وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0219 - أصل فريضة الحج - التمر.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

فرضية الحج :

أيها الأخوة المؤمنون... يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:

﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾

[سورة آل عمران: 96-97]

أيها الأخوة المؤمنون... هذه الآية الكريمة أصل في فرضية الحج، فالله سبحانه وتعالى يقول : " ولله على الناس حج البيت - على سبيل الفرض - من استطاع إليه سبيلاً" ومن كفر أي من كان مستطيعاً أن يحج البيت ولم يحجه إنكاراً لفرضية هذه العبادة فقد كفر، والدليل قوله تعالى:

﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾

[سورة آل عمران: 97]

يا أيها الأخوة المؤمنون... روى البيهقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه:

(( إن عبداً أصححت له جسمه، وأوسعت عليه في المعيشة، فأتت عليه خمسة أعوام لم يفد إلي لمحروم ))

[ الجامع الصغير بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري]

الحج المبرور :

أيها الأخوة الأكارم... عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ ))

[مسلم عن أبي هريرة]

الحج المبرور كما فسره العلماء هو الحج الذي لا يخالطه إثم، وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: أن يرجع الحاج زاهداً في الدنيا، راغباً في الدنيا، فذلك هو الحج المبرور، وقال عليه الصلاة والسلام مخاطباً عمرو بن العاص رضي الله عنه :

((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ))

[مسلم عن عمرو بن العاص]

أي من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وقد قال بعض العلماء: الذي يفيض من عرفات ولم يغلب على ظنه أن الله قد غفر له فلا حج له، وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام قَالَ:

((الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ ))

[ابن ماجة عن أبي هريرة]

وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام:

(( جِهَادُ الْكَبِيرِ والضَّعِيفِ وَالْمَرْأَةِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ ))

[ النسائي عن أبي هريرة]

وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام:

(( الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ ))

[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]

فضل الحج :

وأما النفقة في الحج فربما ارتفعت، وربما كثرت الرسوم، وربما ارتفعت أجور النقل، وربما ارتفعت نفقات الإقامة، وربما ارتفعت نفقات الطعام والشراب هناك، قد يقول قائل: كنا نحج بألفين واليوم نحتاج إلى خمسين ألفاً، هو في الأساس على المستطيع، ولكن هذا المستطيع الذي ينفق خمسين ألفاً ليحج البيت ليستمع إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام:

((النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ ))

[ أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ ]

فوائد الحج :

أيها الأخوة... هذه بعض الأدلة النقلية من آيات قرآنية ومن أحاديث قدسية ومن أحاديث نبوية تتعلق بفرضية الحج وفضله، فماذا عن فوائده ؟
أجمع العلماء على أن الحج له من بين العبادات مكانة متميزة، فهو عبادة بدنية يحتاج الإنسان إلى سعي وطواف وسفر وانتقال وصلاة وعبادة، هو عبادة بدنية، وعبادة مالية، يحتاج إلى نفقات كثيرة، عبادة بدنية ومالية وزمانية - لها زمان محدود - ومكانية - لها مكان معين - وروحية، هذه العبادة جمعت بين حركات الجسم وبين إنفاق المال وبين المكان المحدد والزمان المحدد، لكن الأجر الذي أعدّه الله للحاج لا يعلمه إلى الله، وأقله أنه ليس له جزاء إلا الجنة.
يا أيها الأخوة المؤمنون... قد نعتقد ما نشاء ولكن اعتقادنا وإيماننا يحتاج إلى برهان، ربنا سبحانه وتعالى في أكثر من مئتي آية في كتابه الكريم يقول :

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

[ سورة البينة: 7]

لأن العمل الصالح تجسيد للإيمان، ولولا العمل الصالح لم يكن هناك برهان على الإيمان، فالإيمان اعتقاد، والإيمان تصديق، والإيمان إقبال، شيء نفسي داخلي لا يطلع عليه أحد، ولكن العمل الصالح تجسيد للإيمان، من هنا قال عليه الصلاة والسلام :

((الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل))

[ أحمد عن الحسن]

لولا العمل ما كان هناك برهان على الإيمان.
قال بعض العلماء: إن الحج برهان عملي يؤكد أن حب الله تعالى في قلب المؤمن يغلب على حبه لماله فعليه أن ينفقه، ويغلب على حبه لأهله فعليه أن يتركهم، ويغلب على حبه لأولاده فيجب عليه أن يغادرهم، ويغلب على حبه لدكانه فعليه أن يغلقه، إن الحج المبرور برهان على أن في قلب المؤمن محبة لله عز وجل تطغى على حبه لماله وأهله وأولاده وعمله وجيرانه، إنه برهان عملي على الإيمان الصحيح، من كان في قلبه إيمان صحيح كان أداء الحج برهاناً على هذا الإيمان الصحيح.

 

الحج تدريب عملي على الصبر و مفارقة الأهل والأوطان :

يا أيها الأخوة المؤمنون... النبي عليه الصلاة والسلام قال:

(( اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم ))

[كشف الخفاء عن عمر]

من كانت حياته ناعمة، من كانت حياته رغيدة، هذا إنسان ليس مؤهلاً أن يجاهد في سبيل الله، فيأتي الحج ليكون تدريباً عملياً على الصبر، وتحمل المشقة، والأناة، وحسن تلقي الشدائد بالرضا والقبول، فلذلك قال بعض العلماء: إن الحج تدريب عملي على الصبر، وعلى تحمل المشقة، وعلى تجسد الشدائد، وعلى مفارقة الأهل والأوطان، وعلى حياة الخشونة، كي يكون هذا الإنسان مستعداً لعمل يرضي الله ورسوله إذا دعاه داعي الجهاد.
يا أيها الأخوة المؤمنون... الحج فيه شظف للعيش ربما تضطر أن تنام على الأرض أما في بيتك فتنام على فراش وثير، وتنام في غرفة ذات جو معتدل، ربما تضطر أن تنام على أرض خشنة، وتحت خيمة، والشمس مسلطة عليها، هذا نموذج فلا بدّ من تحمل بعض الشدائد تنفيذاً لأمر الله سبحانه وتعالى، وليكون الإنسان جاهزاً لكل مشقة تدعوه إليها محبته لله عز وجل.

 

الحج رحلة إلى الله عز وجل :

يا أيها الأخوة المؤمنون... الإنسان يصلي في بلده وقد يخطر على باله مشاكل الدنيا، وخواطر عمله، وخواطر أهله، ولكن حينما ينزع الحاج من بيته، ومن عمله، ومن بين أولاده، ليتفرغ لعبادة الله عز وجل فهذا مما يقوي إيمانه، حينما يغادر بلدته إلى بيت الله الحرام في بيت الله الحرام ليس هناك إلا ذكر الله تعالى، والإقبال عليه، والتهجد له، والصلاة، وقراءة القرآن، إن هذه العبادة المكثفة قد تصلي ونفسك مشغولة بأمور الدنيا، قد تصوم ونفسك معلقة بهذا المحل التجاري، ولكن الحج ينتزعك من بلدتك وفي بلدتك الهموم والمشكلات والمتاعب والرغبات والصراعات، إن من حكم الحج أنه تفرغ لله عز وجل، لذلك كان الحج رحلة إلى الله عز وجل، إني مسافر إلى ربي، إني أحج بيت الله الحرام أي أنك ذاهب إلى الله عز وجل ليهديك سواء السبيل.
يا أيها الأخوة المؤمنون... أصعب شيء على الغافل مغادرة الدنيا، يكون قد جمع المال بالدرهم والدينار، وبالدقيقة والثانية، حتى صار له بيت مريح، وأهل، ومركز اجتماعي، ودخل وفير، فإذا جاء ملك الموت فسيخسر كل هذه الأشياء التي جمعها في عمره المديد في ثانية واحدة، لئلا تكون مغادرة الدنيا كالصاعقة على الإنسان، أمر الإنسان بالحج لتكون رحلة الحج رحلة مشابهة للرحلة الأخيرة، الرحلة الأخيرة لا عودة منها، ولكن الرحلة قبل الأخيرة هناك عودة بعدها، فالإنسان حينما يحج البيت ينخلع عن مرتبته الاجتماعية، الحجاج والعمار سواسية لا فرق بين وزير وغفير، ولا بين أمير وأجير، ولا بين غني وفقير، ولا بين قوي وضعيف، الكل حاسر الرأس، يرتدي إزاراً ورداءً، ولا يحق له أن يناله شيء من نعيم الدنيا لا طيب، ولا تقليم أظافر، ولا حلق شعر، ولا شيء من هذا القبيل، الإنسان حينما يحج البيت فكأنما حج البيت رحلة تعطيه حجمه الحقيقي، ألم يقل الله عز وجل:

﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾

[سورة الأنعام:94]

فالإنسان إذا ذهب إلى الحج ورأى جموع المسلمين على صعيد واحد في وضع متساو لا فرق بين واحد وواحد، كلهم ضعيف يبتغي وجه الله عز وجل، إن هذا الحاج الذي ترك مكانته الاجتماعية، ورتبته المدنية، ووظيفته العالية، وبيته المريح، إن هذا الحاج يعود إلى حجمه الحقيقي، فكأن رحلة الحج تشبه رحلة الموت.

 

ثياب الإحرام تحجيم للإنسان و تعريف بمكانته :

الله سبحانه وتعالى حين أمر الحاج عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام أن يرتدي ثوبين أبيضين كأنه يريد أن يبين للحاج أن مظاهر الدنيا كلها لا قيمة لها عنده، فالله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أشكالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم

أي شيء يتيح لك أن تتزين به فهو محرم في الحج، ليس لك إلا أن ترتدي هذين الثوبين غير المخيطين، ومن ارتدى ثياب الإحرام يعرف نعمة الثياب المخيطة، إنه تحجيم لهذا الإنسان الذي ارتفعت مكانته وكثر ماله ونسي المبتدا والمنتهى، إنه تحجيم لهذا الإنسان الذي ربما أدخلت على قلبه وفرة المال شعوراً بالعلو على بقية الناس.

 

أثمن ما في الحياة الاتصال بالله عز وجل :

يا أيها الأخوة المؤمنون... في الحج الناس تزداد تعظيماً لهذا النبي العظيم، كيف؟ هذه البلاد الحارة التي أرادها أن تكون حارة في واد غير ذي زرع، في الحج سرّ لا يعرفه إلا من ذاقه، في الحج ازدحام، وفي الحج حرارة شديدة، وفي أيام الحج خشونة في المأكل والمشرب والملبس، ومع ذلك من كان حجه صحيحاً ومخلصاً يتمنى أن يحج في كل عام، ما تفسير ذلك؟ أن الله سبحانه وتعالى جعل طعم الإقبال عليه، ولذة القرب منه، وحلاوة التجلي تفوق كل هذه المصاعب، فعلى الرغم من كل هذه المصاعب يتوق من حج البيت حجاً صحيحاً أن يحج في كل عام. إذاً الله سبحانه وتعالى حينما جعل الكعبة البيت الحرام في بلاد حارة، وفي واد غير ذي زرع، لا شجر، ولا نبات، ولا هواء رطب، ولا مناظر خضراء، إنما هي جبال جرداء، وحر شديد، ليبين أن أثمن ما في الحياة أن تكون موصولاً بالله عز وجل، فإذا اتصلت بالله في هذه الديار أنستك هذه الصلة كل هذه المتاعب والمشقات.

فليتك تحلو والحيـــــــاة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العــالمين خراب
***

كأن الله سبحانه وتعالى يقول لك: تعال يا عبدي، تعال إليّ لأريحك من ذنوب أثقلت ظهرك، تعال إليّ لأريحك من حب الدنيا، تعال إليّ لأذيقك طعم قربي، تعال إليّ لأذيقك حلاوة مناجاتي، تعال إليّ لترى أن الإقبال عليّ أثمن ما في الدنيا، تقول له: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، هذه التلبية تعني أنك استجبت لأمر الله.

 

حاجة المسلم إلى التفرغ لعبادة الله عز وجل :

يا أيها الأخوة المؤمنون... مهما تحدثنا عن المشاعر التي تنتاب الحاج في الأرض المقدسة فإنه من ذاق عرف، والعيان غير الخبر، ليس المعاين كالمخبر.
يا أيها الأخوة المؤمنون...من ملك الاستطاعة من زاد وراحلة، من ملك شروط الاستطاعة ومضى عليه خمسة أعوام لم يفد إليّ لمحروم، وفي بعض المذاهب الفقهية يعدّ تأخير الحج للمستطيع مكروهاً كراهة تحريمية لقول الله تعالى:

﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾

[سورة آل عمران:97]

يا أيها الأخوة المؤمنون... كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصعد إلى غار حراء من حين إلى آخر كأن المؤمن محتاج إلى غار حراء، أي كأن المؤمن محتاج إلى أن يتفرغ كي يعبد الله عز وجل، لا مشكلة، ولا قضية أسرية، ولا عمل، ولا أصحاب، ولا متاعب، ولا مشقات، الحج تفريغ إجباري لهذا الإنسان الذي شغله ماله، أو شغلته مرتبته، أو شغلته مكانته في بلده عن التفرغ لله عز وجل.

 

على كلّ إنسان حاج أن يتيح المجال لغيره كي يحج في وضع مقبول ومعقول :

أيها الأخوة المؤمنون... الحديث القدسي الذي يبين أنه :

(( إن عبداً أصححت له جسمه، ووسعت عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم ))

[ الجامع الصغير بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري]

إذاً على المسلم أن يستجيب لهذا الذي اتفق عليه المسلمون أن يحجوا كل خمسة أعوام، هناك من يصر أن يحج كل عام لا شك أنه معذور لأنه ذاق حلاوة القرب، ولكن بعض العلماء ضرب مثلاً لو أن سجادة تتسع لأن يصلي عليها عشرة أشخاص، وهناك مئة شخص، بينهم عشرون قد صلوا الفريضة، والثمانون لم يصلوا الفريضة بعد، فنسمح للذين صلوا الفريضة أن يصلوا نفلاً على هذه السجادة أم نتيح المجال لمن لم يصلِّ الفرض بعد أن يصلي عليها؟ أي إذا كان الحرم المكي يتسع لمليون إنسان، و العالم الإسلامي يزيد عن ألف مليون، و هناك ترتيبات أن يحج من كل مليون ألف حاج، وألا يسمح للحاج أن يحج إلا بعد خمس سنوات، هذا الإجراء منطقي، واتفقت عليه الأمة الإسلامية بأجمعها في بعض المؤتمرات، فلذلك أن يتاح للذي لم يحج أن يحج بوضع مقبول ومعقول، أما إذا بلغ الزحام درجة الحد غير المقبول هذا الحج ربما فسد، بمعنى أن الإنسان حينما ينسحب من شدة الازدحام أين إقباله على الله عز وجل؟ وأين التفاته إلى الله؟ فلذلك إذا كان هناك ترتيبات تقضي ألا يحج الإنسان إلا كل خمسة أعوام فهذه الترتيبات يؤكدها هذا الحديث القدسي:

(( إن عبداً أصححت له جسمه، ووسعت عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم ))

[ الجامع الصغير بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري]

أي هذا الذي أريد أن أؤكده أن الإنسان إذا تفضل الله عليه بحج مبرور ليفسح المجال لإنسان لم يحج بعد كي يحج في وضع مقبول ومعقول.

* * *

الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فوائد التّمر :

أيها الأخوة المؤمنون... آية قرآنية في سورة مريم، وفي قصة السيدة مريم كلمات ثلاث يكشف الطب الحديث أنها أساس الولادة الميسرة، يقول الله تعالى مخاطباً السيدة مريم:

﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً﴾

[سورة مريم: 25-26]

أما كلمة :" قري عينا " فقد استنبط العلماء من هذه الكلمة أن الحالة النفسية للمرأة قبل الولادة لها علاقة وشيجة بتيسير الولادة، فلو أن المرأة مطمئنة، قريرة العين، هادئة البال، ليس هناك مشكلة في البيت، زوجها يكرمها قبيل الولادة، إن حالتها النفسية المريحة، وطمأنينتها، وقرة عينها عامل أساسي في سهولة ولادتها، فأي اضطراب نفسي، وأي أزمة عاطفية، وأي مشاجرة بين الزوجين، والمرأة على وشك الولادة إنها تعيق الولادة، وربما اضطرت المرأة إلى إجراء ولادة عسيرة.
أما :" كلي" ولحكمة بالغة أن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً ﴾

[سورة مريم: 25]

من أغرب الكشوف العلمية أن في الرطب مادة تعين على انقباض الرحم، الرحم كما تعلمون من اثنين ونصف سنتيمتراً مربعاً جوفه قبيل الحمل إلى سبعمئة وخمسين سنتيمتراً مربعاً في أوج الحمل، وهذا الجنين وتحته المشيمة والمشيمة موصولة بشرايين الأم، فإذا نزل الجنين من رحم الأم وتبعته المشيمة تقطعت هذه الشرايين، هذه الشرايين مفتوحة لو بقية مفتوحة لنزفت الأم، وماتت، تموت من النزيف، لذلك ربنا سبحانه وتعالى لحكمة بالغة يجعل الرحم تنقبض انقباضاً شديداً إلى درجة أن قوام الرحم يصبح قاسياً كالصخر، فإذا وضعت القابلة يدها على الرحم ورأته قاسياً تطمئن إلى أن الولادة صحيحة، إن الرحم بانكماشها الشديد تغلق كل الشرايين المفتوحة وبهذا ينقطع النزيف. في التمر وفي الرطب مادة تعين على انقباض الرحم، لذلك وردت كلمة الرطب عند ذكر المخاض:

﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً ﴾

[سورة مريم: 25]

وفي الرطب مادة تعين على انزلاق النفايات في الأمعاء الغليظة، مادة منظفة وملينة، وما من امرأة على وشك أن تضع إلا ويحرص الطبيب أو القابلة على أن تكون أمعاؤها خالية من كل شيء لئلا يعيق امتلاء الأمعاء خروج الجنين من الرحم، لذلك في التمر نفسه مادة ملينة ومنظفة للأمعاء ولا سيما الغليظة.
شيء آخر: الطلق عملية مجهدة، أي القلب أحياناً تزيد ضرباته من ثمانين ضربة في الدقيقة إلى مئة وثمانين ضربة في الدقيقة ليواجه هذه التقلبات العنيفة، فالقلب يحتاج إلى غذاء، والحركات العضلية تحتاج إلى غذاء، لذلك التمر لا يستغرق تمثله أكثر من عشرين دقيقة من الفم إلى الدم مباشرة، أي أسهل مادة للهضم ولتحولها من غذاء إلى طاقة هو التمر.
شيء أخير: هو أن في الرطب مادة تمنع النزيف، تعين على انقباض الرحم، وتمنع النزيف، وتنظف الأمعاء، وتعقمها، وتطهرها، وتلينها، وتغذي المرأة التي على وشك الولادة بغذاء سكري بأعلى مستوى، بأسهل طريقة، وبأقصر وقت، فإذا جاء في كتاب الله:

﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً ﴾

[سورة مريم: 25]

هذا التمر مركز، تركيزه شديد جداً فهو يحتاج إلى سائل ينحل فيه كي يسهل الامتصاص.

﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي ﴾

[سورة مريم: 26]

لماذا الإنسان بعد الحلو يحتاج إلى الماء ؟ لماذا هكذا فطرته ؟ لأن الحلو يحتاج إلى تمديد، وإلى أن ينحل في سائل كي يسهل هضمه، لذلك شرب الماء ضروري بالنسبة للمرأة التي على وشك الوضع، وحالتها النفسية المطمئنة عنصر أساسي في الولادة، وأن يكون طعامها فيه أشياء أربعة: مواد تعين على انقباض الرحم، ومواد تمنع النزيف، ومواد تنظف الأمعاء وتلينها، ومواد أخرى تغذي بأقصر وقت وأيسر سبيل، هذا هو القرآن الكريم، هذا هو كلام رب العالمين، كلمات في قصة ولكن لو وقفت عندها لوجدت العجب العجاب.

﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً﴾

[سورة مريم: 25-26]

لا بدّ من غذاء خاص، ولا بدّ من شراب كثيف، ولا بدّ من طمأنينة نفسية.
أيها الأخوة المؤمنون... هذه بعض آيات القرآن، وكيف أن العلم كلما تقدم اكتشف أن هذا الكلام كلام رب العالمين، كلام خالق الأكوان وليس كلام البشر. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور