وضع داكن
26-04-2024
Logo
الأسماء الحسنى - الدرس : 22 - توجيهات عامة في ليلة القدر - 1 أثمن شيء في الدنيا العمل الصالح
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

العمل الصالح أثمن شيء في الدنيا :

 أيها الأخوة الكرام ، لا شك أن المؤمن حينما يقترب رمضان من نهايته يتألم ، وقد يكون مبعث تألمه أنه لم يكن صيامه كما يتمنى ، لكن لمثل هذه الحالة لا بد من ذكر هذه الحقيقة ؛ رمضان إذا ولّى فالعام كله رمضان ، ورب رمضان في كل زمان ومكان ، وما فاتك في رمضان يمكن أن تستدركه بعد رمضان ، والذي فعلته في رمضان يمكن أن تستمر به بعد رمضان ، والذي ذقت طعمه في رمضان ينبغي أن تزيد منه بعد رمضان ، فمسيرتنا إلى الله مسيرة العمر ، هذا قرار بالتعبير الحديث استراتيجي ، المؤمن اتخذ قراراً لطاعة الله ، فقد نقول للعصاة : رمضان مناسبة مغفرة ، رمضان مناسبة توبة ، لكن نقول للمؤمنين : رمضان وما بعد رمضان مناسبات مستمرة للإقبال على الله .
 أيها الأخوة الكرام ، حينما يعرف الإنسان أن أثمن شيء في الدنيا هو العمل الصالح، وأن الذي يقارب الموت يقول :

﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحا ً﴾

[سورة المؤمنون : 99-100]

 إذاً علة وجودك في الأرض أن تعبد الله ، ومن أبرز ملامح العبادة الانضباط ، والامتناع عن كل محرم ، والعمل الصالح ، فالعمل الصالح بعد الإيمان هو الأصل في الدنيا .
 فيا أيها الأخوة ، الله عز وجل أعاننا على الصيام ، والقيام ، والفضل لله عز وجل .

(( للصّائِمِ فَرْحَتانِ : فرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ ، وفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقى رَبّهُ ))

[متفق عليه عن أَبي هُريرةَ]

 لأن متاعب العبادة انتهت ، وبقي ثوابها ، ولذائذ المعصية انتهت ، وبقي عقابها ، والدنيا ساعة فاجعلها طاعة ، والنفس طماعة عودها القناعة .

الفرق بين العالم و العابد :

 قد يبدو لي أن أبرز شيئاً في ليلة القدر ، ونحن في هذه الليلة المباركة أن المؤمن يجب أن ينتقل من عبادة إلى علم ، فأيّ إنسان انصاع لأمر الله فهو عابد ، لكن أي إنسان تعرف إلى الله فهو عالم ، الفرق بين العالم والعابد فرق كبير جداً ، وفي بعض الأحاديث :

(( . . وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ . . .))

[الترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد ]

 بحسب العين المجردة .

(( فَضْلُ الْعَالِمَ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُم ))

[الترمذي من حديث أبي أمامة ]

 كم هي المسافة بين النبي صلى الله عليه وسلم وآخر المؤمنين ؟ هي نفسها بين عابد وبين عالم ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( فَقِيهٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ ))

[ رواه الترمذي وابن ماجه ]

 أخواننا الكرام ، قبل خمسين عامًا أو مئة عام كان يمكن للعابد أن ينجو ، لكن والله أعتقد أن العابد في هذه الأيام لا يمكن أن ينجو ، لأن الفتن مستعرة ، والشبهات كثيرة ، وكل شيء في الدنيا يدعو إلى المعصية أينما التفت ، وأينما ذهبت ، وأينما حللت ، صور المعاصي والآثام بين يديك ، وكل شيء يدعو إلى المعصية إلا من رحم الله ، إلا لمن لجأ إلى بيت من بيوت الله ، إلا من دخل بيته يتعبد ربه ، فلذلك الآن العابد لا ينجو ، لأن مقاومته هشة ، تحت أي ضغط يخرج عن استقامته ، وتحت أي إغراء يخرج عن استقامته ، لذلك أنا لا أعتقد أمام الشبهات ، وأمام الشهوات ، وأمام الفتن ، وأمام الضلالات ، وأمام الضغوط ، وأمام التجرؤ على الدين أن يستطيع عابد أن يصمد أمام هذه المحن ، لا يصمد إلا المؤمن .
 في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أراد الله أن يمتحن المؤمنين في معركة الخندق :

﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾

[سورة الأحزاب : 10-11]

 لأن الله عز وجل من سننه الابتلاء ، وقد قال الله عز وجل :

﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾

[ سورة المؤمنون : 30]

﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً﴾

[ سورة الأحزاب : 12 ]

 حتى إن بعضهم قال :

(( أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ))

[السيرة النبوية]

 والله عز وجل قال :

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾

[ سورة الأحزاب : 23 ]

 فالمؤمن في هذه الأيام يصمد ، أما العابد فلا يصمد ، لذلك كن عالماً ، أو متعلماً ، أو مستمعاً ، أو محباً ، ولا تكن الخامسَة فتهلك .
 هناك مفارقة بين موقفين متناقضين ؛ رأى النبي شاباً يتعبد الله في وقت العمل ، فسأله : من يطعمك ؟ قال : أخي ، قال أخوك أعبد منك . الذي يعمل أعبَدُ مِن الذي لا يعمل ، الموقف واضح .
 لما شكا شريك شريكه وهو طالب علم ، شكا تقصير طالب العلم في العمل قال له النبي الكريم : لعلك ترزق به .
 لماذا قال في الحالة الأولى : أخوك أعبد منك ؟ لأنه عابد ، لكن طالب العلم يتعلم ليعلم ، يتعلم لينقذ الناس ، يتعلم ليرقى بالناس ، العابد يبحث عن راحته النفسية ، بينما طالب العلم يبحث عن هداية الخلق .
 فلذلك أيها الأخوة ، لعل ليلة القدر تنقل المؤمن من مرتبة العبادة إلى مرتبة العلم :

(( فَقِيهٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ ))

[الترمذي وابن ماجه]

 هناك قصة رمزية أن إنسانًا وضع على رأسه عمامة خضراء ، وطرق باب عابد ، قال له : أنا الخَضِر ، هذا العابد اختل توازنه ، وتمسّح به ، وقبّل ثيابه ، وقبّل رأسه ، وفرح فرحاً لا يوصف ، قال له هذا الإنسان الذي ادعى أنه الخضر : لقد رفعتُ عنك الصلاة ، فازداد فرحاً وكاد يرقص ، رفعت عنك الصوم ، رفعت عنك الحج ، العابد مقاومته هشة ، علمه قليل ، هذا الإنسان نفسه طرق باب عالم ، وادعى أنه الخضر ، وقال له : رفعت عنك الصلاة والصيام والحج فدخل وجاء بقضيب ليضربه :

(( فَقِيهٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ ))

[الترمذي وابن ماجه ]

 العابد مقاومته هشة ، أنت حينما تعرف الله تقتدي برسول الله :

(( واللهِ يا عم ، لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))

[السيرة النبوية]

 المؤمن مواقفه ثابتة ، لا يتأثر لا بسبائك الذهب اللامعة ، ولا يتأثر بسياط الجلادين اللاذعة ، عاهدنا الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره ، وفي الصحة والمرض ، وفي الغنى والفقر ، وفي إقبال الدنيا وفي إدبارها ، هذا هو المؤمن .

ثمار الإيمان لا تقطف إلا بالاستقامة :

 في هذه الليلة المباركة لعل الإنسان يقفز قفزة نوعية ، وفي الحقيقة الذي يحصل أن هناك نموًّا تدريجيًّا ، قد تصل قمة النمو في ليلة القدر ، أو هناك عد تنازلي ، فقد يصل العد التنازلي إلى الصفر في ليلة القدر ، مِن منطلق سبق تمهيد ، وسبق تراكم ، على كل مقياس أننا انتفعنا من هذه الليلة استقامتنا بعد هذه الليلة ، لأنه في النهاية الدين بكل نشاطاته التي لا تعد ولا تحصَى يضغط في كلمة واحدة : أن تستقيم على أمر الله ، وما من مستقيم على أمر الله يؤدي العبادة بإتقان ، ويستقيم على أمر الله بإخلاص إلا ويملأ الله قلبه سكينة وسعادة وطمأنينة .
 فأقوى شيء في الدين أن تقطف ثمار الإيمان ، وثمار الإيمان لا تقطف إلا بالاستقامة ، فالدين كله التزام ، أما أي نشاط آخر من دون التزام فلا يقدم ولا يؤخر ، لذلك أكبر شيء يؤلم العالم الإسلامي اليوم العدد كبير ، مليار وثلاثمئة مليون ، هناك رأي الآن مليار وأربعمئة مليون مسلم ، لا وزن لهم ، لأنهم ما خرقوا العبادة إلى العلم ، يصلي أحدهم ، إذاً هو مسلم وناجٍ ، أما سهره في الملاهي ، انحرافه ، انغماسه بالملذات المنحطة ، شربه للخمر ، كل شيء وحده ، فنحن في مشكلة كبيرة ، حتى إن هناك من قال : المسلمون يحتاجون إلى دعوة الآن ، الدعوة يجب أن تتجه إلى المسلمين ، فإذا أكرم الله عز وجل الواحد منا بمسجد وهو ملتزم فهذه من نعم الله الكبرى إن شاء الله .

الجاهل هو الذي يعصي الله ولا يخطط لمستقبله :

 على كل يجب أن تنتقل من العبادة إلى العلم ، وإن أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، أنت حينما تأتي إلى المسجد ، وتطلب العلم هذا الوقت ليس ضائعاً ، من هو الجاهل ؟

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة الصف : 10-11]

 فالذي يرى أن الدنيا خير من الآخرة ، وجلسة في البيت مع الأهل والأولاد والأصحاب أفضل من درس علم ، وتجارة رابحة أفضل من مرضاة الله عز وجل هذا لا يعلم ،
 مثلاً سيدنا يوسف قال :

﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِين َ﴾

[سورة يوسف : 33]

 معنى ذلك أن الجاهل هو الذي يعصي الله ، ودائماً وأبداً أقول : المجنون مبتلى ، لكن المجنون الحقيقي الذي يعصي الله ، وفي هذا المجال أنا أقول لكم : ما كل ذكي بعاقل ، العاقل من أطاع الله ، وعرف سرّ وجوده ، وغاية وجوده ، فما الذي يمنع الواحد منا أن يضع برنامجًا مكتوبًا لنشاطاته ، لأن الإنسان من دون برنامج تتقاذفه الهموم ، النموذج الشائع ما عنده برنامج ، ليس مخطِّطًا لحياته ، يدعى إلى سهرة تكون عنده مهمة جداً ، يأخذه أصدقاؤه إلى مكان يضيع عشر ساعات ، فهذا الذي تتقاذفه الأهواء هذا إنسان لا يستحق الحياة ، أما أنت كمؤمن فبعد رمضان ضع برنامجًا لنفسك ، تمضي بعضه مع الله في دعاء وذكر ، وتلاوة وتفكر، وتمضي قسمًا مع أهلك ، وقسمًا مع عملك ، وقسمًا في إعداد لمستقبلك ، فكل إنسان يضع برنامجًا ، ويخطط يقطف النتائج .

المسجد مكان لأخذ التعليمات والتطبيق في الحياة :

 هذا المسجد أيها الأخوة هو لأخذ التعليمات ، والتطبيق في الحياة ، الشركات العملاقة عندها مندوبو مبيعات ، يأتون صباحاً الساعة الثامنة ليتلقوا التعليمات والخطط ، أنت اذهب إلى هذا المكان ، مساء يعودون ويدفعون الغلة ، هكذا المسجد تمامًا ، تتلقى فيه المعلومات، والتوجيهات ، وعندما تصلي فيه تأتيك الرحمات ، لكن دينك بعملك ، دينك بالمعمل ، بالمكتب ، بالتجارة ، بالصناعة ، بالعيادة ، دينك بالسوق ، دينك ببيتك ، لأن الحياة مجال للطاعة أو المعصية ، وهناك من يعتقد أنك إذا أتيت المسجد فأنت صاحب دين ، لا ، أنت جئت إلى بيت الله كي تأخذ التعليمات من الله :

﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾

[ سورة الفاتحة : 6]

 الذين ينطقون بالحق ، ينطقون بتوجيهات الله عز وجل ، يقول الله عز وجل : افعل كذا ، ولا تفعل كذا ، فأنت تأتي ، وتأخذ التعليمات ، وتعود ، وتصلي ، وتتلقى الرحمات ، أما مجال التدين في الأسواق ، في البيع والشراء ، في الجامعة ، في المدرسة ، فهذا مجال التطبيق ، ولما تتوهم أن الدين في المسجد فقد وقعت في مطب كبير ، المسجد يعطيك التعليمات ، ويمكنك إذا دخلته عابداً تأتيك التجليات ، أما مجال الرقي ففي عملك ، وكل إنسان يبتعد عن العمل الصالح يبقى في مكانته ، لقوله تعالى :

﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾

[ سورة فاطر : 10]

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور