الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الواحد والثلاثين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الواحدة والعشرين بعد المئة.
أيها الإخوة الكرام، بدءاً من هذه الآية إلى ستين آيةً قادمة يتحدث الله عز وجل عن موقعة أحد، وقبل أن نَشرَعَ -بفضل الله، وبتوفيقه- في تفسير هذه الآيات المتعلقة بموقعة أحد لابد من وقفتين؛ وقفة أولى نتحدث عن حكمة هذه المعركة التي انهزم فيها المسلمون، ووقفة ثانية نتحدث فيها عن وقائع هذه المعركة، فمن حكم هذه المعركة إلى وقائع هذه المعركة، وبعدها نبدأ بتفسير الآيات التي تبدأ بقوله تعالى:
﴿ وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)﴾
1 ـ حياة النبي صلى الله عليه وسلم مقصودة من قِبَلِ الله عز وجل:
أيها الإخوة الكرام، الحقيقة الأولى أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم بما فيها من أحداث ومشكلات، وأزمات، ومضائق، وصعوبات، وانتصارات، ونكسات، حياة مقصودة من قِبَل الله عز وجل؛ لأن كل موقف من هذه المواقف وقف النبي فيه موقفاً كاملاً، وقف موقف المشرِّع، فالأحداث التي جرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أحداث متميزة كانت سبباً للتشريع، فهناك انتصارات، وهناك نكسات، وهناك تقدم، وتأخر، ومؤامرات، وتنكيل من الكفار، وهناك موت في سبيل الله، وهناك نصر عزيز، فكل هذه الأحداث كانت مقصودة لذاتها لتكون درساً بليغاً لأمته من بعده.
ما من حدث على الإطلاق إلا وقد أراده الله عز وجل لذاته، ليكون سبباً لمنهج قويم ننتفع به، فالأمة الإسلامية اليوم في أشد الحاجة إلى هذه الدروس، وكأن هذه الدروس التي حصلت من تفاعل النبي مع المحيط الذي أحاط به، ومع البيئة ومع المعطيات، ومع الأحداث هذه الدروس هي منهج يمكن أن ننتفع به في مشكلاتنا التي نعانيها، هذه أول حقيقة.
2 ـ نَكسةُ أُحُدٍ و نَكسةُ حُنَينٍ:
الحقيقة الثانية أيها الإخوة، أن المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وقعوا في نكستين؛ نكسة أحد، ونكسة حنين، في أحد خالفوا النص القتالي، يعني هُزِموا لأسباب متعلقة بالقتال نفسه، وفي معركة حنين هُزِموا لأنهم وقعوا في شركٍ خفيٍّ، فنحن إما أن نُهزَم لتقصير في الإعداد، وإما أن نهزم لضعف في الإيمان، قال تعالى:
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)﴾
لابد من الإعداد والإيمان:
هذا بند الإعداد، شرط الإعداد، لكنه شرط لازم غير كافٍ، الشرط الثاني شرط الإيمان، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾
فهذا النبي الكريم سيد الخلق، وحبيب الحق، ومعه أصحابه الذين افتدوه بأرواحهم، ومع ذلك عندما وضع خطةً، وألزمهم بتطبيقها، وخالفوا هذه الخطة لم يستحقوا النصر، يدل هذا على قيمة التنظيم، وقيمة القيادة، وقيمة الطاعة، لم يهزم المسلمون بسبب خطأ من رسول الله، ولكنهم هزموا بسبب خطأ من مقاتليهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما وضع الرماة على تلّةٍ من جبل أحد أمرهم أن يلزموا أماكنهم، ولو رأَوا أن الطير تأكل الجيش، ينبغي أن يلزموا أماكنهم، فعصَوا رسول الله، وانكبّوا على ساحة المعركة ليأخذوا الغنائم، وقد قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُۥٓ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِۦ ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَٰزَعْتُمْ فِى ٱلْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنۢ بَعْدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ(152)﴾
فنحن لا ننتصر إلا بشرطين، وكلٌّ من هذين الشرطين شرط لازم غير كافٍ؛ لا ننتصر إلا بالتوحيد وبالافتقار إلى الله عز وجل، وبالتوكل عليه كما انتصروا في بدر، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدۡرٍ وَأَنتُمۡ أَذِلَّةٌۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (123)﴾
وننتصر أيضاً بأن نُعِدّ ما نستطيع، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ وهناك ملمح دقيق في هذه الآية؛ ما كلفنا الله جل جلاله أن نعد لهم القوة المكافئة، وقد يكون هذا فوق طاقة المسلمين، ولاسيما في هذه الأيام، قطع أعداؤنا مراحل كثيرة جداً في التطوير والتحديث في الحروب الإلكترونية، وفي الأقمار الصناعية، والصواريخ، ودقة الإصابة، والأسلحة الجرثومية والكيماوية، والفتاكة، والأسلحة المعنوية، والإعلام، فلو أن الله عز وجل كلفنا أن نعد لأعدائنا القوة المكافئة هذا فوق طاقتنا الآن، ولكنه جل جلاله رحمنا، فأمرنا أن نعد القوة المتاحة فقط: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ وأمرنا أن نؤمن به حق الإيمان وأن نفتقر إليه، فإذا آمنا به حق الإيمان، وافتقرنا إليه كان النصر حليفنا، لقول الله عز وجل:
﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ(173)﴾
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)﴾
﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾
﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلْأَشْهَٰدُ(51)﴾
هذه حقائق مُسلَّم بها، فمتى يهزم المسلمون إذًا؟ إذا قصروا في الإعداد لعدوهم الإعداد المتاح، أو إذا اعتدوا بأنفسهم، ونسوا ربهم فأشركوا.
إما أن ننهزم لضعف في إيماننا، وإما أن ننهزم لضعف في استعدادنا، فإذا كنا مؤمنين الإيمان الكافي، ومستعدين الاستعداد المتاح كان النصر حليفنا، ومن نحن أمام أصحاب رسول الله؟ هؤلاء الذين شهد الله لهم بالفضل، ولقد رضي عنهم في محكم القرآن الكريم، قال سبحانه وتعالى:
﴿ لَّقَدْ رَضِىَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَٰبَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا(18)﴾
ومع ذلك حينما وقعوا في شرك خفي ورأوا أنفسهم عشرة آلاف مقاتل، وقد دانت لهم الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، وكانوا أكبر قوة ضاربةٍ في الجزيرة مع ذلك، قال تعالى:
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍۢ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـًٔا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25)﴾
ماذا نستفيد من هذا الدرس في حياتنا اليومية؟ يشتري تاجر بضاعة من دون دراسة، ومن دون معرفة لاحتياجات السوق فرضاً، من دون معرفة لجدوى هذه الصفقة، من دون دراسة لأسعار السوق، يشتريها شراءً عشوائياً، فقصر في الإعداد، ثم إنه لما اشتراها قال: سوف أبيعها، فقصّر في الإيمان، ولم يتوكل على الله، إذاً لا يبيعها، إذاً لا يربح.
درس أُحد وحنين يطّبقان في حياة المسلمين كلها:
هذان الدرسان يُطبَّقان في كل حقول الحياة، يطبقان في الدراسة، قال طالب: يا رب أنا متفوق في الجبر، وضعيف في الهندسة، فرسب في الجبر، ونجح في الهندسة، في الامتحان الثاني قال: يا رب الهندسة والجبر عليك.
أنت حينما تتوهم أنك متفوق، وأنك مستغنٍ عن إمداد الله لك لا تحقق النجاح، أو حينما تقصر، كطالب لم يدرس أبداً، ويقول: أنا مؤمن، والله يحبني، وإذا ما نجحت فهذا ترتيب الله، وليس لي نصيب، سبحان الله، هذا أيضاً كلام مرفوض.
هذا درس بليغ في حياتنا، في دراسة طلابنا، في حِرَفنا، في طبنا، في هندستنا، في تجارتنا، في حربنا، في سِلمنا، في كل شؤون حياتنا، يجب أن نأخذ بالأسباب، وكأنها كل شيء، ثم نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، فإذا كان التقصير في الإعداد لا ننتصر، إذا كان التقصير في الإعداد المتاح لا ننتصر، وإذا كان التقصير في الإيمان التوحيدي لا ننتصر، إذا اعتددنا بأنفسنا، ونسينا ربنا، واستغنينا عن الالتجاء إليه لا ننتصر، وإذا قصرنا في الإعداد لعدونا لا ننتصر، هذا درس بليغ من دروس السيرة، فأصحاب النبي وهم على ما هم عليه من إيمان، ومن تضحية، ومن توحيد، في بدر انتصروا، لأنهم كانوا موحدين، وأعدوا العدة التي أتيحت لهم، وكانوا قلة قليلة، وفي أحد عصَوا أمر رسول الله، لو أن الله نصرهم في أحد على الرغم من المعصية لأُلغِي منهج الله، لو أن الطالب ما درس أبداً، ونجح معنى هذا أن الدراسة ليس لها قيمة أبداً.
لقد أراد الله عز وجل أن يدفع المسلمون ثمن هذا التقصير، أليس الله قادراً أن يمسك النبي بحَفنةٍ من تراب، ويلقيها في وجوه الأعداء، فيولوا هاربين، هذا شيء يمكن أن يقع، ولكن لو فعل هذا النبي وانتقل النبي إلى الرفيق الأعلى، نقصّر في الإعداد، ونقول: ليس بيننا نبي الله حتى ينصرنا على أعدائنا، لا، فالله عز وجل جعل المسلمين يدفعون ثمناً باهظاً لتقصيرهم، لكن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على هؤلاء الرماة الذين عصوه، وقد استنبط العلماء استنباطاً رائعاً، وهو أنهم عصوا أمراً تنظيمياً، ولم يعصوا أمراً تشريعياً، الأمر التشريعي شيء والتنظيمي شيء آخر.
قريشٌ لم تحقق مبتغاها في غزوة أُحد:
أيها الإخوة الكرام، لكن قريشًا في هذه المعركة لم تحقق ما أرادت، لو أنها أرادت الثأر لقتلى بدر لحققت بعض ما أرادت، ولو أنها أرادت أن تستعيد هيبتها لحققت بعض ما أرادت لبعض الوقت، أما لو أنها أرادت أن تقضي على المسلمين، وأن تُفسِح الطريق إلى تجارتها إلى الشام لم تحقق ما تريد، فمهما أُصِيب المسلمون من نكسات فهم موجودون، والله معهم، ولن يتخلى عنهم، لكنه سبحانه يؤدبهم، تماماً كالابن يخطئ، لكن الأب لا يتبرأ منه، ولا يطرده من البيت، لكنه يؤدبه، فمعنى ذلك أنك إذا كنت مؤمناً بالله فينبغي أن تصبر على تأديب الله، وإن الله لا يتخلى عنك بالكلية، ولكن يسوق لك من الشدائد ما يحملك على معرفته وطاعته.
أيها الإخوة الكرام، لقد كانت غزوةُ أحد فرزاً للمؤمنين، ودائماً هذه المصائب تسمى مِحَكّ الرجال، وقد قال الله عز وجل في الخندق:
﴿ إِذْ جَآءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلْأَبْصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ (10) هُنَالِكَ ٱبْتُلِىَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالًا شَدِيدًا(11)﴾
لأن الله سبحانه وتعالى:
﴿ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُ ۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ ۚ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(179)﴾
لا بد من امتحان يفرز المؤمن الصادق من غيره:
الطلاب في أثناء العام الدراسي كلهم يرتدون ثياباً موحدة، وكلهم محسوبون على المدرسة طلاباً، وكلهم قد يرتدي ثياباً أنيقة، ولكن بينهم تفاوت كبير جداً في العلم، بين طالب متفوق، وطالب كسول، وطالب يدرس، وطالب لا يدرس، متى يُكشَف التفاوت بينهم؟ في الامتحان، فلا بد من امتحان، وأنتم أيها الإخوة هيِّئوا أنفسكم، فكل يدّعي أنه يحب الله، وكلٌّ يدّعي أنه يحب طاعته، ويسعى إلى جنة عرضها السماوات والأرض، هذا كلام بكلام، قال تعالى:
﴿مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ﴾ فلا بد من امتحان، ففي مثل هذه المصائب هناك امتحان، لذلك قال بعض المسلمين في الخندق:
﴿ وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورًا (12)﴾
بل قال أحدهم: "أيعدنا صاحبكم، -ولم يقل رسول الله-، أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى، وأَحَدنا لا يملك أن يقضي حاجته" ، وبالمقابل قال تعالى:
﴿ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)﴾
فنحن في دار الابتلاء، قال تعالى:
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)﴾
مستحيل، يا إمام أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين؟ فقال: لن تُمكَّن قبل أن تُبتَلى، إذاً نحن في دار امتحان، نحن في دار ابتلاء، قال تعالى:
﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)﴾
﴿ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ(2)﴾
ومثل هذه المصائب، ومثل هذه المعارك فيها ابتلاء.
حصل في القاهرة زلزال، كثير من أطباء القاهرة ولَّوا وجوههم شطر الإسكندرية، وانسحبوا من هذا الزلزال طلباً للسلامة، وأطباء بقوا في المستشفيات يعملون أربعاً وعشرين ساعة خدمةً لهؤلاء الجرحى، هذا الزلزال فرز الأطباء.
دائماً وأبداً هناك فرز، الهجرة فرزت المؤمنين، مؤمنون انصاعوا إلى أمر النبي، وهاجروا، وآثروا الهجرة على أموالهم، وبيوتهم، ومكانتهم، وأناس تشبثوا ببيوتهم، وأموالهم، ولم يهاجروا، فالهجرة فرز، والمعارك فرز، والمصائب فرز، وقهر الإنسان أحياناً فرز، ينضغط المؤمنون، فبعضهم لا يصمد لهذا الضغط، فيعصي الله طلباً للسلامة، وبعضهم يصمد، لذلك الإيمان الحق لا يتغير، ولا يتبدل، لا تحت سياط الجلادين اللاذعة، ولا أمام سبائك الذهب اللامعة، المؤمن كالجبل لا تهزه هذه المغريات، ولا تثنيه هذه الضغوط، فهذه المعركة فرز للمؤمنين:
﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُۥٓ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِۦ ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَٰزَعْتُمْ فِى ٱلْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنۢ بَعْدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ(152)﴾
أيها الإخوة ، وهناك حقيقة أيضاً دقيقة جداً؛ لو لم يدفع المسلمون الثمن لاستهنّا بمنهج الله، فلو أن مدرساً أعطى تعليمات للتوضيح، وخالفها طالب فلم يُعاقب سقطت قيمة هذه التعليمات، لو أن المدرس كلف طلاباً بوظيفة، وفي اليوم التالي طلاب كتبوا، وهناك طلاب ما كتبوا، استوى عند المدرس الذين كتبوا، والذين لم يكتبوا، في اليوم الثالث لن يكتب أحد، فإذا لم تُنفَّذ التعليمات تُلغَى قيمتها، فلو أن هؤلاء الصحابة على أنهم عصوا أمر رسول الله انتصروا لسقطت قيمة الطاعة إطلاقاً، وهذا شأن تربوي، حينما لا يُحاسَب المقصر، ولا يُكافَأ المحسن تسقط القيم، يسقط الباعث، يسقط الخوف، يسقط الطمع .
معركة أحد استكمالٌ لبناء شخصية المسلمين:
الحقيقة تعد معركة أحد استكمالاً لبناء شخصية المسلمين، هذا الإسلام الذي وصل إلينا مدفوع ثمنه باهظاً، نحن أخذنا من الإسلام، ولم نعطِه شيئاً، نحن حُمِلنا، ولم نحمل، نحن قطفنا الثمار ولم نزرع الشجر، أما هؤلاء الصحابة الكرام بفضلهم، وبفضل إيمانهم، واستشهادهم، وإراقة دمائهم وصل الإسلام إلى هذه البلاد.
والله الذي لا إله إلا هو لو أن الصحابة الكرام فهموا الدين كما نفهمه نحن؛ عبادات شعائرية، ومظاهر، واحتفالات، ومؤتمرات، ومكتبات، ومحطات فضائية، وندوات، لو فهموا الإسلام كما نفهمه نحن، والله الذي لا إله إلا هو ما خرج الإسلام من مكة، لم يصل إلى المدينة، لأنه وصل إلى إسبانيا، ومَن ذهب إلى هناك يرى معالم المسلمين، ووصل إلى الصين، حيث يوجد خمسون مليون مسلم، وفي إندونيسيا مئتان وخمسون مليون مسلم، لولا أن الصحابة الكرام فهموا الإسلام فهماً حقيقياً ما انتقلوا من رعاة الغنم إلى قادة الأمم، والآن نحن لا سبيل إلى استعادة هذا الدور القيادي لهذه الأمة إلا أن نعود إلى هذا المنهج القويم، وإلى أن نتمسك بالتوحيد، أن نوحد وأن نستعد.
أيها الإخوة، بعد هذه الهزيمة أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقلبها إلى نصر، فأصحابه كلهم جرحى، بعد يوم قتال عنيف، وسوف ترون بعد حين أنواع الشدة التي شهدها المسلمين، وأنواع الجراحات التي أصابتهم، ومع ذلك أمرهم النبي أن يتوجهوا إلى حمراء الأسد، ليلحقوا بالمشركين، ولم يقبل إلا من خاض معركة البارحة، على الرغم من تحمله الشدة، ومن جراحه العميقة والثخينة لبى نداء النبي، فخُفِّف هذا الأمر إلى العُشْر، وولّى المشركون هاربين، لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما أراد أن يحقق المشركون كل غايتهم.
أيها الإخوة، آخر تعليق لا تقلق على هذا الدين، إنه دين الله، وإن الله جل جلاله يتولى نصرته، ولكن ليكن قلقك ما إذا سمح الله لك، أو لم يسمح أن تكون جندياً في هذا الدين.
ويا أيها الإخوة الكرام، حينما لا يتاح لك مثل هذا الجهاد القتالي فهناك جهاد وصفه الله عز وجل بأنه جهاد كبير، أن تجاهد بهذا القرآن، أن تتعلمه، وتُعلِّمه، لأنك قبل أن تجاهد الكفار ينبغي أن توصل القرآن إلى المؤمنين.
سأل بعضهم عالماً: أيصل ثواب قراءة القرآن على الموتى إلى الموتى؟ فقال هذا العالم، وقد أعجبتني إجابته: وهل بإمكانك أن توصل هذا القرآن إلى الأحياء؟
دعك من الموتى، هل بإمكانك أن توصله إلى الأحياء؟ هل بإمكانك أن تقنع الناس أن يطبقوا هذا القرآن في بيوتهم، أن يطبقوه في زواجهم، في نُزَههم، في حِلِّهم، في ترحالهم، في كسب أموالهم، في أتراحهم؟ هذا جهاد كبير.
الجهاد القتالي من أجل هذا الجهاد، فإذا كان هذا متاحاً للمسلمين في كل العصور، فمن يمنعك أن تعقد مؤتمراً في أمريكا في عقر دار الأعداء إسلامياً، متاح لك أن تدعو إلى الإسلام في أي مكان، والشاهد المساجد مليئة، والحمد لله، فأنت حينما لا يتاح لك جهاد قتالي لسبب أو لآخر، فإنه قد أتيح لك أن ترسخ هذا القرآن الكريم في نفوس المؤمنين، متاح لك أن تفهمه، أن تتعلمه، أن تُعلّمه، أن تجعل من هذا القرآن منهجاً لنا، متاح لك أن تأمر بالمعروف، وأن تنهى عن المنكر، متاح لك أن تبلغ من حولك آيةً، أو حديثاً، أو حكماً، أو قصةً، أو سيرةً، متاح لك أن تفعل كل شيء لكنه التقصير، من يمنعك أن تجلس مع أهلك لتعلمهم؟ من يمنعك أن تجلس إلى أصدقائك لتعلمهم، من يمنعك أن تنقل خطبة الجمعة إلى من حولك؟
أيها الإخوة الكرام، ورد في بعض الأحاديث:
(( ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِى رَأْىٍ بِرَأْيِهِ، وَرَأَيْتَ أَمْرًا لاَ يَدَانِ لَكَ بِهِ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَوَامِّ، فَإِنَّ مَنْ وَرَائِكَ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ كَأَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ. ))
عليك بخاصة نفسك؛ أهلك، أولادك، جيرانك، أصدقاؤك، زملاؤك، روّاد مسجدك، هؤلاء خاصة النفس، فنحن إذا أردنا أن نعلم هؤلاء بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نرسخ قيم الدين، وأن نكون قدوةً للآخرين، فهذا سماه الله عز وجل في كتابه الكريم الجهاد الكبير، الكبير، قال تعالى:
﴿ فَلَا تُطِعِ ٱلْكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدْهُم بِهِۦ جِهَادًا كَبِيرًا (52)﴾
أبواب الخير مفتحة على مصراعيها، أبواب الدعوة إلى الله مفتحة على مصراعيها، الإسلام لا يحتاج إلا إلى نشر هذا الحق، قوته بكلمته، والأنبياء جاؤوا بالكلمة الصادقة الواضحة النيرة الصحيحة المخلصة، فقلبوا وجه الأرض، من هم العرب؟ قبائل متناحرة في الجاهلية كان أحدهم يمد رجله ويقول: من كان أشرف مني فليضربها، فيأتي من يضربها، وتنشب حرب تزيد على عشر سنوات، جاهلية ما بعدها جاهلية، تنابز بالألقاب، افتخار بقيم جاهلية، غزل رخيص، معاقرة خمرةٍ، ربا لا يحتمل.
أتيت والناس فوضى، فكان النبي عليه الصلاة والسلام في حياة قصيرة مفعمة بالخير، حتى إن الله عز وجل أقسم بعمره الثمين، فقال تعالى:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ(72)﴾
أيها الإخوة الكرام، هذه بعض حِكم هذه المعركة معركة أحد، والله عز وجل في هذه الآيات التي تحدث بها عن معركة أحد يبين أسباب هذه المعركة، وتفاصيلها، ولا بد من رواية تفاصيلها قبل الشروع بشرح هذه الآيات.
أيها الإخوة الكرام، الآية الكريمة: ﴿وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
هذه الآية هي افتتاح القصة، وقد أُنزِل فيها ستون آية، وأُشير في هذه السورة إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في هذه الوقعة، وكانت في شوال من السنة الثالثة باتفاق الجمهور، وكان سببها: أن الله تعالى لما قُتِل أشراف قريش ببدر، وأُصيبوا بمصيبة لم يُصابوا بمثلها ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم، فجاؤوا إلى أطراف المدينة في غزوة السّويق، ولم ينل ما في نفسه، أخذ يؤلّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى المسلمين، ويجمع الجموع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش، أبو سفيان بسبب معركة بدر التي انهزم فيها المشركون، وانتصر فيها المؤمنون، وقُتل في بدر رؤوس الكفر، فأخذ أبو سفيان يُؤلّب قريشاً على رسول الله، وجمع ثلاثة آلاف مقاتل من قريش، ومن حلفائها، ومن الأحابيش، وجاؤوا بنسائهم لئلا يفروا ليُحاموا عنهن، ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريباً من جبل أحد.
2 ـ الاستعداد المادي والمعنوي والتنظيمي:
دققوا، واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أيخرج إليهم، أم يمكث في المدينة؟ وكان رأي النبي صلى الله عليه وسلم ألا يخرج المؤمنون من المدينة، وأن يتحصنوا بها، فإن دخلها المشركون قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي عبد الله ابن أُبَي، وكان هو الرأيُ، فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، وأشاروا عليه بالخروج، والنبي يرى أن يبقى في المدينة، وأن يتحصن بها، وأن يُقاتَل الكفار من أفواه الأزقة، والنساء يضربن الجند من على السطوح، لكن بعض فضلاء الصحابة ممن فاته شرف يوم بدر، أشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، وألحوا عليه في ذلك، وقد قال الله عز وجل:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(1)﴾
فنهض النبي عليه الصلاة والسلام، ودخل بيته، ولبس لَأْمته، أي لبس درعه، وخرج عليهم، وقد انثنى عزم أولئك الملحين، لما رأوه لبس درعه، وتأهب للخروج ندموا، وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، فقالوا: يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، وَرَأَيْتُ بَقَرًا مُنَحَّرَةً، فَأَوَّلْتُ أَنَّ الدِّرْعَ الْحَصِينَةَ الْمَدِينَةُ، وَأَنَّ الْبَقَرَ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، قَالَ: فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَوْ أَنَّا أَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا فِيهَا قَاتَلْنَاهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا دُخِلَ عَلَيْنَا فِيهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَيْفَ يُدْخَلُ عَلَيْنَا فِيهَا فِي الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ: شَأْنَكُمْ إِذًا، قَالَ: فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، قَالَ: فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: رَدَدْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْيَهُ، فَجَاءُوا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، شَأْنَكَ إِذًا، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ. ))
لقد بيّن النبي أن التردد آفة كبيرة، اتخذ قرارًا بالخروج، أما هذا التردد فمشكلة كبيرة جداً، والتردد في أغلب الأحيان سبب الإحباط، وخرج النبي عليه الصلاة والسلام في ألف من أصحابه، واستعمل ابن أمّ مكتوم على الصلاة ببقية المسلمين في المدينة، انظر إلى النظام، لابد من أمير على المدينة، والمسلمون جميعاً في أُحد، استعمل ابنَ أمّ مكتوم على المسلمين في المدينة.
3 ـ رؤيا النبي عليه الصلاة والسلام ليلة المعركة:
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا، وهو في المدينة، رأى أن في سيفه ثُلْمة، ورأى أن بقراً تُذبَح، وأنه أدخل يده في درع حصينة، فتأوّل الثُّلمة في سيفه برجلٍ يصابُ من أهل بيته، إنه سيدنا حمزة، وتأوّل البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع بالمدينة.
4 ـ خروج النبي إلى أحد وهو يحث أصحابه على القتال:
رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم الجمعة، فلما صار بالشوط بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بن أبي في ثلث الناس مغاضباً لمخالفة رأيه في المقام، فتبعهم عبد الله بن عمرو والد جابر رضي الله عنهما يوبّخهم، ثُلث المقاتلين رجعوا، ولم يتابعوا مع النبي، فهذا والد جابر تبعهم يوبخهم، ويحضهم على الرجوع، ويقول لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا عن مدينتكم العدو.
﴿ وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ ۚ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَٰتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ ۖ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّٱتَّبَعْنَٰكُمْ ۗ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَٰنِ ۚ يَقُولُونَ بِأَفْوَٰهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ۗ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ(167)﴾
فرجع عنهم، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم قومٌ من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى، هذا درس ثان، أول درس عدم التردد، الدرس الثاني ينبغي ألا تستعين بمشرك على مشرك، وسلك حرّة بني حارثة، ومرّ بين الحوائط، حتى نزل الشِّعب من أحد، مستنداً إلى الجبل، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم، هذا النظام، بما أن قوة الجيش في نظامه، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم .
5 ـ تنظيم النبي جيشه ، ووضعه الرماة على الجبل:
لما أصبح يوم السبت تعبّأ للقتال هو وأصحابه السبعمائة، كانوا ألفاً، فيهم خمسون فارساً، وخمسون رامياً، وأمّر على الرماة عبد الله بن جبير، وأمره وأصحابه أن يلزموا مراكزهم، وألاّ يفارقوه ولو رأوا الطير تخطف العسكر.
الآن في أي شأن في سفر هناك أمير، الأمير له رؤيا، يرى ما لا يراه أتباعه، فإذا أعطى أمرًا فينبغي أن يُنفَّذ، بالمناسبة ما كلّ أمرٍ يُعلَّل، أذكر مرةً أن النبي صلى الله عليه وسلم في معركة بدر قال بإيجاز شديد: لا تقتلوا عمّي العباس، فقط، صحابي فكّر، وقال: أينهانا عن قتل عمه، ونحن نقتل آباءنا، وإخوتنا! هو عمه، يجب ألاّ نقتله، ونحن نقتل آباءنا وإخوتنا، فأبقاها في نفسه، النبي عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يقول كلمة واحدة زائدة، لأن عمه مسلم، وقد أسلم خفيةً، وهو عينه في قريش، فكل أخبار قريش تأتيه تِباعاً، كل قرار يُتخَذ في أعلى مستوى يأتي النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه قيادة حكيمة وذكية فلو قال: عمي مسلم لا تقتلوه لكشفه، وأنهى مهمته، لو أن عمه لم يخرج لانكشف أمره، لو خرج لقتله أصحاب النبي، لا يستطيع أن يقول إلا كلمة واحدة؛ لا تقتلوا عمي العباس، فما كل أمر يُعلَّل، وهذا نحتاجه في حياتنا اليومية، هناك أمير يرأس القوم، وقد علم الله عز وجل منه الحكمة، والحرص، والإخلاص، فأمّره على هؤلاء، وليس كل فرد يحق له أن يسأل، وأن يطلب التعليل، هناك مواقف عصيبة، يجب أن تأمر دون أن تعلل، لا تقتلوا عمي العباس، فقط.
هؤلاء الخمسون رامياً أمّر عليهم عبد الله بن جُبير، وأمره وأصحابه أن يلزموا مراكزهم، وألّا يفارقوه، ولو رأَوا الطير تخطف العسكر، نص واضح من قيادة حكيمة، وكانوا خلف الجيش، وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنَّبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم، وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعَين، أيْ لبس درعين أخذاً بالحيطة، قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعًا(71)﴾
وهؤلاء المسلمون السُّذَّج، كلما ترك أحدُهم الأخذ بالأسباب، وأهمل، ولم يتقن، اتركها لسيدك، ليس لنا إلا الله، الله يحمي، هذا كله كلام الجهل، ينبغي أن تأخذ بالأسباب، وكأنها كل شيء، النبي عليه الصلاة والسلام سيد الخلق، وحبيب الحق، ومع ذلك لبس درعين، وأعطى اللواء مصعب بن عمير، وجعل على إحدى المَجنَّتَين الزبير بن العوام، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو.
6 ـ ردّ النبي لصغار الصحابة:
الآن دققوا، دققوا بين شبابنا وشبابهم، واستعرض الشباب يومئذٍ، فردّ من استصغرهم عن القتال، منهم عبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، كلهم صغار جاؤوا ليقاتلوا فردَّهم، وأُسَيد بن حضير، والبراء بن عازب، وزيد بن الأرقم، وزيد بن ثابت، وعبابة بن أوس، وعمرو بن حزام، وأجاز من رآه مُطِيقاً، منهم سُمرة بن جندب، ورافع بن خُديج، أجاز سُمرة، ورد رافعًا، أو العكس، فذهب أحدهما يبكي إلى أمه، فجاءت أمه إلى النبي الكريم، بينما في زمننا عندما يذهب ابنها إلى الخدمة الإلزامية، تحزن أشد الحزن، مثلاً هذا الجهل.
فجاءت أم أحدهما تتوسل إلى النبي أن يجيزه، فتصارعا أمام النبي صلى الله عليه وسلم، النبي هل لديه وقت؟ الوقت عصيب، والعدو على الأبواب، لكن احترام شخصية الصغير جزء أساسي من التربية، طفل يريد أن يقاتل فتصارعا أمامه، فأجازهما معاً، أجاز سُمْرة بن جندب ورافع ابن خُدَيج، ولهما خمسة عشر عامًا.
الآن يمسك الهمبرغر، ويذهب إلى الملعب، خمسة عشر عامًا، أجازهم للقتال، فقيل أجاز من أجاز لبلوغه السن، وردّ من ردّه لصغر سنه، وقالت طائفة: إنما أجاز من أجاز لإطاقته، ورد من رد لعدم إطاقته، ولا تأثير للبلوغ، وعدمه في ذلك.
7 ـ تقسيم الجيش إلى ميمنة وميسرة:
قال أحد الشابين: فلما رآني مطيقاً أجازني، وتعبّأت قريش للقتال، وهم في ثلاثة آلاف، ثلاثة آلاف أمام خمسين فارساً فقط، وخمسين رامياً، وسبعمائة، قريش هم ثلاثة آلاف، وفيهم مئتا فارس، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، لا تحكم على الشخص إلا حتى يتوفاه الله، كان من ألدّ أعداء النبي، وهو الذي سبّب الهزيمة للمسلمين، ثم أصبح من كبار الصحابة، ثم أصبح سيف الله المسلول، لا تيأس من إنسان، ولو رأيته غارقاً في المعصية، ولو رأيته يعادي الدين أشد العداء، لعل الله يهديه، ولعله يرجع، فلا تقطع الأمل من أحد، حينما أسلم خالد قال له النبي الكريم: عجبت لك يا خالد أرى لك فكراً.
هذا الذي بسببه قُتِل سبعون صحابياً من خِيرة أصحاب رسول الله، والسبب خالد، كيف أصبح خالد بعد ذلك؟ قال: والله خضت مئة معركة، أو زُهاءها، وما في بدني موضع إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة برمح، وها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.
وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، كانوا أقطاب الكفر، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه إلى أبي دجانة، وكان شجاعاً بطلاً يختال عند الحرب.
وكان أول من بَدرَ من المشركين أبو عامر الفاسق، واسمه عبد الله بن عمرو، وكان يسمى الراهب، لترهّبه وتنسّكه في الجاهلية، فسماه رسول الله الفاسق، وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرِق به، وما تحمل، يريد مكسبًا، فلما جاء النبي ضاع هذا المكسب، وجاهرَ رسولَ الله بالعداوة، فخرج من المدينة، وذهب إلى قريش يؤلّبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحضّهم على قتاله، ووعدهم أن قومهم إذا رأوه أطاعوه، ومالوا معهم، فكان أول من لقي من المسلمين قومه، فنادى قومه، وتعرف إليهم قالوا: لا أنعم الله عليك، لا أنعم الله لك عيناً يا فاسق، أرأيتم إلى الولاء.
فقاتل المسلمون قتالاً شديداً، وأبلى يومئذ حمزة، وطلحة، وشيبة، وأبو دُجانة، والنّضر بن أنس بلاءً شديداً، وأُصيب جماعة من الأنصار مقبلين غير مدبرين، واشتد القتال، وكانت الدولة -أي الغلبة- أول النهار للمسلمين على الكفار، فانهزم أعداء الله، وولّوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم، هنا العقدة.
9 ـ نزول الرماة من الجبل:
لما رأى الرماة هزيمتهم انتهى كل شيء، معهم نص، معهم توجيه من النبي: لو رأيتم الطير تأكلنا فلا تغادروا مراكزكم، فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم النبي الكريم بحفظه، وقالوا: يا قوم الغنيمةَ الغنِيمةَ، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُۥٓ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِۦ ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَٰزَعْتُمْ فِى ٱلْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنۢ بَعْدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ(152)﴾
فذكرهم أميرهم عهدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يسمعوا، وظنوا أنه ليس للمشركين رجعة، فذهبوا في طلب الغنيمة، وأخلَوا الثغر، ولم يطع أميرهم منهم إلا نحو العشرة من خمسين، فكرَّ المشركون، وقتلوا من بقي من الرماة، ثم أتوا الصحابة من ورائهم، وهم ينتهبون، فأحاطوا بهم، واستشهد منهم من أكرمه الله، ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نتابع هذا في درس قادم إن شاء الله.
الملف مدقق