وضع داكن
24-11-2024
Logo
الخطبة : 1162 - استقبال شهر رمضان - إن لم يغفر لك فمتى؟
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حقّ الجهاد، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

مراقبة النفس أهم حكمة من حكم الصيام :

أيها الأخوة الكرام، نحن على وشك أن ندخل في ثاني أكبر عبادة في الإسلام إنها عبادة الصيام، ولكن إذا قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ: العبادات معللة بمصالح الخلق، فما المصلحة التي نتوخاها من صيام هذا الشهر؟ لأن الله عز وجل حينما قال:

﴿ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ ﴾

[ سورة البقرة: 63 ]

فكأن الله عز وجل يحثنا على أن نفهم حكمة الصيام من أجل أن نراقب أنفسنا، هل نحن على الطريق الصحيح؟ هل نصوم الصيام الذي أراده الله؟ أحياناً مع تقدم الأيام يصبح الصيام عادة من عوائدنا، وينفصل عن التدين، سهرات مختلطة إلى الفجر، وما لذّ وطاب من الطعام، وحديث غير منضبط، فيه غيبة ونميمة، ومن عاداتنا أن لقاءاتنا كلها، سهراتنا كلها، ولائمنا كلها، في رمضان، وكأن هذا الشهر شهر أكل وشرب فقط ليس غير، فحينما نبتعد عن جوهر الدين، وعن حقيقة الدين، تصبح عباداتنا شكلية مفرغة من مضمونها.

 

الحكمة من الصيام اتقاء الشبهات باليقينيات والشرك بالتوحيد :

يا ترى السؤال الكبير حينما أمرني الله جلّ جلاله أن أصوم هذا الشهر ماذا أراد؟ ما الحكمة المتوخاة من صيام هذا الشهر؟ القرآن الكريم يقول :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 183]

هناك شهوات وهناك شبهات، مطروح بالساحة أفكار لا تنتهي كلها ضلالات، هناك فكر إلحادي، و فكر مادي، و فكر وصولي، و فكر تبريري، الطروحات في العالم الآن ما أكثرها! وهي في أكثرها بعيدة عن منهج الله، فالحكمة من الصيام أن أتقي الشبهات باليقينيات، أن أتقي الشرك بالتوحيد، أن أتقي المعصية بالطاعة، أن أتقي سوء الظن بالله بمعرفة الله،

﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

الإنسان يتقي من أي شي؟ من شيء مخيف، من شيء خطر، من شيء مدمر.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 183]

من صحّ تصوره صحت حركته :

أيها الأخوة، بشكل تحليل دقيق، أنت قبل أن تتحرك ما الذي يسبق هذا التحرك؟ أنت لماذا ذهبت إلى بيت صديقك لتزوره؟ تنطلق من فكرة، من تصور، إن صحّ التصور صحت الحركة، وإن لم يصح التصور لا تصح الحركة، الإنسان كائن متحرك ما الذي يحركه؟ حاجته إلى الطعام والشراب، هذه حاجة أساسية، حفاظاً على بقائه كفرد، ما الذي يحركه؟ حاجته إلى الطرف الآخر، إلى الزواج حفاظاً على بقاء النوع، لولا هذه الشهوة التي أودعها الله في الرجال، وأودعها في النساء لانقرض النوع البشري.
وشهوة التفوق سمِّها إن شئت العلو في الأرض حفاظاً على بقاء الذكر، لولا هذه الشهوة لما كانت بطولات على وجه الأرض، أنت بحاجة إلى أن تأكل من أجل أن تبقى، وبحاجة إلى الزواج من أجل أن يبقى النوع، وبحاجة إلى التفوق من أجل أن يبقى الذكر.
أيها الأخوة، هذه الحاجات يمكن أن تلبى أتمّ تلبية وفق منهج الله، عندئذ ترقى إلى الله، وهذه الحاجات أيضاً يمكن أن تلبى أسوأ تلبية بخلاف منهج الله، هذه القصة كلها، عندك حاجات الشرع اعترف بها يمكن أن تلبيها وفق منهج الله فأنت مؤمن، أنت متق، أنت صائم، أنت معافى في الدنيا، أنت في أمن، أنت في طمأنينة، أنت في حفظ، أنت في توفيق، الله يدافع عنك، إذا انطلقت بدافع شهواتك وفق منهج الله اشتهيت المرأة تتزوج، اشتهيت المال تعمل عملاً مشروعاً، اشتهيت أن يشار إليك بالبنان تكثر من الأعمال الصالحة.

على الإنسان أن يتقي المعصية بالطاعة :

فيا أيها الأخوة، يا أيها الذين آمنوا:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 183]

لعلكم تتقون الشبهات باليقينيات، لعلكم تتقون غضب الله عز وجل برضوانه، لعلكم تتقون المعصية بالطاعة، لعلكم تتقون سوء الظن بالله بحسن الظن بالله، وحسن الظن بالله ثمن الجنة، كأن الله عز وجل أراد أن تكون الصلوات الخمس شحنات يومية، أنا لا أبالغ شبه نفسك تماماً بهذا الهاتف المحمول، يحتاج إلى شحن، فإن لم يشحن تنطفئ الشاشة ويسكت، لا بدّ من الشحن، عندك شحن يومي، الصلوات الخمس، عندك شحن أسبوعي، شحنة الصلاة تستمر معك إلى الصلاة التي تليها، لكن شحنة خطبة الجمعة قد تمتد معك إلى يوم الخميس، بحث موثق، نصوص، آيات، أحاديث، أمثلة، قصص، مجموعة أفكار تطرح عليك، هذه تزيد في قناعاتك، تزيد توجهاتك، تزيد في خشيتك، تزيد في طاعتك لله عز وجل، هذه شحنة أسبوعية، عندنا شحنة سنوية، مدتها ثلاثون يوماً هي رمضان، الصلوات شحنة، وخطبة الجمعة شحنة، ورمضان شحنة لكن طويلة، ثلاثون يوماً، أما شحنة الحج فهي شحنة العمر، عاد من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

 

من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه :

على كلٍّ أقدم لكم بشارة، إنسان يتصور أن عليه سبعة وثلاثين مليوناً، وبيته محجوز، وعليه إقامة جبرية، ومحاكمة، و سجن، أي بلاء كبير، قال له أحدهم: إن فعلت هذا العمل ثلاثين يوماً تعفى من كل هذه الديون فما قولك؟ هل يتردد ثانية بالمستوى المادي؟ سبعة وثلاثون مليوناً، حجوزات، إقامة جبرية، محاكمة، سجن، سيدنا سعد بن أبي وقاص له كلمة مهما رددتها لا أشبع منها، يقول: "ثلاثة أنا فيهن رجل"، ومعنى رجال في القرآن وفي السنة لا تعني أنه ذكر، تعني أنه بطل، قال تعالى:

﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه ﴾

[سورة النور: 37]

"ثلاثة أنا فيهن رجل، وفيما سوى ذلك أنا واحد من الناس، من هذه الثلاثة: وما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق من الله تعالى".
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام:

(( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ))

[ متفق عليه عن أبي هريرة]

لو عندك ذنوب كالجبال، إذا صمت هذا الشهر صياماً كما أراد الله صيام طاعات لا مسلسلات، صيام عبادة لا عادة، صيام تقوى لا معصية، صيام إقبال لا إعراض:

(( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ))

[ متفق عليه عن أبي هريرة]

﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

[ سورة النجم: 3-4 ]

حديث آخر:

(( من قام رمضان ـ صلى التراويح ـ إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))

[ متفق عليه عن أبي هريرة ]

لأن بعض العلماء يقولون: أعلى درجة في تلاوة القرآن الكريم أن تقرأه واقفاً في مسجد في أثناء الصلاة، أي أعلى درجة من ثواب قراءة القرآن أن تقرأه واقفاً، وفي مسجد وفي أثناء الصلاة، هذه التراويح، لذلك هذا الشهر شهر القرآن الكريم، هذا الشهر شهر الغفران، هذا الشهر شهر التوبة، هذا الشهر شهر الصلح مع الله، هذا الشهر شهر الإقبال على الله، هذا الشهر شهر قيام الليل، هذا الشهر شهر صلاة الفجر.

(( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ))

[ متفق عليه عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

من ذكر الله أدى واجب العبودية و من ذكره الله منحه الأمن و الطمأنينة :

أيها الأخوة، الصلاة، كما قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ: "العبادات معللة بمصالح الخلق":

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ ﴾

[ سورة العنكبوت: 45 ]

من أدق ما قاله الإمام ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: " ذكر الله لك أيها المصلي أكبر من ذكرك له، إنك إن ذكرته أديت واجب العبودية، لكنه إذا ذكرك منحك الأمن".

﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾

[ سورة البقرة: 152]

فذكر الله لك أيها المصلي أكبر من ذكرك له، إنك إن ذكرته أديت واجب العبودية، لكنه إذا ذكرك منحك الأمن:

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 81-82 ]

ما قال أولئك الأمن لهم، الأمن لهم ولغيرهم، أما عندما قدمنا شبه الجملة لهم أي العبارة فيها قصر، الأمن لهم وحدهم، أي لا يتمتع بنعمة الأمن إلا المؤمن:

﴿ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

إنه إن ذكرته ذكرك، وإن ذكرك منحك نعمة الأمن، وإن ذكرك منحك نعمة الرضا، وإن ذكرك منحك نعمة التوفيق، وإن ذكرك منحك نعمة الرشاد، وإن ذكرك منحك نعمة الحفظ، وإن ذكرك منحك نعمة الفلاح:

(( استقيموا ولن تحصوا ))

[ ابن ماجه عن ثوبان]

ذكر الله لك أكبر من ذكرك له، هذه الصلاة.

 

على الإنسان أن يتقي غضب الله بطاعته وسخطه برضوانه :

الصيام:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 183]

لعلكم تتقون الشبهات باليقينيات، غضب الله بطاعته، سخطه برضوانه، البعد عنه بالقرب منه، والفعل إذا حذف المفعول منه أصبح مطلقاً، تتقون ماذا؟ تتقون كل شر، تتقون كل خطأ، تتقون كل بعد عن الله، تتقون كل مصيبة:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 183]

هذا الصيام.

 

الزكاة تطهر نفس الإنسان و تزكيها من الشح و البخل :

الزكاة:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾

[ سورة التوبة: 103 ]

إله يقول لك: هذه الزكاة تطهرك وتزكيك، ماذا تطهر؟ تطهر الغني من الشح، كيف إذا عندنا مرض خبيث، مرض قاتل، مرض مميت، والله لا أبالغ، الشح مرض خبيث يصيب الإنسان فيصبح أحمقاً، يعيش فقيراً ليموت غنياً، سألوا شاباً ترك له أبوه أموالاً طائلة، لكنه ما رباه، ولا عرّفه بالله عز وجل، سأله إنسان بعد موت أبيه بأيام: إلى أين أنت ذاهب؟ أنا مضطر أن أقول كلمته بالضبط، قال له: أنا ذاهب أسكر على روح أبي، ما علمه، ما عرفه بالله، ترك له مالاً، ما ترك له علماً، يا بني! العلم خير من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، يا بني! مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة.
قال لي أخ زرته مرة تزيد سنه عن مئة عام أمضى حياته كلها في تعليم القرآن الكريم، قال لي: عندي ثمانية وثلاثون حفيداً، معظمهم من حفاظ كتاب الله، المؤمن مبارك هو وأهله، وأولاده، وبناته، وأصهاره، وكنائنه، وأحفاده، هرم الزوج وزوجته، أولاده مع زوجاتهم، بناته مع أزواجهم، ثمانية وثلاثون حفيداً معظمهم من حفاظ كتاب الله.
أيها الأخوة الكرام:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾

[ سورة التوبة: 103 ]

تطهر الغني من الشح، والفقير من الحقد، والمال من تعلق حق الغير به،

﴿ وَتُزَكِّيهِمْ ﴾

تنمي نفس الغني، يرى البسمة على قلوب من ساعدهم، جبر خاطرهم، طيب قلبهم، تطهر نفس الفقير، يرى أن المجتمع مهتم به، تطهر المال من تعلق حق الغير بهم، تنمي المال، تنمي نفس الفقير، تنمي نفس الغني، هذه الزكاة:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾

[ سورة التوبة: 103 ]

الحج من أجل أن يعلم الإنسان أن الله يعلم :

أيها الأخوة، الحج، هناك آية دقيقة جداً وردت في سياق الحج، قال تعالى:

﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ﴾

[ سورة المائدة: 97]

أنت حينما تعلم أن الله يعلم حلت كل مشكلاتك، إذا علمت يقيناً أن الله يعلم لا يمكن أن تعصيه، إذا علمت أن الله يعلم لا يمكن أن تبتعد عنه، إذا علمت أن الله يعلم لا يمكن أن تسيء إلى خلقه، إذا علمت أن الله يعلم لا يمكن أن تأكل درهماً حراماً، إذا علمت أن الله يعلم لا يمكن أن تعصيه، الحج من أجل أن تعلم أن الله يعلم، والزكاة من أجل أن تطهر وتنمي، تطهر الفقير، والغني، والمال، وتنمي الفقير، والغني، والمال، والصلاة ذكر الله أكبر، تذكره ويذكرك:

﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾

[ سورة البقرة: 152]

إنه إن ذكرك منحك الأمن، الرضا، السعادة، الزوجة الصالحة، الأولاد الأبرار، السمعة الطيبة، راحة البال، قال تعالى:

﴿ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾

[ سورة محمد: 5]

منحك عطايا لا تعد ولا تحصى، لذلك احفظ هذا الحديث واجعله في لوحة في بيتك:

(( استقيموا ولن تحصوا ))

[ ابن ماجه عن ثوبان ]

لن تحصي خيرات الاستقامة.

 

الصيام عبادة الإخلاص :

أيها الأخوة الكرام، الصيام عبادة الإخلاص، أحياناً الإنسان يشك بإخلاصه، لكن إذا كان صائماً والصوم كهذه الأيام في الأيام الحارة، الحرارة أربع وأربعون أو خمس وأربعون، والساعة الثانية عشرة يكاد يموت من العطش، ودخل إلى بيته، والثلاجة جاهزة، والماء البارد جاهز، ولا أحد يراه، ما الذي يمنعه أن يضع قطرة ماء في فمه؟ إيمانه بالله، كأن الله حينما تصوم يقول لك: أنت تحبني، وأنت مؤمن بي، وبعلمي، وبوجودي، ما الذي يمنعك؟ الثلاجة أمامك، والماء البارد أمامك، وأنت وحدك في البيت، والنوافذ كلها مغلقة، ضع كأس ماء في فمك، لا تستطيع.
لذلك قالوا: الصيام عبادة الإخلاص، أُقرب لكم هذا المعنى؛ الأب إذا أمر ابنه أن ينظف أسنانه فهذا لصالح الابن والأمر واضح، أمره أن يكتب وظائفه، الأمر واضح لصالح الابن، قد يلقي على ابنه مئات التوجيهات، كلها واضحة لصالح الابن، لكن لو أن الابن جائع جداً، والطعام موضوع على الطاولة، والطعام نفيس جداً، والأب قال لابنه: لا تأكل، هذه ليست واضحة، أكل والده، والطعام حلال، وهو جائع، لا تأكل قال له: حاضر، ما هذا الابن؟ هذا الابن له ثقة بوالده مطلقة، الله نهاك عن الزنا، وعن الخمر، وعن السرقة والكذب، لكن قال لك: لا تأكل، لا تشرب ماء، ثماني عشرة ساعة من دون ماء، ولا تأكل لقمة، سمعاً وطاعة، لذلك قالوا: الصيام عبادة الإخلاص، معك دليل قطعي على أنك مؤمن بالله، وعلى أنك تخاف الله، وعلى أنك تعلم علم اليقين أن الله يراك، ولو كنت وحدك في البيت، الصيام عبادة الإخلاص، لأنه منعك من المباحات، لكن هناك مشكلة كبيرة، إذا منعك الله عز وجل من المباحات في رمضان فلأن تمتنع من المحرمات من باب أولى، منعك أن تأكل، منعك أن تشرب، هل يعقل أن تدع الطعام والشراب من أجل ربك وتكذب؟ وتغتاب؟ وتحتال؟ مستحيل، أعطاك حالة صعبة جداً، شيء مباح، طبيعي العالم كله يأكل ويشرب، أنت كمسلم وفي أيام الصيف ممنوع أن تأكل، وأن تشرب، فإذا خضعت لأمر الله في منع المباحات، هل يعقل ألا تخضع له في المعاصي والآثام؟ مستحيل وألف ألف ألف مستحيل، لذلك الصيام يقوي إرادة طاعة الله عز وجل، تركت المباحات فلأن تمتنع عن المحرمات من باب أولى، وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:

(( كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ))

[ متفق عليه عن أبي هريرة ]

الصلاة له، والحج له، والصدق له، والأمانة له، والطاعة له، والاستقامة له:

(( كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ))

[ متفق عليه عن أبي هريرة ]

هذا الصوم خضوع لمشيئة الله.
بالمناسبة يا أخوان كلما اتضحت حكمة الطاعة، وأقبلت عليها، لك أجر، لكن حينما تغيب عنك حكمة الطاعة، وتقبل عليها، فالأجر مضاعف، كلما اتضحت حكمة الطاعة قلّ الأجر، لكن كلما لم تتضح هذه الحكمة، أي الطعام حلال، وأنا إنسان لابدّ من أن آكل، لا تأكل، لا تشرب، و لكنك لا تستطيع أن تقنع أجنبياً بالصيام، يقول لك: الصيام فوق طاقتنا، لمَ لا آكل؟ المسلم عنده شيء رائع؛ الخضوع لمنهج الله.

(( كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ))

[ متفق عليه عن أبي هريرة ]

غض البصر ينبغي أن يكون على مدى العام لكنه يتضح في رمضان :

أيها الأخوة الكرام، من البديهيات التي ينبغي أن تكون على مدى العام لكن في رمضان تتضح قيمتها غض البصر، قال تعالى:

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾

[ سورة النور: 30 ]

أنت جالس في البيت، والغرفة مظلمة، وأمامك بناء آخر، وفيه شرفة، والجارة خرجت بثياب متبذلة، إذا ملأت عينك من محاسنها هل في الأرض كلها جهة تستطيع أن تضبط هذه المخالفة؟ مستحيل، الله عز وجل يقول:

﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾

[ سورة غافر: 19 ]

الله وحده يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
أيها الأخوة، الملخص أن رمضان دورة مكثفة يمكن أن تنتهي بالعتق من النار، بل تنتهي بمغفرة كل الذنوب والآثام، بل تنتهي برضوان الله تعالى، على أن يكون صياماً لا عادة من عوائدنا.

 

رمضان مشاركة وجدانية بين الفقراء والأغنياء :

شيء آخر، الغني لا يحس بالجوع إطلاقاً، دعك من الصيام الأكل متوفر، والشراب متوفر، كل شيء درجة أولى، لكن برمضان يذوق ألم الجوع، هو الآن صائم يجوع باختياره، أما هذا الذي يجوع من دون اختياره فقير، أي يحدث في رمضان مشاركة وجدانية بين الفقراء والأغنياء، الغني الآن صائم لكن في أيام الإفطار لا يوجد عنده مشكلة أبداً، الألوان منوعة من الطعام والشراب، والعصائر، والفواكه، لكن هذا الفقير خارج رمضان جائع، فكأن الله أرادنا أن نذوق حالة الفقير حينما يكون جائعاً، أرادك الله أيها الغني لا أن تعيش فكرة الفقر، أرادك أن تعيش حالة الفقر، فرق كبير بين من تقول له: فلان يضرب مئة جلدة، وبين أن يتلقاها، فرق كبير جداً، الفكرة سهلة أما أن تعانيها فشيء صعب، كأن الله أراد في هذا الشهر أن يذوق الغني آلام الفقير وفي مقدمتها جوعه.

وجوب زكاة الفكر على من يملك قوت يومه :

شيء آخر: الزكاة على الأغنياء لكن الله عز وجل فرض في رمضان زكاة الفطر، على من؟ على من يملك قوت يومه، الذي عنده وجبة طعام واحدة، عليه زكاة فطر، أراد الله عز وجل أن يذوق الفقير طعم الإنفاق، كما أنه أراد من الغني أن يذوق من حالة الجوع أراد من الفقير أن يذوق في العام كله مرة واحدة طعم الإنفاق، عليك زكاة الفطر والصيام لا يُرفع إلى الله إلا بتأدية زكاة الفطر، وتجب على كل إنسان عنده وجبة طعام واحدة، فزكاة فطر أراد الله منها أن تذوق طعم الإنفاق.
أيها الأخوة الكرام، مرة ثانية:

(( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ))

[ متفق عليه عن أبي هريرة]

(( من قام رمضان ـ صلى التراويح ـ إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه))

[ متفق عليه عن أبي هريرة ]

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله .

* * *

الخطبة الثانية :

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

خاب وخسر من أدرك رمضان فلم يغفر له :

أيها الأخوة الكرام ، صعد النبي عليه الصلاة والسلام منبره، وضع رجله على أول درجة، فقال: آمين، صعد على الدرجة الثانية فقال: آمين، صعد الدرجة الثالثة فقال: آمين، ما فهم الصحابة شيئاً، فلما انتهت الصلاة والخطبة قالوا: يا رسول الله علامَ أمّنت؟ فقال: جاءني جبريل فقال لي: ـ هذا أخطر حديث بالخطبة ـ "خاب وخسر من أدرك رمضان فلم يغفر له، إن لم يغفر له فمتى؟"
شهر التوبة، شهر الصيام، شهر التراويح، شهر الفجر في المسجد، خاب وخسر من أدرك رمضان، فلم يغفر له، إن لم يغفر له فمتى؟ هذا الشهر شهر التوبة، شهر القرب، شهر الحب، شهر الصلاة، شهر القرآن، شهر العبادة، والله لا يوجد مانع أن تلغى العادات التي ألفها الناس في السهرات والولائم كل يوم في رمضان، اجعلها بعد رمضان، اجعل هذه اللقاءات بعد رمضان، اجعل هذا الشهر شهر عبادة، تصلي المغرب، تأكل أكلاً معتدلاً تهيئ نفسك للتراويح، حاول أن تكون مع الله في التراويح، أتمنى ـ وكلامي دقيق ـ أكثر الناس عندما يأتي رمضان يعبدون الله و يستقيمون، فإن انتهى عادوا إلى ما كانوا عليه، جاء رمضان الثاني صعد ثم هبط، لم يستفد شيئاً، تصور أن رمضان درجاً صعد وصل إلى إنجازات، تابع طوال العام، جاء رمضان الثاني صعد وتابع، صعود ونزول لا يوجد، هناك صعود وصعود، هكذا أراد الله من رمضان، كل شهر تعمل قفزة نوعية تتابعها طوال العام، أي صليت الفجر ثلاثين يوماً في الجامع، بعد رمضان تتابع صلاة الفجر في المسجد، صليت العشاء في المسجد بعد انتهاء رمضان تتابع الصلاة في المسجد لأنه:

(( من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي، ومن صلى العشاء في جماعة فهو في ذمة الله حتى يصبح ))

[ أحمد]

(( مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))

[سنن ابن ماجة عَنْ سَمُرَةَ ابْنِ جُنْدَبٍ ]

(( مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَهُوَ كَمَنْ قَامَ نِصْفَ اللَّيْلُِ ))

[ مسلم عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

إن صليت الفجر في جماعة والعشاء في جماعة فأنت مغطى اليوم بأكمله ليلاً ونهاراً بحفظ الله.

 

توجيهات النبي الصحية ليست من اجتهاده إنما هي وحي يوحى :

شيء آخر: النبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل ثلاث تمرات قبل أن يفطر، ويصلي المغرب، ويأكل، الشيء الذي لا يصدق أن سكر التمر أسرع سكر على الإطلاق ينتقل من الفم إلى الدم بعشر دقائق، فإذا أكلت تمرات ثلاثة وصل سكرها إلى مركز الشبع في الدماغ، بعد أكل التمرات الثلاثة ومضي عشر دقائق وقت صلاة المغرب تشعر أنك شبعان فتأكل باعتدال، الإنسان متى يشبع؟ بإحدى حالتين؛ الحالة الأولى وهي سيئة جداً، حتى تمتلئ المعدة، ويشبع إذا تنبه مركز الشبع بالدماغ، فإذا بدأت بالتمرات الثلاثة وأكلتها وصل سكرها إلى مركز الشبع بالدماغ، تقدم على الطعام باعتدال كوجبة عادية في النهار، أنا سافرت إلى بلاد كثيرة في بريطانيا يأكلون الفواكه قبل الطعام، وفي البرازيل يأكلون الفواكه قبل الطعام، شيء طبيعي، والأصل أن تأكل الفاكهة قبل الطعام، والدليل:

﴿ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴾

[ سورة الواقعة: 20-21]

جرب أن تكون هذه عادة دائمة، أنت تأكل بعد الطعام تفاحة، كُلْها قبل الطعام وانتظر تأكل باعتدال رائع جداً، لا يوجد جوع شديد، لأن مركز الشبع تنبه بسكر الفواكه، سكر الفواكه أسرع السكريات وصولاً إلى الدم، من الفم إلى الدم بعشر دقائق، إذا كان في الدم سكر وصل هذا السكر إلى مركز الشبع فتنبه، من علم النبي عليه الصلاة والسلام ذلك؟

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

[ سورة النجم: 3-4]

إذاً توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام الصحية ليست من اجتهاده، ولا من معطيات عصره، ولا من بيئته، ولا من اختراعه، إن هي:

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

[ سورة النجم: 3-4]

عود نفسك طوال السنة أن تأكل قطعة الفاكهة قبل الطعام وجرب، تأكل باعتدال، تشبع قبل أن تشبع.

 

الدعاء :

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، انصر المسلمين في كل مكان، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور