن ترضيها، لمستقبلك ولأولادك، أوهمه أن هذه الجهة ندٌ لله عزَّ وجل؛ ترفع وتخفض، وتعطي وتمنع، وتعاقب وتكرم، فاتجه إليها، أغراه بالكفر فلم يستطع، أغراه بالشرك فأفلح، لو أن هذا الذي أُغري بالشرك كان على توحيد لرماه بمطب ثالث، يجعله يبتدع، إنه لابد أن نفعل هذا، لكن ما فعله النبي، الدين تام مكتمل، معنى هذا أن الدين وحي، والذي أوحى هو خالق الكون، والله عزَّ وجل لا يمكن أن ينسى شيئاً، فأية إضافةٍ على الدين اتهامٌ له بالنقص، وأي حذفٍ منه اتهامٌ له بالزيادة، فلمجرد أن تفكر أن تضيف شيئاً في عقائد الدين أو في عباداته فأنت متهم له، وأنت تقول: لقد نقص هذا الدين، أنا أتممه.
فيدعو أولاً إلى الكفر، فإن وجده على إيمان دعاه إلى الشرك، إن وجده على توحيد دعاه إلى أن يبتدع، إن وجده على سنة دعاه إلى أن يرتكب كبيرة، إن وجده على طاعة دعاه إلى أن يرتكب صغيرة، إن وجده على وَرَع، فماذا؟ لا الكفر قدر عليه، ولا الشرك، ولا البدعة، ولا الكبيرة، ولا الصغيرة، الآن يدعوه إلى التحريش بين المؤمنين، أنت كذا، وأنا كذا، والجماعة الفلانية، يمزق الدين، يمسك قضية صغيرة جداً يكبرها كثيراً، ويقيم عليها النكير، ويقاتل من أجلها، وهي في الإسلام حجمها صغير جداً، لأسبابٍ تافهةٍ جداً نتحارب، نتقاتل، يطعن بعضنا ببعض، يكفر بعضنا بعضاً، لأنه ترك مصدر علم من جهة، ومال إلى جهة ثانية، كفَّره وانتهى، هذا كله مبالغة، كله غلوٌّ في الدين؛ أن تأخذ جزئية صغيرة، وأن تكبرها، وأن تجعلها هي الدين، هذا من فعل الشيطان، فلا الكفر، ولا الشرك، ولا البدعة، ولا الكبيرة، ولا الصغيرة، ولا التحريش بين المؤمنين، كان واعياً هذا المؤمن، يدخله في المباحات، التوسُّع في المباحات حتى تمتص كل وقته، وحتى يلقى الله صفر اليدين، هذا ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾
﴿وَعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾ المعاصي والآثام، و﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ التقدم والحداثة، والعلمانية، والتطوير، والمجتمع المنفتح، والعولمة، ونحن بعصر العلم مع الاختلاط، مع الانحراف، مع التفلُّت، مع الانحلال، أو يتمسَّك بتقاليد قديمة جداً بالية تخالف الشرع، هكذا رباني أبي، وهكذا علمني، هكذا نشأت، على الاختلاط، من غير محاسبة، وكل إنسان يأخذ ما راق له من المحل، فهم إخوة، حتى يتقاتلوا، فإما أن تتبع تقاليد تخالف الدين، أو أن تتبع قيماً حديثة جداً تخالف الله، أو ﴿عَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ من باب الدعوة إلى الله، أو ﴿عَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ من باب المعصية، ولكن لم يذكر القرآن جهةً علويةً، ولا جهةً سفلية، يعني أن الطريق إلى الله آمن من الشيطان، وطريق الامتثال آمن أيضاً، إن انكسرت إلى الله فأنت في أمان، وإن أقبلت عليه فأنت في أمان، واللهُ ذكر أربع جهات: ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ إذاً: الشيطان هو الذي يسعى لإزاغة القلب، لابد أن نكون يقظين.
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ﴾ والله أيها الإخوة، في قلب المؤمن رحمة، كلمة رحمة واسعة جداً، أي فيه طمأنينة، وأمن، وراحة، واستسلام لله، وشعور بالخفَّة، ليس عليه أثقال كالجبال، ما ارتكب عملاً سيئًا، شقي الناس ليسعد، وافتقر الناس ليغتني، لا علاقة له بالمعصية، ليس ثمة حقوق متعلقة برقبته، فالقلب فيه راحة.
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ﴾ كلمة (وهاب) تعني بلا ثمن، أي بلا ثمن مُكافئ، أما الثمن فبسيط، أن تطلب، أنت عبد فقير، وضعيف، ولا تعلم، إذا أقبلت على الله عزَّ وجل منحك العلم، منحك القوة، منحك الحكمة، فليس معقولاً أن تقدم طلبًا بإخلاص، ولجهة في الأرض، وتقول: أريد أن تعطوني ألف مليون، وقَّعت، الألف مليون تأخذها بطلب فقط لا بجهد، هذا معنى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ أنت في الدنيا تجد إنسانًا عنده ثروة طائلة، هذه بمقابل، يقول لك: جهد أربع وخمسين سنة عملاً في التجارة، بذلنا الكثير من الجهد والتعب حتى حققنا هذه الثروة، هذه الثروة مقابل جُهْد، أما ربنا عزَّ وجل فيعطيك عطاء بغير حساب، مقابل طلب فقط.
﴿ كُلًّا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا(20)﴾
ما أنت فيه يعبِّر عن صدقك، وما لم تصل إليه يعبر عن تمنياتك، فالله عزَّ وجل لا يتعامل بالتمنيات.
﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَآ أَمَانِىِّ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوٓءًا يُجْزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدْ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا(123)﴾
تمنَّ أن تكون أكبر تاجر، لا يكفي، تمنَّ أن تكون أكبر غني، تمنَّ أن تكون أكبر عالِم، التمنيات لا قيمة لها عند الله عزَّ وجل، والدليل:
﴿ وَمَنْ أَرَادَ ٱلْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا(19)﴾
ما قال: وسعى لها، لا يكفي سعى لها، بل ﴿وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا﴾ الخاص، نجح طالب في الطب، الطب له علاماته الخاصة، أما إذا كنت طالبًا فهذه الكلية لها علاماتها الخاصة ﴿وَمَنْ أَرَادَ ٱلْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا﴾ تحتاج إلى صدق، إلى استقامة.
ويحضرني الآن كلمة رائعة: أنه ممكن أن تتعلم أمر الله، أي إنسان ذكي عنده فكر، وثقافة، ولغة، معه كتب، ومراجع، وأجهزة يتعلم الشريعة، ولو كان غير مسلمٍ، قد يكون زنديقًا، قد يكون زانيًا، قد يكون شارب خمر، قد يكون مُلْحِدًا، إذا قرأ الكتب، وفهمها، واستوعبها، وحفظها، وربطها ببعضها بعضاً يمكنه أن ينجح في الامتحان، فالعلم بأمره يُستدرك بالمدارسة، والعلم بخلقه يُستدرَك بالمدارسة، اختصاص فيزياء، وكيمياء، ورياضيات، وفلك، وطب، وهندسة، وعلم اجتماع، وعلم نفس، وتاريخ تربية، كلها علوم أرضية تحتاج إلى فكر، وكتاب، ومدرس، ووقت، ودارسة، ومطالعة، وكتابة، ولكن العلم بذاته تحتاج إلى مجاهدة، تحتاج إلى غض بصر، ضبط لسان، تحرير دخل، إنفاق في سبيل الله، ضبط الهوى، ضبط العلاقات، كله يحتاج لإرادة قوية، فالإرادة القوية، والطاعة، والمجاهدة ثمن معرفة الله عزَّ وجل.
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ﴾ لو أن إنسانًا زاغ قلبه، وانحرف سيره، وغرق في الدنيا، وجمع من الأموال المبالغ الطائلة، ثم ماذا؟ جمع ألف مليون دولار، ثم ماذا؟ ثم الموت، وصلت إلى أعلى منصب في الأرض، ثم ماذا؟ إلى الموت.
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيه
﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍۢ لَّا رَيْبَ فِيهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ(9)﴾
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾
فإذا شرد الإنسان، وأراد الدنيا فقط، وأعرض عن الآخرة، فماذا ينتظره؟ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا؟ أَوْ الدَّجَّالَ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ. ))
في المطارات بوابات، يقول لك: البوابة رقم كذا، وكل واحد منا له بوابة يخرج منها من الدنيا إلى الآخرة؛ هناك بوابة حادث سير، وبوابة مرض قلب، وبوابة ورم خبيث، ولابد من الخروج من إحدى هذه البوابات، وهي مرض الموت، فالموت مصير كل إنسان، فـ ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ*رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍۢ لَّا رَيْبَ فِيهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ﴾ .
2 ـ الناس مجموعون ليوم عظيم:
حتمية هذا الجَمْع.
﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)﴾
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيه(19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيه(20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه(25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه(26) يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ(27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه(28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه(29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32) إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)﴾
هذا يوم القيامة يا إخواننا الكرام، إذا آمنا به إيماناً حقيقياً، والله أكاد أقول لكم: لا ننام الليل سعياً لهذا العطاء الإلهي الأبدي السرمدي.
إِنّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا
فهؤلاء الذين زاغت قلوبهم، وانصرفوا إلى الدنيا، وجمعوا أموالاً طائلة، وربَّوْا أولادهم تربيةً حديثة، يحمل ابنه أعلى الشهادات، يسكن في أجمل بيت، يتزوج من أجمل امرأة، ابن متفلِّت، لكن بمنصب رفيع جداً، معه شهادات عليا، قال تعالى:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَآ أَوْلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا ۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ(10)﴾
كل منجزاته هذه الثروة التي حصّلها، وهؤلاء الأولاد الذين رباهم لا على طاعة الله، بل على أن يكونوا أعلاماً في الدنيا فقط، فالأب لا ينتبه إذا صلى ابنه، أو لم يصلِ، ينتبه إذا نجح، أو ما نجح، يهمه نجاح ابنه، دخل ابنه، زواج ابنه، تهمه الأشياء المادية فقط، ليتباهى بها، وأكثر النساء يهمهن أنهن اخترن زوجة جميلة لابنها، من عائلة، بنت عائلة، وأهلها أغنياء فقط، أما أنها محجَّبة أو سافرة، فليس هناك مشكلة، فهؤلاء الذين جمعوا أموالا طائلة، وكان أولادهم في أعلى مراتب التفوّق في الدنيا، فهؤلاء ﴿لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَآ أَوْلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا ۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ﴾ سيدنا عمر بعد أن طُعِن، وبعد أن صحا قال: هل صلى المسلمون الفجر؟ أين هو وأين الناس؟ طُعِن، وعلى وشك الموت، ما الذي أقلقه؟ صلاة المسلمين، أنت راقب؛ دخلت البيت فتقول لزوجتك: أكل الأولاد؟ كتبوا وظائفهم؟ نعم، ما سألتها: هل صلوا؟ ما أدخلت الصلاة في حساباتك، كتبوا وظائفهم، وأكلوا، وناموا، أما لو كنت تحرص على مستقبلهم الأخروي لسألتها: هل صلوا العشاء؟
سيدنا عمر سأل: هل صلى المسلمون الفجر؟
إذاً ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هؤلاء الذين زاغت قلوبهم ﴿لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَآ أَوْلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا ۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ﴾ .
خذ من الدنيا ما شئت ، وخذ بقدرها همًّا:
خذ من الدنيا ما شئت، وخذ بقدرها هماً.
(( ومَن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ حتفه، وهو لا يشعر. ))
تدخل محل بيع ضخمًا جداً، ودخلت امرأة إلى المحل، فقال: يا إلهي كم هي الحاجات التي لا يحتاجها الإنسان! نحن أُثْقِلنا بما يسمى بمجتمع الاستهلاك، نحن نقيس الفقر والغنى بالأشياء الثانوية، الحاجات الأساسية مؤمَّنة، فتكفي الإنسان لقمة تملأ جوفه، وبيتٌ يؤويه، وقد سأل ذات مرة ملكٌ وزيرَه:
من الملك؟
فقال له: أنت هل هناك غيرك؟
قال له: لا، الملك رجلٌ لا نعرفه ولا يعرفنا؛ له بيتٌ يؤويه، وزوجة ترضيه، ورزقٌ يكفيه، إنه إن عرفنا جهد في استرضائنا، وإن عرفناه جهدنا في إحراجه.
فإذا كان للإنسان بيت يؤويه؛ صغير، كبير، مِلك، أجرة، المهم معه مفتاح بيت، مساءً له غرفة ينام فيها، وله رزقٌ يكفيه، عنده وجبة طعام فهذا يكفي، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ:
(( يَا عَائِشَةُ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ. ))
[ مسلم، أبو داود، النسائي، أحمد ]
له بيتٌ يؤويه، وزوجة ترضيه، ورزقٌ يكفيه، هذا ملك من ملوك الدنيا، ليس ثمة حقوق متعلقة به، ولا أشخاص شقوا من أجله، فيمكن للإنسان أن يبني مجده على شقاء الآخرين، ويبني حياته على موتهم، ويبني غناه على فقرهم، ويبني أمنه على خوفهم، قال تعالى:
﴿ كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ (11)﴾
سنة الله في خلقه؛ فأي إنسان أعرض عن الله وانحرف يعاقبه، ويهلكه.
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق