الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الخامسة.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٌ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ (5)﴾
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ
1 ـ الشعور بمراقبة الله يورث الخوف من المعصية:
حينما يعتقد الإنسان أن الله يعلم كل شيء؛ يعلم سره، ويعلم جهره، ويعلم ما خفي عنه، لا بد أن ينضبط، فإذا أضيف لهذه القناعة الإيمانية أن الله سيحاسبه وأن الله سيعاقبه انتهى كل شيء، لا يمكن لإنسانٍ فيه ذرة عقل بعد أن يوقن أن الله يعلم، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، خاطر دقيق، خاطر مر سريعاً يعلمه الله، يحول بين المرء وقلبه، قال تعالى:
﴿ لِّلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ(284)﴾
حينما تعلم أن الله يعلم، وحينما تضيف إلى علمك أن الله يعلم، وأنه سيحاسب، قال تعالى:
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
وحينما تضيف إلى علمك أن الله سيعاقب يوم القيامة، أو في الدنيا، يعلم، وسيحاسب، وسيعاقب، لا يمكن أن تجترئ على معصيته أبداً، لأنك في الدنيا حينما تركب مركبتك، وترى الإشارة حمراء، وترى مَن يقف على هذه الإشارة ليضبط المخالفين، وأنت لا تقوى على رد عقوبة صارمةٍ، لابد أن تتقيد بقواعد السير، لأنك تعلم أن واضع القانون يطولك علمه، وتطولك قدرته، إذاً لابد أن تستقيم على أمره، فكلمة: لاَ تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٌ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ﴾ خير إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان، فأعلى درجة من درجات الإيمان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، أن تعلم أن الله معك حيثما كنت، أن تشعر أن الله مُطَّلع عليك، ناظرٌ إليك، مُطَّلع على قلبك، يعلم كل الخفايا، يعلم كل الخواطر، هذا الإيمان وحده يدعوك إلى أن تستقيم على أمر الله.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٌ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ﴾ أما حينما تغش إنساناً، وتحتال على آخر، وتأكل مالَ غيره، وتعتدي على عِرض فلان، وكأن الله لا يعلم، فهذا هو الجهل بعينه، هل تصدقون أنّ في آيةٍ قرآنية ربنا عز وجل جعلَ حكمة الحج الذي هو من أرقى الفرائض فقال:
﴿ جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰمًا لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْىَ وَٱلْقَلَٰٓئِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ(97)﴾
حينما تعلموا أن الله يعلم فلابد أن تلتزموا أمره ونهيه، وحينما لا تلتزم، وحينما لا تطيع، وحينما لا تخضع، وحينما تخالف، وحينما تعصي فاعتقد اعتقاداً جازماً أنه بسبب ضعف إيمانك بأن الله يعلم.
2 ـ هذا مع العبد الضعيف فكيف بك مع الله الذي لا يخفى عليه شيء:
أنت لست مع خالق الكون بل مع إنسانٍ مثلك، مع إنسان من بني جلدتك، مع إنسان لا يقوى عليك في كل شيء، بل في شيء واحد حينما توقن أن علمه يطولك، وأن قدرته تطولك، تستقيم على أمره، فكيف يقول الله عز وجل:
﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍۢ وَمِنَ ٱلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًۢا(12)﴾
الإيمان علم، قال تعالى:
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(10)﴾
﴿لِتَعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًۢا﴾ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ. ))
هنا اسمان فقط: ﴿لِتَعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًۢا﴾ مَثَل السيرِ واضح جداً، تركب مركبة والإشارة حمراء، الشرطي واقف، والضابط واقف، وثمة دراجة وسيارة، وأنت مواطن عادي، لا يمكن أن تتجاوز هذه الإشارة إلا في حالتين؛ في وقت لا يطولك علم واضع القانون، الساعة الثالثة ليلاً، أو إذا كنت أقوى من واضع القانون، في إحدى هاتين الحالتين تتجاوز، أما إن أيقنت أن علمه يطولك، وأن قدرته تطولك فلا يمكن أن تعصيه، هذا مع إنسان ضعيف من بني جلدتك، لكنه يقوى عليك في زاوية ضيقة فتستقيم على أمره، فكيف بخالق الكون الذي يحتاجه كل شيء في كل شيء؟
الشبكية بيده، ضغط العين بيده، دسَّام القلب بيده، شريان القلب بيده، عمل الكليتين بيده، الخلايا، نمو الخلايا، سيولة الدم كله بيده، كل أجهزتك، وأعضاؤك، وأنسجتك، وسمعك، وبصرك بيده، ومَن حولك ومَن فوقك، ومَن دونك، وزوجتك، وأولادك، ورزقك، وراحتك النفسية، وانقباضك النفسي، كل شيءٍ بيده، يحتاجه كل شيء في كل شيء، فكيف تعصي الإله؟
تَعصِي الإِلهَ وأنتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ هذا لَعَمْرِي في المَقالِ بَديعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لَأَطَعْتَـــهُ إِنَّ المُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ يُطِيعُ
3 ـ لا يخفى على الله شيءٌ فاحذر أن تعصيه:
إذاً : ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٌ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ﴾ وأنت في غرفتك، والنافذة مفتوحة، خرجت الجارة في البيت المقابل إلى الشرفة، وعليها ثيابٌ خفيفة، وأنت تراها، ولا أحد يراك أنك تراها، فإذا غضضت بصرك عن محارم الله معنى ذلك أنك تعلم أن الله يعلم.
مَثَل آخر: طبيب يعالج امرأةً، ينظر إلى موضع المرض، فإذا اختلس نظرةً إلى مكانٍ آخر، ليس في الأرض كلها جهة تستطيع أن تضبط مخالفته، امرأة ممدّدة أمامه يعالجها، شكت له من مكان، فنظر إلى مكان، مَن الذي يطلع عليه؟ الله جل جلاله
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19)﴾
ما تقوله، وما لا تقوله، ما تعلنه، وما لا تعلنه، ما توهم الناس به، وما لا توهم الناس به، في علمه.
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46)﴾
﴿لِتَعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ﴾ خلق الكون كله ﴿لِتَعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًۢا﴾ اختار من بين كل أسمائه كله اسمين؛ اسم القدير واسم العليم، هذا كلامٌ دقيق، حينما توقن أن علمه يطولك، وأن قدرته تطولك فلا يمكن أن تعصي أمره.
4 ـ ابحث عن الإيمان الذي ينجيك:
سألني أخ: هؤلاء العصاة ما بالهم، هم مؤمنون؟ قلت له: تصور دائرة كبيرة جداً، كل مَن قال ولو بلسانه: الله خلق السماوات والأرض فهو داخل الدائرة، وقد يكون زانياً، وقد يكون شارب خمر، وقد يكون آكل مالٍ حرام، وقد يكون معتدياً، كل إنسان أقرّ أن لهذا الكون إلهاً فهو ضمن الدائرة، لكن هذا الإيمان لا ينجِّي صاحبه إطلاقاً.
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ۚ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(25)﴾
وضمن هذه الدائرة الكبيرة دائرةٌ أصغر منها، مَن بداخلها مستقيمون على أمر الله، مَن بداخلها ناجون، هؤلاء حَمَلهم إيمانهم على طاعة الله، الدائرة الكبرى؛ كل من أقر بوجود الله فهو مؤمن، خارج الدائرة؛ كل مَن أنكر وجود الله، هؤلاء الملحدون خارج هذه الدائرة، لكن داخل هذه الدائرة مَن أقر بوجود الله فهو مؤمن، لكن إيمانه لا ينجيه لا من عذاب الدنيا، ولا من عذاب الآخرة، وهذا شأن عامَّة المسلمين؛ لا يقيمون الإسلام في بيوتهم، قد يكون دخلهم حرامًا، وإنفاقهم حرامًا، لا يتورعون، يختلطون، يفعلون ما يحلو لهم، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأماني. ))
أما مَن في الدائرة الثانية فهؤلاء الملتزمون، هؤلاء الوَقَّافون عند حدود الله، هؤلاء الذين طبّقوا منهج الله، هؤلاء الذين التزموا، هؤلاء نفعهم إيمانهم، هؤلاء حملهم إيمانهم على أن يستقيموا، أين يقع إبليس؟ ضمن الدائرة الكبيرة، ألم يقل:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾
آمن به رباً، وآمن به عزيزاً، ألم يقل :
﴿ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍۢ(76)﴾
آمن به خالقاً، ألم يقل:
﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِىٓ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ(79)﴾
آمن باليوم الآخر، لكن إيمانه ما قدَّم ولا أخَّر، فمن كان ضمن الدائرة الثانية فهؤلاء الذين نفعهم إيمانهم، وحملهم على طاعة الله، ومركز هذه الدائرة هم الأنبياء المعصومون، فثمة إنسان خارج الدائرة الكبرى، هذا ملحد، ضمن الدائرة الكبرى، هذا مؤمن، وقد لا ينجو، ضمن الدائرة الصغرى، مؤمن مستقيم، أما في المركز فهم الأنبياء المعصومون.
إذاً: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٌ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ﴾ أناس كثيرون يتحدثون، ويقولون شيئاً لا يؤمنون به؛ لمصلحةٍ، أو لخطة، أو لخُبث، أو لخديعة، الله عز وجل يعلم سركم وجهركم، وقد ورد عند بعض علماء القلوب: "القلب منظر الرب" ، أي لا تجعل الله أهون الناظرين إليك، إن الله ينظر إلى قلوبكم، إن الله مطلع عليك، أما يستحي الإنسان أن يتآمر على أخيه، كفى بها خيانة أن تحدث أخاك بحديث هو لك به مصدق، وأنت له به كاذب.
القلب فيه غش أحياناً، فيه مكر، فيه خداع، فيه مؤامرة، فيه احتقار، فيه كِبر، فيه استعلاء، من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر هذا هالك، مثقال ذرة.
أنا كنت أضرب هذا المثل: عندك كيلو لبن، وجاءك خمسة وعشرون ضيفًا، يمكن أن تضيف على هذا الكيلو خمسة كيلوات من الماء، وأن تقدمه شرابًا، أما إذا وضعت قطرة نفط واحدة فهل بإمكانك أن تشربه؟ قطرة نفط واحدة تفسد هذا اللبن، بينما خمسة أمثاله ماء لا يفسد، يُمَدَّد، لذلك الكبر خطير جداً، أساساً هناك معصيتان؛ معصية الغلبة، ومعصية الكبر، معصية الغلبة يسهل أن تتوب منها، ولكن معصية الكبر يصعب أن تتوب منها، هذه معصية إبليس.
﴿ قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُۥ مِن صَلْصَٰلٍۢ مِّنْ حَمَإٍۢ مَّسْنُونٍۢ(33)﴾
أما الإنسان أحياناً يُغلب، فيستغفر، فيجد الله تواباً رحيماً.
إذاً:
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٌ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ (5) هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ (6)﴾
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء
1 ـ هذا ما يحدث في اللقاء الزوجي:
في اللقاء الزوجي خمسمائة مليون حوين، تحتاج البويضة إلى حوين واحد، وهناك آلية دقيقة جداً، الحوين في رأسه مادة نبيلة، هذه المادة النبيلة مغلَّفة بغشاء رقيق، فإذا اصطدم بجدار البويضة، تمزق الغشاء، المادة النبيلة تستطيع أن تذيب جدار البويضة فيدخل، فإذا دخل إلى البويضة أُغلِق الباب، واكتفت البويضة بزوجٍ واحد، يجري الانقسام الآن؛ من المبيض إلى الرحم تنقسم البويضة الملقحة إلى عشرة آلاف جزيء، وفي الرحم تُغْرَس، وتبدأ بالنمو.
لكن هذه النطفة فيها مورِّثات، بعضهم قال: خمسة آلاف مليون، سمعت أنها مليون، على كلٍ ليس أقلّ من مليون، هذا الذي أقوله لكم هو شُغل العالم اليوم، الهندسة الوراثية، فكل شيء أنت فيه مُصمم من قبل؛ الطول، اللون، خدٌّ أسيل، عينان زرقاوان، شعر أسود، شعر أشقر، قامة طويلة مديدة، شامةٌ على الخد، أي كل تفاصيل الخلق، كلها تنفيذ لبرنامج، هذه المورثات، لو سلمنا أنها مليون مورث، فحتى الآن عرفوا ثمانمائة مورِّث، هذه تسهم في تفاصيل حياة الإنسان.
حدثني أخ كريم فقال لي: جاءني بنتان توءمان من بويضة واحدة، وكل بنتٍ لها طبع، الأولى حادَّة المزاج، والثانية هادئة جداً، ومن بويضة واحدة.
2 ـ علم الأجِنَّة وحده أكبر دليل على عظمة الله:
﴿هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ﴾ والله يا أيها الإخوة الكرام، علم الأجِنَّة وحده أكبر دليل على عظمة الله، علم الأجنة؛ تطوّر الخلق، مِن مضغة إلى علقة إلى عظم، ثم يُكسا العظم لحماً.
دخل طبيب أستاذ علم الأجنة في جامعة أكسفورد، له كتاب يعد عند الدارسين إنجيل الأجِنَّة، كتاب قيّم، مترجم إلى معظم اللغات، يُدرَّس في كل الجامعات تقريباً، فقال هذا الطبيب لتلاميذه: معي حقيقة ناصعة كشفتها اليوم، تعد ثورةً في علم الأجنة، ما هذه الحقيقة؟ أنه اكتشف أن العظام تُشَكَّل أولاً، ثم تُكسا لحماً، وهو قبل عشرين عامًا سابقة كان يعتقد أن العظام تلي تخلُّق العضلات، فقام طالب مسلم في هذه الجامعة فقال: هذه حقيقة في كتاب المسلمين، فالأستاذ صُعِق، ولم يصدق، في اليوم التالي جاءه بالقرآن الكريم مع تفسيره، أطلعه على الآية:
﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَٰمًا فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَٰمَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَٰهُ خَلْقًا ءَاخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَٰلِقِينَ (14)﴾
إن قضية تشكل الجنين في الرحم، والأطوار التي يمر بها؛ من مضغة إلى علقةٍ إلى نطفة مُخَلقة وغير مخلقة، إلى عظمٍ إلى لحمٍ إلى أجهزةٍ إلى دماغ، شيء لا يصدق، قبل تسعة أشهر نقطة ماء، بعد تسعة أشهر يصبح طفلاً يأكل، ويشرب، ويتحرك، ويرى، ويسمع، وينام، وفيه دماغ، وفيه أعصاب، ومعدة، وأمعاء، وقلب، وكبد، وأذنان، ولسان، هذا كله من خَلق الله عز وجل.
﴿هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾ إنسان طويل، وإنسان قصير، إنسان لونه فاتح، وإنسان لونه داكن، إنسان عصبي المزاج، وإنسان هادئ الطبع، إنسان يتَّقد ذكاءً، وإنسان محدود ﴿يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾ .
العزيز: الذي لا يُنال جانبه كما قلت في درس سابق: يندر وجوده إن كان العزيز شيئاً من خلق الله، وإن كان اسماً لله فهو واحدٌ لا شريك له، إن كان صفةً لمخلوقات الله فهو يندر وجوده؛ والشيء العزيز تشتد الحاجة إليه، وإن كان اسماً لله فيحتاجه كل شيء في كل شيء، والعزيز إذا كان صفةً لغير الله فيصعب الوصول إليه، أما إذا كان اسماً لله فيستحيل أن تحيط به.
الحكيم: يضع كل شيء في مكانه الصحيح ، كل شيء وقع لو أنه وقع بخلاف ما وقع لكان نقصاً في حكمة الله، ولكان الله ملوماً، فليس في الإمكان أبدع مما كان.
ثم يقول الله عز وجل :
﴿ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٌ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ (7)﴾
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب
بعضهم قال: الآيات المُحكمات هي الآيات الواضحات، وبالتعبير الأصولي: هي الآيات قطعية الدلالة، لا تحتمل معنيَين، ومن رحمة الله بنا أن كل الآيات المتعلقة بسعادتنا أو شقائنا، الآيات المتعلقة بالأساسيات؛ شيء يعد فرضاً لسلامتنا وسعادتنا تغطيه آيات محكمة، وشيء إن فعلناه كان دماراً لنا في الدنيا والآخرة تغطيه آية محكمة، أي آية واضحة، آيةٌ قطعية الدلالة.
﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(38)﴾
﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ۚ فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ ۚ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَٰبًا مَّوْقُوتًا (103)﴾
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)﴾
أيةٌ قضية أساسيةٍ في سلامتنا وسعادتنا، وهي أساسية في دمارنا وشقائنا مغطاة بآية محكمة، أي آيةٌ واضحة الدلالة، قطعيّة المعنى، لا شك فيها، كأن نقول: أعطِ فلانا ألفاً وخمسمائة ليرة، لا تحتاج لمفسر، ولا موضح، ولا لإنسان تستشيره في المعنى: أعطِ فلانا ألفاً وخمسمائة ليرة، هذا نص واضح قطعي الدلالة، أما لو قلت لك: أعطِ فلاناً ألف درهمٍ ونصفه، هذه جملة متشابهة، يا ترى الضمير يعود على الألف، أي ألفا وخمسمائة درهم، أم يعود على الدرهم، ألف ونصف درهم؟ هذه متشابهة، فيمكن أن تُؤوَّل بألف وخمسمئة إذا أعدنا الضمير على الألف، ويمكن أن تُؤوَّل بألف ونصف درهم إذا أعدنا الضمير على الدرهم، هذه آية متشابهة أي ظنية الدلالة.
في حياتنا ثوابت ومتغيرات، فالثوابت ما تقوم عليه سعادتنا، وما يهددنا بالشقاء الدنيوي والأبدي، هذه ثوابت، فالإنسان أكل، ولم يطعم أمه التي أنجبته، من دون تعليم، من دون توجيه، من دون أن تستمع إلى خطبة عن بر الوالدين، هذا شيء تعرفه بالفطرة، ومغطى بنصٍ قطعي الدلالة، فكل جريمة تُهلِك الإنسان مُحرَّمة بنصٍ قطعي الدلالة، وهناك متغيرات، فالله عز وجل قال:
﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(56)﴾
﴿وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ﴾ يا رب، نؤتيها مالاً، أم نؤتيها طحيناً، أم نؤتيها تمراً، أم قمحاً، كيف نؤتيها؟ يحتمل أن تؤديها مالاً إذا كنت في المدينة، ويحتمل أن تؤديها قمحاً إذا كنت في الريف، القضايا المتغيِّرة، والمتغيرات تغطيها الآيات ظنية.
ولكنني أنا كإنسان حينما أصوغ نصاً ظني الدلالة، أنا أقصد معنىً واحدًا، ولكن عبارتي جاءت فضفاضة، أما إذا جاء خالق الأكوان في قرآنه بعبارة ظنية الدلالة، معنى ذلك أن الله أراد كل المعاني كي تغطي كل الظروف، وكل البيئات، وكل الحاجات، فإذا كان في النص طابع ظني فالله عز وجل أراد كل المعاني رحمةً بالخلق، وتغطية لكل المتغيرات في الحياة، أما إذا أراد معنى واحداً هذا لا يحتمل تأويلاً آخر.
إذاً: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٌ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ آيات الوجود، آيات الكمال، آيات الوحدانية، آيات المحرَّمات، آيات الفرائض، الآيات الأساسية التي تقوم عليها سعادتنا، والآيات التي إن خالفناها نشقى في الدنيا والآخرة محكمات، أما ندفع الزكاة مالاً، أم ندفعها طعاماً، هذه آية ظنية الدلالة، هنا مجال اجتهاد المجتهدين.
3 ـ معنى آخر للآيات المحكمات:
معنى آخر: أن الآيات المحكمات هن الآيات التي تعدُّ أصول الكتاب، وأن الآيات المتشابهات هي الآيات التي تعد فروعاً للكتاب، هناك أصول وفروع، وكل آية متشابهة ينبغي أن تُرَّد إلى آية محكمة، أرجو الله عز وجل أن يمكنني من توضيح هذه الحقيقة.
أنا أقول: الخبز مادة خطيرة، كلمة خطيرة هل تعني قنبلة تنفجر، أما أنها مادة أساسية؟ الخبز مادة خطيرة، القمح مادة خطيرة في حياة الإنسان، ثم أقول بعد حين: القمح مادة أساسية، أساسية محكمة، خطيرة متشابهة.
الآيات المتشابهة مهما كثرت تحمل على الآيات المحكمة مهما قلَّت:
القاعدة الأصولية أن كل آيةٍ متشابهةٍ، أو أن الآيات المتشابهة مهما كثرت تُحمَل على الآيات المحكمة مهما قلَّت، هذه قاعدة أساسية.
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ(148)﴾
هذه الآية أصل، وواضحة، ومحكمة في أن الإنسان مخير لا مسير، تأتي آية ثانية:
﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَلَتُسْـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(93)﴾
فالآيات المتشابهات مهما كثرت تُحمَل على الآيات المحكمة مهما قلَّت، هذه قاعدة أصولية، لذلك إذا قلت: الله عز وجل أضل فلاناً، الله لا يضل، هذا هو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، قياساً على قوله تعالى:
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ يَٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ(5)﴾
إذاً: المحكمات؛ الواضحات، قطعيات الدلالة، اللواتي تغطي أساسيات الحياة، والثوابت في الحياة الإنسانية، والمتشابهات؛ الآيات ظنية الدلالة، تشبه الحق من جانب، والباطل من جانب.
مثلاً:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَىٰهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ(13)﴾
نعود للمثل السابق: كلفتُ إنساناً أن يعطي فقيراً ألف درهماً ونصفه، كيف يؤوِّل النص؟ ألف ونصف درهم، هذه لأن الهاء تعود على الدرهم، كأن ثمة امتحاناً؛ إذا كان كريماً يعيدها على الألف، فيعطيه ألفاً وخمسمائة، وإن كان بخيلاً يعيدها على الدرهم، فيعطيه ألفاً ونصف درهم.
﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ﴾
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضْعَٰفًا مُّضَٰعَفَةً ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(130)﴾
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَة
النهي على الأضعاف المضاعفة، أما لو أكلناها بنسبٍ قليلة فلا شيء علينا، برّر لنفسه أكل الربا.
"النظرة الأولى لك -ولكنه ظل ساعة في النظرة الأولى- والثانية عليك" فجعل الأولى ساعة.
فدائماً :
﴿ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ(41)﴾
الله لم يمكّننا، إذاً لا نقيم الصلاة، فهناك تأويلات مضحكة.
﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ﴾ فُتِنوا بالدنيا، فأرادوا مخلَصاً لشهواتهم من بعض النصوص، وكثيراً هي الكُتُب التي تؤلَّف حديثاً تحت اسم: قراءة معاصرة في القرآن الكريم، التي تخفف على الناس التكاليف ابتغاء الفتنة.
﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ﴾ النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( مَن أَكَلَ مِن هذِهِ الشَّجرةِ -قالَ: أوَّلَ يومٍ (الثُّومِ) ثمَّ قالَ: الثُّومِ والبصلِ والكرَّاثِ- فلا يقربنا في مساجدنا؛ فإنَّ الملائِكَةَ تتأذَّى ممَّا يتأذَّى منهُ الإنسُ. ))
هل تصدقون أنه في بعض البلاد حتى يتخفف من صلاة الجمعة يأكل سناً من الثوم؟ ما دام قد أكل من هذه الشجرة فينبغي ألا يقرب مصلانا، ما خطر في بال النبي أن واحداً من أمته بعد حين سيفهم هذا الحديث: أي أن يُعفى من صلاة الجمعة، فالإنسان المنحرف يعمل في التأويل، يغيِّر، ويبدل، ويؤول كي يجر التغطية الشرعية الموهومة إلى انحرافاته، هذه قاعدة.
﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦ﴾ ما معنى التأويل؟ العلماء فرقوا بين التفسير والتأويل، الإنسان حينما يخطر في باله فكرة يعبِّر عنها، فأن تعيد النص إلى أصله الفكري هذا تأويل، فالله عز وجل قال: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَىٰهَا﴾ لكن الله عز وجل خلقك مخيراً، حَمَّلَكَ الأمانة، هيَّأ لك سعادة أبدية، خلقك لجنة عرضها السماوات والأرض، لو شاء أن يجبرك على الهدى لأجبرك، لكن عندئذٍ لا تسعد، لو أنني مجبر أحداً على شيء لمَا أجبرتكم إلا على الهدى، ولكن الهدى القسري لا يُسعِد ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَىٰهَا﴾ تعني هذه الآية: أن الله لو أراد أن يجعل كل العباد المؤمنين إيماناً قسرياً لفعل، الآن هناك بلاد تفرض استقامة قسرية عن طريق المراقبة، تدخل إلى سوق كبير جداً فيه بضاعة ألوف الملايين، خمسة موظفين على الباب، أية سلعة إن لم تدفع ثمنها تعطِ صوتاً، فمن هو المستقيم إذاً؟ في بلاد كثيرة مع التطور التكنولوجي أُجبِر الإنسان على الاستقامة، لكن هذه الاستقامة التي أُجبر عليها لا قيمة لها إطلاقاً، ولا ترقى بالإنسان، كما أنها لا تُسعده، فالآيات المحكمات تغطي الثوابت في الإنسان، والمتشابهات تغطي المتغيرات.
الذين في قلوبهم مرضٌ يتبعون المتشابه:
لكن المنافقين ومَن كان في قلبه مرضٌ ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦ﴾ يقول لك أحدهم: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ الله لم يكتب لي الهداية، الله عز وجل هداك، ينتظر أن تستجيب له، أما كلمة: ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ فلها معنى آخر في آيات أخرى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلْأَذَىٰ كَٱلَّذِى يُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ ۖ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُۥ وَابِلٌ فَتَرَكَهُۥ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَىْءٍۢ مِّمَّا كَسَبُواْ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَٰفِرِينَ (264)﴾
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِى حَآجَّ إِبْرَٰهمَ فِى رَبِّهِۦٓ أَنْ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَٰهِمُ رَبِّىَ ٱلَّذِى يُحْىِۦ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحْىِۦ وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَٰهِمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِى بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِى كَفَرَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ (258)﴾
لا يهدي الكاذبين، لا يهدي الضالين، فالله أوجز بمكان، وفصّل بمكان.
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه
﴿وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ﴾ هنا شيء ثان لابد من ذكره، من معاني الآيات المحكمات والمتشابهات: القرآن كله آيات محكمات إلا بعض الآيات التي لا تزيد على عدد أصابع اليد، هذه الآيات متعلقةٌ بذات الله.
﴿ وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(22)﴾
أين كان؟
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ ٱلْأَمْرَ ۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعْدِ إِذْنِهِۦ ۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(54)﴾
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(10)﴾
﴿ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِىٓ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُۥ فَقَدْ عَلِمْتَهُۥ ۚ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلَآ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلْغُيُوبِ(116)﴾
﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ ۘ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُۥ ۚ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(88)﴾
وجه، نفس، يد، سمع، بصر، جاء، بِضع آيات لا تزيد على عدد أصابع اليد، سمّاها العلماء آيات متشابهات، هذه متعلقة بذات الله، أكمل موقف أن نوكل أمر معناها إلى الله، عشر آيات ليس أكثر، وبعضهم أوَّلها تأويلاً يتناسب مع كمال الله، فقالوا:
﴿وَجَآءَ رَبُّكَ﴾ أي جاء أمره .
﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ أي قدرته .
﴿ فَمَنۢ بَدَّلَهُۥ بَعْدَمَا سَمِعَهُۥ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُۥٓ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)﴾
أي علمه.
وجهه: ذاته، نفسه: ذاته...إلخ، فالآيات المحدودة المتعلقة بذات الله يمكن أن تُسمى آيات متشابهات، فإذا لم نُؤوِّلها واكتفينا وفوضنا إلى الله تأويلها نكون قد سلمنا، وإذا اجتهدنا بتأويلٍ يليق بكمال الله نكون قد وُفِّقنا، أما أن نشبِّه الله عز وجل ببعض خلقه، فهذا كلامٌ غير مقبول، إما الذين أنكروها ضلوا، والذين جسَّدوها ضلوا، ولكن الذين فوَّضوها كانوا أكمل الناس، هذا معنى آخر للمحكمات والمتشابهات.
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم
﴿وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ﴾ إذا الآيات محكمات ﴿إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ﴾ نقف عند العلم.
1 ـ الوقف عند لفظ الجلالة ( الله ) أو لفظ ( العلم ) كلاهما صحيح:
أما إن كانت الآيات متشابهات متعلقة بذات الله ﴿وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ﴾ نقف هنا، نقف عند كلمة ﴿ٱللَّهُۗ﴾ إن كان الآيات متعلقة بذات الله، ونقف عند كلمة ﴿وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ﴾ إذا كانت الآيات متعلقةً بالأحكام الشرعية، وقصص الأنبياء السابقين وما إلى ذلك، يقول هؤلاء العلماء الراسخون: ﴿يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ على كلٍّ أيها الإخوة، القرآن الكريم يحتاج إلى تقوى، لأن الله عز وجل يقول من بعض معاني هذه الآية:
﴿ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ(79) ﴾
2 ـ الفِرق الضالة تعتمد على المتشابهات:
فإذا كنت طاهر القلب، مُوَحّداً، مستقيماً، أعانك الله على فهم كلامه، وإلا فالمنحرف يقع في فتنة المتشابهات.
بالمناسبة ما من فرقةٍ ضالةٍ إلا اعتمدت على معنىً من معاني المتشابهات التي ما أرادها الله عز وجل، الآيات المتشابهات فيها نوع من الامتحان للإنسان، أما المؤمنون الصادقون فإنهم:
﴿ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٌ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ(7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)﴾
الملف مدقق