- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (003)سورة آل عمران
الحمد له رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الثامن والثلاثين من دروس سورة آل عمران ، ومع الآية التاسعة والثلاثين بعد المئة ، وهي قوله تعالى :
﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
1 ـ الإيمان الحقيقي هو سبب من أسباب النصر :
إن كنتم مؤمنين الإيمان الحق ، الإيمان المنجي ، الإيمان كما يريد الله عز وجل ، إن كنتم كذلك فأنتم الأعلون ، والعاقبة لكم ، ومهما ألمت بكم المحن فأنتم المنتصرون ، فلا تهنوا ، ولا تحزنوا .
2 ـ أخطر هزيمة الهزيمة من الداخل :
قد يفهم من هذه الآية أن أخطر هزيمة أن يهزم الإنسان من داخله ، قد يهزم هزيمةً في ساحة المعركة الخطورة لا أن تهزم من الداخل ، الخطورة أن تيأس ، الخطورة أن تهن ، أن تحزن ، أن تندم على أنك في طريق الإيمان ، أكبر هزيمة أن تكون من الداخل ؟
3 ـ لابد من الصبر ، فإن الدنيا دار ابتلاء :
سيأتي بعد قليل أن المؤمن تصيبه السراء ، وتصيبه الضراء ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا جاءت الأمور كما يحب قال :
(( الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ))
فإذا جاءت على غير ما يحب يقول :
(( الحمد لله على كل حال ))
نحن في دار ابتلاء ، نحن في دار عمل لا في دار جزاء في الجنة دار جزاء لهم ما يشاؤون فيها ، أما في الدنيا فليس لك ما تشاء ، من هنا كان دعاء النبي عليه الصلاة والسلام :
(( اللهم ما رزقتني فيما أحب فاجعله عوناً لي فيما تحب وما زويت عني ما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب ))
وطن نفسك أنك في دار ابتلاء ، قد تأتي الأمور كما تحب ، وقد تأتي كما لا تحب ، قد تكون غنياً وقد تكون فقيراً ، قد تكون قوياً ، وقد تكون ضعيفاً ، قد تكون صحيحاً ، وقد تكون سقيماً ، قد تكون وسيماً ، وقد تكون ذميماً ، نحن في دار ابتلاء ، بل إن هذه الدنيا دار التواء ، الزوجة جيدة الأولاد غير جيدين ، الأولاد جيدون الزوجة غير جيدة ، الزوجة والأولاد جيدون ، الدخل غير جيد ، الدخل جيد الصحة غير جيدة شاءت حكمة الله أن تكون هذه الدنيا دار التواء ، لا دار استواء ، ومنزل ترح ، لا منزل فرح ، لأنه من عرفها لم يفرح لرخاء ، الرخاء مؤقت ، ولم يحزن لشقاء ، الشقاء مؤقت ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبة فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي .
الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل :
شاءت حكمة الله جبراً لخاطر المؤمنين أن يكون أنبياؤه وهم قمم البشر ، وهم أصفياؤه ، وهم أحبابه أن يُبتَلَوا ، فالنبي عاش فقيراً :
(( كنت أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة ))
سيد الخلق ، وحبيب الحق ، فإذا كان للإنسان عمل بسيط متواضع ، مغمور في الدرجة الدنيا في المجتمع ، فقد كان عليه الصلاة والسلام راعي غنم ، ولا أعتقد في الأرض أي حرفةً أقل منها :
(( كنت أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة ))
فالأنبياء بعضهم فقراء ، كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته ، ولم يجد ما يأكل قال : إني صائم .
لم يجد شيئاً يأكله في البيت قال : إني صائم ، لأنه لو كان غنياً ، ونصح الفقراء بالصبر لم يصدقوه ، يقولون له : ما ذقت الفقر يا رسول الله ، لا ، ذاق الفقر ، وذاق الغنى ، حينما ذاق الغنى قيل له : لِمن هذا الوادي ؟ قال : هو لك ، قال : أتهزأ بي ؟ قال : هو لك ، قال : أشهد أنك رسول الله ، تعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، وادٍ من غنم .
أذاقه الله القهر في الطائف ، يا محمد لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين ؟ قال : لا يا أخي ، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون .
أذاقه النصر ، ما تظنون أني فاعل بكم ؟ عشرة آلاف سيف متوهجة تنتظر حركة من شفتيه، اقتلوهم يقتلون جميعاً ، قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء .
ذاق طعم الفقر فصبر ، وذاق طعم الغنى فشكر ، وذاق النصر فتواضع، وذاق القهر فقال : يا رب إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولك العتبى حتى ترضى .
ذاق أن يقال عن زوجته شيءٌ لا يحتمل ، حديث الإفك ، اتهمت زوجته بالزنا ، وشاع الخبر في المدينة ، وتأخر الوحي شهراً ماذا يفعل ؟
وذاق الهجرة ، أنت في بلد لك بيت ، ولك عمل ، ولك مركز ، ومعارف ، ودخل ، تذهب إلى بلد آخر لا تملك فيه شيئاً ، اقتلعت من جذورك ، ذاق طعم الهجرة .
ذاق موت الولد ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ ))
ما من مصيبة إلا وذاقها النبي عليه الصلاة والسلام ، قال :
(( أوذيت في الله وما أوذي أحد مثلي ، وخفت ، وما خاف أحد مثلي ، ومضى علي ثلاثون لم يدخل جوفي إلا ما يواريه إبط بلال ))
نبي كريم ؛ سيدنا نوح كان ابنه ضالاً ، ونبي كريم سيدنا إبراهيم كان أبوه مشركاً ، قال تعالى :
﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ﴾
نبي كريم كانت زوجته كافرة ، قال تعالى :
﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ﴾
امرأة صديقة ، زوجها طاغية كافرًا ، إنها آسية امرأة فرعون ، قال تعالى :
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾
نبي كريم كان عقيماً ، قال تعالى :
﴿ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا(3)قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا(4)وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا(5)يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾
ما من مشكلة كبيرة إلا وهناك نبي قد حلت به ، وهو عند الله في أعلى مقام ، فوطن نفسك ، هذه دار ابتلاء ، لا دار استواء ، دار امتحان ، دار عمل ، قد ترقى بمصيبة رقياً ما بعده رقي ، قال تعالى :
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ(155)الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156)أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ﴾
الذي عاش في الدنيا فقيراً يدخل الجنة قبل الغني بخمسمئة عام ، المجموع ثابت .
أيها الإخوة ، الآية الكريمة :
﴿ وَلَا تَهِنُوا ﴾
وَلَا تَهِنُوا
1 ـ لا ينبغي للمؤمن أن يحزن ويضعف :
إذا كنت مؤمناً فيجب أن تؤمن أنك في أعلى مقام ، يجب أن تؤمن أنك الفائز ، أنك المفلح ، ولو أن الدنيا لا تعجبك ، هذه الدنيا عرض حاضر ، يأكل منه البر والفاجر، والآخرة وعد صادق ، يحكم فيه ملك عادل ، أعطى الدنيا لمن يحب ، وأعطاها لمن لا يحب ، أعطاها لسيدنا سليمان ، وأعطاها لقارون ، قال تعالى :
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ﴾
أعطى الملك لمن يحب أعطاه لسيدنا سليمان ، قال تعالى :
﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾
وأعطاه لمن لا يحب لفرعون .
إذا كان الشيء يعطيه لمن يحب ، ولمن لا يحب ، ليس له قيمة ، وليس مقياساً ، لكن ماذا قال الله عز وجل ؟
﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾
الفضل العظيم أن تعرف الحقيقة ، أن تعرف الله ، أن تعرف سر وجودك ، وغاية وجودك ، الفضل العظيم أن تكون مستقيماً على أمر الله ، الفضل العظيم أن تعمل لآخرتك ، الفضل العظيم أن تكون قريباً من الله عز وجل .
﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
2 ـ المؤمنون هم الأعلون ، ولهم العاقبة :
الأيام تدور ، ولا تستقر إلا على نصرة المؤمنين ، قال تعالى :
بنو إسرائيل كانت لهم العاقبة بعد الامتحان :
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ ﴾
ثم قال تعالى بعدها :
﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ(5)وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾
إن كنت مستضعفاً ، وقد أراد الله بك الخير ، أراد أن يطهرك ، أراد أن يعلي مقامك ، أراد أن يؤهلك للجنة ، فأنت بخير ، وإن كنت مستضعفاً ،
﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
يجب أن تجعل كل همك أن تكون مؤمناً كما ينبغي كي تكون العاقبة لك ، قال تعالى :
﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ ﴾
3 ـ كن أهلاً للنصر :
يجب أن تكون جنديتك لله ، قال تعالى :
﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾
ينبغي أن ينصب جهدك على أن تكون أهلاً لعطاء الله ، من أدب النبي عليه الصلاة والسلام مع ربه ما ثبت في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلْيَتَوَضَّأْ ، فَلْيُحْسِنْ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ لِيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ لِيُثْنِ عَلَى اللَّهِ ، وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لِيَقُل : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ ))
الموجبات يعني أسباب الرحمة ، وعزائم مغفرتك أن تملك موجبات الرحمة ، وأن تملك عزائم المغفرة .
كن على الدين الذي رضيه الله لعباده :
هناك ملمح لطيف حينما قال الله عز وجل :
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ﴾
أي دين يمكنه الله ؟ إذا كان قد ارتضاه لهم ، وأي إيمان يجعلك في أعلى مستوى ؟ الإيمان الذي يحملك على طاعة الله ، فإن لم تمكن في الأرض معنى ذلك أن دينك الذي تعتنقه لم يرضِ الله عز وجل ، أو لم يرتضِه الله لك ، وأي إيمان الذي يجعلك في أعلى عليين ؟ ذلك الإيمان الذي يحملك على طاعة الله .
أيها الإخوة ، الآية التي تليها :
﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ﴾
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ
1 ـ تسلية الله للصحابة لمصابهم في أُحد :
القرح هو الجرح ، أو مطلق الألم ، يا أصحاب رسول الله ، إن يمسسكم قرح في أحد فقد مسح القوم قرح مثله في بدر ، ومع ذلك لم ييأسوا ، وأعادوا عليكم الكرة ، أصابهم قرح لا يحتمل ، قتل عدد كبير منهم ، قتل زعماؤهم ، صناديدهم ، أبطالهم ، ومع ذلك أعادوا عليكم الكرة ، ولم ييأسوا ، إن يمسسكم قرح الآن في أحد فقد مس القوم - قريشًا - في بدر قرح مثله ، فهم لم ييأسوا ، بل أعادوا عليكم الكرة ، فما بالكم أنتم قد وهنتم ، يوجد آية دقيقة جداً :
﴿ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُون ﴾
شتان بين ألم المؤمن وألم الكافر :
الألم واحد ، ولكن شتان بينكم وبينهم ، شتان بين من يتألم ، وقد وعده الله بالجنة ، وبين من يتألم ، وقد أوعده الله بالنار ، التجارة فيها متاعب كثيرة جداً ، لكن المؤمن يرجو من هذا العمل التقرب إلى الله ، حبذا المال أصون به عرضي ، وأتقرب به إلى ربي ، يرجو من هذا المال أن يعينه على طاعة الله ، بينما الكافر يرجو من التجارة مالاً ينغمس فيه بالشهوات إلى قمة رأسه ، شتان بين الهدفين ، وشتان بين الباعثين مع أن المتاعب واحدة .
يتزوج الشاب ، متاعب لا تعد ولا تحصى ، بدأً من تأمين البيت ، وفرشه ، وتأمين المهر ، والحلي ، ومعالجة الموضوعات المتفجرة ، أحياناً في أثناء الخطبة هذا شيء متعب ، ومؤلم ، ولكن :
﴿ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ﴾
﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ﴾
2 ـ معنى آخر للقرح الذي مس الصحابة في أحد :
هناك تفسير آخر : إن يمسسكم قرح في نهاية المعركة فقد مس القوم قرح في بدايتها ، معركة أحد في آخر مرحلة كانت الهزيمة ، أما في أولها فكان هناك نصر ، لكن لبعض العلماء الأجلاء تعليق لطيف قال : وتلك الأيام نداولها بين الناس ، تنتصرون مرةً ، ولا تنتصرون مرة ، بل تهزمون ، لماذا ؟ تصور أن المؤمنين لو شاءت حكمة الله أن ينتصروا دائماً ، أبداً ، في أية معركة ينتصروا ما الذي يحصل ؟ كل الناس ينضمون إليهم حتى المنافقون ، حتى الكفار ، حتى المشركون ، وإذا وجدت دولة قوية جداً فكل الدول تكون معها ، وكلهم يعلمون أنها على باطل ، و أنها ظالمة ، و أنها منحازة ، و أنها تكيل بمكيالين ، وأنها لا ترحم ، وأنها لا تفي بوعدها ، لكن لأنها قوية جداً ، ودائماً تنتصر في المعارك ، و معها سلاح قوي جداً ، فكل العالم معها ، معها على باطل ، لو أن الله عز وجل جعل المؤمنين ينتصرون دائماً لانضم إليهم كل الخلق ، وقد يكونون كفاراً ، و مشركين ، ومنافقين ، ولو أن الله عز وجل شاءت حكمته ألا ينتصر المؤمنون دائماً لانفض الناس عنهم ، لكن الله عز وجل يمتحن ، المؤمنون ينتصرون تارة ، ولا ينتصرون تارة أخرى ، هذه حكمة كبيرة ، هناك مؤمن غني ، ومؤمن فقير ، هناك مؤمن صحيح ، ومؤمن مريض ، هناك مؤمن يعيش حياة زوجية سعيدة جداً ، وهناك مؤمن وله عند الله مقام كبير يعيش حياة زوجية غير سعيدة ، شاءت حكمة الله أن يكون هكذا ، لو أن الله عز وجل جعل الجزاء معجلاً في الدنيا لكانت هناك مشكلة كبيرة ، أو لو أن الجزاء جاء عقب العمل الصالح ، والعقاب جاء عقب العمل السيئ لألغِي الاختيار ، فلو أنّ كل من دفع مئة ليرة يأخذ مساء ألف ليرة ، تجد صفاً كبير أكثره منافقون ، وأكثره كفاراً ، يقول لك أدفع مئة و أخذ ألفاً ، قد تدفع مئات ، و قد تدفع ألوفاً و لا يأتيك شيء ، وقد يعصي الإنسان الله عز وجل ، يقول لك : لا يوجد شيء ، عملت فحصاً ، كله كامل ، ممكن ، ممكن أن تعصيه إلى أمد طويل دون أن ترى شيئاً مزعجاً ، وممكن أن تطيعه إلى أمد طويل دون أن ترى شيئاً مريحاً ، هذا هو الاختيار :
﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس
1 ـ امتحان النصر :
فهذه الدنيا ليست دار جزاء ، قد تغتني فيها ، وقد تفتقر ، وأنت مؤمن ، وقد تصح ، وقد تمرض ، وأنت مؤمن ، بالمناسبة لحكمة أرادها الله عز وجل فهناك ابتلاءان كبيران يبتلى بهما المؤمنون ، أول ابتلاء أنهم ينتصرون ، وتغدو كلمتهم هي العليا ، وأن الأمر بيدهم ، وأنهم قادة ، وأنهم سادة ، هذا ابتلاء ، فحينما يبتلى المؤمن بالنصر ، والتمكين ، والسيطرة ، والعلو ، فهناك مؤمنون تزل قدمهم ، وينصرفون إلى اللهو ، وهذا ما حدث لهؤلاء الذين فتحوا الأندلس ، فتحوا هذه شبه الجزيرة ـ إسبانية ـ فتحوها ، و أنشؤوا حضارة عريقة ، مكن الله لهم في الأرض ، ملكوا ، وحكموا ، واغتنوا ، و كان هناك رخاء يفوق حد الخيال ، ثم مالوا إلى الموشحات ، وإلى الغناء ، وإلى القيان ، وإلى الجواري ، فسلب الله ملكهم دَولةً دولةً ، وكان آخر ملك من ملوك إسبانيا اسمه عبد الله الصغير ، قالت له أمه :
ابكِ مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال
لما مالوا إلى اللهو سلب الملك منهم ، قال بعض الشعراء :
لكل شيء إذا ما تم نقصـان فلا يُغر بطيب العيش إنسـان
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمــان
و هذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شــان
أول امتحان أن الله يمكن المؤمنين ، قد تزل قدمهم ، قد ينصرفون إلى اللهو .
افتح بعض كتب الأدب التي أُلفت في العصر العباسي تجد أن القيان ، والغلمان ، والدنان ، والخمور يصفها الشعراء في بغداد بعد هذا العصر ، وبعد هذا الانحراف جاء عصر التخلف ، وعصر الدول المتتابعة ، وجاء الغزاة من الشرق ، جنكيز خان ، وهولاكو ، وقد سئل مرة تيمور لنك : من أنت ؟ فقال أنا غضب الرب :
﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾
يمكن لبعض المؤمنين أن تزل قدمه ، و يتجه إلى اللهو ، و إلى المعاصي ، و الآثام فينتزع الملك منه .
2 ـ امتحان الهزيمة والذل :
الامتحان الثاني القاسي : أن يجعل القوة في الكفار ، هم أصحاب القرار ، هم الممكنون في الأرض ، كلمتهم هي العليا ، أمرهم هو النافذ ، فيما يبدو يفعلون ما يقولون ، لذلك يقوي الله الكافر ، ويطغى هذا الكافر ، ويطغي ، ويستعلي ، ويتغطرس ، إلى أن يقول ضعيف الإيمان : أين الله ؟ وهذا يحدث في فلسطين الآن ، وحش ، ثور هائج ، مصاب بجنون البقر ، ثور معه سلاح فتاك ، والطرف الآخر أعزل ، يقتل ، ويغتال ، ولا يعبأ بكل ما يقال عنه في العالم الغربي ، هذا ابتلاء .
إن الله عز وجل يُظهر آياته حتى يقول الملحد : لا إله إلا الله ، ويقوي الكافر حتى يقول ضعيف الإيمان : أين الله ؟ ثم يُظهر آياته حتى يقول الملحد : لا إله إلا الله ، فرعون تبع موسى وقومه ، شرذمة قليلون ، خائفون ، هاربون ، فزعون ، وراءهم فرعون بأسلحته الفتاكة ، وجنوده ، وجبروته ، و طغيانه ، والبحر أمامهم ، وبحسب منطق الأحداث لا أمل ، ولا واحدا بالمليار إلا ويقتلهم كلهم :
﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61)قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾
فلما وصل إلى شاطئ البحر أوحى الله إلى سيدنا موسى أن اضرب البحر ، أصبح طريقاً يبساً فمشى فيه ، فلما خرج من الضفة الثانية ، وتبعه فرعون عاد البحر بحراً ، فأغرقه الله عز وجل ، هذه القصص في القرآن ليست للتسلية .
إخواننا الكرام ، أرجو أن يكون هذا الكلام واضحاً ، إذا تدخل الله ولو كان مع عدوك مليون قنبلة ذرية ، لو معه ترسانة أسلحة تدمر العالم خمس مرات فإن الله ينصرك ، وإذا تخلى الله عز وجل عن جهة استعلى عليها أضعف الخلق .
عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ... ))
أما حينما لم تطبق أمته سنته هزموا بالرعب مسيرة عام قال تعالى :
﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾
سبب الهزيمة في أُحد المعصية والمخالفة :
ما استحق الصحابة نصر الله عز وجل يوم أحد ، لأنهم عصوا أمر النبي ، وعصوه لا في أمر تشريعي ، بل في أمر تنفيذي ، ما شربوا الخمر ، وما زنوا ، لكن عصوا أمرًا تنظيميًّا ، اقبعوا هنا ، ولا تتركوا أمكنتكم ، هذا أمر نبوي ، فلما عصوا هذا الأمر لم يستحقوا هذا النصر ، معنى ذلك أن نصر الله عز وجل لا يستحقه أنصاف المؤمنين ، ولا أرباع المؤمنين ، ولا أخماس المؤمنين ، ولا أعشار المؤمنين ، ولا أصفار المؤمنين ، نصر خالق الكون تأخذه بلا ثمن ، فلو كنا كما يرضى الله عنا ، على منهجه سائرون ، والله لا شارون ـ إن صح التعبير ـ ولا اليهود ، ولا أمريكا تستطيع أن تفعل معنا شيئاً ، قال تعالى :
﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ﴾
﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ ﴾
البطولة أن تملك موجبات رحمة الله ، أن تملك أسباب النصر ، وهي إيمان قوي ، واستقامة على أمر الله .
﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين
1 ـ معنى : وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ
ليعلم الله ، الله يعلم ، أما هذا العلم كما قال عنه علماء العقيدة هو العلم الحصولي ، هو يعلم علم كشف ، أما حينما ينقلب علمه إلى عمل نقول : هذا علم آخر ، هذا علم حصولي .
معلّم بارع عنده خبرة عالية جداً ، نظر في أحد طلابه فقال : هذا لا ينجح ، والفحص لم يأتِ بعد ، وهو طالب ، واسمه طالب في الصف الثاني عشر ، والامتحان لم يأتِ بعد ، أما حينما يأتي الامتحان ، ويقدم الامتحان ، ويرسب نقول : إن علم المدرس الكشفي قد أصبح علماً أصولياً ، وقع الذي توقعه المدرس تحقق ، فالله عز وجل يعلم ، وعلم الله عز وجل لا يكفي للثواب والعقاب ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيا عن بينة ، لابد من عمل تستحق الثواب والعقاب ، فعلم الله بالإنسان علم كشف ، هذا العلم علم الكشف لا يقتضي ثواباً ولا عقاباً ، لو أننا قلنا لطالب : أنت راسب في منتصف العام الدراسي يقيم الدنيا ، ولا يقعدها أنا أقوى من أي طالب ، لكن بعد الامتحان حينما تأتي إجاباته كلها مغلوطة ، وينال علامة الصفر تقول له : أنت راسب يسكت .
فعلم الله الكشفي لا يقتضي الثواب ، ولا العقاب ، أما علم الله الحصولي فهو الذي يقتضي الثواب والعقاب ، لذلك قال تعالى :
2 ـ وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ
﴿ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ﴾
ويقول الله عز وجل :
﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾
يمكن أن يقول الله عز وجل كلمة فيموت كل أعداء المسلمين ، زل فيزولوا ، صيحة واحدة ، لكن المؤمنين لم يرتقوا عند الله ، أما حينما يجابه المؤمنون هؤلاء ، ويدخلون معهم في حرب صعبة جداً ، ويجرح بعضهم ، ويتحمل بعضهم ، ويواجهون كل المتاعب ، ثم ينتصرون ، فقد ارتقى المؤمنون ، قال تعالى:
﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾
﴿ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾
معنى دقيق ، يمكن لله عز وجل أن يتولى بذاته نصرنا على أعدائنا ، وهناك قصص كثيرة جداً بتدخل إلهي مباشر هذه القوة العاتية حطمت ، زل فزالت ، مرض عضال ، حينما جاء نابليون إلى عكا فتك بجنوده مرض فتاك ، إنه الطاعون ، وانتهى الأمر :
﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ﴾
مرض أحياناً ، أو حرب ، أو عاصفة هوجاء ، فتنهي المعركة ، في معركة الخندق هبت رياح عاتية قلبت قدورهم ، واقتلعت خيامهم ، وأطفأت نيرانهم ، وكفى الله المؤمنين القتال ، يمكن لله عز وجل أن يتدخل مباشرةً ، وينهي كل شيء ، لكن بهذا التدخل لم يبقَ لهؤلاء المؤمنين من أجر ، أما حينما يحقق المؤمنين الأجر بجهدهم ، وبصبرهم ، وجلدهم ، ويقينهم ، عندئذ يرتقون عند الله عز وجل ، قال تعالى :
﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140)وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ
1 ـ معنى التمحيص :
التمحيص التطهير ، الإنسان حينما يؤمن ، ويسعد بلقاء الله عز وجل يتوهم أنه طاهر النفس ، قد يكون فيه آلاف الشهوات ، وآلاف الأمراض النفسية ، لكن لحكمةٍ بالغة يكشف الله عز وجل له مَرضاً مرضاً ، وكل مرض له علاج ، نحن في العناية المشددة ، نحن في طور العناية المشددة ، كان العيب خافياً عن صاحبه ، ثم يظهر ، ثم يعالج ، ثم يطهر المؤمن منه .
﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾
حدثني أخ عنده معمل بسيط ألبسة ، دخل عليه أخ من إخوان المسجد ، قال له : أريد عدة قطع لأولادي ، المعمل يبيع بالجملة ، فشعر أن هذا الطلب إهانة ، قال : أنا لا أبيع بالمفرق ؟! فالأخ اعتذر ، وخرج من المعمل ، فقال لي : لم يدخل المعمل زبون ثلاثة وثلاثين يوماً .
هذا كبر ، لا تبيع بالمفرق ، أخ كريم مؤمن دخل إلى معملك لا تبيعه بالمفرق ، فأدبه الله عز وجل ثلاثة وثلاثين يوماً ، الآن يبيع بالقطعة .
يمحص المقصرين أحياناً ، وأحيانا يستعلي الإنسان ، يتكلم كلمة قاسية ، يبتسم ابتسامة ساخرة ، يفتخر ، فيعالجه الله عز وجل ، دائماً يعالج الله عز وجل هذا المؤمن .
﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾
2 ـ إذا كنت في العناية المشددة فاحمد الله :
إذا كنت في العناية المشددة فاشكر الله عز وجل ، اشكر الله إذا كان الله يتابعك ، إذا حاسبك على كلمة ، أو على ابتسامة ، أو على تقصير ، أو على نية لا ترضيه ، ورأيت الحساب جاء سريعاً ، فأنت في العناية المشددة ، وينبغي أن ترتعد مفاصلك إذا أهملك الله عز وجل ، وإذا فعلت السيئات ، وأهملك الله عز وجل فأكبر مصيبة أن تكون خارج العناية المشددة ، أكبر مصيبة أن تفعل السيئات ، وتأتيك الخيرات ، إذا رأيت الله يتابع نعمه عليك ، وأنت تعصيه فاحذره ، فإن هذا ليس إكراماً ، إنما هو استدراج ، إكرام استدراجي ، ينتهي بالقصم ، قال تعالى :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾
فالتمحيص كلما أخطأ عاقبه الله ، وكلما تكلم كلمةً سيئة عاقبه الله ، وكلما ابتسم ابتسامةً ساخرةً عاقبه الله ، وكلما اغتاب أحداً واجه مشكلةً لم تكن بالحسبان ، إذا كنت كذلك فاعلم أن الله يحبك ، وإذا أحب الله عبده ابتلاه ، إذا أحب الله عبده عجل له بالعقوبة ، إذا أحب الله عبده محصه يعني طهره ، أدبه ، ما هذا الأدب يا رسول الله ؟ قال : أدبني ربي فأحسن تأديبي .
المؤمن أديب جداً وهذا الأدب ناتج من تأديب الله له .
﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141)أَمْ حَسِبْتُمْ ﴾
أَمْ حَسِبْتُمْ
1 ـ لابد للجنة من ثمن كبير :
سذاجة ما بعدها سذاجة جنة عرضها السماوات والأرض ، جنة إلى أبد الآبدين فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، هذه الجنة تأتي بركعتين شكليتين ، وليرتين تنفقهما من دون اهتمام ، تدخل بهما الجنة لا والله ؟!
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾
2 ـ إيثار الآخرة على الدنيا ثمن الجنة :
إله عظيم ، جنته لها ثمن كبير ، ثمن كبير ، حتى تنفقوا مما تحبون ، حتى تخضع لله خضوعاً تاماً ، وحتى تؤثره على كل شيء ، قال تعالى :
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾
إذا كان بيتك أغلى عليك من الله ، وقد اغتصبته اغتصاباً ، وهو أغلى عليك من الله ، إذا كانت الزوجة أغلى عليك من الله تطيعها ، وتعصي الله ، إذا كان المبلغ الكبير يأتي من غش المسلمين تؤثره على طاعة الله ، فإن الطريق إلى الله غير سالك ، بل هو مسدود :
﴿ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾
لابد من الجهاد ، ومن بذل الجهد ، أن تجاهد نفسك ، وهواك ، وأن تجاهد جهاداً دعوياً ، وأن تجاهد جهاداً قتالياً ، حينما يجتاح العدو أرضك .
أيها الإخوة الكرام .
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾
3 ـ طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب :
طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب ، كنت أضرب مثلاً مضحكاً ، محل كبير ضخم جداً في الشام لبيع السجاد ، وبائعو السجاد يضعون بعضه فوق بعضٍ ، فزرت هذا المحل ، فأراك الأولى ، تقول له : أريد الأغلى ، أعطاك الثانية ، الثالثة ، الرابعة ، الخامسة ، أراك كل شيء في المحل ، تقول له : أريد الأغلى ، أخذك إلى مكان آخر فيه قطع نفيسة جداً ، سعر الواحدة ثمانمئة ألف ، أراك واحدة أعجبتك فقلت له : أتأخذ ثمنها خمس ليرات ، هل تخرج من المحل سالماً ؟
إنسان لا يقرأ ولا يكتب توفي والده ، فذهب إلى المقبرة ليزوره ، فوجد شاباً يقرأ القرآن ، فأعطاه عشرة قروش فقط ، قال له : اقرأ على روح والدي ، فهذا اغتاظ جداً من هذا المبلغ الذي لا يساوي شيئاً ، فقرأ :
﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ﴾
هذا الابن بدأ يغلي ، ما وجد غير هذه الآية :
﴿ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31)ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ﴾
قبضه فقال له : ما وجدت غير هذه الآيات ؟ فقال له : تريد الجنة بعشرة قروش ؟
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾
4 ـ الجنة تحتاج إلى جهاد وصبر :
مرتاح ، تقصير في الصلاة ، غيبة ، نميمة ، تملأ عينيك من الحرام ، تأكل ما تشاء ، تفوتك صلوات وصلوات ، ونحن مسلمون ، والحمد لله ، ومن أمة محمد .
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾
أيها الإخوة ، الجنة تحتاج إلى جهد كبير ، وإلى سهر طويل ، وإلى إنفاق ، وإلى معاكسة الشهوات ، قال تعالى :
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى(40)فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
تحتاج إلى غض بصر ، إلى ضبط لسان ، إلى إنفاق مال ، إلى حضور مجالس علم ، أما هذا الذي يعطي نفسه ما تشتهي ، ويتمنى على الله الأماني ، فهذا قال سمّاه النبي الكريم العاجز ، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))
فلابد من الجهاد ، ولا بد من الصبر على قضاء الله ، وقدره ، وعن معصيته ، وعلى طاعته ، دقق على طاعته ، وعن معصيته ، وعلى قضاء الله وقدره ، لابد أن تصبر ، وأن تجاهد ، تبدأ بجهاد النفس ، والهوى ، وتمر بالجهاد الدعوي إلى الله عز وجل ، ثم تنتهي بالجهاد القتالي .
﴿ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