- الخطب
- /
- ٠3الخطب الإذاعية
الخــطــبـة الأولــى:
الحمد لله رب العاملين، يا رب خلقت فسويت، وقدرت وقضيت، وأمت وأحييت، وأمرضت وشفيت، وعافيت وابتليت، وأغنيت وأقنيت، وأضحكت وأبكيت، المرجع والمآل إليك، ونحن بك وإليك. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول في الحديث القدسي:
((لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، وقفوا على صعيد واحد وسألني كل واحد منكم مسألته وأعطيت كل سائل مسألته، ما نقص ذلك في ملكي، إن هي إلا أعمالكم أحصيها عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه))
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، قال:
(( إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها فاتقوا الله عباد الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده بمعصيته))
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.
عباد الله أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير.
موضوع الحلال والحرام هو قوام الإسلام ودليل الإيمان:
موضوع الخطبة اليوم الحلال والحرام في الإسلام، فيها مقدمة حول الحلال والحرام في أعمال الجوارح وفي أعمال القلوب، وفيها إحدى عشرة قاعدة ذهبية أصولية في الحلال والحرام، وقصة تتصل بالموضوع بشكل أبو بآخر، وموضوعٌ علميٌ، وخاتمة.
موضوع الحلال والحرام هو قوام الإسلام ودليل الإيمان وميزان الصدق عند الواحد الديان، فلا إيمان بلا عمل، ولا عمل إلا على مقتضى الأمر والنهي، ولا التزام بأمر آمر ولا نهي ناهٍ إلا عن حب، والحب دون اتباع كذب ونفاق.
أيها الأخوة الكرام، من هنا كانت خطورة موضوع الحلال والحرام في الإسلام، الذي هو شريعة خاتمة، لبناء حضارة أمة، هي خير أمةٍ أخرجت للناس، فكانت جميع الرسالات السابقة تدريباً للبشرية على تقبل تلك الشريعة الخاتمة، وتمهيداً لاكتمال الوعي في تلك الأمة المختارة، فما من أمة عدلت عن تشريع الله إلا أخذت بالدمار والهلاك، وما من فرد أهمل الأمر والنهي إلا اختل قوامه واضطرب حاله، قال تعالى:
﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) ﴾
الحلال والحرام يتصل بأعمال القلوب كما يتصل بأعمال الجوارح:
الشريعة رحمة كلها، عدل كلها، مصلحة كلها، حكمة كلها، إنها تعليمات الصانع الخبير:
﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾
لقد أراد الإسلام بناء شخصية المسلم متميزةً عن الشخصيات الأخرى من خلال الحلال والحرام، وقد اتجه الإسلام بأهله إلى بناء مجتمع الجسد الواحد، والأخوة الإسلامية الصادقة التي تنتهي إلى الأخوة الإنسانية على هدي الحلال والحرام، لقد احترم الإسلام الإنسان وأعلى قدره حينما نظر إلى الاقتصاد من خلال الإنسان كرامةً وكفايةً وأمناً، لا من خلال قهره واستغلاله، فكان الحلال والحرام صوناً لكرامة الإنسان، شرائع الإسلام أيها الأخوة، صالحةٌ لاستيعاب كل المعاملات والقضايا العصرية لتضعها في مكانها من الحلال والحرام.
الحلال والحرام يتصل بأعمال القلوب كما يتصل بأعمال الجوارح، والصحابة الكرام على جلالة قدرهم، وعمق إيمانهم، وقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أحرص الناس على رعاية أعمال القلوب، حرصهم على رعاية أعمال الجوارح، إن الإنسان أيها الأخوة لا يتحرك في أعماله سواءً أكانت فعلاً أو تركاً، حركةً آليةً بلا دافع قلبي يدفعه إلى العمل، وإلا كان جماداً لا روح فيه، هذا الدافع القلبي هو الإرادة والنية، وقد يدخله كثير من ألوان الخداع النفسي، حتى يتحول عمل الطاعة إلى إثم، ويتحول ترك الحرام إلى حرام.
إن أعمال القلوب دقيقة المأخذ، تتقارب فيها حدود الحلال والحرام تقارباً لا يمكن التمييز بينها إلا بعد تأملٍ دقيق، على هدى من علم شامل وفقه عميق، كالنفاق المحرم والمباهاة المباحة، كيف نميز بينهما ؟ وكالخوف من الماضي واليأس من رحمته، كيف نفرق بينهما ؟ وكرجاء رحمته والغِرة به، كإضمار ما يجب ستره، بنية الدعوة إلى العمل بالقدوة، ونية الإعجاب بالعمل والرغبة في ثناء الناس كيف نفرق بينهما ؟ وكالعجب والكبر، والمهابة والوقار، إن أعمال القلوب دقيقة جداً.
قواعد أصولية في الحلال والحرام:
إن الأعمال تحتاج إلى شروط صحةٍ من زاوية الأحكام الفقهية التي تتعلق بالجوارح، وهذه الشروط موجودة في كتب الفقه، وتحتاج أعمال الإنسان إلى شروط صحةٍ أخرى من زاوية قبوله عند الله، وهذه تتعلق بمعرفة النفس وأحواله مع ربها.
العمل مطلق أيها الأخوة، والعمل الصالح بخاصة لا يُقبل عند الله إلا إذا كان خالصاً وصواباً ؛ خالصاً ما ابتُغي به وجه الله وهذا من عمل القلب، وصواباً ما وافق السنة وهذا من عمل الجوارح، وكل منهما شرط لازم غير كاف.
1ـ الأصل في الأشياء الإباحة:
القاعدة الأولى: الأصل في الأشياء الإباحة.
إن أول مبدأ قرره الإسلام أن الأصل فيما خلق الله من أشياء ومنافع هو الحلُّ والإباحة، ولا حرام إلا ما ورد فيه نص صحيح وصريح بتحريمه، من الله في كتابه، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، فإذا لم يكن النص صحيحاً، أو لم يكن صريحاً في الدلالة على الحرمة، بقي الأمر على أصل الإباحة، قال تعالى:
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) ﴾
ما كان الله سبحانه وتعالى ليخلق هذه الأشياء ويسخرها للإنسان ويمنَّ عليه بها، ثم يحرمه منها بتحريمها عليه، كيف وقد خلقها، وسخرها له، وأنعم بها عليه ؟ والذي حرمه جل جلاله جزئيات منها بسبب وحكمة بالغة، ومن هنا ضاقت دائرة المحرَّمات في شريعة الإسلام ضيقاً شديداً، واتسعت دائرة الحلال اتساعاً بالغاً.
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً، ثم تلا هذه الآية: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ﴾ ))
إن أصل الإباحة تشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة، ففي الأشياء والأفعال الأصل أنها مباحة، ولا يُحرم شيئاً منها بنص، وفي العبادات الأصل هو الحظر، ولا تُشَّرع عبادة إلا بنصٍ.
2ـ التحليل والتحريم من حق الله تعالى وحده:
القاعدة الثانية: التحليل والتحريم من حق الله تعالى وحده.
التحليل والتحريم من حق الله تعالى وحده وليس من حق أحدٍ من خلقه، أياً كانت درجته في دين الله أو دنيا الناس، فمن فعل ذلك من بني البشر فقد تجاوز حده، واعتدى على حق الربوبية في التشريع للخلق، ومن رضي بعمله هذا واتبعه فقد جعله شريكاً لله، وعُدَّ اتباعه هذا شركاً، قال تعالى:
﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) ﴾
وقال:
﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116﴾
كان السلف الصالح لا يصف شيئاً بأنه حرام ما لم يكن في كتاب الله، أو في سنة رسوله بيناً بلا تفسير، وكانوا لا يطلقون الحرام إلا على ما عُلم تحريمه بالضرورة قطعاً يقيناً، وكان أحمد ابن حنبل يقول حين يُسأل: "أكرهه، لا يُعجبني، لا أحبه، لا أستحسنه ".
3ـ تحليل الحرام وتحريم الحلال من أكبر الكبائر:
القاعدة الثالثة: تحليل الحرام وتحريم الحلال من أكبر الكبائر.
تحليل الحرام وتحريم الحلال يقترن بالشرك، يقول عليه الصلاة والسلام، فيما يرويه عن ربه:
(( إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً.))
وقد حارب النبي صلى الله عليه وسلم نزعة التنطع والتشدد من دون موجب وذمها، وأخبر بهلاك أصحابها، فقال عليه الصلاة والسلام:
((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون))
التحريم أيها الأخوة يستطيعه كل إنسان، حتى الجاهل، لكن العلماء المتمكنين العاملين بعلمهم، المخلصين في علمهم، هم الذين يبينون للناس ما هو حلال وما هو حرام، بالدليل والتعليل، فالتبليغ مهمة الأنبياء والرسل، والتبيين مهمة العلماء من بعدهم.
4ـ الحلال طيب والحرام خبيث:
القاعدة الرابعة: الحلال طيب والحرام خبيث.
من حق الله تعالى، لكونه خالقاً ومربياً ومسيراً ومنعماً على خلقه بنعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، من حقه أن يحل لهم وأن يحرم عليهم ما يشاء، كما له أن يتعبدهم بالتكاليف والشعائر بما يشاء، فهو حق ربوبيته لهم، ومقتضى عبوديتهم له، ولكنه تعالى، رحمة منه بعباده، جعل التحليل والتحريم لأسباب معقولة راجعةٍ لمصلحة البشر أنفسهم، فلم يحل سبحانه إلا طيباً، ولم يحرم إلا خبيثاً، قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) ﴾
الطيبات هي الأشياء التي تستطيبها النفوس المعتدلة المتوازنة، ويستحسنها مجموع الناس ذوي الفطر السليمة، استحساناً غير ناشئ عن أثر العادة، فالعلاقة بين الحلال ونتائجه علاقة علمية، أي علاقة سبب بنتيجة، والعلاقة بين الحرام ونتائجه علاقة علمية أي علاقة سبب بنتيجة.
5ـ في الحلال ما يُغني عن الحرام:
القاعدة الخامسة: في الحلال ما يُغني عن الحرام.
من محاسن الشريعة الإسلامية أنها لم تُحرم شيئاً إلا عوضت خيراً منه، مما يسد مكانه ويغني عنه، فالله تعالى لم يضيق على عباده من جانب إلا وسَّع عليهم من جانب آخر من جنسه، فإنه سبحانه وتعالى لا يُريد بعباده عنتاً ولا إرهاقاً، بل يُريد بهم اليُسرَ والخير والهداية والرحمة، قال أحد العلماء: حرم الله عباده الاستقسام بالأزلام وعوضهم عنه دعاء الاستخارة، حرم عليهم الربا وعوضهم التجارة الرابحة، حرم عليهم القمار وأعاضهم عنه المسابقة في الدين، حرم عليهم الحرير وأعاضهم عنه الملابس الفاخرة، حرم عليهم الزنا وأعاضهم عنه الزواج الحلال، حرم عليهم شرب المسكرات وأعاضهم عنها بالأشربة اللذيذة، حرم عليهم الخبائث من الأطعمة وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات.
ليس في الدين حرمان كما يتوهم الجهلة، فكل شهوة أودعها الله في الإنسان جعل لها قناةً نظيفةً تتحرك من خلالها، وكل حاجة ألجأ الله إليها عباده، جعل لهم أكثر من سبب لتحقيقها، فالحلال يُغني عن الحرام أيما غناء.
6ـ ما أدى إلى حرام فهو حرام:
القاعدة السادسة: ما أدى إلى حرام فهو حرام.
من المبادئ التي قررها الإسلام أنه إذا حرَّم شيئاً حرم ما يُفضي إليه من وسائل، وسد الذرائع الموصلة إليه، فإذا حرَّم الزنا حرم كل مقدماته ودواعيه، من تبرج جاهلي، وخلوة آثمة، واختلاط عابث، وصور فاضحة، وأدب مكشوف، وغناء فاحش فما أدى إلى حرام فهو حرام.
وقرر أيضاً أن إثم الحرام لا يقتصر على فاعله المباشر وحده، بل تتسع الدائرة لتشمل كل من شارك فيه بجهد مادي أو أدبي، كل يناله من الإثم على قدر مشاركته، ففي الخمر لعن شاربها، وعاصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها.
7ـ التحايل على الحرام حرام:
القاعدة السابعة: التحايل على الحرام حرام.
وكما حرَّم الإسلام كل ما يفضي إلى المحرمات من وسائل ظاهرة حرم أيضاً التحايل على ارتكابها بالوسائل الخفية، والحيل الشيطانية، ومن الحيل الآثمة تسمية الشيء الحرام بغير اسمه، وتغيير صورته مع بقاء حقيقته، ولا ريب أنه لا عبرةَ بتغيير الاسم إذا بقي المسمى، ولا بتغيير الصورة إذا بقيت الحقيقة، فمن باع سلعةً ديناً لستة أشهر بمئة، ثم اشتراها نقداً بثمانين، وادعى أن هذا بيع وشراء، نجيبه: بأنه لا عبرة لصورة البيع والشراء إنه أقرض ثمانين ليستردها مئة وهذا هو الربا بعينه.
8 ـ النية الحسنة لا تبرر الحرام:
القاعدة الثامنة: النية الحسنة لا تبرر الحرام.
الإسلام يقدر الباعث الكريم، والقصد الشريف، والنية الطيبة في تشريعاته وتوجيهاته كلها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ))
بالنية الطيبة تصبح المباحات والعادات طاعات وعبادات، فمن تناول غذاءه بنية حفظ الحياة، وتقوية الجسد على طاعة الله، وأداء واجبه نحو ربه وأمته، كان طعامه وشرابه عبادة وقربة، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الطبراني:
(( من طلب الدنيا حلالا، وتعففاً عن المسألة، وسعيا على عياله، وتعطفا على جاره، لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر))
وهكذا كل عمل مباح يقوم به المؤمن يدخل فيه عنصر النية، فتحيله إلى عبادة، أما الحرام فشيء آخر، الحرام هو حرام مهما حسنت نية فاعله، وشرف قصده، ومهما كان هدفه نبيلاً، لا يرضى الإسلام أبداً أن يُتخذ الحرام وسيلةً إلى غاية محمودة، لأن الإسلام يحرص على شرف الغاية وطُهْر الوسيلة معاً، ولا تقر شريعة الإسلام بحال مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، أو مبدأ الوصول إلى الحق بالخوض في كثير من الباطل، بل توجب شريعة الإسلام الوصول إلى الحق عن طريق الحق وحده، فمن جمع مالاً من ربا أو سحت أو لهوٍ حرام ليبني مسجداً، أو يُقيم مشروعاً خيرياً، لم يشفع له نبل قصده، لأن الحرام في الإسلام لا تؤثر فيه المقاصد والنيات، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً.
9ـ اتقاء الشبهات أولى:
القاعدة التاسعة: اتقاء الشبهات أولى.
من رحمة الله تعالى بالناس أنه لم يدعهم في ظلمة من أمر الحلال والحرام، لقد بيَّن الحلال وفصل الحرام، قال تعالى:
﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) ﴾
أما الحلال البين فلا حرج في فعله، وأما الحرام البين فلا رخصة في اتباعه، وهناك منطقة بين الحلال البين والحرام البين، هي منطقة الشبهات التي يلتبس بها أمر الحل بالحرمة على بعض الناس لا على كلهم، إما لاشتباهٍ في الأدلة عليه، أو لاشتباه في تطبيق النص على الواقعة، وقد جعل الإسلام من الورع أن يتجنب المسلم هذه الشبهات حتى لا يجره الوقوع فيها إلى مواقعة الحرام الصرف، قال عليه الصلاة والسلام:
(( الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يدري كثير من الناس، أمن الحلال هي أم من الحرام، فمن تركها استبراءً لدينه وعرضه، فقد سلم، ومن واقع شيئاً منها يوشك أن يُواقع الحرام ))
10ـ الحرام حرام على الجميع:
القاعدة العاشرة: الحرام حرام على الجميع.
الحرام في شريعة الإسلام يتسم بالشمول والاطراد، فليس هناك شيء حرام على الأعجمي حلال على العربي، وليس هناك شيء محظور على الملون مباح للأبيض، وليس هناك جواز أو ترخيص ممنوح لفئة من الناس، تقترف باسمه ما طوع لها الهوى، بل ليس للمسلم خصوصية تجعل الحرام على غيره حلالاً له، كلا إن الله رب الجميع، والشرع سيد الجميع، فما أحل الله بشريعته فهو حلال للناس كافة، وما حرَّم فهو حرام على الجميع كافة إلى يوم القيامة.
السرقة مثلاً حرام، سواء أكان السارق ينتمي إلى المسلمين أو لا ينتمي، وسواء أكان المسروق ينتمي إلى المسلمين أو لا ينتمي، والجزاء لازم للسارق أياً كان نسبه أو مركزه، وهذا ما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلنه حينما قال:
((إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))
11ـ ضابط الكسب الحلال:
القاعدة الحادية عشرة: حول ضابط الكسب الحلال، هي قاعدة مهمة جداً من القاعدة العامة في الكسب، أن الإسلام لا يُبيح لأبنائه أن يكتسبوا المال كيفما شاؤوا وبأي طرق أرادوا، بل هو يفرِّق بين الطرق المشروعة باكتساب المعاش، نظراً إلى المصلحة الجماعية، وهذا التفريق يقوم على المبدأ الكلي وهو: إن جميع الطرق لاكتساب المال التي لا تحصل فيها المنفعة للفرد إلا بخسارة فرد غيره غير مشروعة، وإن الطرق التي يتبادل فيها الأفراد المنفعة فيما بينهم بالعدل والتراضي مشروعة، هذا المبدأ يبينه قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29)﴾
لقد أشارت كلمة ﴿ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ ﴾ ـ ولم يقل الله عز وجل لا تأكلوا أموال غيركم ـ في الآية إلى حقيقة أساسية، وهي ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون من أخوة صادقة، ومشاركة وجدانية حانية، يجسدها شعور المؤمن الحق أن مال أخيه هو ماله من زاوية واحدة، وهي وجوب الحفاظ عليه وصونه من التلف والضياع، فلأن يمتنع عن أكله بالباطل من باب أولى، وأن مال أخيه هو ماله من زاوية ثانية، وهي أن المؤمن إذا أكل مال أخيه أضعفه، وفي إضعافه إضعاف لذاته، فهو حمل عليه، فالمؤمن إذا أكل مال أخيه فكأنما أكل ماله، لذلك ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم:
(( كل المسلم على المسلم حرام، ماله ودمه وعرضه ))
في الدين حقائق يجب أن تُعلم بالضرورة وهي فرض عين على كل مسلم:
هناك في الدين حقائق يجب أن تُعلم بالضرورة وهي فرض عين على كل مسلم ذكراً كان أو أنثى، بصرف النظر عن اختصاصه العلمي، وعمله المهني، ودوره الاجتماعي، وحاله النفسي، فإن لم يعلمها شقي وهلك في الدنيا والآخرة، حقائق يجب أن تعلم بالضرورة، أضرب على هذا مثلاً، حينما يهبط إنسان من طائرة بالمظلة، هناك حقائقُ كثيرة عن المظلة، نوع قماشها، مساحته، شكله، لونه، نوع حبالها، أطوالها، أقطارها، ألوانها، وطريقة فتح المظلة، فقد يجهل الذي يستخدم المظلة للهبوط من الطائرة نوع قماشها ومساحته وشكله ولونه، ونوع حبالها وأطوالها وأقطارها وألوانها ويهبط سالماً، أما إذا جهل طريقة فتح المظلة فلا بد من أن يصل إلى الأرض ميتاً، طريقة فتح المظلة يجب أن تُعلم بالضرورة لأي مظلي، والحلال والحرام جزء من الدين، وهو من أخطر أجزائه، وهو الذي ينبغي أن يُعلم بالضرورة، وحاجة المسلم إلى معرفة الحلال والحرام، كحاجة المظلي إلى معرفة طريقة فتح المظلة.
إليكم هذه القصة ؛ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد فتح خيبر الحجاج بن علاط السلمي، فأسلم، وكان غنياً كثير المال، فقال: يا رسول الله، إن مالي عند امرأتي أم شيبة بمكة، ومتفرق في تجار مكة، فأذن لي يا رسول الله أن آتي مكة لآخذ مالي قبل أن يعلموا بإسلامي، عندئذ لا أقدر على أخذ شيء منه، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال الحجاج: يا رسول الله، لا بد من أن أقول أي أتقول ـ أذكر ما هو خلاف الواقع ـ حتى أحتال به لأخذ ماله، فقال عليه الصلاة والسلام لرحمته وكماله: قل ما شئت، قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالاً من قريش يستمعون الأخبار، ويسألون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر، وهي من أقوى قرى الحجاز، وهم يتجسسون الأخبار من الركبان، وكان بينهم تراهن عظيم على مئة بعير حول من سيغلب، أهل خيبر أم رسول الله ؟ فلما رأوا الحجاج ولم يكونوا علموا بإسلامه، قالوا: الحجاج والله عنده الخبر اليقين ؛ يا حجاج، إنه قد بلغنا أن القاطع ـ يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قد سار إلى خيبر، فقال الحجاج: عندي من الخبر ما يسركم، فاجتمعوا عليه يقولون إيه يا حجاج، قال الحجاج: فقلت لهم: لم يلق محمد وأصحابه قوماً يحسنون القتل مثلهم، فهزم هزيمةً لم يُسمع بمثلها، وأسر محمد وقالوا: لا نقتله حتى نبعث فيه إلى مكة، فنقتله بين أظهرهم، بمن كان أصاب من رجالهم، فانطلق هؤلاء الرجال فرحين أشد الفرح إلى أهل مكة، فقيل لهم: قد جاءكم الخبر، هذا محمد، إنما تنتظرون أن يُقدم به عليكم فيُقتل بين أظهركم، ثم قال لهم الحجاج: أعينوني على غرمائي أريد أن أقدم فأصيب من غنائم محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى هناك، فجمعوا إلي مالي على أحسن ما يكون، ففشا ذلك بمكة وأظهر المشركون الفرح والسرور، وانكسر من كان بمكة من المسلمين، وسمع بذلك العباس بن عبد المطلب، فجعل لا يستطيع أن يقوم من شدة حزنه بهذا الخبر، ثم بعث العباس إلى الحجاج غلاماً ليقول له: يا حجاج، الله أعلى وأجل من أن يكون الذي جئت به حقاً، فقال الحجاج للغلام: اقرأ على أبي الفضل السلام، وقل له: ليُخِلِ لي بعض بيوته لآتيه بالخبر على ما يسره، واكتم عني، فأقبل الغلام فقال: أبشر أبا الفضل فوثب العباس فرحاً كأن لم يمسه شيء، وأخبره بذلك، فأعتقه العباس رضي الله عنه لوجه الله، وقال: لله علي عتق عشر رقاب على هذا الخبر السار، فلما كان الظهر، جاءه الحجاج، فناشد العباس أن يكتم عنه ثلاثة أيام، وقال: إني أخشى الطلب، فإذا مَضَتْ ثلاثٌ فأظهر أمرك، وطالت على العباس تلك الأيام الثلاث، عمد العباس رضي الله عنه إلى حُلة فلبسها، وتخلق بخلوقٍ ـ أي تطيب بنوع من الطيب ـ وأخذ بيده قضيباً، ثم أقبل يخطر حتى أتى مجالس قريش، وهم يقولون إذا مر بهم لا يصيبك إلا الخير يا أبا الفضل، هذا والله من التجلد بحر المصيبة، قال: كلا والله الذي حلفتم به، لم يصبني إلا خير بحمد الله، أخبرني الحجاج أن خيبر فتحها الله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، وجرت فيها سهام الله وسهام رسوله، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت ملكهم، وإنما قال لهم ذلك ليخلص ماله منكم، وإلا فهو ممن أسلم فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين فقال المشركون: ألا يا عباد الله، انفلت عدو الله ـ يعنون حجاجاً ـ أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر بذلك.
تتصل هذه القصة من زاوية واحدة من زواياها بموضوع الخطبة، ويستنبط منها ثلاث حقائق ؛ الحقيقة الأولى تتعلق بسنة من سنن الله في خلقه، والثانية تتعلق بخلق عظيم من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثالثة تتعلق بحكم فقهي في المال، أترك لضيق الوقت للأخوة المستمعين الإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة.
أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
***
الخــطــبـة الثانية:
فوائد زيت الزيتون:
﴿ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ (157) ﴾
إليكم هذا الموضوع العلمي: أهمل الطب الحديث البحث عما في غذاء الإنسان من فوائد وقائية، وعلاجية، وغذائية، لكن في عام ألف وتسعمئة وستة وثمانين، ظهرت أول دراسة موضوعية عن أثر زيت الزيتون في تخفيض شحوم الدم، ثم أظهرت دراسة أخرى تبعتها، أن أمراض شرايين القلب واحتشاء العضلة القلبية، كانت نادرةً بل شبه معدومة في جزيرة كريت، بسبب أن أهل هذه الجزيرة يأكلون زيت الزيتون بكميات كبيرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:
(( كلوا الزيت وادهنوا به، فإنه يخرج من شجرة مباركة))
يقول العلماء: زيت الزيتون أسهل أنواع الزيوت هضماً، فيه قيمة وقائية وعلاجية وغذائية، والأطباء الآن أجمعوا على أن هذا الزيت له تأثير علاجي عجيب، من هذا التأثير أنه يمكن أن يُستخدم لخفض الكولسترول الضار في الإنسان، ورفع الكولسترول النافع، ويستخدم أيضاً لخفض الضغط المرتفع، ويُستخدم أيضاً لمرضى السكر، ويستخدم لوقاية الشرايين والأوعية من تصلبها، وفيه مادة تمنع تخثر الدم وتقي الشرايين من ترسب المواد الدهنية، ومن التحليلات الدقيقة أن مئة غرام من زيت الزيتون فيه غرام بروتينات، وأحد عشر غرام من الدسم، وفيه البوتاسيوم والكالسيوم والمغنيزيوم والفسفور والحديد والنحاس والكبريت، وفيه ألياف، وهو غني بأهم الفيتامينات المتعلقة بتركيب الخلايا ونشاطها، والمتعلقة بالتناسل وبالعظام، وهو غذاء جيد للدماغ، وغذاء للأطفال، وله تأثير في تفتيت الحصيات ؛ حصيات المرارة والمثاني، وله أثر ملطفٌ لالتهابات الجلد، ولبعض الأمراض الجلدية، هذا الزيت له أثر طيب ونافع حتى في الاستعمال الخارجي والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يُوحى. هناك أحاديث كثيرة عن الزيت، اخترت لكم منها هذا الحديث:
(( كلوا الزيت وادهنوا به، فإنه يخرج من شجرة مباركة))
يكاد بلدنا الطيب بفضل الله تعالى أن يصل إلى البلد الأول في العالم في زراعة شجرة الزيتون.
تفوق الإنسان في الدين بالاستقامة والعمل الصالح:
ختاماً لهذه الخطبة أضع بين أيديكم الحقيقة التالية، يتفوق الإنسان في الدين لا بحجم ثقافته الدينية، ولا بحجم عواطفه الجياشة نحو الإسلام والمسلمين، ولا بحجم المظاهر الدينية التي يحيط بها نفسه، ولكن يتفوق في الدين بمدى استقامته على منهج ربه قال تعالى:
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
يتفوق أيضاً بحجم عمله الصالح، الذي يعود نفعه على المسلمين بخاصة، وعلى الإنسانية بعامة، قال تعالى:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا(132) ﴾
هذه الاستقامة وهذا العمل الصالح لا يُقبلان عند الله في الآخرة إلا إذا بُنيا على معرفة بالله صحيحة ومتينة، قال تعالى:
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) ﴾
قيل لأحد العارفين: " من هو الولي، أهو الذي يمشي على وجه الماء ؟ قال: لا، قالوا: أهو الذي يطير في الهواء ؟ قال: لا، قال: الولي كل الولي، الذي تجده عند الحرام والحلال ".
أن يجدك حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك، وقد لفت نظري أيها الأخوة، كلمة قالها السيد الرئيس في الاتحاد الدولي للعمال العرب في عام واحد وثمانين، قال: " إن القريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القريب بعمله، بخلقه، بقيمه، بجهاده "، هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.