الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ملخص ما جاء في الدروس السابقة:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثامن من دروس سورة البقرة، ومع الآية السابعة عشرة.
لا زلنا مع الآيات التي تصف المنافقين، الآيات التي تصف المؤمنين خمسُ آيات، والآيات التي تصف الكافرين آيتان، بينما الآيات التي تصف المنافقين ثلاث عشرةَ آية، هؤلاء المنافقون الذين يقولون:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)﴾
هؤلاء المفسدون في الأرض، ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ هؤلاء الذين: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ هؤلاء الذين يستهزئون بالمؤمنين: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ الأصل هناك علاقةٌ تجارية، تدفع شيئاً وتقبض شيئاً، فالمؤمن ربحت تجارته مع الله؛ بينما المنافق خسرت تجارته مع الله، شُرِحَت هذه الآيات في درسين سابقين.
طريقة المثال أحد أساليب القرآن الكريم الرائعة في توضيح الحقائق وتَجْلِيَة الأمور:
نصل الآن إلى قوله تعالى:
﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)﴾
أما كلمة ﴿مَثَلُهُم﴾ أراد الله جلَّ جلاله أن يضرب لنا مثلاً للمنافقين، والمثل صورة حسية واضحة جداً تنطبق على حقيقةٍ معنوية مُعَقَّدة، فالمثل طريقةٌ في التعبير رائعة، وطريقةٌ في التعبير واضحة، وطريقةٌ في التعبير قريبة، وطريقةٌ في التعبير صادقة، أحد أساليب القرآن الكريم الرائعة في توضيح الحقائق وتَجْلِيَة الأمور طريقة المثال.
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)﴾
ضع على ظهر الحمار كُتُباً قيّمة، وسِرْ به وهي عليه مسافةٌ طويلة، ثم اسأله عن بعض الحقائق التي في الكتب، لا يزيد عن أن ينهق، لم يفقه شيئاً، أي علاقة هؤلاء الذين أوتوا الكتاب، ولم يفهموا مضمون هذا الكتاب، ولم يعملوا به كعلاقة هذه الدَّابة البهيمة بكتابٍ حُمِّل على ظهرها.
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)﴾
أي جائع، مرتاح، مُتْعَب، يلهث، هذا مثل آخر ضربه الله عزَّ وجل، ومن اللطيف جداً أن نرجع إلى القرآن الكريم لنرى هذه الأمثال الرائعة التي ضربها الله تعالى توضيحاً لبعض الحقائق.
استخدم النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة أسلوب المثل:
استخدم النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة أسلوب المثل، فَشَبَّه الجماعة بأنهم رُكَّاب سفينة واقتسموا أماكنهم، أراد بعضٌ هؤلاء الركاب أن يخرق مكانه ليأخذ الماء سريعاً، قال:
(( عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا». ))
مثل رائع في المسؤولية الجماعية، نحن في قاربٍ واحد فإذا أراد بعضنا أن يخرق المساحة التي له من هذا القارب يُهْلكنا جميعاً، فإن أخذنا على يده نجونا جميعاً، وإن تركناه هلكنا جميعاً.
الصلاة عماد الدين، خيمة فيها عمودٌ يبرز كيانها، فإذا أُزيح العماد أصبحت الخيمة قماشاً ملقى على الأرض، لا يظهر كيان هذه الخيمة إلا بالعماد الذي في وسطها، الصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن تركها فقد هدم الدين، آياتٌ كثيرة فيها أمثلةٌ صارخة، وأحاديث كثيرة فيها أمثلة صادقة، ويستخدم الدعاة أحياناً طريقة المثل، وهي من أروع الطرق في توضيح الحقائق.
المنافقون ليس لهم في الآخرة رصيد كل رصيدهم في الدنيا:
أيها الإخوة؛ إن أردت أن تُعَلِّم، أو أردت أن توضِّح، أو أردت أن تلقي الحقيقة فاستخدم المثل، لأن المثل أسلوبٌ قرآني، وأسلوبٌ نبوي، وليس هناك من عملٍ أعظم من أن تُقلِّد الأسلوب القرآني، والأسلوب النبوي، هؤلاء المنافقون لأنَّهم أحبوا الدنيا، ولأن حبّ الدنيا رأس كل خطيئة،
أحبوا الدنيا، وجعلوها نهاية آمالهم ومَحَطَّ رحالهم، وبذلوا جهداً جهيداً من أجلها، فأسسوا وبنوا ومكَّنوا أنفسهم في الأرض، فلما أرادوا أن يقطفوا ثمار هذا الجهد الطويل، هذا الجهد الجهيد، هذا الجهد الذي استغرق من حياتهم مثلاً أربعين عاماً، أو ستين عاماً فاجأهُم الموت، وأخذ منهم كل شيء في ثانيةٍ واحدة، ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً﴾ استوقد وزن استفعل في اللغة وزنٌ يعني الطَلَب؛ طلب النار، طلب النار لتضيء له حياته، أي طلب المال، طلب العز، طلب المكانة العلّية، طلب الجمال، طلب البيت المريح، طلب المركبة، هذه طلباته.
﴿اسْتَوْقَدَ نَاراً﴾ من أجل أن تنير له، فبعد جهدٍ جهيد، وعمرٍ مديد، وعملٍ مضنٍ، تألقت النار وأضاءت له ما حوله، جاء ملك الموت فجأةً وأخذ منه كل هذا الجهد، وكل هذه المكتسبات، وهذا حال المنافقين، ليس لهم في الآخرة رصيد، كل رصيدهم في الدنيا، كل البيض في سلةٍ واحدة، فإذا أُخذت منه هذه السلة فقد كل شيء، ليس للمنافق مستقبل أبداً، له حاضر قد يكون رائعاً جداً.
أمثلة عن أناس فاجأهم الموت وهم في أوج تألقهم:
قال تعالى:
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)﴾
ماله وفير، مكانته عَلِيَّة، لكن ليس له مستقبل، كل ما عنده من مال، كل ما عنده من وجاهة، كل ما عنده من مكانة، كل ما عنده من أساليب يستمتع بها بمباهج الحياة الدنيا منوطةٌ بقطرِ شريانه التاجي، منوطةٌ بسيولة دمه، منوطةٌ بنمو خلاياه فإذا اضطرب نمو خلاياه فقد كل شيء، وإذا ضاق شريانه التاجي فقد كل شيء، وإذا تَجَمَّد دمه في مكانٍ ما فقد كل شيء.
﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً﴾ يسعى، ويعمل، ويسهر، ويُسافر، ويؤسس، ولا ينام الليل، ويخاصم من أجل الدنيا فقط، من أجل المال، من أجل المكانة، فإذا أضاءت ما حوله، بدأ يقطف ثمار عمله فاجأه الموت في أحرج الأوقات، بل في أوج تألُّقه، في أوج استمتاعه بالدنيا، فاجأه الموت بعد أن انتهى من إنشاء العمارة، بعد أيامٍ من زواجه، بعد سنواتٍ من تألُّقِه، وهناك آلاف الأمثلة، سعى إنسان في بناء بيتٍ سنواتٍ طويلة، فلما انتهى البيت فاجأه الموت بعد أيام.
إنسان اشترى بيتاً في مكان جميل، واعتنى بكسوته عناية تفوق حدّ الخيال، وجاء بأمتعته ليستقر في هذا البيت، وجاء بالوجبة الثانية، والوجبة الثالثة، وبقي جهازٌ ينبغي أن يُركب في بيته، رُكِّب الجهاز، وموعده في المجيء النهائي، والاستقرار في هذا البيت، أحد الأيام وافته المنيَّة في هذا اليوم الذي أزمع فيه أن يسكن في هذا البيت، هذا كلام عام.
المنافق إنسان بلا هدف أُخروي وبلا مستقبل:
يسعى الإنسان إلى الدنيا بكل جهده، بكل وقته، بكل ماله، بكل تعبه، بكل كده، بكل عرقه، فإذا امتلك منها شيئاً أضاءت ما حوله، أي صارت له مكانة، له دخل ثابت، يسكن بيتاً مريحاً، له مركبة مريحة، أمره نافذ، اتصالاته جيِّدة، معارفُهُ كُثُر، أتباعه كثيرون، يأتيه ملك الموت وهو في هذه اللحظة من النشوة ليأخذ منه كل شيء في ثانيةٍ واحدة، المنافق إنسان بلا هدف أُخروي، وإنسان بلا مستقبل، وأوضحُ مثلٍ هذا المثلُ.
﴿اسْتَوْقَدَ﴾ بذل الجهد المضني إلى أن أضاءت ما حوله، استمتاعه بها سنوات معدودة، وهذه الدنيا أمامكم، من دون مفاجآت، حتى يصل الإنسان إلى الحد المعقول يحتاج إلى أربعين عاماً من حياته، ماذا بقي له بميزان الأعمار المتوسطة في حياتنا؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(( عن أبي هريرة: معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين. ))
[ صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته : حسن ]
كل سنة يعيشها بعد الستين مَكْسَب، عندما يبلغ الستين عاماً يشعر بأنه قد يُفاجأ بالموت في كل لحظة، وهناك أناس بالخمسين، على أحسن الاحتمالات بعد الستين أصبح احتمال الموت قائماً في كل لحظة، ماذا استمتع من حياته؟ عشرون سنة، ضيَّع الأبد لعشرين عاماً مشحونة بالمتاعب والخصومات والدعاوى، انظر إلى قصر العدل عشرات بل مئات الألوف من الدعاوى، صار عليه دعاوى، وهناك خلافات أسرية، وهناك خلافات تجارية، وهناك علل بصحته، ويطلب الدنيا بكل ما يملك، هذا حال المنافق.
المعاني المتعددة لقوله تعالى ﴿اسْتَوْقَدَ نَاراً﴾:
1 ـ المنافق يريد من النار أن تضيء له حياته ليكون سعيداً:
﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)﴾
هذا النور الذي أرادوه من النار، طبعاً قد تُريد النار من أجل الدفء، وقد تُريدها من أجل طهو الطعام، وقد تُريدها من أجل النور، هنا أراد الله عزَّ وجل أن يبيِّن لنا أن المنافق يريد من النار أن تضيء له حياته، أن تكون حياته سعيدة، فيها بهجة، فيها عِز، فيها فخامة، فيها رفاه، وكم من بيتٍ فخمٍ لم يسكنه صاحبه؟! وكم من مركبةٍ فارهةٍ ركبها أياماً معدودة ثم فاجأه ملك الموت؟! هذا الذي يجعل كل مكتسباته في الدنيا يقامر ويغامر.
المؤمن له مستقبل، والمؤمن يأتيه ملك الموت، ولكن يأتيه ملك الموت وله عند الله رصيدٌ كبير، قدَّم ماله أمامه يسهُل عليه اللحاق به، رصيده عند الله كبير، استقامته، وطلبه للعلم، وعمله الصالح، ونصحه للمسلمين، صدقه، وأمانته، وتربية أولاده، وخيره العميم، هذه كلها أرصدة هائلة مودَعَةٌ له في الآخرة، فإذا فاجأه الموت يقول له: مرحباً، الموت تحفة المؤمن، الموت عرس المؤمن، هذا معنى، أي لا تكن أيها الأخ الكريم كالذي جعل كل إمكاناته في الدنيا، هذه الإمكانات العالية في الدنيا تُنهيها جلطة، تنهيها سكتةٌ قلبيةٌ مفاجئة، تنهيها خثرةٌ دماغية، ينهيها نمو الخلايا العشوائي، أما الذي له عند الله رصيدٌ كبير من العمل الصالح، ومن الانضباط الشرعي، ومن الدعوة إلى الله، لو جاءه الموت، الموت تحفته، الموت عُرسه.
2 ـ رفض المنافقين لدعوة النبي التي كانت ستوصلهم للسعادة:
المعنى الثاني في هذه الآية أن اليهود كانوا يتحدَّوْنَ المنافقين قبل مجيء الرسالة النبوية: آن أوان مجيء نبيٍ نؤمن به، فالمنافقون أرادوا أن يؤمنوا بهذا النبي ليتحدّوا اليهود الذين بشروهم بهذا النبي، فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام هم كانوا ينتظرونه، هم كانوا يبحثون عنه كي يردوا على كيد اليهود، وكي يقفوا أمامهم، فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام كذَّبوا به، هم استوقدوا ناراً، فلما أضاءت ما حوله حينما رفضوا دعوة النبي أذهب الله نورهم الذي كان من الممكن أن يُرْشِدهم إلى طريق السعادة في الدنيا والآخرة.
3 ـ المنافقون كفار حقيقة لكن مصالحهم تعلقت بالمؤمنين فأظهروا ما لا يبطنون
هناك معنى ثالث أن هؤلاء المنافقين هم في الحقيقة كُفَّار، ولكن مصالحهم تعلَّقت بالمؤمنين، أعلنوا إسلامهم، وأخفوا كفرهم، وهؤلاء أرادوا الدنيا فقط، هؤلاء انتفعوا بكفرهم، ولكنهم يفترقون عن الكافرين بأن لهم مصالح مع المؤمنين، فأظهروا ما لا يُبطنون، وأعلنوا ما لا يُسِرُّون، لذلك الدليل على ذلك:
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)﴾
هذه منافذ الإيمان.
الاستماع الذي أراده الله هو الذي يعقبه تطبيق:
صممٌ أَصَم لا يسمع.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)﴾
الإنسان إذا أصغى:
﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)﴾
الإنسان إذا أصغى للحق المنافق لا يصغي، قد يجلس في مجلس علم، لأنه على موعد مع شخص، قال له: نلتقي في الجامع، يجلس، ويستمع إلى الدرس كُلِّه، ولا يفقه منه شيئاً، لأنه ليس هناك، هو في واد والدرس في واد آخر، ﴿صُمٌّ﴾ يتشاغل، ذهنه في أسعار العملات، في الصفقات، في الدرهم والدينار، في النساء، فأنت إذا حدَّثته بحديث مصيري وخطير أنت في واد وهو في وادٍ آخر ﴿صُمٌّ﴾ لذلك أهل النار يوم القيامة يقولون:
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾
لا يرى القرآن الكريم أن الاستماع هو أن تُعْطي أذنك للقائل، الاستماع الذي أراده الله هو الذي يعقبه تطبيق.
قال تعالى:
﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)﴾
مصيبةٌ كبيرة أن يأتي الإنسان إلى درس علم، وأن يسمع كلاماً خطيراً مُتَعَلِّقاً بمصيره وألا يأبه له، هو لم يسمع شيئاً، هذه علامة الأصّم.
﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)﴾
فالمنافق أصم.
﴿صُمٌّ بُكْمٌ﴾ لا يسأل، الأمر لا يعنيه إطلاقاً، لا يسأل ولا ينطق بالحق، لا ينطق بالحق من باب أولى، شيء طبيعي، منافق، كافر إلا أنه لا يسأل، فيه لسانه لا يستخدمه إلا للدنيا، للغيبة والنميمة، للحديث عن النساء، للحديث عن مظاهر الدنيا.
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ لا يرى الحقائق، لا يرى الآيات، الآيات الدالة على عظمة الله لا يراها، لا يرى أفعال الله عزَّ وجل التي تهتز لها القلوب.
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ كيف يرجعون وهم على ما هم عليه من الصمم، من الخَرَس، من العَمَى؟!!
يأتي الموت في وقت غير مناسب وغير متوقَّع وهذا من حكمة الله عزَّ وجل:
أول معنى في هذه الآية: أن المنافق يبحث عن الدنيا، ولا يعنيه إلا الدنيا، لا يعنيه من الدنيا إلا الدِرهم والدينار، إذا جَمَعَ الدرهم والدينار اشترى البيت الفخم، والمركبة، ورَفَّه نفسه رفاهاً عالياً جداً، ثم يُفاجأ أن كل هذا التعَب ذهب أدراج الرياح.
حدثني طالب قال لي: لي خال عنده دار سينما، قال لي: جمع خمسة ملايين بالستينات أي ما يعادل تقريباً خمسمئة مليون من أجل أن يعيش في خريف عمره في بحبوحةٍ كبيرة ويستمتع بالدنيا، فاجأه مرضٌ خبيث وهو في سن مبكر فصار يبكي وهو على فراش الموت، قال لابن أخته وهو طالبٌ عندي: جمعت هذا المال لأستمتع به فلم يتح لي أن أستمتع به، قصةٌ متكررة.
أيها الإخوة الكرام، المنافق يسعى للدنيا، حُبُّك الشيء يُعمي ويصم، والدنيا تغرٌ وتضّرُّ وتمر، يروون قصة ذكرتها لكم كثيراً، إنسان أراد أن ينتحر جاءه ملك الموت دلَّه على طريقةٍ يغتني بها، أصبح غنياً جداً، ثم أُتيح له أن يتزوَّج ابنة الملك، ثم أصبح زوج بنت الملك، فاجأه ملك الموت وهو في يوم عُرْسه، قال له: الآن!! خذني من قبل، يوم كنت مزمعاً أن أنتحر من أجل الدرهم والدينار، يأتي الموت في وقت غير مناسب أبداً، في وقت غير متوقَّع، وهذا من حكمة الله عزَّ وجل، أما المؤمن فمستعد للقاء الله عزَّ وجل، أهلاً وسهلاً، أناسٌ كثيرون من أهل الإيمان يأتيهم ملك الموت وهم في أحلى حالاتهم، وهم على شوقٍ له، ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ كيف يرجعون؟ أدوات الرجوع مُعَطَّلة، أداة السماع الأذن صمَّاء، أداة رؤية الآيات يوجد عليها غشاوة، أداة طلب العلم مُعَطَّلة، هناك نموذج آخر من المنافقين، الأولون كفار: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ .
الصنف الآخر من ضعاف النفوس الذين تحدث عنهم القرآن:
أما الصنف الثاني ضَعُفَت نفوسهم أو اشتبهت عليهم الأمور هؤلاء منهم خير.
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)﴾
هذا الدين كهذا السحاب كُلُّه خير، يقول لك: سحابة تحمل ثلاثمئة مليون طن من الماء سوف تنزل على الأرض، سوف تصبح الأرض عُشباً أخضر، محاصيل، أشجار مثمرة، ينابيع فوَّارة، الماء هو أساس الرزق، ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ لكن هذا السحاب يَحْجُب أشعة الشمس، أيام الشتاء غائمة، وقد يسمع الإنسان صوت رعدٍ فينخلع قلبه، وقد يرى ضوء برقٍ فيخطف بصره، ما رأى المنافقون ما في هذه السحابة من الخير، أزعجهم الغيم الذي حجب أشعة الشمس، أزعجهم صوت الرعد، أزعجهم وميض البرق، هذه أزعجتهم فرفضوا هذه السحابة، في الإسلام يوجد غض بصر، يوجد دفع زكاة، يوجد ضبط لسان، يوجد قواعد، يوجد صلوات، يوجد صيام، يوجد انضباط، فأزعجتهم هذه التكاليف فرفضوا كُلَّ الدين:
﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ .
ضعاف النفوس يريدون من الإسلام مكاسبه لا متاعبه:
الذي يُمَيِّزُهم عن الأولين هو قوله تعالى:
﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)﴾
هؤلاء يريدون من الإسلام مكاسبه لا متاعبه، يريدون المغانم لا المغارم، يريدون أن يعتزّوا بالإسلام، أن يقطفوا ثماره دون أن يدفعوا الثمن، هؤلاء حالهم مع الإسلام: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ تكاليف، الإسلام فيه تكاليف، لذلك تخفف الفِرَق الضالة دائماً التكاليف، قاعدة، تؤلِّه الفرق الضالة دائماً الأشخاص، تعتمد النصوص الموضوعة والضعيفة، ذات نزعة عدوانية: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾.
الفرق بين المؤمنين وبين ضعاف النفوس:
المؤمن يُصلي الفجر حاضراً، يقرأ القرآن، يضبط لسانه، ينفق من ماله، يُرَبِّي أولاده، يجهد، ولكن هناك نموذجاً آخر، نموذج مستمتع بالحياة، إنسان يُعطي إنسان يأخذ، إنسان يسترخي إنسان يجهد، ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ الموت ينخلع له قلبه، هناك أُناسٌ يكرهون القرآن، لماذا؟ لأنه يُتلى في مناسبات الحُزن، كأن القرآن يُذكِّرهم بالموت، هناك أناسٌ يكرهون بعض النباتات لأنها توضع على القبور، يكرهون كل شيءٍ يذكِّرهم بالآخرة من شدة تعلُّقهم بالدنيا، حتى أنك لا ترى في بعض البلدان الآن جنازة إطلاقاً، من المستشفى بسيارة إسعاف إلى المقبرة، لا ترى فيها نعوة على الجدران، بلادٌ كثيرة إسلامية، لا ترى الموت إطلاقاً، ترى حياة، لكن نحن نستمع أحياناً إلى إعلام في المئذنة يذكرنا بالموت، نقرأ هذه النعوة كل يوم، نرى الجنازة أمامنا:
(( عن أبي هريرة: أكثروا من ذكر هادم اللذات-مفرق الأحباب-مشتت الجماعات. ))
(( عن سهل بن سعد و البيهقي عن جابر: عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به. ))
[ السلسلة الصحيحة : حسن ]
فهذا الذي يريد من الإسلام المغانم، إذا كان هناك احتفال، أو نزهة، أو توزيع شيء هو أول شخص، إذا كان هناك تكليف ليس هناك، يريد المكاسب لا المتاعب، المغانم لا المغارم، يريد قطف الثمار لا بذل الجهد، ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ .
ضعاف النفوس ليس عندهم قيود فهم ضد الضبط وضد المَنْهَجِّية لأنهم لا يحتملونها:
يحتاج الإسلام إلى جهد، وإلى قوة إرادة، وإلى ضغط، لا يعجبه الجهد المبذول، ولا الضغط الشديد، يعجبه التفَلُّت،
يجلس المنافق مع من يشاء، أنثى، ذكر، متزوجة، غير متزوجة، تحل له، لا تحل له، ليس عنده مشكلة إطلاقاً، ينظر إلى أي شيء، شيء يجوز أن يراه، لا يجوز أن يراه، يقول لك: نتعلم، يُطْلق بصره في كل شيء، يتكلَّم أي شيء، لا يوجد عنده قيود أبداً، هو ضد الضبط، ضد الإرادة القوية، ضد المَنْهَجِّية لا يحتملها،
﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ﴾ الكلام الذي يُزعجه يحب ألا يسمعه، يضع إصبعه في أُذنه، وهذا واقع، حدِّث حديثاً عن الآخرة تجده يتثاءب، اعتذر لأن عنده موعداً، اقلب الحديث للدنيا تجده جلس معك حتى الساعة الواحدة، لم يقل لك: عندي موعد، اجعل الحديث عن الدنيا هو مصغٍ إليه، كتلة نشاط وحيوية،
﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ إذا تجاهلوا ذكر الموت، إذا تجاهلوا الدار الآخرة، لا تصيبهم الآخرة؟ لا يموتون؟
﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ هذه نقطة مهمة جداً.
قوانين واقعة عليك وإن لم تؤمن بها:
توجد قوانين هي واقعةٌ عليك وإن لم تؤمن بها، مطبقةٌ عليك شئت أم أبيت، وأقرب مثل: قانون السقوط، السقوطُ الحرّ له قانون، لذلك المظلة مبنية على هذا القانون، فإذا سخر الإنسان من هذا القانون، واحتقر هذا القانون، ولم يعبأ بهذا القانون، وكذَّب هذا القانون، وألقى بنفسه من الطائرة، القانون لا يُطَبَّقُ عليه؟ إذا كذَّب بقانون السقوط هل ينزل سليماً بلا مظلة؟ ينزل ميتاً، أي سيَّان أن تؤمن أو لا تؤمن، أن تعترف أو لا تعترف، أن تصدق أو لا تصدق، القانون مُطَبَق، هو لا يحتمل سماع الحق، لا يحتمل التذكير بالآخرة، لا يحتمل ذكر الموت، يجعل أُصبعه في أُذنيه لئلا يصل إليه الحق لكن الله محيطٌ به، أبداً، إذاً هو كالنعامة غبيُّ جداً، إذا غَمَسَت رأسها في الرمل ظنَّت أن الخطر لا يقترب منها، مع أنها أصبحت لقمةً سائغة لعدوها، حينما غمست رأسها في الرمل غاب عنها منظر عدوها، فتوهمت أن عدوها اختفى، هي أخفت رؤيته عن ذاتها، فكانت لقمةً سائغة لعدوها، هذا الحال دقيق جداً: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ الجنة، يقول لك: الحور العين، الله يطعمنا إياها مثلاً، الحور العين تعجبه:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)﴾
تُعجبه:
﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)﴾
تعجبه، إذاً ادفع الثمن.
وصف دقيق للإنسان غير المتوازن كما ورد في القرآن الكريم:
﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)﴾
تكون تجارته أحياناً رائجة تماماً، صار صاحب دين، ويحب العلم، والمشايخ، والدروس لأن تجارته رائجة، عندما تتوقف تجد أن وضعه اختلف، اختفى، تضعضعت صلاته، ضعفت ثقته بالله، تلاشى أمله الكبير، فهذا الذي يسير كلَّما أضاء له البرق، وإذا أظلم عليه لم يسر، هذا إنسان غير متوازن، وهذا وصفٌ دقيقٌ لهذا الإنسان: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ المنافق:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)﴾
المنافق يميل مع مصالحه والمؤمن لا يُبدل ولا يُغير:
المؤمن لا يُغيِّر:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾
المؤمن ما بدَّل ولا غيّر، المنافق يميل مع مصالحه، مصالحه جيدة، الآن حتى في أمور الخلافيَّات مثلاً يأتي هذا المنافق يجد قضية بيت، هذا البيت لا يخرج منه المستأجر، بالقانون الطريق مسدود لأن المستأجر محميٌّ، يلجأ للمشايخ، يقول: أنا أريد الشرع، يريد حُكْمَ الله فقط، لأنه شعر بالحاسة السادسة أن القانون ليس معه، بحكم القانون مستحيل أن يخرج المستأجر، أما يتَّخذ تديّن المستأجر نقطة ضعف، يريد حكم الله، بالأسبوع نفسه موضوع ثانٍ بالدين الطريق مسدود، صار له مصلحة بالقانون، يوكّل محامياً، يقول لك: نحن في دولة فيها نظام وفيها قانون، اختلف النغم، قبل يومين كان يريد الشرع والآن يريد القانون، إنه يلحق مصالحه، ويوجد عنده قدرة لمعرفة أين تتحقق مصلحته، إذا كانت مصلحته تتحقق بالشرع فإنه يُحكِّم المشايخ، وإذا كانت المشايخ ليسوا معه يُحكِّم المحامين والقضاة، هو يميل مع الهوى أينما مال:
﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ .
الفرق بين المنافقين وبين ضعاف النفوس:
إذا نجح ابنه بتفوق يحب الجامع الذي فيه ابنه، وشيخ ابنه، ويقول له: يا بني خذ أخاك معك إلى الجامع، وإذا رسب ابنه عزا كل أخطاء ابنه للشيخ وللجامع، الجامع ليس له علاقة بالموضوع، ابنك هو المقصِّر مثلاً، لا يوجد عنده حلّ موضوعي، يميل مع مصالحه: ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ أي فيهم بقية خير، لذلك منافقون كُثُر في عهد النبي حَسُن إيمانهم، هناك نموذج كافر ينتفع بكفره لكن مصلحته مع المؤمنين فأظهر ما لا يُبطن، هذا أول قسم: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ .
يوجد صنف ثانٍ: ضَعُفت نفسه أمام شهواته، واختلط الأمر عليه، فمال مع شهواته وله ثقةٌ بالمؤمنين فهو لا مع هؤلاء ولا مَعَ هؤلاء، إذا كان هناك ميزات يمشي، إذا كان هناك متاعب يختفي، أيّ خطر يلغي كل تديّنه، قد يدعُ الصلاة إذا كان شعر أن هناك خطراً من هذا الاتجاه الذي هو فيه، أما المؤمن فلا يغير: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ .
أيها الإخوة؛ الإنسان لو-لا سمح الله ولا قدر-انطبقت عليه بعض صفات المنافقين، لكن هذه لها حل، لها حل في لحظة واحدة، آية المنافق ثلاث:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ. ))
((إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ)) فإذا تاب عن الكذب أُزيلت منه إحدى صفات النفاق، ((وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ)) فإذا تاب عن إخلاف الوعد أُزيحت عنه إحدى صفات النفاق، ((وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) فإذا تاب عن خيانة الأمانة أُزيحت عنه صفةٌ ثالثة، لا يوجد شيء ثابت، طبعاً أول قسم مُخيف، أول قسم كافر، أما القسم الثاني فيه أمل كبير إذا كان هناك خطأ، يوجد تقصير، يوجد ازدواجية، يوجد سرّ، ويوجد جهر أن يُصَلَّح هذا وأن يُبَدَّل.
كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله وهم على ما هم عليه من قمم، وهم على ما هم عليه من مرتبةٍ عالية، كان أحدهم يتهم نفسه بالنفاق، واتهام النفس بالنفاق حالةٌ صحيةٌ طيبة، لأن المنافق يعيش أربعين عاماً في حالٍ واحد، بينما المؤمن يطرأ عليه في اليوم الواحد أربعون حالاً، يكون أحياناً مرتاحاً، مطمئناً، أحياناً يكون قلقاً، أحياناً يكون خائفاً، دليل إيمانه، ودليل صدق إيمانه، ودليل حرصه على رضوان الله عزّ وجل تَعْتوره هذه الأحوال.
أيها الإخوة الكرام؛ مَطلع هذه السورة مهمٌ جداً لأن الناس رجلان؛ مؤمن وكافر، أما الثالث فمحيِّر، تظنه مؤمناً، وهو ليس كذلك، وهؤلاء الصنف الثالث بعضهم منتمون إلى الكُفَّار قطعاً، وبعضهم يمكن أن يصلح حالهم، وأن يعودوا إلى صف المؤمنين، ولا أدَلَّ على ذلك من أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يفضح المنافقين، سترهم، لكنه أعطى أسماءهم لسيدنا حذيفة رضي الله عنه، والشيء الذي لا يصدَّق أن سيدنا عمر بن الخطاب عملاق الإسلام قال له: يا حذيفة بربك هل اسمي مع المنافقين؟ من شدة خوفه من الله، ومن شدة حرصه على رضوان الله.
الملف مدقق