وضع داكن
23-11-2024
Logo
الدرس : 39 - سورة آل عمران - تفسير الآيات 139 – 145 أنواع الجهاد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس التاسع والثلاثين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الثانية والأربعين بعد المائة، وهي قوله تعالى: 

﴿ أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّٰبِرِينَ (142)﴾

[ سورة آل عمران ]


أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ


1 ـ ثمن الحنة باهظ:

 أي من السذاجة والحمق أن تتوهم أن هذه الجنة التي فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، والتي هي نعيم مقيم إلى أبد الآبدين، أن هذه الجنة يمكن أن تنالها بلا ثمن، أو بثمن بخس، كنت أقول بركعتين وليرتين، لا. 

2 ـ الله وعدَ المؤمنين بالنصر:

 ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾ نقيس على هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى وعد المؤمنين بالنصر، وعدهم بالتأييد والتوفيق، لكن وعد المؤمنين الملتزمين المتمسكين المطبقين الذين يؤثرون طاعة الله على كل شيء، هؤلاء يتنزل عليهم نصر الله، ولا عبرة بهذا التفوق الذي يتبجّح به الأعداء، لذلك لا ينزل الله عز وجل نصره على أنصاف مؤمنين، ولا على أرباع مؤمنين، ولا على أثلاث مؤمنين، ولا على أخماس مؤمنين، ولا على أسداس مؤمنين، ولا على أصفار مؤمنين، لا ينزل نصره إلا على المؤمنين.
 كل بطولتك أن تستكمل موجبات النصر، وموجبات رحمة الله، اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، فلذلك هذه الجنة لا بد لها من ثمن باهظ، وطلبُ الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب! ثمنها الباهظ أن تؤثر الله على كل شهواتك.

﴿  وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41)﴾

[  سورة النازعات  ]

﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ(50)﴾

[ سورة القصص ]

 هما طريقان لا ثالث لهما، إما أن تستجيب لله، وإما أنك على خط الهوى قطعاً، وليس هناك منزلة ثالثة. 
﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ﴾ تكاد الحياة الدنيا تجمع الناس على خطين فقط، إما أن تطلب الآخرة، وإما أن تطلب الدنيا، إما أن تلبّي الحاجة العليا، وإما أن تلبي الحاجة السفلى، إما أن تحكمك القيم، وإما أن تحكمك المصالح، إما أن تستجيب للشهوة، وإما أن تستجيب للعقل، هكذا فإن لم تكن مع العقل فأنت مع الشهوة، إن لم تكن مع المبدأ فأنت مع المصلحة، إن لم تكن تسعى للآخرة فأنت تسعى للدنيا، فلذلك: ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ﴾ .

3 ـ الجهاد و الصبر طريقان للجنة:

 أي بذلوا الجهد، هذا شيء ليس من السهل أن تصل إليه، هناك جهاد النفس والهوى، وهذا من أصعب أنواع الجهاد، بل من أهم أنواع الجهاد، ثم هناك الجهاد الدعوي، ثم هناك الجهاد القتالي، هذا الذي لا يستطيع أن يغض بصره كيف يحارب؟ لا يستطيع أن يضبط لسانه كيف يحارب؟ لا يستطيع أن يحرر دخله من الحرام كيف يحارب؟ 
﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ﴾ جاهدوا بذلوا الجهد، إما جهاد النفس والهوى، وإما الجهاد الدعوي، وإما الجهاد القتالي. 

4 ـ الصبر هو حقيقة الإيمان:

 ﴿وَيَعۡلَمَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾ الإيمان كله صبر، الإنسان مجموعة شهوات، ومعه منهج، والمنهج يقنن شهواته في مسارات نظيفة، تقنين الشهوات في مسارات نظيفة هو الجهاد، والصبر هو حقيقة الإيمان، لك أن تقول ما تشاء، ولكن حينما تريد أن تضبط لسانك بكلام يرضي الله عز وجل فأنت مجاهد، لك أن تملأ عينيك من محاسن أية امرأة على الشاشة، أو في مجلة، أو في الطريق، أما حينما لا تسمح لعينيك أن تستمتعا إلا بمن تحِلّ لك فهذا ضبط، لك أن تأخذ المال من كل جهة، أما حينما تتحرّى أن تكسب المال من وجه مشروع فهذا جُهد، وهذا ضبط، وهذا اتباع الحق. 
﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾ سُئل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين؟ قال: لن تمكن قبل أن تبتلى" .
 وطّن نفسك، مستحيل أن تصل إلى مرتبة عالية عند الله، مستحيل أن تستحق الجنة من دون بذل جهد، ومن دون امتحان صعب.
 أنا لا أخيفكم، لا والله، لكن لا أطمّعكم بشيء كالسّراب، الجنة تحتاج إلى جهد كبير، حتى تضع إلى جانب اسمك حرف دال فقط كم سنة تدرس؟ ومع كم أستاذ تلتقي، وكم كتاباً تقرأ؟ وكم بحثاً تعيد صياغته؟ وإلى كم بلد تسافر؟ من أجل أن يُضاف حرف الدال قبل اسمك؟ فكيف إذا أُضيف إلى اسمك المؤمن فلان؟ هذه أعلى مرتبة علمية، بل أعلى مرتبة أخلاقية، بل أعلى مرتبة جمالية، كلمة مؤمن مرتبة علمية، ومرتبة أخلاقية، ومرتبة جمالية، أذواق المؤمن عالية جداً، تعرّفَ إلى أصل الجمال، كل الناس مع الجمال وهو مع أصل الجمال، كل الناس مع النعمة، وهو مع المنعِم، كل الناس مع الشهوات الآنيّة.
 إخواننا الكرام، شيء بدهي أن اللّذّات تأتي من الخارج، من المال، من مركبة فارهة، من بيت فخم، من دخل كبير، من منصب خطير، هذه لذات تأتي من الخارج، وطابعها حسّي، وتأثيرها متناقص، وتعقبها كآبة، وقد تنتهي بالنار، بينما السعادة تنبع من الداخل، ولو كنت في كوخ حقير.
 نبي كريم فجأة رأى نفسه في بطن الحوت، كم نسبة النجاة، وأنت في بطن حوت، في ظلمة الليل الأليل، في ظلمة البحر، في ظلمة بطن الحوت، إنه سيدنا يونس: 

﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(87 (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾

[ سورة الأنبياء  ]

 العبرة أيها الإخوة أن تكون مع الله، هذه الرحمة العظيمة وجدها إبراهيم في النار، فلما رحمه الله عز وجل قال تعالى: 

﴿ قُلْنَا يَٰنَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبْرَٰهِيمَ(69)﴾

[  سورة الأنبياء  ]

 ووجدها يونس في بطن الحوت، وجدها النبي الكريم في غار ثور، وجدها أصحاب الكهف في الكهف، وافتقدها أصحاب القصور، والمليارات، وأصحاب المكان العلي في المجتمع.

اتخذ الطريق المشروع لتلبية الشهوة:


 أيها الإخوة، هذه الجنة ثمنها بين يديك، أحياناً ترى قصراً فتقول: هنيئاً لمن يسكنه، لكنك لا تملك ثمنه، وليس هناك أمل أن تسكنه، إلا أن الجنة ثمنها بين يديك، ثمنها معتدل معقول، ما منعك أن تتزوج، لا، ما حرمك من النساء، بل قال لك: تزوج، وما حرمك من المال، قال لك: اعمل، ما حرمك من الطعام والشراب، قال: 

﴿ يَٰبَنِىٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍۢ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُوٓاْ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ(31)﴾

[ سورة الأعراف ]

 كُلْ، واشرب، واعمل، واكسب المال، وتزوج، وأنجب ذرية طيبة، واستمتع بها، من دون إسراف، ولا مخيلة، شيء بمتناول يدك، وتملكه، ولا تحتاج إلى جهة أخرى.
 أيها الإخوة، الذي يضاعف عذاب الكافر في النار أنه كان بإمكانه أن يدخل الجنة، فإذا رأيت شيئاً فوق طاقتك هل تندم على عدم وصولك إليه؟ لا، لو فرضنا أن ملكًا عُيّن في بلد، تقول: لماذا لم أكن أنا مكانه؟ مستحيل أن تكون مكانه، أنت لست من ذاك البلد، ليس عندك مؤهلات لهذا المنصب الرفيع، فالشيء الذي لا يمكن أن تصل إليه لا تندم على فواته، لكن ما الذي يؤلمك أشد الألم؟ أن يُباع بيت بثمن بخس، وتملك هذا الثمن، ولأسباب تافهة ترفّعت عنه، ثم تضاعف سعره إلى مائة ضعف، وأنت في أمسّ الحاجة إليه، يقول: احترق قلبي، لمَ لمْ أشترِ هذا البيت، معك ثمنه، وأنت في أمس الحاجة إليه، ولأسباب تافهة أعرضت عنه، ثم ندمت أشد الندم، لماذا حالة الندم في الآخرة عالية جداً وصعبة جداً؟ لأن هذا الذي استحق النار كان بإمكانه أن يدخل الجنة، وثمنها بين يديه، ليس هناك شهوة منعك الله منها، ليس في الإسلام حرمان أبداً، في الإسلام تنظيم فقط.

الجهاد الدعوي فرض عين:


 ذكرت أن الجهاد جهاد النفس والهوى، وجهاد دعوي، والجهاد الدعوي فرض عين، بدليل قول الله عز وجل: 
 

﴿ وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾  

[ سورة العصر ]

 أحد أسباب النجاة التواصي بالحق. 

﴿ قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِىٓ أَدْعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى ۖ وَسُبْحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ(108)﴾

[  سورة يوسف  ]

 فإن لم تدعُ إلى الله على بصيرة فلست متّبعاً لرسول الله، وإن لم تتبع رسول الله فلا يحبك الله، أنت في خندق آخر، معنى ذلك أن الجهاد الدعوي فرض عين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( مَن ماتَ ولم يغزُ ولم يحدِّث نَفسَهُ بالغَزوِ ماتَ علَى شُعبةٍ من نفاقٍ. ))

[ صحيح أبي داود ]

ببساطة ما بعدها بساطة.
 اقتنى أخ كريم مائة شريط، ووزعها على أقربائه بالتناوب، قام بدعوة، هو قد يعجز عن الكلام، لكن عنده رغبة أن يكون من الدعاة إلى الله عز وجل، وزّع هذه الأشرطة، الشيء الذي تفاعل معه، وذابت نفسه تقديراً له، وزعه على من حوله، بعد حين جلبهم إلى المسجد، ثم بعد حين التزموا، فكانوا كلهم في صحيفته! قضية الدعوة فرض عين، لكن في حدود ما تعلم، وفي حدود من تعرف فقط، وعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة، لو أن كل واحد وطّن نفسه إذا سمع تفسير آية، تفسير حديث، أو حكمًا فقهيًا، أو موقفًا لصحابي شريفاً حدّث به من حوله طوال أسبوع، هذا معنى قول النبي: 

((  بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً. ))

[  البخاري  ]

 بلِّغ، ما أجمل أن تجعل من هذا الأسبوع من السبت إلى الجمعة، كل لقاءاتك، وكل علاقاتك، وولائمك، وسهراتك، وندواتك، وسفرك، وجلوسك في مكتبك، موضوع الحديث عادي، عن الطعام، والشراب، وعن الأسعار، والحر الشديد، والتلوث، والجفاف، والكساد، والقلق، والحديث عما يجري في فلسطين، إذا طعّمت هذا الموضوع بدعوة إلى الله، وببيان حكم شرعي، ببيان آية كريمة، ببيان حديث شريف، ببيان موقف بطولي لأصحاب رسول الله، هذه الدعوة إلى الله بسيطة جداً، في حدود ما تعلم، ومع من تعرف، فرض عين في حدود ما تعلم فقط، ومع من تعرف، خاصة نفسك، مَن حولك، أولادك، إخوانك، أخواتك، أولاد إخوتك، زملاؤك في العمل، جيرانك، أصدقاؤك، أقرباؤك.

(( إذا رأيتَ شُحًّا مُطاعًا، وهوًى مُتَّبعًا، ودُنيا مؤثَرةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ بِرَأيِه، فعَليكَ بنَفسِك. ))

[ ضعيف الترغيب ]

 في زمن الفتن، في الهرج والمرج، في الطرقات المليئة بالكاسيات العاريات، في كل المقاصف التي تُوزَّع فيها الخمور، في زمن الفسق والفجور، في زمن يقظة الفتنة، في زمن الجنس، في زمن الأفلام، في زمن النوادي المختلطة، في زمن السياحة الجنسية، في هذه الأزمان المفعمة بالمعاصي والآثام، الجأ إلى كهفك، وإلى بيتك، وإلى مسجدك.

﴿ وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأْوُۥٓاْ إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِۦ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16)﴾

[ سورة الكهف  ]

 فإذا كنت في بلد بإمكانك أن تأتي إلى مجلس علم، وأن تستمع إلى خطبة مؤثرة، وأن تلتقي بأخ صادق مؤمن، هذه نعمة لا تعرف قيمتها إلا إذا فقدتها.

﴿ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ(143)﴾

[ سورة آل عمران ]


وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ


1 ـ تمني بعض الصحابة الشهادة:

 حينما سمع بعض أصحاب رسول الله في معركة بدر عن بطولات الصحابة، وعن استشهاد هؤلاء الأبطال، وعن قربهم من الله عز وجل، تمنوا أن يكونوا في معركة قادمة من الشهداء، لكن حينما واجهوا الموت اختلف الأمر ﴿وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾ أحياناً الحديث عن الشيء أمتع من الشيء، أن تتحدث عن الشهادة أهون من أن تكون شهيداً، قبل أن يموت الإنسان، سيدنا أبو رواحة هو القائد الثالث في مؤتة، فأول قائد قاتل حتى قُتل، والثاني قاتل حتى قُتل، جاء دور الثالث كان شاعراً تردد قلبه هكذا تروي الروايات قال:

يا نفس إن لم تُقتلي تموتيِ      هذا حِمام الموت قد صليتِ

إن تفعلي فعلهما رضيــتِ      وإن توليت فقـــــــد شقيـتِ

[ عبد الله بن رواحة ]

 فقاتل حتى قُتل، قال عليه الصلاة والسلام: 

((  أخذ الراية أخوكم زيد، فقاتل بها حتى قتل، وإني لأرى مقامه في الجنة ، ثم أخذ الراية أخوكم جعفر ، فقاتل بها حتى قتل، وإني لأرى مقامه في الجنة، وسكت النبي عليه الصلاة والسلام، وقلق الصحب الكرام على أخيهم عبد الله، ثم سألوا النبي الكريم: يا رسول الله ما فعل عبد الله؟ قال: ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله، فقاتل بها حتى قتل، وإني أرى في مقامه ازورارا عن صاحبيه.  ))

[ رواه الطبراني ]

 تردد ثلاثين ثانية! تردد في ماذا؟ في إنفاق مائة ليرة؟ في تقديم بيته؟ لا، تردد في بذل روحه، قال الشاعر:

يجود بالنفس إن ضنَّ الجواد بها    والجود بالنفس أقصى غاية الجود.

[ مسلم بن الوليد ]

هكذا كان الصحابة، لأنهم ترددوا في بذل أرواحهم هبطت مكانتهم، فكيف المسلمون اليوم؟ 
 بماذا أنتم مطالبون أيها الإخوة؟ مطالبون بضبط اللسان، وضبط الدخل، وغض البصر، وحضور مجلس علم فقط، مطالبون بشيء يفعله كل إنسان بلا عنت، وبلا حرج، وبلا مشقة، وبلا جهد.
 لذلك أيها الإخوة، الإنسان مسؤول مسؤولية كبيرة إذا وصله الحق، ثم أعرض ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ .

2 ـ البطولة أن نفعل هذه الأعمال الصالحة لا أن نتمناها:  


ليست البطولة أن نتمنى الأعمال الصالحة، لكن البطولة أن نفعل هذه الأعمال الصالحة، مسافة كبيرة جداً بين من يتحدث عن القيم، وبين من يعيش القيم، أي إنسان منحرف يحدثك عن الاستقامة يطرب، الاستقامة بطولة، التواضع بطولة، الكرم بطولة، الشجاعة بطولة، فالحديث عن القيم ممتع، لكن أن تعيش هذه القيم مُسعِد، وفرق كبير بين أن تستمتع، وبين أن تسعد، لاحظ نفسك حينما تعمل عملاً صالحاً خالصاً لله، حينما ترقى إلى مستوى البطولة تشعر بنشوة ما بعدها نشوة، رائعة.
 موقف صمت، وكان بإمكانك أن تتفوّه بأقصى الكلمات، لكنك ضبطت نفسك، في موقف آخر بذلت، وكان بإمكانك أن تبخل، في موقف ثالث عفوت، وكان بإمكانك أن تنتقم، في موقف رابع وضعت نفسك في الظل، وكان بإمكانك أن تتألق خوفاً من الله عز وجل، هذا الذي تفعله لوجه الله له طعم لا يُنسى، لأن الله عز وجل عوضك عن الدنيا بأن ألقى في قلبك السكينة.

في قلب المؤمن الصادق سعادة وسكنيتة:


 والله أيها الإخوة، المؤمن الصادق مع الله في قلبه سكينة لو وُزِّعت على أهل بلد لكفتهم، نحن نبحث عن السعادة بالمال، والمال محدود، وغير ميسور للجميع، نبحث عنها في البيت، في المرأة، في المركبة، في المنصب، لو علمنا حق العلم أن السعادة بين أيدينا بالاتصال بالله عز وجل، أنت إذا اتصلت بالله اتصلت بأصل الجمال، بمنبع القوة، بمنبع السكينة، بمنبع الحلم، لذلك لا يمكن أن ترى مسلماً مصلّياً حقوداً، أو حسوداً، أو بخيلاً، أو جباناً، أو لئيماً، أو محتالاً، هذا مستحيل. 

(( إنّ محاسنَ الأخلاقِ مخزونةٌ عندَ اللهِ تعالى، فإذا أَحبَّ اللهُ عبداً منحَه خُلُقاً حَسناً. ))

[ ضعيف الجامع ]

 لا يمكن أن يُقبل اتصال بالله مع البخل، واللؤم، والجبن، مستحيل، لذلك الذي يشد الناس إلى الدين ليس أفكاره، مع أنها أفكار منطقية ورائعة، لكن الذي يشد الناس إلى الدين أخلاق المؤمنين هذه دعوة قوية جداً، دعوة صامتة لا تحتاج إلى كلام، الأمين يدعو إلى الله بصمت، الصادق يدعو إلى الله بصدقه، المتقن عملَه يدعو إلى الله بإتقان عمله، الحليم يدعو إلى الله بحلمه. 

فرق كبير بين التحدث عن القيم والأخلاق والاتصاف بها:


 سهل جداً أن تتغنّى بالقيم، أو أن تتحدث عنها، أو أن تستمتع بالحديث عنها، لكن البطولة أن تعيشها.
 ملاحظة طريفة؛ حدثني أخ: دخل عليهم أستاذ فألقى عليهم محاضرة في التواضع، شيء لا يصدق، الأدلة من القرآن، والحديث والسنّة، وأقوال العلماء، والقصص الرائعة عن التواضع، ثم دخل غرفة المدرسين، ووضع رجلاً على رجل، وترفّع عن كل من حوله، وهو لا يشعر، حدثتنا عن التواضع حديثاً ممتعاً، لكنك لست متواضعاً، هذه المشكلة، الأخلاق ينبغي أن تعيشها، لا أن تتحدث عنها، فالحديث عنها سهل جداً، لذلك كفر الناس بالمواعظ، إن أردت أن تحتقر متكلماً، أخي لا تعِظنا، بلا وعظ، مع أن الوعظ كلمة قرآنية: 

﴿ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِىٓ أَنفُسِهِمْ قَوْلًۢا بَلِيغًا (63)﴾

[ سورة النساء ]

 كلمة موعظة قرآنية، لكن لأن الناس فرّغوها من مضمونها، تحدثوا عن الأخلاق فقط، فمرة ركبت مع سائق، لشدة ما تحدث عن نفسه صار شيئاً لا يُحتمل، ثم ركب معه إنسان فقير، معه بضاعة أتى بها من لبنان طعام لأولاده، فهذا السائق دون أن يشعر هذا الراكب وضع بعضاً منها وراء العجلة في الصندوق، إذاً هو سارق، فالحديث عن الخلق سهل جداً، حتى اللص يتحدث عن أخلاقه ومروءته، القضية قاسم مشترك، قال الشاعر:

كُلٌّ يَدَّعي وصْلاً بليلى    وليلى لا تُقِرّ لهم بِذَاكَا

[ علي المالكي ]

 العبرة لا أن تتحدث عن القيم، بأي مجتمع الإنسان منطقي، والإنسان يحب أن يكون رجل مبدأ، لا يوجد إنسان إلا ويتحدث عن فضائله، وقد يكون عديم الفضائل، أكبر دليل فرعون: 

﴿ يَٰقَوْمِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَٰهِرِينَ فِى ٱلْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنۢ بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ(29)﴾

[  سورة غافر ]

 هذا حديثه، مع أنه كان أكبر طاغية! فالحديث لا قيمة له، الإنسان ينبغي ألا يُقيّم من حديثه إطلاقاً. 

﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْـًٔا ۗ وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ(144)﴾

[ سورة آل عمران ]


وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل:


1 ـ إشاعة خبر مقال النبي وأثر ذلك في الحابة:

 لأنه أُشيع في أحد أن محمداً قد قُتل، أحد من كان حول النبي قال: لو كان رسولاً لم يُقتل، لمجرد أنه سمع أنه قد قُتل كفر برسالته، لو كان رسولاً لم يُقتل، من قال لك ذلك؟ النبي بشر، وتجري عليه كل خصائص البشر، فالذين كانوا على إيمان رفيع قالوا: إن يمت محمد فرب محمد حي لا يموت! المحاكمة السليمة، بعضهم من شدة ألمه، وحرصه على حياة النبي قال: ماذا تفعلون بعد موت نبيكم؟ موتوا على ما مات عليه، فانطلقوا إلى العدو، بعضهم قال: لو كان رسولاً لم يمت، فجاء الجواب: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ﴾ .

2 ـ الجواب الإلهي : النبي بشرٌ:

 محمد بشر، تجري عليه كل خصائص البشر، لأنه انتصر على بشريته كان سيد البشر ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ لكن هناك معانٍ تفصيلية، حينما قال الله عز وجل:

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَٰفِرِينَ(67)﴾

[  سورة المائدة ]

3 ـ عصمة الله لنبيه من القتل:

 وعد إلهي، إذاً لا يمكن أن يُغتال محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه باغتيال محمد صلى الله عليه وسلم تُغتال الدعوة، هو رسول، أرسله خالق الأكوان، أما إذا قُتِل يمكن أن يُقتَل بعد انتهاء دعوته، بعد أن بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، الموت حق، وقد يكون الموت قتلاً، أما أن يأتي كافر، وقبل أن ينتهي النبي صلى الله عليه وسلم من تبليغ دعوته يقتله، وكأنه تحدى الإله، لذلك طمأنه الله عز وجل قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ﴾ ممكن أن يتكلموا عنك ما شاؤوا، أما أن يُنهوا حياتك لا يستطيعون.
 حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وتبعه سراقة، وسراقة طمع بمائة ناقة وضعت لمن يأتي به حياً أو ميتاً، وقد أُهدِر دمه، فلما تبع النبي عليه الصلاة والسلام شعر أنه ممنوع منه، غارت قدما فرس سراقة في الرمال، قال له النبي الكريم: "يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى" 
 حللوا هذا الكلام؛ إنسان مهدور دمه، وُضِعت مائة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، يقول لسراقة: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى" ، أي أنا سأصل (واثق)، وسأؤسس دولة في المدينة، وسأحارب كسرى، وسوف يُهزَم كسرى، كما لو قلت لمجموعة قبائل في اليمن: سوف تنتصرون على أمريكا، وسوف تدخلون البيت الأبيض مثلاً! نفس النسبة، "يا سراقة ، كيف بك إذا لبست سواري كسرى" ؟
معنى ذلك أن الله عز وجل وعد نبيه أن يحميه من القتل ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ﴾ لكن قد يقتل بعد انتهاء دعوته، بعد أن بلغ الرسالة، وأدى الأمانة فقد يموت على فراشه، وقد يموت قتلاً، سيدنا خالد قال: << ما في بدني موضع إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح>> ، في بداية قوله يقول: <<خضتُ مائة معركة أو زهاءها، وما في بدني موضع وإلا فيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء>> .
 إخواننا الكرام، المعركة لا تميت، والمرض لا يميت، لا يميت إلا انتهاء الأجل. 

فكم مِن صحيحٍ ماتَ من غيرِ عِلّةٍ    وكمْ مِن سَقيمٍ عاشَ حيناً منَ الدَّهرِ

[ الإمام الشافعي ]

4 ـ الدعوة إلى الله ينبغي أن تبنى على التوحيد لا على أشخاص:

 ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ﴾ هذا يعلمنا أن الدعوة إلى الله ينبغي أن تُبنى على التوحيد، لا على أشخاص، فإن بُنيت على أشخاص، وكان التركيز عليهم، والأضواء مسلطة عليهم، ومات هؤلاء الأشخاص فقد انتهت الدعوة إلى الله، أما إذا بُنيت على التوحيد، وأن الله حيٌّ باقٍ على الدوام، لذلك أروع كلمة قالها الصديق رضي الله عنه ببساطة ما بعدها بساطة:

(( فمَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنَّ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ مَاتَ، ومَن كانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ. ))

[ صحيح البخاري ]

هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، ما خاطبه في حياته إلا يا رسول الله، بأعلى درجات الأدب، لماذا قال الصديق: << من كان يعبد محمداً - بلا لقب - فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت >>

5 ـ تطبيق عملي للآية في واقعنا:

 ﴿أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْـًٔا ۗ وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ﴾ هؤلاء الموحدون الذين تعلقوا بخالق الأكوان، وعبدوا الله عز وجل، ولم يهتزّوا بموت النبي عليه الصلاة والسلام، هؤلاء وصلوا إلى قمة السعادة، لو أردنا أن نطبق هذا على واقعنا، أنت يمكن أن تكون مستقيمًا في بلدك، أما إذا سافرت فينبغي أن تكون مستقيماً، هناك تعريف لطيف، للإسلام الجغرافي؛ ما دمت في هذا البلد فأنت مستقيم، كم من امرأة كانت محجبة في الطائرة حينما تسافر، وتغادر البلد الذي أُلزمت فيه بالحجاب تخلع معظم ثيابها في الطائرة، هذا يعني أن دينها جغرافي، دين متعلق بمكانه بالمجتمع فقط، أما المؤمن فتطبيقاً لهذه الآية أينما ذهب وحلّ فهو مستقيم، لا يتأثر بالبيئة، هو مع الله، لا يوجد دعوة عميقة جداً يدعو بها الدعاة أعمق من التوحيد، أن تربط الإنسان مع خالق الأكوان.
 قال رجل لعبد الله بن عمر: <<بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، قال: ليست لي، قال: قل لصاحبها ماتت، قال: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها: ماتت، أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟>> .
 هذا الدين كله، الدين كله أن تقول: أين الله؟ أن تخشى أن تأكل درهماً حراماً، أن تتكلم كلمة نابية، أن تنظر نظرة شهوانية، هذا الدين، حينما تصل إلى هذه الاستقامة فقد قطعت أربعة أخماس الطريق إلى الله. 
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْـًٔا﴾ والله يا إخوان في سورة الأحزاب آيات إذا قرأها الإنسان يشعر بقشعريرة .

﴿ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا(23)﴾

[ سورة الأحزاب  ]

6 ـ المؤمن الصادق ثابت في السراء الضراء:

 في السراء مستقيم، في الضراء مستقيم، في الفقر مستقيم، في الغنى مستقيم، في الصحة مستقيم، في المرض مستقيم، قبل الزواج مستقيم، بعد الزواج مستقيم، في منصب متواضع مستقيم، في منصب رفيع مستقيم، عاهدنا رسول الله في السراء والضراء، وفي المنشط والمكره، هذا المؤمن لا يتأثر لا بدخل، ولا ببيئة، ولا بزواج، إيمانه فوق كل هذه المتبدلات والمتغيرات. 

وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا


1 ـ الضال لا يضر إلا نفسه:

﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا﴾ مثل مضحك: لو جاء رجل بمطرقة، وكسر بلّور مركبته الذي ثمنه ستون ألفًا، من ضرّ؟ لم يضر أحدًا، لقد ضرّ نفسه، أحياناً يظن الإنسان نفسه انتقم، أو أخذ موقفًا إذا كان انتكس، لا، لا، إذا انتكس الإنسان فإنما ينتكس على نفسه، إذا نقض عهده مع الله فإن الله غني عنا، يكون قد نقض عهده مع سلامته وسعادته ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا﴾

(( يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا. ))

[ صحيح مسلم ]

 ﴿وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ﴾ هؤلاء الذين شكروا، واستقاموا سوف يجزيهم الله عز وجل.
 أيها الإخوة، ثم تأتي الحقيقة الصارخة، وكأنها القانون:

﴿ وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًاۗ وَمَن يُرِدۡ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَن يُرِدۡ ثَوَابَ ٱلۡأٓخِرَةِ نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَاۚ وَسَنَجۡزِي ٱلشَّٰكِرِينَ (145)﴾

[ سورة آل عمران ]


وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ


1 ـ أخطر حدث بعد وجودك أيها الإنسان هو موتك:

 أخطر حدث بعد وجودك هو موتك، موت صدفة بسبب طائش تافه، الموت كتاب مؤجل، كُتِب علينا الموت جميعاً، لكن مع وقف التنفيذ، وسيُنفَّذ الموت في الثانية، والدقيقة، والساعة، واليوم، والأسبوع، والشهر، والسنة المحددة له، في وقت محدد بالتمام.

2 ـ الموت لا يكون إلا بأجل مسمى:

 ﴿وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًاۗ﴾ المرض لا يميت، ساحة المعركة لا تميت، كلمة الحق لا تقطع رزقاً، ولا تقرّب أجلاً، أن تجهر بالحق فهذا لا ينهي حياتك.
﴿وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًاۗ﴾ الموت حق، وميقاته حق، ودقيقته حق. 

وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ


1 ـ اطلب من الدنيا ما تشتهي فإنها منقطعة:

﴿وَمَن يُرِدۡ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَن يُرِدۡ ثَوَابَ ٱلۡأٓخِرَةِ نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَاۚ وَسَنَجۡزِي ٱلشَّٰكِرِينَ﴾ اطلب ما شئت، إن أردت الدنيا فلك منها، وإن أردت الآخرة فلك الآخرة، افعل ما بدا لك، اختر ما تشاء. 
﴿وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًاۗ وَمَن يُرِدۡ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَن يُرِدۡ ثَوَابَ ٱلۡأٓخِرَةِ نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَاۚ وَسَنَجۡزِي ٱلشَّٰكِرِينَ﴾ أيها الإخوة، عطاء الدنيا بيد الله، وعطاء الآخرة بيد الله، الصحابي الجليل سيدنا ربيعة خدم النبي سبعة أيام، فعَنْ خَادِمٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَقُولُ لِلْخَادِمِ : 

((  أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَاجَتِي، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ حَاجَتِي أَنْ تَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: وَمَنْ دَلَّكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: إِمَّا لَا فَأَعِنِّي بِكَثْرَةِ السُّجُودِ.  ))

[ مسند الإمام أحمد ]

 فإن أردت الدنيا فلك الدنيا، لكن الدنيا لا تليق كعطاء لله، لأنها منقطعة مهما علوت.
 توفي شخص، وترك أربعة آلاف مليون، ما صلى ركعتين في حياته، فمهما علوت في جمع المال، أو مهما علوت في منصب رفيع، أو في مكانة علمية لا بد أن تموت، وماذا بعد الموت؟ ثم ماذا؟ لا بد أن ينتهي كل شيء بالموت، لذلك من أراد الدنيا فقد احتقر نفسه.

﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَٰهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُۥ ۚ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَٰهُ فِى ٱلدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُۥ فِى ٱلْآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ(130)﴾

[ سورة البقرة  ]

 ما عرف قيمته عند الله، هل من المعقول أن تدخل على ملك، وتطلب منه قلم رصاص فقط؟ يُطلَب منه بيت، منصب رفيع، مركبة غالية جداً، يُطلَب منه أن تكون سفيرًا في بلد، قلم رصاص! إنك لا تعرف قيمة هذا الملك من هذا الطلب، ولا تعرف مكانتك عنده من هذا الطلب، لذلك مَن عرف نفسه عرف ربه، فكل إنسان يريد الدنيا فقد سفِه نفسه، احتقرها، أراد شيئاً زائلاً.

2 ـ الدنيا لا تستقيم لأحَدٍ:

 الدنيا -سبحان الله- تغر، وتضر، وتمر، متى يأتي ملك الموت؟ بعد أن تنضج، لك بيت فخم، علاقاتك كلها إيجابية، ووضعك جيد، أمرك نافذ، مسيطر، تفضل الآن، بعد النضج، وبعد الغنى، وبعد القوة، فما هذه الدنيا؟
 يكون الإنسان قد شابَ، وليس معه ثمن طعام طيب، إذا اغتنى وأصبح معه ثمن طعام طيب لا يستطيع أن يأكل الطعام الطيب، لوجود خمسين علة في جسمه، هذه الحياة.
 إن هذه الدنيا دار التواء، لا دار استواء، الزوجة جيدة الأولاد سيئون، الأولاد جيدون الزوجة سيئة، الزوجة والأولاد جيدون، الدخل قليل، الدخل كثير هناك مرض، هكذا الدنيا.
 إن هذه الدنيا دار التواء، لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، فقد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور