الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الأول من سورة آل عمران، وقد وَرد عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدهم قال: "كان الرَّجُلُ إذا قرأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا- يعني: عظُمَ- وفي رواية: يُعَدُّ فينا عَظيمًا، وفي أخرى: عُدَّ فينا ذا شأنٍ" .
من قول أنس رضي الله عنه
والبقرة وآل عمران الزهراوان في القرآن الكريم.
في هذه السورة مقدمةٌ دقيقةٌ جداً، الآية الأولى:
1-المعنى الأول : الحروف المقطّعة من إعجاز القرآن :
سبق أن شرحت هذه الحروف مراتٍ عديدة، ولكن للتذكير، من هذه الحروف نُظِمَ القرآن الكريم، والقرآن الكريم تحدَّى الله الأمة العربية به.
﴿ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلْإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِۦ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍۢ ظَهِيرًا (88)﴾
من حروفٍ معروفةٍ عند كل مَن ينطق العربية، ولكن هذا النَظم نظمٌ مُعْجِز؛ هناك إعجازٌ في نظمه، هناك إعجازٌ في بلاغته، هناك إعجازٌ في حقائقه العلميّة، فقد ذكرت اليوم في خطبة الجمعة أن الله عزَّ وجل حينما قال:
﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ(1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ(2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ(3)﴾
علماء التفسير فيما سبق فهموا هذه الآية أن هذا النجم ضوءُه شديد يثقب الفضاء الذي بعده، نجمٌ ثاقب، أي ضوءٌ كَشَّاف، ضوءٌ مديد، وأحجموا جميعاً عن معنى ﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ﴾ ما معنى كلمة ﴿وَالطَّارِقِ﴾ ؟ وذكرت -من باب الإعجاز- أن القرآن الكريم ذكر حقائق، والنبي عليه الصلاة والسلام أحجم عن تفسيرها لحكمةٍ بالغةٍ بالغة، لو أنه فسَّرها تفسيراً بحسب البيئة التي عاشها لأنكرنا عليه، ولو فسَّرها تفسيراً بحسب رؤيته؛ لأن الله أراه ملكوت السماوات والأرض لأنكر عليه أصحابه، ولكن الحكمة التي اتبعها أنه تركها بلا تفسير، فكلما تقدَّم العلم كشف جانباً من عظمة هذه الآية.
إذاً: كتابنا الكريم معجزةٌ مستمرَّة، بينما معجزات الأنبياء السابقين كعود الثقاب تتألَّق مرةً واحدة ثم تنطفئ، وتبقى خبراً يصدقها مَن يصدقها، ويكذّبها مَن يكذبها، بينما القرآن الكريم معجزةٌ مستمرَّة، فكلَّما تقدَّم العلم كشف جانباً من إعجاز القرآن الكريم.
النجوم حينما تهرم تنكمش، وتصبح حركتها إلى الداخل، وتتحد الإلكترونات مع النيترونات، وتشكل وحدةً مندمجة تلغي الفراغات البينيَّة، فيمكن أن تصبح الأرض بحجم البيضة بالوزن نفسه، فلو وضعت كرةً من الحديد فوق سائلٍ هُلامي لثقبت، فقال علماء الفلك: لو أن هذا النجم الثاقب، أي النجم المُنكمش الذي أصبح حجمه صغيراً ووزنه كبيراً وضع على الأرض لخرج من طرفها الآخر من شدة كثافته، إن هذا النجم فيه أعلى كثافة على الإطلاق، يثقب كل شيء.
وأما﴿وَالطَّارِقِ﴾ فهناك محطات تلسكوبات لاسلكية تكتشف الموجات التي تصدرها هذه النجوم، إنها وَمضَات تواتُرها يتوافق مع عمرها، فهذه الحقائق اكتُشِفت حديثاً، تأتي مطابقةً تماماً لما في القرآن الكريم، هذا القرآن بنظمه المعجز.
﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ﴾ هذا النجم يرسل هذه الومضات بشكلٍ نوبي ومتواتر، وكلَّما ارتفع التواتر كان العمر قليلاً، وكلما ضعف التواتر كان العمر طويلاً، ثم إن هذا النجم له كثافة تحيِّر العقول، يمكن إذا دخلت الأرض في ثقبٍ أسود أن يغدو حجمها كحجم البيضة بالوزن نفسه، تصور خمس قارات لا تساوي خُمس الأرض، خُمس سطحها، والأربعة أخماس بحار، وأعلى ارتفاع على سطح البحر، وأخفض نقطة في البحر لا تساوي إلا سنتيمترًا نحو الأعلى، وسنتيمترًا نحو الأسفل في كرةٍ قطرها متر، إذاً فما وزن الأرض في باطنها؟ كل هذا الوزن يُضغَط في كرةٍ لا تزيد على حجم البيضة، فهذا النجم الثاقب إذا وُضِع فوق أيَّة كتلةٍ ثقبها، وانتقل إلى الطرف الآخر، أي أعلى وزن نوعيّ في الكون، وفضلاً عن ذلك فهو يصدر ومضاتٍ متواترة.
لعل هذه الحقائق الفلكية تبيِّن عظمة هذا القرآن الكريم، الإعجاز العلمي لا ينتهي، لو طرقنا هذا الباب لا ينتهي هذا الباب ولا في ساعاتٍ طويلة، وأية كلمةٍ في القرآن تعني إعجازاً علمياً، هناك إعجاز بلاغي، هناك إعجاز في النظم، هناك إعجاز تاريخي، إخباري، فربنا عزَّ وجل من حروفٍ نعرفها، من حروفٍ نألفها، من حروفٍ ننطق بها، من مثل هذه الحروف، هذا مما فسَّره بعض المفسِّرين.
2-المعنى الثاني : هذه الحروف أوائل لأسماء الله الحسنى:
هناك معنىً آخر هو: أن هذه الحروف أوائل لأسماء الله الحسنى.
3-المعنى الثالث : هذه الحروف أوائل لأسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وهناك مَن فسرها أنها أوائل لأسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4-المعنى الرابع : هذه الحروف الله أعلم بمرادها:
وهناك مَن قال: الله أعلم بمرادها، والقرآن حمَّال أوجه.
﴿ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ (2)﴾
نعم للتوحيد ، لا لإيمانِ إبليس !!!
النقطة الدقيقة أيها الإخوة أن إيمان الإنسان بأن الله خالق الأكوان هذا الإيمان لا يقدِّم ولا يؤخِّر، ألم يقل إبليس:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾
ألم يؤمن به رباً؟ ألم يؤمن به عزيزاً؟ ألم يقل: خلقتني؟ ألم يؤمن به خالقاً؟ ألم يقل:
﴿ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)﴾
ألم يؤمن بالآخرة؟ ولكن ما هو الإيمان المُنجي؟ هو الإيمان التوحيدي، هو التوحيد، و"ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد"، التوحيد ألّا ترى مع الله أحداً، قد تقول: إن الله خلق الأكوان، ثم ترى معه آلاف الشركاء، ومعظم الناس اليوم يرون هذه القِوى العظمى، قوى صانعة القرار، تفعل ما تريد، تقهر الشعوب، تدمّر المدن، تستلب الأراضي، تُعَسْكِر على منابع النفط، قِوى كبيرة جداً، ولكن الإيمان التوحيدي ألّا ترى مع الله أحداً.
قال تعالى:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(10)﴾
قال تعالى:
﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِىَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَآءً حَسَنًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(17)﴾
قال تعالى:
﴿ قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ۖ لَهُۥ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِۦ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِۦٓ أَحَدًا (26)﴾
قال تعالى:
﴿ وَهُوَ ٱلَّذِى فِى ٱلسَّمَآءِ إِلَٰهٌ وَفِى ٱلْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ(84)﴾
قال تعالى:
﴿ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾
متى يستقيم الإنسان؟ إذا آمن بأنه لا إله إلا الله؛ ولا معطي، ولا مانع، ولا معزَّ، ولا مذلَّ، ولا رافع، ولا خافض إلا الله، متى تستقيم على أمره؟ إن رأيته وحده فعَّالاً، إن رأيته وحده ناصراً، إن رأيته وحده مُنَجِّياً فقط، لكن قد تؤمن أن الله خلق الأكوان، وأنت تتوهم أن معه آلاف الشركاء، هذا هو الشرك.
قال تعالى:
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106)﴾
فالذي ينجينا ليس أن نؤمن أن الله خلق الأكوان، هذا إيمانٌ آمن به إبليس، ولكن الذي ينجينا ويحملنا على طاعته، ويجعلنا نتوجه إليه وحده، ونرجوه وحده، ونخافه وحده، ونعقد عليه الآمال وحده، ونستقيم على أمره وحده، الذي يعيننا على ألا نخاف في الله لومة لائم، الذي يعيننا على ألا ننافق، أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، المؤمن ليس مقهوراً، بينما أيّ إنسانٍ متلبسٍ بالشرك الخفي مقهورٌ، وأيما قهر! يكفيك أن ترى عدواً لك متمكناً منك، وسوف يدمرك، هذه تكفي، هذه وحدها تسبب أعظمَ الأمراض، المؤمن ليس مقهوراً؛ لأنه يرى أن الأمر كله بيد الله، وأن الله لا يُعقَل أن يأمرك أن تعبده وقد أوكل أمرك إلى غيره.
قال تعالى:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
لذلك قالوا: "نهاية العلم التوحيد، ونهاية العمل التقوى" ، بل إن دعوة الأنبياء جميعاً من دون استثناء حول التوحيد.
قال تعالى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)﴾
لا إله إلا أنا، ما من معصيةٍ تُقترَف إلا بسبب ضعف التوحيد، وما من تقصيرٍ يكون إلا بسبب ضعف التوحيد، وما من دخلٍ مشبوه يأخذه الإنسان إلا بسبب ضعف التوحيد، وما من نفاقٍ يكون من الإنسان إلا بسب ضعف التوحيد، وضعف التوحيد وراء كل مشكلاتنا، بل إن كل مشكلاتنا ما هي إلا أعراضٌ لمرضٍ واحد إنما هو ضعف التوحيد.
اللهُ لاَ إلَهَ إِلاَّ هُو
1 ـ ( اللهُ ) علَمٌ على الذات العلية :
لذلك: ﴿اللهُ﴾ علمٌ على الذات، أسماء الله كلها حُسنى، وصفاته كلها فضلى جُمِعَت في كلمة ﴿اللهُ﴾ فإذا قلت: الله فهو علمٌ على الذات، إذا قلت: الله، أي هو الإله الذي لا إله إلا هو.
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ الآن دقق؛ المتصرِّف هو الله، والله عزَّ وجل كامل، القابض، الباسط، المعطي، المانع، المعز، المذل، المانح، كل أفعاله صادرةٌ عن كماله، فعلى الإنسان أن يَعقِلَ معنى ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ .
الشرك أساس الأمراض النفسية:
دقق عندما تكون في عمل، ولك مدير عام، مدير مؤسسة، مدير مستشفى، مدير ثانوية..إلخ، وينتقل، تسأل سؤالين دقيقين: من الذي سيأتي بعده؟ يقال لك: فلان، تقول: كيف هو؟ يهمُّك مَن هو أولاً؟ وكيف هو ثانياً؟ نحن ماذا نقول في أوراد الفجر؟ "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيءٍ قدير" لو أن المسلم عقل هذه الكلمات عقلاً، واستوعبها استيعاباً، وأدركها إدراكاً، لكان في سعادةٍ ما بعدها سعادة، أساساً تِسعون في المئة من الأمراض الوبيلة التي يعاني منها الإنسان -ولاسيما في هذا العصر- مردُّها إلى الشدة النفسية، والشدة النفسية وراءها الشرك، والدليل أن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ(213) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ(214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ(215)﴾
أحد أكبر مصادر العذاب النفسي، والشقاء النفسي الضَجَر، القلق، الخوف المدمِّر، اليأس القاتل، الانهيار، الخنوع، أحد أكبر أسباب العذاب النفسي هو الشرك، وقد قالوا: "الشرك أخفى من دبيب النملة السمراء على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على جور، أو أن تبغض على عدل" .
أي شخص تنتفع منه، له انحرافٌ طفيف، تغض البصر عن انحرافه لأنك منتفعٌ منه، هذا نوعٌ من أنواع الشرك، وإنسان وجَّه لك النصيحة وهو محق، وأنت مخطئ، لكن أخذتك العزة بالإثم فحطَّمته، هذا نوعٌ من أنواع الشرك الخفي، وكما قال عليه الصلاة والسلام:
(( إن أخوف ما أتخوف على أمتي، الإشراك بالله، أما إني لست أقول يعبدون شمساً، ولا قمراً، ولا وثناً، ولكن أعمالاً لغير الله، وشهوة خفية. ))
[ ابن ماجه بسند ضعيف جداً. ]
أن يعبد المسلمون صنماً هذا أمرٌ انتهى، هذه مرحلةٌ ولَّت، الشيء المُعْلَن في العالم الإسلامي أنه لا إله إلا الله، أما الشيء الواقع أن هناك شركاً خفيًّا، وأحد أنواع هذا الشرك أن تتخذ هواك إلهاً تعبده من دون الله، فكل شيءٍ يَدْعَم هواك ترضى به ولو كان باطلاً، وكل شيءٍ يحول بينك وبين هواك ترفضه ولو كان حقاً، فهذا شرك، وهناك من يعبد هواه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ. ))
هناك مَن يبيع دينه بدريهمات، هناك مَن يعبد المال، هناك مَن يعبد بطنه، تعس عبد البطن.
هناك مَن يعبد فرجه (زير النساء) تعس عبد الفرج.
هناك مَن يعبد مظهره، لا يصلي العصر، لأنه يرتدي بذلة جديدة لا يحب أن تتأثَّر بالصلاةـ مثلاً هذا تعس عبد الخميصة .
مَن الذي سَعِد؟ هو عبد الله، وأنت حينما تعبد الله تكون في أعلى درجة وصلها إنسان.
قال تعالى:
﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى(9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11)﴾
كلَّما خضعت لله رفعك الله، كلما خضعت له أعزَّك الله، كلما التزمت بأمره وفَّقك الله، كلما أحببت أولياءه أحبَّك الله.
إخواننا الكرام، قضية أن تؤمن أن الله خالق الأكوان قضيةٌ مفروغٌ منها، لئن سألت عُبَّاد الأصنام: مَن خلق السماوات والأرض؟ ليقولن الله، ولكنهم يقولون في قوله تعالى:
﴿ أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ ۚ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىٰٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَٰذِبٌ كَفَّارٌ(3)﴾
الأصنام ﴿إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىٰٓ﴾ .
الإنسان ضعيف لابد له من جهة قوية يلجأ إليها:
إذاً: أن تؤمن أن الله خلق الأكوان هذا شيء لا يقدِّم ولا يؤخِّر، بل إن إبليس آمن هذا الإيمان، العبرة أن تؤمن أنه لا إله إلا الله، ليس في الكون جهةٌ تستحق أن تعبدها إلا الله، فإما أن تكون عبداً لله، وإما أن تكون عبداً لعبدٍ لئيم، لابدَّ من أن تكون عبداً لجهة، لماذا؟ لأن الله جبلك على أن تكون ضعيفاً.
