- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر . وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر. اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
مقاييس الهدى :
1 ـ الابتعاد عن الفسوق :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان﴾
من أهداف الصيام أن تهتدي إلى الواحد الديان ، وكل من الناس قد يتوهم أنه على هدى ، والآيات التي تتحدث عن الهدى في القرآن الكريم تزيد على أربعمئة آية ، فمن جمع الآيات ، وتصنيفها ، نستطيع أن نصل إلى مفهومٍ دقيقٍ دقيقٍ عن الهدى .
أولاً : يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾
الفاسق ليس مهتدياً ، الذي يخرج بسلوكه عن قواعد الشرع ليس مهتدياً ، فلا يتوهم المنحرف ، والمقصر ، والمخالف ، والذي يتجاوز حدود الشرع ، والذي يفعل ما نهى الله عنه ، مثل هذا الإنسان لا ينبغي أن يتوهم أنه على هدى ، فربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾
فالفاسق بالضرورة ليس مهتدياً ، لن تكون مهتدياً إلا إذا كنت مستقيماً ، لن تكون مهتدياً إلا إذا كنت منضبطاً ، لن تكون مهتدياً إلا إذا كنت ملتزماً ، الإمام الجنيد رحمه الله تعالى سئل : من ولي الله ؟ أهو الذي يمشي على الماء أم هو الذي يطير في الهواء ؟ قال : لا هذا ، ولا ذاك ، الولي كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام . لن تكون مهتدياً إلا إذا رآك الله حيث أمرك ، و افتقدك حيث نهاك ، عندئذٍ تكون مهتدياً إلى الله سبحانه وتعالى ، هذا مقياس وحيد .
2 ـ الابتعاد عن الإشراك بالله :
ثانياً :
﴿فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾
المهتدي مطمئن ، مطمئنٌ إلى عدالة الله ، مطمئن إلى رحمة الله ، مطمئن إلى حكمة الله ، يعلم علم اليقين أنه لا إله إلا الله ، لا رافع ولا خافض ، لا معطي ولا مانع ، لا معزَّ ولا مُذل إلا الله ، وأنه حكيم عليم ، توابٌ رحيم ، سميع بصير ، غني قدير ، كيف يقلق المؤمن ؟
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
الخوف المرضي ، والقلق الشديد ، علامة عدم اليقين بأسماء الله الحسنى ، عدم اليقين بوحدانية الله سبحانه وتعالى :
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾
ما من إله إلا الله ، وهو الذي في السماء إله ، وفي الأرض إله ، بيده مقاليد السموات والأرض ، خالق كل شيء ، وهو على كل شيء وكيل :
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾
الموحِّد هو المهتدي ، ومن أشرك مع الله آلهة أخرى فهو في ضلالٍ مبين ، من عزا الأمر إلى غير الله ، من رجا غير الله ، من خاف من غير الله ، من توجه إلى غير الله ، من أرضى غير الله فهو في ضلالٍ مبين .
3 ـ الابتعاد عن اتباع الهوى :
مقياس ثالث :
﴿لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾
هناك تناقض بين الهدى وبين اتباع الهوى ؛ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ، هناك تناقض شديد بين الهدى وبين اتباع الهوى ، الله سبحانه وتعالى هو الحق المبين ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، فإما أن تكون على الحق ، وإما أن تكون على الباطل .
4 ـ عدم التكذيب بلقاء الله :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ مقياس آخر للهدى :
﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾
هذا الذي لا يعمل للآخرة ، ولو أنه أقرها بلسانه ، ولكن عمله لا يؤكد أنه يعمل لها ، إنه يعمل للدنيا ، لا يبالي بيوم الدين ، لا يبالي بيوم الجزاء ، لا يبالي بيوم الفصل ، هذا الذي لا يخشى أن يقف بين يدي الله عز وجل يوم القيامة ، ليحسابه عن كل كلمة ، وعن كل درهم ، وعن كل موقف ، وعن كل ابتسامة ، وعن كل عملٍ ، هذا الذي لا يبالي بلقاء الله عز وجل ، ليس مهتدياً ، ورب الكعبة! . .
هذه بعض المقاييس لئلا يقع الإنسان في الوهم ، لئلا يتوهم أنه مهتدٍ وهو ليس كذلك ، فالفاسق ليس مهتدياً ، والذي يشرك بالله سبحانه وتعالى ليس مهتدياً ، والذي يتبع الهوى ليس مهتدياً ، والذي يكذَّب بلقاء الله ليس مهتدياً .
ثمار الهدى :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا الهدى الذي حضَّنا الله عليه ، لمن ثمرته ؟ ما مؤداه؟ يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾
إن ثمار الهدى كلها تقطفها أنت ، إن ثمار الاستقامة كلها تحصلها أنت ، إن ثمار الالتزام كلها تقبضها أنت :
﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾
ثمرة أخرى من ثمار الهدى ، قال تعالى :
﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
لا يخاف في الدنيا ، ولا يحزن على ما فاته منها ، ولا على مغادرتها عند الموت ، لا يحزن على ما فاته منها ، لم ينجب أولاداً ذكوراً ، كان دخله محدوداً ، لم تكن زوجته على ما يريد :
﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
لا خوف عليهم في الدنيا ، ولا هم يحزنون عند فراقها على ما فاتهم منها .
ثمرة ثالثة من ثمار الهدى :
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
لا يضل عقله ، ولا تشقى نفسه ، عقله مسدَّد ، ونفسه سعيدة .
ثمن الهدى :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الهدى فضلٌ من الله سبحانه وتعالى ، لكن هذا الفضل تؤكده هذه الآية :
﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾
هذا الفضل الإلهي كيف يعطيه الله سبحانه وتعالى ؟ يعطيه جزافاً يعطيه لمن لا يستحق ؟ أليس هناك أساسٌ واضحٌ دقيق ؟ الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة يحدِّد ثمن الهدى، الهدى له ثمن ، فالله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾
رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ، جهاد النفس والهوى :
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾
فثمن الهدى أن تجاهد نفسك وهواك .
ثمن آخر يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، أي إنسان يتبع ما يرضي الله في علاقاته كلها ، إن اتباع ما يرضي الله هو ثمن للهدى ، إذا شئت الهدى فادفع الثمن ، اتبع ما يرضي الله ، وأنت في فطرتك من دون تعليم تعرف ما يرضي الله ، وما يسخطه ، عامل الناس كما تحبهم أن يعاملوك ، الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله .
ثمنٌ آخر :
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِم﴾
إذا آمنت بالله الواحد الديان ، وعملت الأعمال الصالحة يهديهم ربهم بإيمانهم .
ثمنٌ آخر للهدى :
﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
يلتجئ إليه ، يحتمي به ، يلوذ به ، لا يركن إلى سواه :
﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّار﴾
﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
ثمنٌ رابع :
﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾
طاعة الله سبحانه وتعالى ثمن للهدى :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ذاك لعمري في المقال بديـــــع
لو كان حبك صادقاً لأطعتــــــه إن المحب لمن يحــــب مطيع
***
قال تعالى :
﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾
هذا الذي يخشى غير الله لن يهتدي إلى الله ، لن تهتدي إليه إلا إذا خشيته وحده ، والله ورسوله أحق أن تخشوهما ، أتخشون الناس والله أحق أن تخشوه ؟
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ثمن آخر للهدى :
﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾
إذاً التفكر في خلق السموات والأرض ثمن آخر من أثمان الهدى .
موانع الهدى :
يا أيها الأخوة الأكارم : هل في القرآن آياتٌ تبين موانع الهدى ؟ هل هناك شيء إذا فعله الإنسان لن يهديه الله سبحانه وتعالى ؟ نعم ، الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
لو ظلم الإنسان زوجته ، لن يهتدي إلى الله ، لو ظلم الإنسان رجلاً وقف على دكانه ، أعطاه سلعة بثمن يزيد على سعرها الحقيقي ، استغل جهله ، لن يهديه الله إليه .
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾
أي نوعٍ من أنواع الخيانة هو مانع من موانع الهدى :
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾
المسرف على نفسه بالمعاصي ، المسرف في إنفاقه ، المسرف في لذَّته .
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾
إذا عرضت عليه آية كونية ، قال : دعنا من هذا الحديث ، حدثنا عن أمر واقعي ، هذا الذي لا يبالي بعظمة الله من خلال عظمة الكون لا يستحق الهدى .
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾
﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً﴾
هذا الذي يستخف بأهل الحق ، ولا يقيم لهم وزناً ، لا يقبل كلامهم ، يظن بهم الظنون ، هذا لن يستحق الهدى .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ مانعٌ آخر من موانع الهدى : أن تحب أن تكون مع الكثرة الكثيرة الضَّالة ، وأن تستوحش إذا كنت مع المهتدين ، هذا مانع كبير ، يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾
أنت مع الكثرة أم مع الحق ؟ قال تعالى :
﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾
﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ))
أناس صالحون في قوم سوء كثير .
الهدى اختيار و إرادة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا ثمن الهدى ، وهذه موانع الهدى ، الهدى ليس كما يظن بعض الناس أن الله سبحانه وتعالى هدى زيداً ، وأضلَّ عبيداً ، لماذا لا نعلم ؟ لمَ لم تصلِّ يا أخي ؟ لم يهدني الله بعد ، هذا كلامٌ ضلالٌ في ضلال ، استمعوا إلى قول الله تعالى :
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾
بقيت استجابة الإنسان ، إما أن يستجيب ، أو لا يستجيب .
﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾
الهدى اختيار أيها الأخوة .
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾
﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء﴾
الهدى اختيار ، وليس الهدى إجباراً ، قال تعالى :
﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾
ولكن هذا الهدى الذي يجبر الله عليه الناس ، لا يرقى بهم إليه ، ولا يسعدهم ، ولا قيمة له عند الناس ، ألا تستطيع الجامعة أن تصدر قراراً بتنجيح كل الطلاب من دون امتحان؟ نعم ، ألا تستطيع الجامعة أن توزع أوراق الإجابة وعليها الإجابة التامة ؟ نعم ، ينجح جميع الطلاب من دون استثناء ، يكلف الطالب كتابة اسمه ، ورقمه فقط ، هذا النجاح ما قيمته ؟ أله قيمة عند رئاسة الجامعة ؟ أله قيمة عند الطلاب أنفسهم ؟ أله قيمة عند الناس ؟ هذا معنى قوله تعالى :
﴿لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً﴾
الهدى القسري ، الإجبار على الهدى لا قيمة له ، لا يرقى بصاحبه ، الهدى اختيار، الهدى مبادرة ، الهدى إرادة حرة .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لكن الإنسان إذا اختار الهدى زاده الله هدىً ، قال تعالى :
﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾
﴿فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾
﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾
بمجرد أن تختار الهدى عندئذٍ يتولاك الله بمزيدٍ من الهدى ، بمزيد من التوفيق ، بمزيد من الرعاية .
الله عز وجل هو مصدر الهدى الوحيد :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾
هذه الآية لها معنى واسع جداً ، هذا الإنسان قد يهتدي بالكلام ، أما هذا الإنسان فلا يهتدي إلا بالمصائب ، فالبطل البطل الذي يأتي الله طائعاً ، لا يأتيه بالسلاسل ، لا يأتيه بعد الشدائد ، عجب ربكم من قومٍ يساقون إلى الجنة بالسلاسل ، إما أن تهتدي إلى الله بالدعوة السلمية ، وإما أن يسوق الله للإنسان الشدائد حتى يهتدي ، قال تعالى :
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ليس على وجه الأرض إنسانٌ يملك الهدى للناس ، لا تملك الهدى إلا أنت ، الإنسان نفسه ، بإرادته الحرة ، واختياره الصحيح ، يملك أن يهتدي ، أما أن يكون إنسان بيده أن يهدي الناس فلم يكن هذا حتى للأنبياء ، يؤكد هذا قوله تعالى :
﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾
لا تملك الهدى ، ولست مسؤولاً عن الهدى .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ليس هناك مصدرٌ آخر للهدى إلا الله :
﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ﴾
﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾
والله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل :
﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾
الذي فطرني فإنه سيهدين ، وكفى بربك هادياً ونصيراً ، إن علينا للهدى ، قل إن الهدى هدى الله ، قل هدى الله هو الهدى ، ليس هناك جهة أخرى غير الله تملك الهدى ، إما أن تكون مهتدياً بهدى الله ، وإما أن يكون الإنسان في ضلالٍ مبين ، ماذا بعد الحق إلا الضلال؟
تقييم الناس من شأن الله وحده :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ليس على وجه الأرض إنسانٌ مؤهلٌ أن يقيّم الناس ، لا يعرف حقيقة الناس إلا الله ، لذلك دع عنك هذه المهمة .
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾
لا تقيم زيداً ، ولا عبيداً ، لا تنصِّب نفسك وصياً على الناس ، لا توزع تهماً ، ولا مكافآت ، إنك إنسان مثل بقية الناس ، عليك أنت أن تهتدي إلى الله ، ودع شأن الناس لربهم :
﴿فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾
الدعوة إلى الله لا تورَّث :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ أما إذا أردت أن تكون هادياً إلى الله ، فادفع الثمن ، أن تكون مهتدياً شيء ، بيَّنت لكم قبل قليل ثمن أن تكون مهتدياً ، أما إذا أردت أن تكون هادياً ، داعياً فادفع الثمن ، قال تعالى :
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾
هل أنت صابر على أمر الله ؟ هل أنت صابرٌ على طاعة الله وعن معصية الله وعلى بلاء الله ؟ إذا صبرت على الطاعة ، وصبرت عن المعصية ، وصبرت على البلاء ، ربما كان هذا مؤهلاً لك أن تكون داعيةً إلى الله :
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاما﴾
ثمن أن تكون هادياً أن تنفذ أمر الله بحذافيره ، فأتمه ، لم يدع واحدة منهن :
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾
الدعوة إلى الله لا تورَّث :
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
ألك عمل صالح يؤهلك أن تكون داعية إلى الله ؟ إن العمل الصالح هو الذي يعطي لك القيمة بين الناس ، فإذا رأى الناس مسافة بين القول والعمل سقطت هذه الدعوة من أعينهم ، الناس لا يتعلمون بآذانهم يتعلمون بعيونهم ، بين الحق والباطل ، أن تقول سمعت أو أن تقول : رأيت .
﴿هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾
لا يمكن أن تقوم الدعوة إلى الله إلا على علم مكين ، إلا على فهم دقيق ، إلا على فهم عميق ، أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني .
﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾
يجب أن تنزه الدعوة عن كل مطلب دنيوي وإلا تسقط في وحل الدنيا .
انتشار الهدى في الأرض :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ بشرى من الله سبحانه وتعالى من أن الهدى سوف يعم الأرض ، وقد نقرأ أنه في القطر الفلاني سبعة ملايين مسلم ، وفي القطر الفلاني سبعون مسجداً، وهي أقطار بعيدة كل البعد عن الإسلام ، الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾
أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه الآيات مختارة من أربعمئة آية تتحدث عن الهدى في القرآن الكريم ، لئلا يقع الإنسان في وهم بأنه على الهدى أي أن يصلي الخمس ، وأن يصوم رمضان ، ويعطي نفسه هواها . تلك صفات الإيمان الدقيقة ، فله ثمن ، وله موانع ، وله تعاريف بينت بعضها في هذه الخطبة .
وأرجو الله سبحانه وتعالى أن تنقلب هذه الحقائق إلى وقائع ، أن تترجم هذه الآيات إلى التزام ، إلى مواقف ، إلى طاعة ، إلى بذل ، إلى تضحية .
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني . .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
بعض الوصايا الصحيّة التي أوصى بها النبي الصائمين :
أيها الأخوة الكرام ؛ نذكر بعض الوصايا الصحية التي أوصى بها النبي عليه الصلاة والسلام الصائمين ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً ))
فَسَّرَ علماء الحديث هذه البركة بمعنيين ، إما أنها بركةٌ في الدنيا ، وإما أنها بركةٌ في الآخرة ، فهذا الذي يستيقظ ليتناول طعام السحور ربما صلَّى الفجر في المسجد ، ربما سمع آيةً بعد صلاة الفجر تركت أثراً بليغاً في نفسه ، ربما ذكر الله خالياً ففاضت عيناه بالدموع ، ربما تلا القرآن فكان ربيع قلبه ، جاءه كل هذا الخير من استيقاظه ليتناول طعام السحور ، إذاً هذه بركة الآخرة .
أما بركة الدنيا ، إذا تناول طعام السحور من له أعمالٌ شاقة أمكنه أن يتابع الصيام ، بالحد الأدنى من المشقة ، فهذا الجسد يحتاج إلى وقود ووقوده الطعام ، فتناول طعام السحور من السُنَّة ، ومن السُنَّة أيضاً تأخير السحور ، هذا الذي يسهر إلى منتصف الليل ، ويتناول السحور في الساعة الثانية عشرة وينام ، ضيَّع عليه صلاة الفجر ، وضيَّع عليه سنة تأخير السحور ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((لا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا أَخَّرُوا السَّحُورَ وَعَجَّلُوا الْفِطْرَ ))
الشيء الذي يجب أن يؤكَّد لكم أن الإنسان إذا تناول طعام السحور ، وآوى إلى فراشه مباشرةً ، ربما ساء هضمه ، وربما أصابته بعض الوعكات الصحية ، المتعلقة بغذائه ، فلا بدَّ من وقتٍ كافٍ بين تناول طعام السحور وبين النوم ، هذا الوقت يجب أن تمضيه في قراءة القرآن ، وفي الصلاة ، وفي الذكر .
((فمن صلى الفجر في جماعة ، ثم ذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلّى ركعتي الضحى كتبت له حجةٌ وعمرةٌ تامتين تامتين ))
إذاً ينهى الأطباء عن أن تأوي إلى الفراش بعد تناول طعام السحور .
أيها الأخوة المؤمنون يأمرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نعجِّل بالإفطار ، بمجرَّد أن يدخل وقت المغرب فقد أفطر الصائم ، تناولت الطعام أم لم تتناوله ، لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يأكل بعض التمرات ، أو أي شرابٍ حلوٍ ميسَّر ، أو يشرب جرعةً من الماء ، ثم يصلّي المغرب وبعدها يتناول طعامه ، وقد هدأ جوعه ، وتوازنت أعضاؤه ، وسكر التمر وصل إلى دمه ، فخفف من حدة الجوع ، وجعله يأكل أكلاً معتدلاً ، كما لو أنه في الإفطار ، وهذه أيضاً من السُنة ، وذلك لمن تيسَّر له أن يصلِّي قبل أن يأكل ، أما إذا أحرجت الناس بهذا ، فأهون الشرّين أن تأكل مع المجموع في الوقت المناسب ، ولكن إذا تيسَّر لك أن تأكل تمراتٍ ثلاث ، وتصلِّي المغرب ، وبعدها تأكل ، فهذا من السُنة .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ سَنَّ النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً لنا أن نستعين بالقيلولة على القيام ، وبالسحور على الصيام ، وكان يقول عليه الصلاة والسلام :
(( أقيلوا فإن الشياطين لا تقيل ))
فإذا تمكَّن الإنسان في رمضان أن يستلقي ولو ساعةً من الوقت قبيل المغرب ، أو بُعيد العصر ، أو في وقت القيلولة ، فإنَّ في هذه القيلولة عوناً على أداء صلاة التراويح عشرين ركعة ، الصيام كلُّه من أجل هذه الصلاة ، من أجل أن تؤدّي هذه الصلاة وأنت نشيط ، من أجل أن تقبض الثمرة في الصلاة ، من أجل أن تفهم القرآن ، من أجل أن يذوب قلبك حباً لله عزَّ وجل ، إنَّ الصلاة هي المُناسبة ، فإذا قمت للصلاة وأنت متعب ، وأنت منهك ، استعن على القيام بالقيلولة .
هذه بعض الوصايا الصحية التي وصَّى بها النبي عليه الصلاة والسلام .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك .