الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثالث والثلاثين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الواحدة والعشرين بعد المائة، وهي قوله تعالى:
﴿ وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)﴾
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
1 ـ مهمةُ وضعِ الرجلِ المناسب في المكان المناسب:
هذه الآية مررنا عليها سريعاً في الدرس الماضي، ولكن فيها ملمح دقيق، هو أن مهمة القيادة الأولى أن تضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فالبطولة في القيادة أن تختار الإنسان المخلص الكُفْء، الكفاءة والإخلاص، القوة والأمانة، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم من كمال قيادته لأصحابه أنه يعرف قدراتهم الخاصة وإمكاناتهم، وأين هم من سلّم الإيمان، وأين هم من سلّم التضحية، فكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يندب صحابياً لمهمة، واقتُرِح عليه شخص يقول: ليس هناك، أي ليس في هذا المستوى.
الحقيقة أيها الإخوة أنك إذا أدرت مدرسة، أو مستشفىً، أو مؤسسةً، أو كنت رئيس بلدية في أي عمل قيادي، مهمتك الأولى أن تعرف إمكانات من حولك، وقدراتهم الخاصة، وأن تستخدم هذه الإمكانات وتلك القدرات بمكانها الصحيح، فإذا وضعت الإنسان المناسب في المكان المناسب فقد وُفِّقت أيما توفيق.
ذكرت لكم أن سيدنا عمر قال لأحد الولاة: <<خذ عهدك، وانصرف إلى عملك، واعلم أنك مصروف رأس سنتك، وأنك تصير إلى أربع خِلال، فاختر واحدة منها، إن وجدناك أميناً ضعيفاً استبدلناك لضعفك، وسلّمتك من مَعرّتنا أمانتك، وإن وجدناك خائناً قوياً استهنا بقوتك، وأوجعنا ظهرك، وأحسنا أدبك، وإن جمعت الجرمين جمعنا عليك المضرّتين، وإن وجدناك أميناً قوياً زدناك في عملك، ورفعنا لك ذكرك وأوطأنا لك عَقِبك>> .
من وليَ أمْرَ عشرة فولّى عليهم رجلاً، وفيهم من هو خيرٌ منه فقد خان الله ورسوله، لو كنت معلماً في الابتدائي، وعينت عريفاً على هؤلاء الطلاب، بسبب قرابة أو بسبب محاباة، وفي الطلاب من هو أجدر بهذا المنصب فقد خنت الله ورسوله.
عَنِ ابْنِ حُجَيْرَةَ الْأَكْبَرِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ :
(( قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا ، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا. ))
لا يوجد إنسان إلا وعنده محل، وموظفون، موظف قرّبه، وموظف بعّده، موظف رقَّاه، وموظف لم يرقِّه، موظف ابتسم في وجهه، وموظف عبس بوجهه، هذا كله محاسب عليه، ينبغي أن تضع الإنسان الكفء في مكانه الصحيح، دون محاباة، ودون تزوير للحقائق، فكأن الله جل جلاله يبين أن النبي عليه الصلاة والسلام كان خبيراً بأصحابه، ما من صحابي جليل إلا وأخذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة دقيقة، هذا سيف الله، وهذا أمين هذه الأمة، وهذا لو كان نبياً لكان عمر، وهذا حبر هذه الأمة، وهذا حواري رسول الله.
هكذا يجب أن تأخذ الوضع الصحيح، النبي عليه الصلاة والسلام فضلاً عن كونه زعيماً سياسياً فهو قائد عسكري، والقيادة تحتاج إلى تعيين قوّاد فرعيين، فكان يضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، كل هذا من قوله تعالى: ﴿وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ﴾ أي خرجت.
بالمناسبة: غدا: ذهب إلى عمله باكراً قبل الشمس.
وراح: عاد إلى بيته.
هذا هو المعنى اللغوي الصحيح، لو أن واحداً طرق باب بيتك بعد المغرب وسأل: هل أبوك في الداخل؟ فقال له ابنه: والله الآن راح، فقال له: سلم عليه، هذه الكلمة معناها الآن أتى، لأنه غدا: ذهب، وراح: عاد.
نحن في اللغة الدارجة نستخدم راحَ بمعنى ذهب، أما في اللغة الفصيحة فإن راح بمعنى أتى.
لو أن ابناً ذكياً جاء دائن لأبيه، وقال له: أبوك في البيت؟ قال له: الآن راح، هل هو كاذب أم صادق؟ هو كاذب فقهاً شرعاً، لأنه أوهم السائل أنه خرج من البيت، هو صادق لغةً، وكاذب شرعاً، العبرة ماذا فهم منك؟ فهم منك أنه ليس في البيت، فقد كذبت عليه، وإن كانت كلمتك في اللغة صادقة.
لكن هنا النبي عليه الصلاة والسلام خرج من المدينة إلى معركة بدر بعد الظهر، بعد ظهر الجمعة، فكيف نوفق بين غدا بمعنى ذهب قبل الفجر، وبين غدا هنا بمعنى ذهب؟ قال بعض علماء اللغة: يُستخدَم الغُدوّ والرَّواح، الغدو للخروج، والرواح للعودة مطلقاً من غير قيد زمني.
حبُّ الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام:
﴿وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ﴾ أي أنت جالس بين أهلك، يذكرني هذا أن أبا سفيان حينما ألقى القبض على بعض أصحاب رسول الله المحبين أظنه خُبيبًا، وأرادوا أن يصلبوه، قال: يا خُبيب أتحب أن يكون محمد مكانك؟ هو سيصلب! وأنت معافىً في أهلك، فقال قولة، والله لو لم يقل غيرها لكان من أهل الجنة، قال له: والله ما أحب أن أكون في أهلي وولدي (أي زوجته أمامه مزينة، وأولاده بهندام حسن، وأذكياء ومتفوقين) وعندي عافية الدنيا (لا يوجد مشكلة، ولا مرض، ولا فقر، ولا قضية) عافية الدنيا ونعيمها (باقة ورد جميلة، طعام ما لذّ وطاب) ويصاب رسول الله بشوكة.
هكذا كان أصحاب النبي، نحن ينقصنا الحب، ينقصنا الود، ينقصنا أن نكون متعاونين، متكاتفين، فقال أبو سفيان: والله ما رأيت أحداً يحب أحداً، كما يحب أصحاب محمد محمداً، وبهذا الحب أحبهم الله عز وجل، ففي الحديث القدسي يقول الله عز وجل:
(( الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ، قَالَ فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ، لَا أُحَدِّثُكَ بِمَا حَدَّثَنِي مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فِي الْمُتَحَابِّينَ قَالَ: فَأَنَا أُحَدِّثُكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُهُ إِلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَوَاصِلِينَ فِيَّ. ))
امرأة أنصارية بلغها أن النبي قُتِل في أحد، تخرج إلى ساحة المعركة لترى زوجها مقتولاً، تسأل: أين محمد؟ ثم رأت أباها مقتولاً، ثم رأت أخاها مقتولاً، هذه مصيبة؛ أب، وزوج، وأخ! وتقول: ما فعل رسول الله؟ ولما وقعت عينها على رسول الله قالت: يا رسول الله كل مصيبة بعدك تهون.
هذه امرأة عندها حب للنبي، والله لو وُزِّع على العالم الإسلامي اليوم لوسعه، بهذا الحب انتصروا، بهذه التضحية انتصروا، ابن أبي رُواحة الشاعر، أرسله النبي إلى يهود خيبر ليقيِّم تمرهم، فعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَرَ فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَهُودِ خَيْبَرَ، قَالَ: فَجَمَعُوا لَهُ حَلْيًا مِنْ حَلْيِ نِسَائِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: هَذَا لَكَ، وَخَفِّفْ عَنَّا، وَتَجَاوَزْ فِي الْقَسْمِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَمِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَمَا ذَاكَ بِحَامِلِي عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ، فَأَمَّا مَا عَرَضْتُمْ مِنْ الرَّشْوَةِ فَإِنَّهَا سُحْتٌ، وَإِنَّا لَا نَأْكُلُهَا، فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ. ))
﴿وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أيها الإخوة الكرام، ثم يقول الله عز وجل:
﴿ وَلَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدۡرٍ وَأَنتُمۡ أَذِلَّةٌۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (123)﴾
وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ
1 ـ القلة ذلة والكثرة عزة:
فسّر بعض العلماء كلمة "أذلة" بأنهم قلة، القلة أذِلة، والكثرة أعِزّة، فكانوا قلة، لكنهم اعتمدوا على الله، وتوكلوا عليه وافتقروا إليه، وأخذوا بالأسباب، فاستحقوا النصر.
أليس هذا الدرس نافعاً لنا؟ نحن قلة، ونحن ضِعاف، إذا أخذنا بالأسباب قدرَ ما نستطيع، وتوكلنا على الله ننتصر.
2 ـ موازنة بين غزوتي بدر وبين أُحُد:
أيها الإخوة لا بأس من قراءة قصة معركة بدر، لأن الموازنة بين بدر وبين أحد مهمة جداً، بماذا انتصر المسلمون في بدر، ولماذا هُزِموا في أحد؟
ذكرت في الدرس قبل الماضي أن المسلمين في عهد النبي الكريم هُزِموا مرتين؛ مرة في "أحد" ، ومرة في "حنين" ، في "أُحد" لأسباب سلوكية، وفي "حنين" لأسباب اعتقادية، في "أحد" لم يطيعوا أمر الأمير، لو انتصروا لسقط أمر القائد، ولا قيمة له، وفي "حنين" ظنوا أنهم لن يغلبوا من قلة.
مرة قال لي أحده -أصلحه الله- قال لي: الدراهم مراهم، تحل أي مشكلة، تورط في تهمة، وقبع في السجن ستون يوماً، قال لي: كل يوم يأتيني هذا الخاطر: الدراهم مراهم، تحل كل مشكلة! الإنسان أحياناً يتكلم كلمة كبيرة، فيها شرك، فأدّبه الله عز وجل، لا تنفعك إلا رحمة الله، إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟
لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الضعف، عَدداً وعُدَداً، والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة، ثم إنه تعالى نصر المسلمين، وهم في غاية الضعف، والقِلة عَدداً وعُدَداً على الكافرين، وكانوا في غاية القوة والكثرة، فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن ثمرة التوكل عليه تعالى، والصبر والتقوى، هو النصر والمعونة والتأييد، أي إن أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، ولا يمكن أن يذكر الله لنا قصة في القرآن وقعت، ولن تقع، إذاً لأصبح القرآن كتاب تاريخ!
3 ـ عزوة بدر وأحد درس لنا:
لابد من أن تكون قصص القرآن قوانين، سننًا، قواعد متكررة، هذا الدرس لنا الآن، إذا أردنا أن ننتصر على أعدائنا فلا بد أن نكون كأهل بدر، أن نكون مؤمنين بالله حق الإيمان، متوكلين عليه، مفتقرين إليه، موحدين له، ولا بد أن نستعد الاستعداد المتاح، وعندئذٍ لا بد من النصر، و"بدر" موضع بين الحرمين الشريفين، بين حرم مكة، وحرم المدينة، إلى المدينة أقرب، يقال: هو منها على ثمانية وعشرين فرسخاً مـن بدر، أو اسم بئر هناك حفرها رجل اسمه بدر، هكذا.
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي راجين أن تشكروا ما أنعم به عليكم بتقواكم، من نصرته.
1 ـ سبب غزوة بدر : الخروج للتعرض لقافلة قريش التجارية:
أيها الإخوة، وكان سبب هذه الموقعة أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن عِيراً لقريش (أي جمال عليها بضاعة ثمينة) فيها أموال عظيمة مُقبِلة من الشام إلى مكة، معها ثلاثون أو أربعون رجلاً من قريش، عميدهم أبو سفيان، قافلة تجارية فيها بضائع كثيرة جداً، معها ثلاثون أو أربعون رجلاً من قريش، عميدهم أبو سفيان، ومعه عمرو بن العاص، ومَخرمة بن نوفل، انظر إلى قوة النبي الكريم، أحياناً يوجد هجوم دفاعي، نحن كل حياتنا ردود فعل، لكن قلّما نفعل فعلاً فيه مبادرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام لحكمته القيادية أراد أن يبادر، فندب صلى الله عليه وسلم إلى هذه العير، وأمر من كان ظهره حاضراً بالخروج، معنى الظَّهر: أي من كان عنده فرس يركبه، أو ناقة يركبها، هذا الشيء ثمين جداً، ولم يحتفل في الحشد، لم يُعنى عليه الصلاة والسلام بالعدد، عملية مناورة، عملية حركة، عملية إثبات وجود، عملية لفت نظر، عملية تلويح العصا، هذه كلها من معاني غزوة بدر، ولم يحتفل بالحشد، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يظن قتالاً، أي ما توقع أن تكون هذه المناوشة معركة، وخرج مسرعاً في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، عدد مقاتلي "بدر" ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فقط، ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان، ثلاثمائة رجل وفرسان، وكان معهم سبعون بعيراً يتعقبونها، أي يتناوبونها.
النبي عليه الصلاة والسلام يسوّي نفسه مع أبسط الجنود:
والقصة التي أرويها آلاف المرات أنه صلى الله عليه وسلم قال: كل ثلاثة على راحلة، وأنا وعلي وأبو لبابة على راحلة، قائد الجيش، نبي هذه الأمة، زعيم هذه الأمة، سوّى نفسه مع جنديَّين، فركب النبي الناقة في نوبته، فلما انتهت نوبته، وجاء دوره في المشي، طبعاً الصحابيان مؤدبان جداً توسّلا إليه أن يبقى راكباً في نوبتهما، فقال هذه الكلمة، والله تُكتَب بماء الذهب: قال عليه الصلاة والسلام: ما أنتما بأقوى مني على السير، ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر.
(( كنَّا يومَ بَدرٍ كلُّ ثلاثةٍ على بَعيرٍ، كان أبو لُبابةَ وعليُّ بنُ أبي طالبٍ زَمِيلَيْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: وكانتْ عُقْبةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: فقالا نحن نَمشي عنك، فقال: ما أنتما بأقْوَى منِّي، ولا أنا بأغْنَى عن الأَجرِ منكما! ))
زعيم هذه الأمة، ونبي هذه الأمة محتاج أن يكسب أجراً وثواباً على مشيٍ.
الإنسان يكون له دعوة بسيطة فيترفّع عن ألف عمل صالح، هذا ليس مقامي! فما مقامك؟ المؤمن الصادق يحب أن يفعل كل أنواع الخير، سيدنا الصديق رضي الله عنه الصحابي الأول، وكان ملازم للنبي عليه الصلاة والسلام، كان أمين سره، وكان أقرب أصحابه إليه، وكان خير من وطأ الأرض بعد الأنبياء، ومع ذلك كان يحلب شياه جيرانه كل يوم، فلما صار خليفة المسلمين توقّع جيرانه أن يترّفع عن هذه الخدمة، في اليوم التالي لتولّيه الخلافة طُرق باب الجيران، فقالت الأم لابنتها: افتحي الباب يا بنيتي، فتحت الباب فقالت: من الطارق يا بنيتي؟ فقالت: جاء حالب الشاة يا أماه، أي سيدنا الصديق خليفة المسلمين، جاء ليحلب الشاة.
لا تخجل من أي خدمة في سبيل الله:
قال النبي: (ما أنتما بأقْوَى منِّي، ولا أنا بأغْنَى عن الأَجرِ منكما) ، كنت مرة مع صديق، قال لي: كنت بأمريكا، ودخلت إلى أحد المساجد الكبيرة هناك، فوجدت رجلاً هيئته وثيابه ينمّان عن علو شأنه، فسأل عنه فإذا هو ضابط كبير جداً في البحرية الأمريكية، وهو يغسل دورات المياه في المسجد، هذا أسلم، فتقرّب إلى الله بخدمة المسجد.
والله مرة زارنا أخ من مصر، ودخل إلى دورات المياه قال لي: شيء لا يصدق! كأنها في بيت صاحبته مُغرِقة في النظافة، فخدمة المسجد شرف، بل إن سيدنا إبراهيم أبا الأنبياء صلوات الله عليه كان في خدمة بيت الله الحرام:
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَآ إِلَىٰٓ إِبْرَٰهِمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ(125)﴾
مهمته تنظيف البيت الحرام، والآن تقريباً في كل موسم حج ملك المملكة السعودية يغسل الكعبة المشرفة بيده، هذا شرف، إذا خدمت مسجداً، أو قدمت خدمة لمسجد، أو نظفت مسجداً، أو بنيت مسجداً فهذا بيت الله، فمهما كان قدرك عظيمًا خارج المسجد تزداد شرفاً بخدمة المسجد، مهما كان قدرك عظيماً خارج المسجد تزداد شرفاً بخدمة المسجد، هذا كله من أن النبي عليه الصلاة والسلام ما زهد بعمل، وهو أن يمشي وصاحبه يركب الناقة، كان معهم سبعون بعيراً يتعقبونها، أي يتناوبون ركبوها، واتصل خروجه بأبي سفيان، فاستأجر ضُمضُم بن عمرو الغفاري، وبعثه إلى أهل مكة يستنفرهم لعيرهم، أَلِف المسلمون أنّ المؤمن إنسان بسيط، ساذج لا يخيف، لكن هنا الإيمان قوة، النبي تحرش بهم، هذه مبادرة، هذا فعل، أما الأمة الضعيفة فكل حياتها ردود فعل، أما النبي عليه الصلاة والسلام هو بدأ.
2 ـ خروج النبي إلى بدر في رمضان:
فنفروا وخرج صلى الله عليه وسلم لثمانٍ خلوْنَ من رمضان، مَن زار الديار المقدسة في الصيف يعلم ما معنى الصيف هناك، ثمانٌ وخمسون درجة، ستون درجة، وفي رمضان:
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ ۗ أَلَآ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ(214)﴾
الآية الكريمة، قال الله عز وجل:
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(2)﴾
لابد من بذل كل شيء في سبيل الله
اسأل نفسك: أنا ماذا فعلت؟ هل سهرت الليل في سبيل الله؟ هل بذلت الغالي والرخيص في سبيل الله؟ هل جعت في سبيل الله ؟ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلا مَا وَارَى إِبِطُ بِلالٍ. ))
الإنسان يحاسب نفسه، هل خفت في الله؟ هل جعت في الله؟ هل أوذيت في الله؟ هل أُوذيت لأنك مسلم؟ هل حُرِمت مَغنماً لأنك مسلم؟ هل حُرِمت بعثة لأنك مسلم؟ هل ضُيِّق عليك لأنك مسلم؟ ماذا فعلت؟ الله عز وجل يريد أن نفعل شيئاً في سبيله، حتى يرقى بنا إلى أعلى عليين.
3 ـ استخلاف النبي بعض أصحابة لإدارة شؤون المدينة:
فالنبي عليه الصلاة والسلام خرج لثمانٍ خلون من رمضان، واستخلف على الصلاة عمرو ابن أم مكتوم، يوجد نظام، الحضارة نظام، هناك من استخلفه النبي للصلاة في المدينة، وردّ أبا لبابة من الروحاء، موقع قريب لبدر، واستعمله على المدينة والياً في غيبته، يوجد أمير للمدينة، ويوجد إمام، أمير وإمام، وصنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، الأمراء والعلماء، العلماء ملح البلد، فمن يُصلح الملح إذا الملح فسد؟ حينما يقصر العالم بواجبه الديني فالمشكلة كبيرة جداً، سيدنا علي يقول : قوام الدين والدنيا أربعة رجال، عالم مستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني لا يبخل بماله، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه، قال: فإذا ضيع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره.
4 ـ تنظيم الأمور قبل الوصول على بدر:
ردّ أبا لبابة إلى المدينة من الروحاء، واستعمله على المدينة، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، أي القيادة العامة، ودفع إلى علي راية، وإلى أنصاري راية أخرى، وجعل على السّاقة قيس بن أبي صعصعة، راية الأنصار كانت مع سعد بن معاذ، فسلكوا نقب المدينة إلى ذي الحليفة، ثم انتهوا إلى صُخيرات يمام، ثم إلى بئر الروحاء، ثم رجعوا ذات اليمين عن الطريق إلى الصفراء، وبعث صلى الله عليه وسلم قبلها بسبس بن عمرو، وعَدي بن أبي الزغباء إلى بدر ليتجسسا، لابد من تقصي أخبار العدو، هذا هو التجسس، فما هو التحسس؟ قالوا: التجسس تتبع الأخبار السيئة، أما التحسس فتتبع الأخبار الطيبة، والآية:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ(12)﴾
ولا تحسسوا، فطوبى لمَن شغله عيبه عن عيوب الناس، كم تأخذ في الشهر؟ أخبار طيبة، لكن هذا فضول! هذا أسلوب حشري، لم يطلب منك أن تساعده حتى تسأله كم يأخذ في الشهر، وعن أبي هريرة أو رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(( إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَنافَسُوا، ولا تَحاسَدُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدابَرُوا، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا. ))
فمن لوازم القيادة الحكيمة أن تستطلع أخبار العدو، بعث بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء إلى بدر يتجسسان أخبار أبي سفيان وعِيره.
5 ـ استشارة النبي أصحابَه في أمر القتال وسروره بموقف الأنصار:
ثم تنكّب عن الصفراء يميناً، وخرج على وادي دقران، فبلغه خروج قريش ونفيرهم، فاستشار أصحابه، فالقصة من أولها كانت مناورة، فإذا هي معركة، استشار أصحابه فتكلم المهاجرون وأحسنوا، وهو يريد ما يقوله الأنصار، الأنصار وعدوه أن يمنعوه، ولكن لم يكن في الاتفاق الذي بينهم أن يخرجوا معه، فجَدّ شيءٌ جديدًا، لابد من موافقة الأنصار، هم وعدوه أن يمنعوه في مدينتهم، لا أن يحاربوا معه، فحتى يتأكد من الوضع سألهم، فقال: أشيروا علي أيها الناس، فقال سيدنا سعد: لعلك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، فقال سيدنا سعد كلامًا لو كل إنسان دعا إلى الله معه أمثال سيدنا سعد، وكل إنسان أراد أن يفعل شيئاً لصالح المسلمين معه مثل هؤلاء، لكنا في حال غير هذا الحال، قال له سيدنا سعد: امضِ لما أردت، فو الله لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، سر بنا على بركة الله، صِل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالِم من شئت، وعادِ مَن شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل، إنا لَصُبرٌ في الحرب صُدق عند اللقاء، فلعل الله يريك منا ما تقر به عينك.
قوة العالِم بقوة مَن معه:
تقول: إن العلماء مقصرون، هكذا يُقال في أكثر من مجلس، العلماء قوتهم بقوة من معهم، ولكن لو وجد ولاء بسيط!
تروى قصة شهيرة، هي طرفة، في عهود قديمة أحد كبار العلماء كثر أتباعه جداً، فاستدعاه الوالي، قال له الوالي: أأنت أم أنا؟ قال له: أنت الوالي، وأنا لست بوالٍ، قال له: ما هذا الجمع الغفير الذي حولك؟ قال له: ما عندي أحد، عندي واحد ونصف، قال له: عندك عشرون أو ثلاثون ألفًا، قال له: عندي مريد ونصف فقط، قال له: ما هذا الكلام؟ قال له: أشع في البلد أنك حبستني، وانظر ماذا سيكون! أُشيع هذا الخبر فتفرق كل هؤلاء، ولم يبقَ أحد، وجاء يومًا حطاب أراد أن يهدم القصر بفأسه، لأن شيخه مسجون، قال له: هذا المريد، وجاء آخر ناعم البنية، وقال: لماذا حبستم الشيخ؟ قال له: هذا النصف، تجمع فارغ، لا شيء فيه.
قال له: لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، صل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعادِ من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، ائتِ لي بأتباع بهذا الصدق، وبهذه القوة لترى أن وضع المسلمين غير هذا الوضع، النبي سر بهذا الكلام جداً، وقال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين.
عدل النبي عليه الصلاة والسلام مع أعدائه:
ثم ارتحلوا من بقران إلى قريب من بدر، وبعث علياً والزبير وسعداً في نفر يلتمسون الخبر، أرسل اثنين، ثم أرسل ثلاثة لتقصي الأخبار، لم يوجد حينها أقمار صناعية، فأصابوا غلامَين لقريش، فأتوا بهما والنبي قائم يصلي، وقال الغلامان: نحن سقاة قريش، فكذبّوهما كراهية في الخبر، ورجاء أن يكون من العير، فجعلوا يضربونهما فيقولان نحن من العير، فسلّم النبي وأنكر عليهم، انظر العدل! حصل خطأ، فالنبي أنكر هذا الخطأ إنكاراً شديداً.
قال أحد الولاة لسيدنا عمر: إن أناساً قد اغتصبوا مالاً ليس لهم، ولست أقدر على استرداده منهم إلا أن أمسّهم بالعذاب، إن أذنت لي فعلت، قال له: يا سبحان الله أتستأذنني في تعذيب بشر؟ وهل أنا حصن لك من عذاب الله؟ وهل رضائي عنك ينجيك من سخط الله؟ أقم عليهم البينة، فإن قامت فخذهم بالبينة، فإن لم تقم فادعُهم إلى الإقرار، فإن أقروا فخذهم بإقرارهم، وإن لم يقروا فادعهم لحلف اليمين، فإن حلفوا فأطلِق سراحهم، وايم الله لأن يلقوا الله بخيانتهم أهون من أن ألقى الله بدمائهم، هذا هو الورع.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام للغلامين: أخبراني أين قريش ؟ فأخبراه أنهم وراء الكثيب، أي وراء التلة، وأنهم ينحرون يوما عشراً من الإبل ويوما تسعاً ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "القوم ما بين التسعمائة والألف "استخبارات دقيقة جداً، يسمونه استخباراً وتحليلاً، أحياناً يأتيك إنسان بالخبر، هذا الخبر يحتاج إلى تحليل، هذا الغلام جاء بالخبر، ينحرون في اليوم تسعة إبل أو عشرة، النبي قال: إنهم ما بين التسعمائة والألف.
وكان بَسبس وعدي مضيا يتجسسان ولا خبر، حتى نزلا وأناخا قرب الماء، واستقيا في شنٍّ لهما (دلو)، ومجدي بن عمرو من جهينة بقربهما، فسمع عدي جارية من جواري الحي تقول لصاحبتها: العِير تأتي غداً أو بعد غد، وأعمل لهم، وأقضيكِ الذي لكِ، وجاءت إلى مجدي بن عمرو فصدّقها، فرجع بسبس وعدي بالخبر، وجاء أبو سفيان بعدهما يتجسس الخبر، فقال لمجدي: هل أحسست أحداً؟ فقال: راكبين أناخا يميلان لهذا التل، فاستقيا الماء ونهضا، فأتى أبو سفيان مُناخهما -مكان إناخة الإبل- وفتّ من أبعار رواحلهما، أخذ بَعرة من أبعار الإبل وفتّها، فقال: هذه علائف يثرب، أي بَعر جمل أكل علفاً من يثرب، أرأيتم إلى دقة الاستنباط! فرجع سريعاً وقد حذّر، وتنكّب بالعير إلى طريق الساحل فنجا، أي نجا بالقافلة وبالبضاعة، وأوصى إلى قريش أننا قد نجونا بالعِير فارجعوا (انتهت المشكلة)، هو خاف على هذه التجارة الكبيرة، وهذه البضاعة الثمينة والغالية، فاستطلع ونجا بقافلته إلى الساحل وانتهى الأمر، فقال: ارجعوا، القافلة نجت، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرِد ماء بدر، ونقيم به ثلاثاً.
﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ(1)﴾
مستحيل؛ إنسان كافر منحرف، فاجر، فاسق، عاصٍ لله، إلا أن يرتكب خطأً فادحاً، وحماقة كبرى، لأن الله يحجب عنه الحقائق، لا يملك رؤيا صحيحة، قال: والله لا نرجع حتى نرِدَ ماء بدر، ونقيم به ثلاثاً، وتهابُنا العرب أبداً.
أما الأخنس بن شُريق فرجع بجميع بني زُهرة، لم يقبل، لقد جمعتمونا من أجل قافلة قريش، والقافلة نجت فانسحب، وكان حليفهم ومطاعاً فيهم، قال: إنما خرجتم تمنعون أموالكم، وقد نجت فارجعوا، وكان بنو عدي لم ينفروا مع القوم، فلم يشهد بدراً من قريش عدويٌّ ولا زُهري.
6 ـ نزول النبي عليه الصلاة والسلام عند ماء بدر:
وسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً إلى ماء بدر، وثبّطهم عنه مطرٌ نزل وبْله مما يليهم، وأصاب مما يلي المسلمين ماء الوادي، وأعانهم على السير.
الآن هنا نقطة دقيقة جداً، وهي موقف النبي صلى الله عليه وسلم من قول الحُباب بن منذر له عندما نزل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء من بدر.
أخذُ النبي عليه الصلاة برأي الحباب بن المنذر في مكان العسكر:
بالمناسبة كما ذكرت قبل درسين ما من حدثٍ وقع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان حدثاً مقصوداً لذاته، وكان من هذا الحدث تشريع، فالله عز وجل فيما يقول كُتّاب السيرة حجب عن النبي صلى الله عليه وسلم الموقع المناسب، حجبه عنه وحياً، وحجبه عنه إلهاماً، وحجبه عنه اجتهاداً، الآن ماذا سيكون؟ هناك فضيلة في الإنسان مهمة جداً، غالية جداً، هذه الفضيلة أن ترجع إلى الصواب إذا كنت مخطئاً، هذا الكمال الأخلاقي لا يمكن أن يفعله نبي لأنه لا يخطئ، الآن أراد الله عز وجل أن يقف النبي موقفاً كاملاً حينما حُجِبت عنه الحقيقة العسكرية في موقعة بدر، وجاء صحابي جليل اسمه "الحباب بن المنذر" جاء بأدب يفوق حد التصور، وقال: "يا رسول الله إن هذا الموقع -انظر إلى الاحتياط، والدقة، والورع- أوحاه الله إليك؟ أم هو الرأي والمشورة؟ قال: بل هو الرأي والمشورة، قال والله يا رسول الله ليس بموقع" ، انظر إلى جرأة الصحابي، هو يعترض على سيد الأنبياء، على سيد الخلق، وحبيب الحق، وهذا النبي العظيم المتواضع ما أنكر عليه ولا هدر كرامته، أو أخرجه من وجهه لانتقاده، سيد الخلق أُشير عليه أن هذا ليس بموقع، فقبل النبي، فقال: "يا رسول الله ليس بموقع، وإننا نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ونبني عليه حوضاً ونملؤه، ونمنع القوم من الماء" -ضغطنا عليهم- فاستحسنه النبي.
إخواننا الكرام، بقدر إخلاصك لله، وبقدر طاعتك له، وبقدر حرصك على نجاح المسلمين تصغي إلى النصيحة، وبقدر مكاسبك التي كسبتها من الدين، والتي أنت تحافظ عليها، لا تصغي إلى النصيحة، الإصغاء إلى النصيحة علامة الإخلاص، يُلغَى هو، وهذا موقف النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه معصوم، ومع أنه سيد الخلق، ومع أنه حبيب الحق، ومع أنه لا يخطئ، أصغى إلى هذا الصحابي الجليل، وكان هذا الصحابي الجليل قمة في الأدب، "يا رسول الله! هذا الموقع وحي أوحاه الله إليك؟ أم هو الرأي والمشورة؟ قال: هو الرأي والمشورة"، فلما بيّن له الصحابي الموقع المناسب استحسنه النبي، وشكره على نصيحته، ثم بنوا عريشاً على تلٍّ مشرف على المعركة، يكون فيه النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه النصر من ربه، أنا زرت هذا الموقع، في طريق بين مكة والمدينة طريق قديم، على هذا الطريق القديم موقع بدر، ورأيت موقع العريش، لكن طرفة! وجدت هذه السيارات الفخمة جداً أهلها جالسون يأكلون ما لذّ وطاب، المركبات مكيفة، برادات الماء من أعلى مستوى، الطعام نفيس، فقلت هذه الكلمة في نفسي: والله هذا الطقم غير ذاك الطقم.
7 ـ النبي عليه الصلاة والسلام يري الصحابة أمكنة مصرع صناديد قريش:
ومشى النبي عليه الصلاة والسلام يُريهم مصارع القوم واحداً وَاحداً، ولما نزلت قريش مما يليهم بعثوا عمير بن وهب الجُمحي يحزر أصحاب رسول الله، أي يتخمن عددهم، فحزرهم وانصرف، وخبّرهم الخبر، ورام حكيم بن حزام، وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش، فلا يكون الحرب فأبى أبو جهل، أي ركب رأسه، وساعده المشركون، وتوافقت الفئتان.
8 ـ النبي عليه الصلاة والسلام يدعو ربه ويسأله النصر:
عدّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف بيده، ورجع إلى العريش ومعه أبو بكر وحده، وطفِق يدعو ويلحّ في الدعاء، ورفع يديه إلى السماء إلى أن سقط الرداء عن كتفه، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه:
(( اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هذِه العِصَابَةَ مِن أَهْلِ الإسْلَامِ لا تُعْبَدْ في الأرْضِ، فَما زَالَ يَهْتِفُ برَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، حتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عن مَنْكِبَيْهِ، ))
وسعد بن معاذ وقوم من الأنصار على باب العريش يحمونه، وأخفق النبي عليه الصلاة والسلام ثم انتبه، أي غفا غفوة ثم انتبه، فقال: أبشِر يا أبا بكر، فقد أتى نصر الله، ثم خرج يحرّض الناس، ورمى بوجوه القوم بحفنة من حصى.
8 ـ بداية المعركة بالمبارزة الفردية:
(( فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَامَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، ثُمَّ حَصَبَهُمْ بِهَا، فَمَا أَصَابَ رَجُلًا مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْحَصَى حَصَاةٌ إِلَّا قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا. ))
ثم تزاحفوا، وخرج عتبة، وأخوه شيبة، وابنه الوليد، يطلبون البراز، أي المبارزة، فخرج إليهم عبيدة بن الحارث، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وقتل حمزة وعلي شيبة والوليد، وضرب عتبة عبيدة فقطع رجله فمات، وجاء حمزة وعلي إلى عتبة فقتلاه، وقد كان برَز إليهم عوفٌ ومعوذ ابنا عفراء، وعبد الله بن رواحة من الأنصار، فأبوا إلا قومهم، وجال القوم جولةً فهُزِم المشركون، وقُتل منهم يومئذٍ سبعون رجلاً، من وجوههم، وأُسِر سبعون آخرون، واستُشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً، ثم انجلت الحرب، وانصرف إلى المدينة وقُسِّمت الغنائم، ودخل المدينة لثمانٍ بقَين من رمضان، دامت هذه المعركة تقريباً أربعة عشر يوماً.
حينما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم قتلى قريش سماهم بأسمائهم واحداً واحداً، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
(( أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عليهم فَنَادَاهُمْ، فَقالَ: يا أَبَا جَهْلِ بنَ هِشَامٍ يا أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ يا عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ يا شيبَةَ بنَ رَبِيعَةَ أَليسَ قدْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فإنِّي قدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، كيفَ يَسْمَعُوا وَأنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ما أَنْتُمْ بأَسْمع لِما أَقُولُ منهمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ثُمَّ أَمَرَ بهِمْ فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا في قَلِيبِ بَدْرٍ. ))
لابد من معرفة سيرة النبي ، لأنها منهج كامل:
أيها الإخوة الكرام، هذه موقعة بدر بشكل موجز، لكن لي تعليق لا بد منه؛ مَن منا يصدق أن سيرة النبي عليه أتم الصلاة والسلام منهج كامل، ومعرفتها فرض عين، لا يوجد مسلم معفى من قراءة سيرة رسول الله، في كل موقف له، في كل كلمة، في كل حركة، في كل سكنة، في كل تصرف منهج، فنحن نستنبط الشيء الكثير من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وأقوى دليل قول الله عز وجل:
﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلْآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا(21)﴾
ثلاثمائة صحابي، وبضعة عشر رجلاً، معهم فرسان فقط، وسبعون بعيراً، أمام قوة كبيرة عاتية من قريش، ومع ذلك انتصروا، فلما في حنين قالوا: لن نغلب من قلة، هُزموا، يكفي هذان الدرسان.
درسان في حياة كل مؤمن : درس بدر ودرس حنين:
أنا أقول في النهاية: هناك درسان في حياة كل مؤمن، درس بدر ودرس حنين، إذا قلت الله تولاك، ونصرك، وأيّدك، وأنهضك، وأغناك ورزقك، وأكرمك، ورفع شأنك، وإن قلت: أنا، فلان بن فلان، أبي فلان، أحمل الشهادة الفلانية، عندي أموال لا تأكلها النيران، تأتي مصائب لا تنفع فيها الأموال، هناك عند الله أبواب للمصائب لا تنتهي، وكل إنسان له مصيبة تناسبه، فإذا كنت مع الله كان الله معك، وإذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، إذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك مما في يديك، إن أردت أن تكون أكرم الناس فاتق الله.
الملف مدقق