قال تعالى:
﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا (28)﴾
هؤلاء الذين يعبدون النار في شرق آسيا، لماذا يعبدون النار؟ لأنهم يرونها آلهة تحميهم من المصائب، الذين عبدوا البقر، والذين عبدوا الشجر، والذين عبدوا الحجر، والذين عبدوا النار، والذين عبدوا الأقوياء؛ دون أن يشعر الإنسان يعبد القوي، يستسلم لأمره، ولو كان في معصية، يرجو ما عنده ولو كان على حساب دينه، هذا أيضاً عبادة، لأنك ضعيف ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ هذا الضعف أيها الإخوة، مركبٌ في جِبَّلتك لا دخل لك به، ليس نقيصةً فيك، هكذا شاء الله أن تكون ضعيفاً، لأن الله لو خلقك قوياً –دقق- لاستغنيت بقوتك عن الله عزَّ وجل فشقيت باستغنائك، خلقك ضعيفاً لتفتقر في ضعفك، فتسعد بافتقارك، خلقك ضعيفاً لتفتقر في ضعفك فتسعد بافتقارك، لو أن الله خلقك قوياً لاستغنيت بقوتك، فشقيت باستغنائك، هذا الضعف يحتاج إلى جهة قوية تلجأ إليها، والمسلم لجأ إلى خالق الأكوان، فلجوؤه صحيح، وغير المسلم لجأ لبقرة، لجأ لحجرة، لجأ لشمس، لجأ لقمر، لجأ لمظاهر الطبيعة، فحتى الذين عبدوا الأصنام، وعبدوا مظاهر الطبيعة، هم يعبرون بهذه العبادة عن ضعفهم.
﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ لابدَّ له من جهةٍ قويةٍ يركن إليها، ويحتمي بها، ويلجأ إليها، ويعتقد أنها تحميه، فالمسلم الذي عبد الله وحده، التجاؤه صحيح، تَمكُّنه صحيح، أما غير المسلم الذي يعتقد بغير الله فهو كالذي يرى سراباً يظنه ماءً.
قال تعالى:
﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعْمَٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍۢ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمْ يَجِدْهُ شَيْـًٔا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥ ۗ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ(39)﴾
أيها الإخوة، وفي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ. ))
وفرقٌ كبير بين الإحصاء والعد، قال تعالى :
﴿ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا(94)﴾
أنا قد أقول: في صفي خمسون طالباً، هذا عَدٌّ، أما الإحصاء فأن تعلم حقيقة كل طالب؛ مستواه العلمي، والثقافي، والأخلاقي، والديني، وضعه العائلي، كل ما يتعلَّق في شؤون الطالب، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) .
اللَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّوم
من أجل إن قرأت هذه الآية: ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ﴾ واللهِ هذه الآية وحدها لو عقلناها لملأت قلوبنا أمناً وطمأنينة ، ملأت قلوبنا إشراقاً ، لجعلتنا نتحرَّك حركةً عجيبة. فلا إله إلا الله.
1 ـ الله هو المتصرف الرحيم الكامل الحكيم :
﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ الفاعل، المتصرف، المعطي، المانع، الشافي، المُمْرض، الموفق، الذي لا يوفق، المُحسن، المنعم، المعز، المذل هو الله وحده.
﴿ٱللَّهُ﴾ ما أسماؤه؟ أن تتعرف إلى أسمائه الحسنى جزءٌ من عقيدتك، جزءٌ من إيمانك، أن تعرف أسماءه الحسنى وصفاته الفضلى وقال تعالى:
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِىٓ إِلَيْهِمْ ۚ فَسْـَٔلُوٓاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾
قال تعالى:
﴿ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۚ ٱلرَّحْمَٰنُ فَسْـَٔلْ بِهِۦ خَبِيرًا (59)﴾
لابدَّ أن تتعرف إلى الله، حتى إذا قرأت هذه الآية: ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ فأنت حينما تعلم من هو الله؟ مَن هو صاحب الأسماء الحسنى والصفات الفضلى؟ ما معنى الله رحيم؟
2 ـ النبيُ عليه الصلاة والسلام أرحمُ الخَلق بالخَلقِ:
لعل أرحم مخلوقٍ على الإطلاق بالخَلق هو رسول الله، والدليل أنه في الطائف حينما بالغ أهل الطائف في الإساءة إليه، وبالغوا في تكذيبه، والسخرية منه، وبالغوا في الإساءة المادية إليه، مكَّنه الله منهم، أرسل له مَلَك الجبال قال:
(( يا مُحَمَّدُ، فقالَ ذلكَ فِيما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا. ))
لم يتخلَّ عن قومه، واعتذر عنهم، ودعا لهم، وتفاءل أن تأتيهم ذرية طيبة، إذاً: أرحم الخلق بالخلق هو رسول الله، ومع ذلك قال تعالى:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ(159)﴾
يعني بسبب رحمة استقرت في قلبك، رحمة تنكير، تصغير، ماذا قال أيضاً؟
﴿ وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ ۖ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ ۚ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِۦ مَوْئِلًا(58)﴾
الرحمة كلها عند الله عزَّ وجل، فمن أجل أن تعلم مَن هو الله؟ تروي الكتب أن سيدنا موسى مرَّ بامرأةٍ تخبز خبزاً، ووضعت على التنور ابنها الصغير، فكلما وضعت رغيفاً في التنور ضَمَّت ابنها، وشمَّته، وقبَّلته، تعجَّب هذا النبي الكريم من هذه الرحمة، وقال: يا رب ما هذه الرحمة؟ قال: يا موسى هذه رحمتي أودعتها في قلب هذه الأم، وسأنزعها، فلما نزع الله الرحمة من قلبها بكى فألقته في التنور، هذه قصة رمزيَّة معبِّرة.
إذا وجدت أبًا يقبِّل ابنه، إن وجدت أماً تجوع ليشبع ابنها، تعرى لتكسو ابنها، تُقَتِّر على نفسها ليتعلم ابنها، هذه رحمة الله في قلب الأم، لذلك إذا أحبك الله ألقى محبته في قلوب العباد إليك، ومن أجمل ما قرأت: "أنك إذا أطعت الله فيما بينك وبينه ألقى حبك في قلوب الخلق، وإذا عصيته فيما بينك وبينه -دون أن تشعر وبلا سبب- ألقى بغضك في قلوب الخلق" ، ولذلك قالوا: "ما أخلص عبدٌ لله إلا جعل الله قلوب المؤمنين تهفو إليه بالمودة والرحمة" .
فأنا وقفتي ﴿ٱللَّهُ﴾ هل عرفته؟ هل جلست الساعات الطويلة من أجل أن تعرفه؟ هل طلبت العلم الشرعي؟ هل فكَّرت في خلقه؟ هل فكرت في آياته التكوينية؟ هل فكرت في آياته القرآنية؟ هل فكرت في آياته الكونية من أجل أن تعرفه، الله، أنت إذا عرفت مَن هو الله، ثم قلت: ﴿لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ ، لا ترى الأقوياء، الأقوياء انتهوا عندك، الأقوياء تراهم ضعفاء، الأقوياء تراهم عِصِيَّاً بيد الله يؤدِّب بهم عباده.
سُئل تيمورلنك: مَن أنت؟ قال: "أنا غضب الرب"، أي إذا غضب الله يُسَلِّط على الناس شخصاً قوياً يخيفهم، إذاً لا ترى مع الله أحداً، العبرة ألا تقهر من الداخل، المؤمن ليس مقهوراً لأنه يرى أنه لا إله إلا الله، الله صاحب الأسماء الحسنى والصفات الفضلى، الكامل، والذات الكاملة، العلَم على الذات والرحمن الرحيم، والحنَّان المنان، وغفار الذنوب، وساتر العيوب، الأمر بيده.
4 ـ أمر الكون بيد الله وحده :
حينما توقن أن أمر الكون بيده، قال تعالى:
﴿ وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَآ إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍۢ فِى ظُلُمَٰتِ ٱلْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍۢ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَٰبٍۢ مُّبِينٍۢ(59)﴾
دقق، هل هناك حدث في مستوى الأرض أقل من سقوط ورقة؟ أنت تجلس في بستان، في أيام الخريف سقطت ورقة، هل هناك حدث أقلّ من هذا الحدث؟ ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ فالأمر بيد الله.
قال تعالى:
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ(47)﴾
قال تعالى:
﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ(42)﴾
أيها الإخوة، هذه المعاني تريح الإنسان، الأمر بيد الله ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله بيده، هذا هو الإيمان.
لذلك، عودٌ على بَدْءٍ، ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، التوحيد نهاية العِلم، التوحيد ألّا ترى مع الله أحداً أبداً، لا إله إلا الله، هذه الصحة النفسية، والله الذي لا إله إلا هو لو أنك وحَّدت الله حق التوحيد لاستراح جسمك من الأمراض، الأمراض كل أسبابها الشدة النفسية، وهو شيء فوق طاقة الإنسان، خوف، على قلق، على همٍّ، على حزن، على قلة أمطار، على غلاء أسعار، أما إذا رأيت أن الله يؤدِّبنا وأنت معه اختلف الوضع، الذي أتمناه عليكم وعلى نفسي أن نُعَمِّق توحيدنا، ألا نتوهم بأن الإيمان أن الله خلق الأكوان هو الإيمان المنجي، هذا إيمان لا ينجي، الإيمان أن الله بيده كل شيء ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾ ﴿مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾ .
قال تعالى:
﴿ لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٌ مِّنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِۦ يَحْفَظُونَهُۥ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍۢ سُوٓءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ(11)﴾
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. ))
الأمر بيد الله عزَّ وجل، والله هذا الشعور، وهذا اليقين يملأ القلب طمأنينةً، ولعل هذا من معنى قوله تعالى:
﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ (28)﴾
احذروا مرض العصر ( القلق ):
فهناك قلق من المستقبل، يكاد يكون المرض الأول في العالم القلق، وديير كارنجي ألَّف كتاباً عنوانه (دع القلق، وابدأ الحياة)، بيعت منه خمسة ملايين نسخة، لأن الذين يقرؤونه قلقون جداً، بل إن مرض الكآبة هو مرض العصر، وقد سمعت عن إحصاء أن مئة وخمسة وخمسون بالمئة من الشعب الغربي يُعالَجون عند أطباء نفسيين، مئة وخمسة وخمسون بالمئة؟ أي مئة بالمئة وخمسة وخمسون مرتين يعالجون في السنة عند أطباء نفسيين بسبب القلق، أما المؤمن فخلاف ذلك.
أحد الأساتذة في الجامعة حدثنا أنه ذهب إلى مؤتمر الأمراض النفسية في ألمانيا فقال: بكل بساطة أخبركم أن في بلادنا هذه الأمراض لا تشكِّل وباءً، ولا خطورةً لأننا مؤمنون بالله.
قد تدخل إلى بيت إنسانٍ بسيط لا شيء فيه، ولا عنده رصيد مالي، ولا عملات صعبة، ولا شيء آخر، ويقول لك: الحمد لله، الله عمّنا بفضله، ما هذا الشعور؟ قد تجد شخصاً معه ملايين ممليَنة ترتعد فرائصه بنزول سعر الدولار مثلاً، وكم من جلطةٍ أصابت إنساناً معه ملايين مملينة فقط لفرق السعر، وتُجَّار السكر غير المؤمنين بالله كلما انخفضت أسعار السكر ارتفع عندهم السكر، وتجد الشخص يذهب ضحية شيءٍ أرضيّ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( من جعل الهمومَ همًا واحدًا همَّ آخرتِه؛ كفاه اللهُ همَّ دنياه ))
(( اعمل لوجهٍ واحدٍ يكفك الوجوه كلها. ))
ومن تشعبت به الهموم يذهب رخيصاً، أي لسبب تافه قد تنتهي حياته.
فيا أيها الإخوة، أتمنى على كل واحد منكم أن يعكف على معرفة أسماء الله الحسنى، حتى إذا قرأ هذه الآية: ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ﴾ مصدر حياة الكون وقيامه، ترتاح نفسك، هذا القرآن شفاء، لا أبالغ أن معظم الأمراض النفسية، ومعظم الإحباطات، والتشاؤم، واليأس، والقهر، والذل، والخنوع، والانحراف بسبب الشرك، والشرك ذنبٌ لا يُغفَر، أي أنه يمشي في طريق مغلق مسدود.
مرة ذكرت مثلاً: أنه يمكن أن تركب قطاراً باتجاه حلب، لتأخذ دفعة قدرها مليون ليرة، والوقت مناسب، ترتكب أخطاء كثيرة، تركب في مكان مع شباب صغار مزعجين، تركب بعكس اتجاه القطار، تركب في الدرجة الثانية، وأنت تذكرتك في الدرجة الأولى –ممكن- تتلوى من الجوع، وفي القطار مطعم لم تدرِ به، هذه كلها أغلاط، لكن الطريق يمشي باتجاه حلب، وسوف تأخذ هذا المبلغ الكبير، أما هناك غلط لا يُغتفَر؛ هو أن تركب قطار عمَّان، وقد يكون القطار فخماً جداً، ولكن هذا خطأ لا يغفر، لا شيء هناك، لن تقبض شيئاً، قال تعالى:
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًۢا بَعِيدًا(48)﴾
المشرك يمشي بطريق مسدود، يتجه لإنسان أضعف منه.
قال له: يا أمير المؤمنين، بكم تشتري هذا الكأس إذا مُنِع عنك؟
قال: بنصف ملكي.
قال له: فإذا مُنِع إخراجه؟
قال: بنصف ملكي الآخر.
فكل هذا المُلك لا يعدل كأس ماء، فأنت إذا اتجهت للفقير رأيت من ألوان الفقر ما لا يوصف، أما إذا اتجهت إلى الغني:
(( يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ. ))
[ مسلم ، الترمذي ، ابن ماجه ، أحمد عَنْ أَبِي ذَرٍّ ]
مشكلتك مع الله.
من أوجز الأقوال الشريفة عن سيدنا علي رضي الله عنه: "لا يَخَافَنَّ العَبدُ إلا ذَنبَه، ولا يَرْجُوَنَّ إلا ربَّه" ، لا تخف من قوي، القوي بيد الله، أنت أمام خمسة وحوش مخيفة، ولكن كلها مربوطة بأزِمَّة من جهة قوية تملكها، وهي مسيطرة عليها، أنت ممَّن يجب أن تخاف من الوحوش أم ممَّن يملكها؟ مَن يملكها، لو أرخى الحبل لوصلت إليك، لو شدَّ الحبل لأبعدها عنك، فالآية الكريمة:
﴿ مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)﴾
فكل هؤلاء الأقوياء هم بيد الله، أمرهم بيد الله إذا سمح لهم يصلوا إليك.
قال تعالى:
﴿ وَحَآجَّهُۥ قَوْمُهُۥ ۚ قَالَ أَتُحَٰٓجُّوٓنِّى فِى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَىٰنِ ۚ وَلَآ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْـًٔا ۗ وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ(80)﴾
فلا تخف إلا من ذنبك، "لا يَخَافَنَّ العَبدُ إلا ذَنبَه، ولا يَرْجُوَنَّ إلا ربَّه" ، كلامٌ جامعٌ مانع .
فيا أيها الإخوة قال تعالى:
﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(22)﴾
حينما تؤمن أن الأمر بيد الله، وهو يعلم كل شيء، لا تخفى عليه خافية، استقم على أمره وانظر، في أي مكان، ففي أي مكان في العالم.
قال تعالى:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾
وفي أي مكان في العالم.
قال تعالى:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)﴾
فيا أيها الإخوة، هذه الآية: ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ﴾
الأمر بيد هذه الذات الكاملة، تعرّف إليها من أجل أن تطمئن، الحالة النفسية مهمة جداً، شعورك أنك مقهور ومظلوم مشكلة، أما شعورك أنك بيد الرحمن الرحيم، العليم الحكيم، أقوى الأقوياء، أغنى الأغنياء، ما سلَّمك لأحد أبداً.
قال تعالى:
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾
قال العلماء: هذه الآية للنبي عليه الصلاة والسلام، ولكن المؤمن له منها نصيب، بحسب إيمانه وإخلاصه.
فلابدَّ أن تعكفوا على أسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، فيجب أن تعرف مَن هو الله، لأن الأمر كله بيده، ويجب ألا ترى مع الله أحداً، وأن ترى مع الله أحداً هذا عين الشرك.
الملف مدقق