الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، وأفضل الصّلاة وأتم التسّليم على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة، هذا الكتاب (القرآن الكريم) نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالحق، والحق هو الشيء المستقر، ونقيضه الباطل، والحق الشيء الهادف، نقيضه العابث، والقرآن الكريم يفسِّر بعضه بعضاً، فالحق الشيء الثابت، المستقر، المستمر، والباطل الشيء الزائل، فالباطل نقيض الحق، والحق الشيء الهادف، فقد نؤسس جامعة، وأهداف الجامعة كبيرة جداً؛ تخرّج قادة للأمة، علماء، وقد نفتتح ملهى، والملهى مهمته ابتزاز أموال الناس، وجعلهم في أحطِّ ما يكون، فالشيء الثابت والذي له هدفٌ نبيل هو الحق، فإذا قال الله عزَّ وجل:
أي أن الحق لابَسَ خلق السماوات والأرض، وأن هذا الكون أوجده الله عزَّ وجل ليبقى، لكن:
لكن بعد الحياة الدنيا هناك جنةٍ إلى أبد الآبدين، وجهنَّم إلى أبد الآبدين، فإذا قلت: إن الله خلقني بالحق أي أنك خُلقت لتبقى، وما الموت إلا حالةٌ طارئة.
فالحق الشيء الثابت، والحق الشيء الهادف، له هدفٌ نبيل.
أما العَبَث فهو حركة بلا هدف، الذي يلعب بالنرد هذا عبث، ما فيه فائدة، بل هو تمضية وقتٍ، وشدّ أعصاب، فكل شيء لا هدف له، ولا جدوى منه، ولا يحقق شيئاً أساسياً في الحياة يقال له: عبث، واللعب عبث، فإذا قلنا: هذا الكتاب نزل بالحق، أي لابسَ الحقُّ نزولَه، فكتابٌ كما قال الله تعالى:
من عند خالق الأكوان، أي قطعي الثبوت، وهدفه هداية الخلق إلى الحق، هداية الخلق إلى سبل سلامتهم، وسبل سعادتهم، قال تعالى:
شيء لا يُصدَّق، كتابٌ بين يديك فيه منهجٌ كامل، والنبي شرحه بعشرات ألوف الأحاديث، فأنت معك كتابٌ هو وحي السماء من عند خالق الأكوان، ومعك شرحٌ لهذا الكتاب من قِبَل سيِّد وَلد آدم، فهذا الكتاب نزل بالحق، صحيح مئة بالمئة، حقائقه قطعية مئة بالمئة، أهدافه نبيلة جداً، وهناك كُتُب أخرى، وكلها من عند الله، إذاً لابد أن يصدِّق هذا الكتاب الكتب السابقة، قال تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ﴾ الآن الباطل زائل ولو كان أكبر قوة في العالم، قال تعالى:
[ سورة الإسراء ]
وهناك قوى كبيرة جداً في العالم تهاوت كبيت العنكبوت، لأنها باطل، الباطل عقيدةً وقوةً إلى زوال، لأن الله عزَّ وجل يقول: ﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ كل شيء باطل زائل، كل شيء غير صحيح لا يستمر، والعوام تعبِّر عن هذه الحقيقة بطريقةٍ خاصة، يقول لك: "لا يصح إلا الصحيح" ، أي لا يستمر إلا ما كان صحيحاً، وكل شيء وفق الكتاب والسنة مستمر، فالإسلام حق إذاً فهو مستمر، شامخٌ كالطود، أما كل الضلالات الأخرى أصبحت في الوحل، ولو كان أصحابها أقوياء؛ فقد كانت قريش قوية جداً، وقد عارضت الحق، لأن الله مع الحق، ولأن النبي على حق، هو الذي انتصر، وهم أصبحوا في مزبلة التاريخ، الذين عارضوا النبي؛ منهم أبو جهل، وأبو لهب، وصفوان بن أمية... إلخ.
البطولة أن تكون مع الحق لأنه دائم، وأن تكون مع الحق لأنه هادف، والحق يسمو بك، الحق ثابت يطمئنك.
3 ـ لا تعلِّق مصيرَك بجهة زائلة :
أحياناً الإنسان يكون مع شخص، ربط مصيره مع هذا الشخص، فإن أُزِيح من مكانه فَقَدَ كلَّ شيء، فالشخص زائل إذاً هو باطل، أما الإسلام فباقٍ، إذاً هو الحق، فالبطولة هي ألا تربط نفسك ومستقبلك ومصيرك بشيء زائل، ومن ميزات المؤمن أنه ربط نفسه ومصيره مع الله عزَّ وجل، والله حيٌ على الدوام، باقٍ حيٌ على الدوام، فكل إنسان ربط مصيره، ربط نفسه، أو حياته، أو مصيره بجهةٍ أرضيةٍ هو يغامر، ويقامر، فلو أن هذه الجهة الأرضية تزعزعت من مكانها، أو أزيحت من مكانها لَفَقَدَ كل شيء.
المؤمن يشعر بشعور لا يعلمه إلا من فَقَدَه، ومهما تقدَّمت بك السن، وكلما تطور العلمُ أكّدَ حقائق الدين، وأنت ما عندك مشكلة اهتزاز مبادئ، فإذا وجدت فرقاً بين حقائق العلم وحقائق الدين فهذا من تقصير العلم، وإذا وجدت خللا بين ما تقرأ في الكتب العلمية وآيات القرآن الكريم فلضعفِ العلم، أما إذا تقدَّم العلم جاء مطابقاً لما في الكتاب والسنة، فالمسلم ما عنده حالة اسمها أن يكتشف فجأةً أنه كان على باطل، أو أن هذا الذي اعتقد به غير صحيح، أو أن هذا الذي تعلَّق به زائل، المؤمن مع الله عزَّ وجل، وإذا كنت مع الله كان الله معك، وإذا كان الله معك حفظك، وأيَّدك، ونصرك، قال تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ﴾ .
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ
1 ـ التوراة والإنجيل قبل التحريف موافقتان للقرآن:
في هذين الكتابين اختلاف، لأن التوارة والإنجيل أصابها التحريف، أما في أصولها فمتوافقةٌ مع كتاب الله، لكن حينما بُدِّلت وحُوِّرت كان هناك تناقضٌ بينها وبين كتاب الله ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ*مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ .
2 ـ لا يترك الله عباده من غير دعوة وإرشاد:
ربنا عزَّ وجل لا يدع عباده من دون دعوات، من دون إرشادات، من دون بيِّنات، كأن الله عزَّ وجل تكفَّل بهداية الخلق، قال:
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12)﴾
كأن الله عزَّ وجل وصَّل القول لكل الناس، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(51)﴾
مستحيل تكون أبًا وابنك الصغير يتحرَّك حركة عشوائية في غرفة فيها مِدفأة دون أن تحذِّره، دون أن تبيِّن له، هذا مستحيل! رحمة الأب ليست بشيء أمام رحمة الله عزَّ وجل، الأب يرشد، يوجه، يحذر، ينذر، أحياناً يمسك بيد ابنه، ويبعده عن المدفأة، يتحرَّك، فربنا عزَّ وجل تولَّى هداية الخلق، وحيثما جاءت كلمة (على) مع لفظ الجلالة، معنى ذلك أن الله ألزم نفسه إلزاماً ذاتياً بهداية الخلق، قال: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ وترجمة هذه الهداية: أنه أنزل هذه الكتب على أنبيائه، أنزل الزبور، والتوراة، والإنجيل، والقرآن، القرآن وحده تولى حفظه، قال تعالى:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)﴾
لأنه هو المعجزة، نحن كتابنا هو المعجزة فلابد من حفظ هذه المعجزة، أما سيدنا عيسى فمعجزته إحياء الميت، وإبراء الأكمه والأبرص، سيدنا موسى معجزته العصا، وشق البحر، وما إلى ذلك، فالله عزَّ وجل ما تولى حفظ الكتابين السابقين، فأصابهما التحوير والتبديل لحكمةٍ أرادها.
3 ـ القرآن منهج الخالق الخبير فلابد من اتباعه:
﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ*مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ الفرقان إذا قرأته، واستوعبته، وفهمته، وتدبَّرته، بعد قراءته، واستيعابه، وفهمه، وتدبره، تفرِّق بين الحق والباطل، والخير والشر، والحلال والحرام، وما ينبغي وما لا ينبغي، وما يجوز وما لا يجوز، وما يُسعد وما يشقي، كيف أن شرب الماء فرضٌ على الجسم كي يبقى حياً، وكيف أن استنشاق الهواء فرضٌ على الجسم كي يبقى حياً، وكيف أن تناول الطعام فرضٌ على الجسم كي يبقى حياً، كذلك فرضٌ على النفس أن تستوعب هذا الكتاب لأنه منهجها، ولأنه سبيل سلامتها وسعادتها، ولأنه دستورها، ولأن فيه تِبْيان كل شيء.
عندما تجد آلة بالغة التعقيد وغالية جداً، وتجد معها كتاب تعليمات باللغة العربية، يصيبك سرور ما بعده سرور، تقرؤه بشغفٍ عجيب، لو اشتريت آلةً بالغة التعقيد، غالية الثمن، عظيمة النفع، مثلاً: هناك الآن كمبيوترات، حواسب يمكن أن تحلل الدم، تأخذ قطرة دمٍ، وتضغط على المفتاح، فيأتي سبعة وعشرون تحليلاً، فإذا أمرت بطبعها يطبعها، فإذا كان كل تحليل بثلاثة آلاف ليرة، وعندك مئة زبون واقفين، والعمل كله بكبسة زر، فهذا شيء مفيد جداً، هذا الحاسوب جاء بلا كتاب تعليمات، كتاب التعليمات أهم منه، لأنك لو استعملته بلا تعليمات الصانع أعطبته، وإن خفت على سلامته فلن تستعمله، وجمدت ثمنه، ألا ترى معي أن كتاب التعليمات أهم منه؟ لذلك قال تعالى:
﴿ الرَّحْمَنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2) خَلَقَ الإِنسَانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيَان(4)﴾
4 ـ لا معنى لوجود الإنسان من دون منهجٍ:
﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الإِنسَانَ﴾ ، أيعقل أن يُعَلَّم القرآن قبل أن يخلق؟ هكذا الترتيب، قال علماء التفسير: هذا ترتيبٌ رُتَبِيّ لا ترتيبٌ زمني، أي لا معنى لوجود الإنسان من دون القرآن، لا معنى لوجودك من دون منهج تسير عليه، فهذا الكتاب فيه الحلال وفيه الحرام، وفيه الخير وفيه الشر، فيه تعريف بالشر، وتعريف بالخير، والأمر والنهي، طريق السلامة، وطريق السعادة، آيات كونية، وآيات إخبارية، الأقوام السابقون، والمستقبل البعيد، والماضي السحيق، كله في القرآن الكريم، وجاء النبي وفسَّره تفسيراً رائعاً في أحاديثه الشريفة، فهذا شفاء، وهذا فرضٌ على كل إنسان أن يقرأه، وأن يفهمه.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٌ شَدِيدٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ﴾ .
1 ـ الكفر بآيات الله القرآنية والكونية والتكوينية:
طبعاً ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ﴾ الكونية، أو كفروا بآياته القرآنية، أي القرآن لم يعبأ به، اتخذه مهجوراً، لم يقرأه أبداً، ولم يسأل عمَّا به، أنتم لماذا هنا؟ من أجل أن تتعلموا شيئاً من كتاب الله، هذا عمل عظيم، وهذا عمل جليل، وهذا عمل يرقى بكم، فما من عملٍ أعظم في حياتنا من أن نفهم منهج ربنا، أنت اشتريت هذا الحاسوب من أجل أن ترتزق به، فأعظم عمل أن تقرأ تعليمات الصانع، كيف تستخدمه من أجل أن تربح، وأنت حينما تحضر درس علمٍ في تفسير كتاب الله، تقوم بأخطر عمل، لأنك تأتي إلى بيت الله كي تتعرَّف إلى أمر الله، ونهي الله، والحلال والحرام، والخير والشر، وما ينبغي وما لا ينبغي.
2 ـ الكفر بآيات الله يتبعه عقاب من الله:
فـ ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ﴾ إن المخلوق عنده شهوات، تحرك بدافع من شهواته من دون منهج، فأكل المال الحرام، فاستحق عقاب الله، أو اعتدى على عرض الناس، فاستحق عقاب الله، أو أساء إليهم، فاستحق عقاب الله، أي لهم عذاب شديد لأنهم تحركوا بلا منهج، فلو أن سيارة ثمنها خمسة وعشرون مليونًا من أرقى الأنواع، هذه مصممة لتقدِّم لك كل الخدمات، فيها وسائل راحة مذهلة، فيها وسائل أمان، لكن إنساناً قادها وهو مخمور، وخالف تعليمات الصانع، فنزل بالوادي، لأنه قادها مخموراً، وخالف تعليمات الصانع كانت هذه المركبة وبالاً عليه، فـ ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ﴾ شيء طبيعي جداً أنهم سوف يتحرَّكون بلا منهج، بلا أمر ونهي، لكن ما مشكلة الناس؟ يلتقي مع مَن يريد، ويحملق فيمَن يريد، ويأكل ما يريد، ويأخذ من المال ما يريد، لا ضوابط عنده، أي مالٍ سنح له أن يأخذه أخذه، أي منفعةٍ، أي لقاءٍ، أي جلسةٍ، أي حفلةٍ، فما عنده قيود إطلاقاً، فهذا الذي يتحرَّك بلا قيود، وبلا حدود، وبلا قيَم، وبلا هدف سوف يأكل ما ليس له، سوف يعتدي قولاً واحداً على أموال الناس، أو على أعراضهم، إذاً لابدَّ من أن يعاقبه الله عزَّ وجل.
3 ـ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
معنى العزيز والمنتقم :
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٌ شَدِيدٌۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ﴾ قال علماء التفسير: المنتقم هو الذي يردع عبده العاصي، عبد قوي مسترسل في معاصيه، يفعل ما يريد، ما معنى ينتقم الله منه؟ يوقفه عند حده رحمةً به، الله عزَّ وجل لا يُغلَب، ولا يُنال جانبه، فهو عزيز.
من أجمل ما قرأت عن العزيز: أنه الواحد الذي لا شريك له، ويستحيل أن تصل إليه، ويحتاجه كل شيءٍ في كل شيء، أدق عبارة: يحتاجه كل شيءٍ في كل شيء، ومستحيلٌ أن تصل إليه وصول إحاطة، فمن الممكن أن تصل إلى البحر، وتقف على الشاطئ، هذا وصول، أما أن تحيط بالبحر فهذا مستحيل، فتصل إلى بابه، تسأله، تدعوه، تتعرف إليه، أما أن تحيط به فهذا مستحيل، الله عزَّ وجل عزيزٌ ذو انتقام.
إذاً: ﴿نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ﴾ هذا القرآن ﴿بِٱلۡحَقِّ﴾ الحق هو الشيء الهادف والثابت، فلماذا هو ثابت؟ لأنه حق، لماذا هو حق؟ لأنه ثابت، ما معنى ثابت؟ كتابٌ ليس فيه إلا الحقائق، والحقيقة ثابتة، المعادن تتمدد بالحرارة هذا قانون، أينما ذهبت شرقاً أو غرباً، شمالاً أو جنوباً، إلى دولة متطورة جداً، أو إلى دولة متخلفة جداً هذا قانون ثابت، فإذا استوعبت هذا القانون فهو حق لأنه ثابت، أما هناك قانون يسعدك لو عرفته، فهو هذا هادف إذاً، ﴿ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ﴾ يعني أنه ثابت وهادف.
﴿ نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ (3) مِن قَبۡلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَۗ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٌ شَدِيدٌۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ (4) إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٌ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ (5)﴾
4 ـ الكافر لن يُترَك سدًى :
قبل أن أنتقل لهذه الآية، هذا الذي كفر بآيات الله لن يُترك سدى، لن يتفلّت من عقاب الله، لا يظن أنه سبق.
﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوٓاْ ۚ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ(59)﴾
ما معنى سبق؟ أي تفلَّت من عقاب الله، لا يمكن أن يتفلَّت عاصٍ من عقاب الله، إن عاجلاً أو آجلاً، فالكافر حينما يظن أنه سبق، وأنه فعل شيئاً ما أراده الله، وأنه تفلت من عقاب الله يكون أحمق، لا يمكن أن يفعل مخلوقٌ شيئاً إلا إذا سمح الله له، إذاً: ربنا عزَّ وجل سمح للكافر أن يفعل ما فعل، وهذا الكافر لن يتفلَّت من عقاب الله، إذاً: لن يسبق، توهم أنه سبق فهو لم يسبق، هنا تهديد مبطَّن ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ﴾ طبعاً لما كفروا، تحركوا وفق شهواتهم، والشهوات من دون حدود عدوان، إنسان أعجبته امرأةٌ فأغواها، اعتدى على مخلوق، لأنه أراد أن يلبي شهواته الرَعْناء، المنحرفة، فاعتدى على عرض فتاةٍ فعاقبه الله عزَّ وجل، وهذا تسلسل رائع، ما دام قد كفر بآيات الله، إذاً سوف يعتدي على خلق الله، ومع العدوان على خلق الله لابد من عقابٍ من الله عزَّ وجل.
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٌ شَدِيدٌۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ﴾ قويٌ لا يُغلَب ، منتقمٌ لا يُعارَض.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ
1 ـ علمُ الله متعلقٌ بكل شيء ، ومحيط بكل شيء:
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٌ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ﴾ تعلَّق علمه بكل ممكن، عَلِمَ ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، لا تخفى عليه خافية، قال تعالى:
﴿ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ(19)﴾
يعلم سرك ونجواك، ويعلم ما خفي عنك.
﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾
فـ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٌ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ﴾ .
2 ـ من الحماقة التفكير في مخادعة الله:
إذاً من الحُمْقِ أن تحاول أن تخدع الله، قال تعالى:
﴿ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا(142)﴾
﴿ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ(46)﴾
فالإنسان حينما يتوهم أنه يخدع الله عزَّ وجل، فهو غبيٌ أحمق، وحينما يتوهم أنه يخفي شيئاً لا يعلمه الله، فهو غبيٌ أحمق.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٌ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ (5) هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ (6)﴾
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء
1 ـ هذا هو خَلقُ الله للإنسان:
فهذا الحوين هو خلية لها غشاء، ولها هيولى، ولها نواة، وعلى النواة مورِّثات، وهناك من يقول هناك مليون مورث، وهناك من يقول: خمسة ملايين، وأنا قرأت أن هناك خمسة آلاف مليون، فكل مُورِّث أمر مبرمج لوقت معين.
﴿يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ﴾ هناك قدرات عقلية، وانفعالية، وشكلية، وعضلية، وعظمية، وعيون، وشعر، ووجه، فهناك خصائص كثيرة جداً للإنسان.
2 ـ الخالقُ المصوِّر هو الحكيمُ المتصرف في الكون:
﴿يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾ أي لا متصرف في الكون إلا الله، بالتالي لا معبود بحقٍ إلا الله، عزيزٌ حكيم، أي عزيزٌ لا يُنال جانبه، حكيمٌ كل أفعاله وفق حكمةٍ، لو لم تكن لكان الله ملوماً، أدق شرح لكلمة حكيم أن كل شيءٍ وقع أراده الله، وأن كل شيءٍ أراده الله وقع، وأن إرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، وأن حكمته المطلقة متعلقةٌ بالخير المطلق.
3 ـ لماذا لا يكون الإنسان حكيماً؟
الإنسان لماذا لا يكون حكيماً؟ لأنه قد يكون جاهلاً، فعدم الحكمة من عدم العلم، وأحياناً الإنسان لا يكون حكيماً، عليه ضغط شديد ففعل شيئاً ليس قانعاً به، ما كان حكيماً بهذه الكلمة، ما كان حكيماً بهذا الموقف، لأن عليه ضغطاً لا يقاوم، إذاً لم يكن حكيماً؛ إما لجهله، أو لضغطٍ عليه، وقد يفعل الإنسان شيئاً، وليس حكيماً بفعله، لأنه وقع تحت إغراء، فأغلب الظن أن الإنسان حينما لا يكون حكيماً؛ إما أنه بسبب جهله، أو ضغطٍ لا يقاوم، أو إغراءٍ لا يقاوم.
الله جل جلاله يستحيل في ذاته العلية إلا أن يكون عالما، ويستحيل أن هناك جهةً أخرى تطلب، أو شيئاً يغري، كل هذه المعاني التي يمكن للإنسان أن يتلبَّس بها مستحيلة على الله عزَّ وجل، إذاً هو حكيم، فكل شيء وقع لو لم يقع على النحو الذي وقع لكان الله ملوماً، كل شيء وقع لو لم يقع على النحو الذي يقع لكان نقصاً في حكمة الله عزَّ وجل، لذلك فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. ))
4 ـ هذه الحقيقة يسعد بها المسلم:
أيها الإخوة الكرام، المؤمن قد يسعد من حقيقةٍ قرآنية، فأول شيء حينما تعتقد أن الله لا يخفى عليه شيء، لا تحاول أبداً أن تخادعه، تتعامل معه تعاملاً واضحاً، وحينما توقن أنه هو القوي، وهو المنتقم، فأي معصيةٍ فعلتها، وأصررت عليها، لا يمكن أن تتفلَّت من عقاب الله، هذه حقائق تَضبِط، وكلما أيقنت بهذه الحقائق انضبطت على منهج الله.
أولاً: لا تخفى عليه خافية.
تروي بعض الكتب، أن إنسان طلب من شيخ له أن يسمح له بمعصية، قال له:
خمسة أشياء إن فعلتها لا تضرك معصية .
قال له: وما هي؟
قال له: اعصه في مكانٍ في غير بلاده.
قال له: الأرض كلها له.
قال له: أتعصيه في أرضه، والملك ملكه.
قال له: هات الثانية.
قال له: إن أردت أن تعصيه فاعصه في مكانٍ لا يراك فيه.
قال له: هو معكم أينما كنتم.
قال له: تسكن أرضه وتعصيه وهو يراك!
قال له: هات الثالثة.
قال له: إن أردت أن تعصيه فلا تأكل من رزقه.
قال له: وماذا آكل إذاً؟
قال له: تسكن أرضه، وتأكل رزقه، وتعصيه وهو يراك!
قال له: هات الرابعة.
قال له: إن أردت أن تعصيه وجاءك ملك الموت لا تذهب معه، ولا ترد عليه.
قال له: لا أستطيع.
قال له: تسكن أرضه، وتأكل رزقه، وتعصيه وهو يراك، ولا تستطيع أن ترد عنك ملك الموت؟
قال له: هات الخامسة .
قال له: إذا أردت أن تعصيه، وانتقلت إلى الدار الآخرة، وجاء الزبانية ليأخذوك إلى النار فلا تذهب معهم.
قال له: لا أستطيع.
قال له: تسكن أرضه، وتأكل رزقه، وتعصيه وهو يراك، ولا تقوى على رد ملك الموت ولا زبانية جهنم، فكيف يكون ذلك الأمر؟
فأنت لما توقن أنه يعلم كل حركاتك وسكناتك، ولا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وأن الأمر كله بيده؛ رزقك بيده، صحتك بيده، زواجك بيده، حواسك الخمس بيده، قلبك بيده، دسَّامات قلبك بيده، شرايين قلبك بيده، كليتاك بيده، كل جهازٍ مهما دق بيده، علاقاتك بيده، مَن فوقك بيده، مَن تحتك بيده، إن أيقنت أن الأمر كله بيده ينبغي أن تطيعه.
﴿لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾ أفعاله حكيمة، وهو عزيز، أي لا يُنَال جانبه، وذو انتقام، إذا أردت أن تفعل شيئاً لا يليق بك، ردعك وانتقم منك، انتقم منك، أي ردعك.
هذه الآيات وحدها ينبغي أن تحملنا على طاعة الله عزَّ وجل، وفي درسٍ قادم إن شاء الله ننتقل إلى قوله تعالى:
﴿ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٌ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ (7)﴾
الملف مدقق