الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس التاسع والعشرين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية السادسة بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٌۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ (106) وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِي رَحۡمَةِ ٱللَّهِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ (107)﴾
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ
أرأيت إلى البشر بمِلَلِهِم، ونِحَلهم، وأعراقهم، وأجناسهم، وطوائفهم، ومذاهبهم، ونزعاتهم، واتجاهاتهم، في النهاية هؤلاء فريق يبيضُّ وجهه، وهو في رحمة الله، وفريق يسودُّ وجهه، وهو في نار جهنم، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، لذلك قال تعالى:
﴿ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ(2)﴾
لماذا قدَّم الموت على الحياة؟ لأن الإنسان حينما يولد أمامه خيارات لا تعد ولا تحصى، أما حينما يأتيه الموت فهو أمام خيارين لا ثالث لهما؛ فإما إلى جنة يدوم نعيمها، وإمّا إلى نار لا ينفد عذابها. فكلما وقعت عينك على جنازة تتذكر ذلك.
فيا أيها الإخوة الكرام، كل هؤلاء الناس مشارب ونزعات، واتجاهات، ومِلَل، ونِحَل وطوائف، وعقائد وطروحات ومبادئ، هذا كله سوف ينتهي إلى نموذجين: ﴿يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٌۚ﴾
2 ـ أعِدّوا لهذا اليوم حتى تبيض وجوهكم:
وقد قال بعض علماء التفسير: (يوم) ظرف زمان، أي احذروا هذا اليوم، أو أعِدّوا لهذا اليوم احذروا هذا اليوم الذي يُفرَّغ الناس فيه في أحد نموذجين لا ثالث لهما، أي أعدوا لهذا اليوم عدته، وما من إنسان عاقل فيه مسحة من عقل إلا وينبغي له أن يعد لهذه الساعة التي لا بد منها عدة، قال تعالى: ﴿يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٌۚ﴾ الفوز الأبدي لمن ابيضّ وجهه، العاقل من وصل إلى هذا اليوم أبيض الوجه، المفلح من كان في هذا اليوم أبيض الوجه، الذكي من وصل إلى ابيضاض الوجه في هذا اليوم، الموفق، المتفوق، كل معاني التفوق تنتهي في أن يكون وجهك أبيض يوم القيامة، ولن يكون هذا الوجه أبيض إلا إذا عرفت الله، وعرفت منهجه، وعملت الصالحات تقرباً إليه.
صحِّح العقيدة أولا ، ثم استقم بعد ذلك:
قال لي أخ كريم اليوم: انصحني نصائح موجزة؟ قلت له: كأن هذا الدين يبدأ من تصحيح العقيدة، فإذا صحت فعليك بالاستقامة، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ(30)﴾
عليك بمعرفة الله، أو بعبارة أخرى عليك بتصحيح العقيدة؛ لأن أي انحراف في العقيدة يقابله انحراف خطير في السلوك، ولو أنه جدلاً لا علاقة للسلوك بالعقيدة فاعتقد ما تشاء، ولكن أية عقيدة زائغة فاسدة لا بد من أن تنعكس انحرافاً في السلوك، فإن أردت الفوز، إن أردت النجاح، إن أردت أن تكون أبيض الوجه صحِّح عقيدتك، وطبق منهج ربك، بتطبيق منهج الله تسلم، ولكن بالعمل الصالح تسعد، ولا بد من شيء رابع هو كثرة ذكر الله عز وجل، عن طريق إحكام العبادات، وإتقانها، وعن طريق الدعاء، والاستغفار، والتسبيح، والتهليل، وما إلى ذلك: ﴿يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٌۚ﴾ وجوه بيضاء كثيرة، ووجوه سوداء كثيرة.
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ
ومثل هذه الآيات كثيرة في القرآن الكريم:
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ(24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ(25)﴾
مثل هذه الآية كثيرة في القرآن الكريم.
فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
1 ـ أن موجبات الإيمان بين أيدي الناس:
قال تعالى: ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ﴾ من أَوْجَهِ ما قرأت في هذه الآية أن موجبات الإيمان بين أيديكم، كفرتم وكلُّ موجبات الإيمان بين أيديكم، كونٌ عظيم إذا تأملت فيه تجد أن وراءه إلهاً موجوداً، كاملاً، واحداً،
وفي كل شي له آيةٌ تدل على أنه واحد.
كتابٌ كريمٌ بين يديك، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حوادث تراها رأيَ العين، وترى فيها العِبَر تلو العِبَر، وأنبياء مرسلون، وكتبٌ منزَّلة، ودُعاة صادقون، كل موجبات الإيمان مُوَفَّرة لديك، منحك كوناً تعرفه من خلال الكون، ومنحك عقلاً أداةُ معرفة الله، منحك فطرة تكشف لك خطأك، منحك اختياراً ليُثمَّن عملُك، منحك شهوةً كي تندفع إلى طاعة الله عز وجل، وأن ترقى عند الله حينما تضبط شهواتك، وتسير على منهج خالقك، منحك حرية الاختيار، أودع فيك الشهوات، أعطاك قوة فيما يبدو، هذا كله أيها الإخوة موجبات الإيمان، قال تعالى: ﴿أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ﴾ ماذا يقول -ولله المثل الأعلى- ابن لأبيه، وقد هيّأ له أرقى مدرسة، وأفضل أستاذ، هيّأ له غرفة خاصة، ونفقات باهظة، ومدرِّسين متخصصين يأتونه في البيت، وكتبًا، ومراجع، ومكتبات، ومع ذلك لم يدرس، هذا الأب أعطى ابنه كل موجبات النجاح، ومع ذلك لم ينجح، قال تعالى: ﴿أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ﴾ معنى إيمانكم: أي أكفرتم بعد أن كانت موجبات الإيمان متاحة لكم، بعد أن كان كل شيء يدلكم على الله، بعد أن كانت الآيات التي نصبها الله في الآفاق، وفي الأرض، وفي أنفسكم، والآيات التكوينية هي أفعال الله، والآيات القرآنية، وكل ما في الكون يدل على الله، ومع ذلك كفرتم! قال تعالى: ﴿أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ﴾ أي:
﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُۥنَ(18)﴾
وقوله:
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)﴾
وقال أيضاً:
﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾
﴿أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ﴾ الشيء الذي لا شك فيه أن الإنسان حينما ينحرف انحرافاً خطيراً، ثم يواجه جزاء عمله يسكت، قال تعالى:
﴿ يَوْمَئِذٍۢ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِىَ لَا عِوَجَ لَهُۥ ۖ وَخَشَعَتِ ٱلْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)﴾
وفي بعض معاني قوله تعالى:
﴿ لَا يُسْـَٔلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـَٔلُونَ(23)﴾
2 ـ عدل الله يُسكت الألسنة:
إضافة إلى كل المعاني التي وردت في التفاسير هناك معنى دقيق؛ أنّ عدله يُسكت الألسنة.
دخل شخص إلى بيت صديقه فرآه مقتولاً، فخرج مذعوراً، فإذا بجارٍ له يعمل في سلك الأمن الداخلي يلقي القبض عليه، وساقه بتهمة أنّه هو القاتل، وجرت له محاكمة حُكِم عليه بثلاثين عاماً جزاء فعلته الشنيعة، وهو لم يقتله، وبعد ست سنوات أُلقي القبض على القاتل، واعترف بجريمة أخرى، وبجريمة سابقة، هذه وقعت في دمشق، فالذي حصل أنهم أعطوه تعويضاً يساوي عشرة آلاف ليرة، نظير سجنه ست سنوات، وأطلقوا سراحه، طبعاً القصة قديمة، والعشرة آلاف كانت تساوي ثمن منزل.
لي صديق كان في مرحلة إطلاق سراحه، أخذه جانباً قال له: بربك، أنشدك الله، أنت في الظاهر مظلوم، لكن كيف ترى عدل الله عز وجل؟ فأقسم بالله أنه فعل شيئاً لم يعلم به أحد، ويستحق عليه الإعدام، هكذا قال، عدل الله يُسكت الألسنة، فلذلك يوم القيامة يسكت الإنسان، أي أنتم ترون كيف أنّ الأُناس يتلذذون بقتل البشر، يرتاحون بإفقارهم، وإشقائهم، هؤلاء لهم جهنم، وبئس المصير، قال تعالى:
﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ(49)﴾
كنت في الدنيا عزيزاً وكريماً بالمفهوم الأرضي، ذق هذا هو جزاء عملك، هؤلاء الذين يفقرون الشعوب، يقتلون مئات الألوف، وهم مرتاحون لا بد لهم من جهنم، وجهنم تُعَدُّ جزاءً وفاقاً، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ﴾ أما الطرف الآخر فقال تعالى:
﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِي رَحۡمَةِ ٱللَّهِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ (107)﴾
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
1 ـ الفوز الكبير أن تأتي يوم القيامة أبيض الوجه:
كل عقلك، وذكائك، وبطولتك، ونجاحك، وفلاحك، وتفوقك أن تأتي يوم القيامة أبيض الوجه، أنت لم تظلم أحداً، ولم تأكل مال أحد، ولم تسهم في شقاء إنسان، ولا شقاء أسرة، ولا شقاء أمة، هذا الذي فتن فتاة، ففعل معها الفاحشة، ثم ألقاها في الطريق، وعَلِم أهلها بذلك فأهدروا دمها، ليس لها من عمل إلا أن تكون مومسة، فسلكت هذا الطريق، فجاءت يوم القيامة شقية، ولعلها أنجبت ذرية ربّتهم على شاكلتها، فإذا كشف الله لك يوم القيامة أنه من أجل لذة ساعة أوديتَ بهذه المخلوقة، التي كان من الممكن أن تكون أماً وزوجة، ولها مكانة، ولها طريق إلى الله، فهذا الذي يرتكب الموبقات، ويفعل الفواحش، ويأخذ ما ليس له، ويظلم، هذا أحمق، سوف يدفع الثمن أضعافاً مضاعفة، والكافر حينما يرى مكانه في النار يصيح صيحة لو سمعها أهل الأرض لصعقوا، يقول لم أرَ خيرًا قط ، والمؤمن حينما يرى مقامه في الجنة يقول لم أرَ شراً قط.
مرحباً بالتكاليف الشرعية؛ بغض البصر، بضبط اللسان، ضبط الحلال، الترفع عن الحرام، أن تكون مظلوماً لا أن تكون ظالماً، أن تكون في خدمة الخلق، أن تكون في طاعتهم، هذا الذي يبني ثروته على إشقاء الآخرين، الشيء الذي لا يصدق أن أوسع تجارة الآن، تجارة الرقيق الأبيض، مؤسسات، وشركات يأتون ويجوبون أقطار الدنيا، ويأخذون الفتيات القاصرات، يغرونهن بدخل كبير، ثم يعملن في الدعارة، ويُضطَهدن، ويُعطَين أقل القليل، هذا سيسأله الله عز وجل يوم القيامة: لمَ فعلت هذا؟
فيا أيها الإخوة، قبل أن تأخذ ما ليس لك، قبل أن تظلم مخلوقاً، الإنسان بنيان الله وملعون من هدم بنيان الله، عُدْ للمليون قبل أن تفعل شيئاً لا يرضي الله عز وجل، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ﴾ .
2 ـ بيض الوجوه المطيع لله والخادم لخلق الله:
﴿وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ﴾ أمضى حياته في طاعة الله، أمضى حياته في خدمة الخلق، أمضى حياته في رفع البؤس عن الآخرين، ما تكلم كلمة فيها سخرية، ما نظر نظرة مشبوهة، ما متع عينيه بما لا يحل له، ما ظلم زوجة، ولا ابناً، ولا جاراً، لا صديقاً، ولا مشترياً من عنده، ما غش مسلماً، أدى صلواته الخمس، صلى قيام الليل، ذكر الله كثيراً، وقف عند كلام الله، تَتَبَّع الحكم الشرعي في كل شيء، تزود بزاد التقوى قبل أن يموت، هذا يأتي يوم القيامة أبيض الوجه، أنت لا تبتعد كثيراً ولاحظ يوم توزيع الجلاءات على الطلاب، تجد طالبًا يكاد يرقص من شدة الفرح، ومعه جلاؤه، ينطلق إلى أبيه انطلاقاً ليريه الجلاء، وتجد طالبًا آخر يبكي، ويمزق الجلاء، قال تعالى: ﴿يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٌۚ﴾ .
3 ـ الفرق كبير لا يخفى على أحد:
أنت لاحظ هؤلاء الذين يرتكبون السرقات، والموبقات حينما يقعون في قبضة العدالة، وحينما يأتي المصورون ليصوروهم، عيونهم في الأرض، لا يستطيعون أن ينظروا إلى المصور.
مرة كنت عند قاضٍ للتحقيق، صديق لي يحقق في جريمة، فهذا المجرم ناكس الرأس، خافض البصر، وجهه أغبر اللون، مسودّ الوجه، فُتِح الباب، ودخل شاب يطفح وجهه بِشْراً، فقال له: هل الساعة جيدة، يبدو أنه يصلح بعض الساعات، فكلَّفه بتصليح ساعته، لأنه إنسان مواطن شريف بريء، دخل عليه مستبشراً، فقال له: جيدة جداً، جزاك الله الخير، وازنت بين هذا الإنسان الذي يُحَقق معه في جريمة قتل، وبين هذا الشاب الذي يعمل عملاً شريفاً، وأنجز شيئًا كُلِّف به، لاحظ كيف أن البريء واضح من وجهه، مرتاح، هناك صفاء وراحة، حتى لو اتُّهم كذباً لا يتأثر، يعلم أنه مستقيم، ومن عرف نفسه لم تضره مقالة الناس به.
لكن الملاحظة الدقيقة هي أن هؤلاء في رحمة الله، أي في الجنة، رحمة الله هي الجنة، أي رحمة الله هي رمز لعطاء الله، أعلى عطاء لله أن يكون مصيرك في الجنة.
مرة أخ كان في بلد غربي حدثنا عن نظافة البلد، وأناقته، وجماله، ونظامه، وعن الحقوق الإنسانية فيه، وكيف يعيش الناس آمنين مطمئنين، حاجاتهم كلها متوافرة، وإلى آخر ما هنالك، قال له أحدهم في المنهج القرآني:
﴿ كُلُّ نَفۡسٍ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ (185)﴾
الدنيا لا تساوي عند الله شيئا:
هذا هو الفوز، أما أن تعيش سنوات محدودة في بلد جميل جداً، الأمور كلها ميسرة فيه، هذا شيء ينتهي، أي أن الموت قدر الإنسان عندنا وفي بلاد أخرى، لو عشت في أجمل بلد في العالم، في أغنى بلد في العالم، في أرقى بلد في العالم، لا بد أن يأتي الموت، وينهي هذه الحياة، لذلك ليس من كرم الله أن يعطي عطاء مؤقتاً، هذا العطاء المؤقت في الدنيا يتناقض مع كرم الله، لا يليق بالله أن يعطيك الحياة الدنيا فقط، إنها أحقر من أن تكون عطاءً لله، لا يليق بكرم الله أن يعطيك الدنيا، وأن تأتي يوم القيامة صفر اليدين، لذلك عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))
إن الله يعطي الدنيا لمن يحب، ومن لا يحب، ولكنه لا يعطي الآخرة إلا لمن يحب، إن الله يعطي القوة، والجمال، والمال، والذكاء للكثيرين من خلقه، مع أنه يوجد كفاراً أقوياء جداً، وكما يبدو لقصير النظر بيدهم مصير العالم، بيدهم أن يراقبوا كل شبر في كل البلاد، وأسلحتهم تطول أي مكان في العالم، وهم متعجرفون متغطرسون، ومع ذلك لا خلاق لهم عند الله.
4 ـ لابد من تهيئة أسباب دخول الجنة:
العِبرة أيها الإخوة أن تكون في رحمة الله، هذه رحمة الله هي الجنة، لكن كما قال علماء العقيدة: الجنة محض فضل، سألني أحدهم سؤالاً على الهاتف قال لي: ما فهمت معنى هذه: "إلا أن يتغمدني الله برحمة منه" ؟ فقلت له: لو أن أباً وعد ابنه إذا أخذ الشهادة الثانوية بتفوق أن يعطيه سيارة من وكالتها حديثة جداً، فهذا الشاب تفوق في الدراسة، ونجح كما يتمنى الأب، وأمسك الجلاء، وذهب مباشرة إلى بائع السيارات، وقال له: هذا الجلاء، أعطني هذه السيارة، هل يعطيه إياها؟ ورقة الجلاء ليست ثمن السيارة، لكنها سبب اقتناء سيارة من جيب الوالد، الجلاء سبب اقتناء السيارة إذا دفع الأب ثمنها، فكما أنك تشتري بيتاً بخمسين مليونًا، مفتاحه ثمنه عشر ليرات، فهل يعد المفتاح هو الثمن، المفتاح سبب تدخل به هذا البيت الجديد، هو هبة من الله، ولم تدفع ثمنه، وكذلك الجنة، أنت لم تدفع ثمنها، ولكنك دفعت سبب دخولها، سبب دخولها الإيمان بالله، والاستقامة على أمره، والعمل الصالح، وذكره، هذا سبب دخولها، أما هي فمنحة إلهية، محض فضل من الله عز وجل، الجنة محض فضل والنار محض عدل، من أجمل ما قيل في هذا المقام: ادخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم.
مراتب الجنة بحسب أعمالكم، أما دخول الجنة فبرحمة الله، وفضل منه، ثم يقول الله عز وجل:
﴿ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَيۡكَ بِٱلۡحَقِّۗ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلۡمًا لِّلۡعَٰلَمِينَ (108)﴾
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِين
1 ـ الخطأ من العبد ، ولا يظلم ربُّك أحدا:
أنت قد تسأل: هؤلاء الذين دخلوا النار، وذاقوا حرّها، وتلظَّوا بلَظاها، لماذا كانوا هكذا؟ الخطأ منهم، والله خلقهم ليسعدهم، ولم يخلقهم لهذا العذاب.
أنت أحياناً تدخل إلى مدرسة رائعة جداً، بناء فخم، مُدرِّسون أكْفَاء، إدارة ممتازة، مناهج رائعة، قيم، أساليب تربوية، وأحياناً يصدر قرار بفصل أحد الطلاب، وأحياناً يُسلَّم إلى جهات كي يؤَدَّب، فهل تقول: إنّ إنشاء هذه المدرسة من أجل تعذيب الطلاب؟ معاذ الله، لكن إن كان هناك أحد الطلاب منحرفاً، سارقًا مثلاً، منحرفًا أخلاقياً فهذا يُعاقَب، أما في الأصل أن الإدارة لم تشأ فعل هذا مع طلابها، أرادت أن يكونوا علماء وحكماء، أن يكونوا قادة للأمة، أما حينما ينحرف الإنسان يدفع ثمن انحرافه، فالله عز وجل يقول: هؤلاء الذين اسودَّت وجوههم، والذين كفروا مع موجبات الإيمان هؤلاء ما أراد الله لهم ذلك، قال تعالى: ﴿وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلۡمًا لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ .
2 ـ الله غني عن تعذيب الناس:
أراد لهم أن يؤمنوا، أن يسعدوا، لا يوجد إنسان إلا مطلوب لله عز وجل، هذا الفهم السقيم الجبرية أنّ الله عز وجل خلق للجنة أناساً، وخلق للنار أناساً، فهذه عقيدة فاسدة، هذه العقيدة تشل الإنسان وينتهي، لا، الله خلق كل العباد للجنة، قال تعالى:
﴿ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)﴾
خلقهم ليرحمهم فقط، قال تعالى: ﴿تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَيۡكَ بِٱلۡحَقِّۗ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلۡمًا لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ ثم يقول الله عز وجل:
﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ (109)﴾
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
1 ـ الكون ملكٌ لله خَلقاً ، وتصرفاً ، ومصيراً:
﴿وَلِلَّهِ﴾ هذه لام المُلك، ﴿مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ﴾ تعبير قرآني عن الكون، الكون ما سوى الله، هو مُلك لله؛ خلقاً، وتصرفاً، ومصيراً، أنت قد تملك موظفاً، لكنك لم تخلقه، أجريتَ مسابقة، فتقدم لها، ونجح فيها، فأصبح موظفاً عندك، أنت لا تملكه خلقاً، بل تملكه استخداماً، ثم إن لك عليه صلاحيات محددة، عليه أن يأتي في الساعة الثامنة، وينجز ما يُطلَب منه، أما أن تكون مسيطراً على كل أجهزة جسمه، أو على بيته، أو على حياته الخاصة، وأولاده فهذا مستحيل، فأنت علاقتك معه محدودة جداً بهذا الدوام، وهذا العمل، لو أنه رفض أن يبقى عندك فله الحرية، مصيره ليس بيدك، وإنما بيده هو، أضف لكم للإيضاح، لكن ما معنى ﴿وَلِلَّهِ﴾ ؟ أي أنك أنت ملك لله خلقاً، هو الذي خلقك، وهو الذي يُسيِّرك، وإليه المصير، قال تعالى:
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾
2 ـ افعل ما بدا لك فإنك ملاقٍ ربَّك:
افعل ما بدا لك، اضطر إنسان إلى اقتراض مبلغ من المال، فلم يجبه إلى ذلك أحد، إلا أنّ رجلاً قال له: أريد رهناً، فقال له: عندي مزرعة أسجلها باسمك مؤقتاً، فإذا نقدتك القرض رددتها إلي، فقال له: موافق، بعد أن أصبحت هذه المزرعة بيد المُقرِض، والمقترض بعد حين توافر له المبلغ، فجاء المقرِض، وقال له: رُدّ لي المزرعة، وهذا مبلغك، فقال له: لا، كل واحد معه حقه، المزرعة غالية جداً، أضعافاً مضاعفة عن القرض، فمن شدة الألم أصابته أزمة قلبية كادت تودي بحياته، قبل أن يموت كتب وصية، كلَّف ابنه -أذكر القصة جيداً بيته في المهاجرين، وخصمه في أحد أحياء دمشق الجنوبية- فقال له: سِر بالجنازة إلى أمام دكان هذا الذي اغتصب مني مزرعتي، وأوقِف الجنازة أمامه، واخرجْ من الجنازة، وقدِّم له هذه الرسالة، والرسالة كتبها بخط يده، وقال فيها: أنا ذاهب إلى دار الحق، سأحاكمك هناك، وإن كنت بطلاً فلا تلحق بي، افعل ما بدا لك.
ظلمت زوجتك، ضحكت على الناس، غششتهم في بضاعتهم، حققت ملايين من بضاعة فاسدة، فعلت شيئاً لا يرضي الله عز وجل، فافعل ما بدا لك، قال تعالى: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ*ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾
هناك الحساب، فكل إنسان لا يُدخل الآخرة في حساباته اليومية أحمق، كل إنسان لا يُدخِل الآخرة، أنّ الله سيسألك: لِمَ فعلت؟ لِمَ أعطيت؟ لِمَ منعت؟ لِمَ وصلت؟ لِمَ قطعت؟ لِمَ سالمت؟ لِمَ عاديت؟ لِمَ بششت؟ لِمَ قطَّبت؟ قال تعالى:
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ﴾ هناك آيات كثيرة جداً، قال تعالى:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله إليه، وهذه كلمة أقولها دائماً، أُحمِّلها ما لا أستطيع من الشعور أن الله وحده هو المتصرف، ليس إلا الله، لا تنظر إلى قوي هو بيد الله، لا تنظر إلى غني هو بيد الله، انظر إلى أنّ الله مالك الملوك، وملك الملوك، ثم يقول الله عز وجل:
﴿ كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ (110)﴾
أمة النبي خير أمّةٍ : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
أي أنتم أيها العرب بهذه الرسالة التي نزلت فيكم، بهذا النبي الذي هو سيد الأنبياء والرسل، الذي بُعث فيكم أصبحتم خير أمة أخرجت للناس، أي جعلكم الله وسطاء بينه وبين خلقه قال تعالى:
﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ(143)﴾
أي وسطاء بين الله وبين خلقه، أي أنّ الله عز وجل حمَّل هذه الأمة رسالة عظيمة، حمَّلها رسالة الإسلام لتنقلها إلى الأنام، هناك تقصير أحياناً، فهذه الأمة التي خصَّها الله بهذه الرسالة، وبهذا النبي الكريم هي عنده خير أمة أخرجت للناس على الإطلاق، لكنّ هذه الخيرية لها علة، وعلتها قوله تعالى: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾
1 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الفريضة السادسة :
ولعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الفريضة السادسة، وأية أمة لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر أمة هالكة، والدليل أن الله أهلك بني إسرائيل لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه، ونحن -واللهِ- تلبَّسنا بهذه الصفة، مجاملات، مديح، لا أحد يأمر بالمعروف، ولا أحد ينهَى عن المنكر، لا يتأثر، لو أن إنسانًا رأى ابنة أخيه بثياب فاضحة، بالعكس يستقبلها، ويبُش لها، ويرحب بها، ولا يعطيها أية ملاحظة على ثيابها، لو رأى ابن أخيه الآخر لا يصلي، فإنه يسأله عن دراسته فقط، وعن تحصيله، وعن علمه، وعن وظيفته، ودخله، لو أن إنسانًا تزوج فتاة يُسأل عن بيته، وعن دخله فقط، لا عن دينه، فحينما لا نتناهى عن منكر فعلناه نستحق الهلاك، قال تعالى:
﴿ كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍۢ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ(79)﴾
الآن لو تناهينا عن منكر بلا إخلاص ماذا نفعل؟ ننهى عن المنكر إذا وقع به الفقير أو الضعيف، ونسكت عن منكر وقع به الغني أو القوي، وهذه وصمة عار بحق الأمة قال الرسول الكريم:
(( إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا. ))
فيجب أن نأمر بالمعروف، وأن ننهى عن المنكر، والمعروف ما عرفته الفِطَر السليمة، والمنكر ما أنكرته الفِطَر السليمة، أي ائتِ بمئة إنسان لا على التعيين من الطريق، أسمعهم قصة واسألهم من الظالم، يقولون لك: فلان هو الظالم، بالفطرة، عند الناس فطرة صحيحة جداً، هذه الفطرة تدعو إلى معرفة الخطأ، لذلك: ﴿تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ﴾
لماذا قدَّم الله الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر على الإيمان بالله
لماذا قدَّم الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله؟ قال لأن الإيمان بالله شيء داخلي، ولا يُرى، أنت ماذا ترى بعينك؟ ترى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالله عز وجل قدَّم الظاهر، وأخَّر الباطن، أما إذا لم نأمر بالمعروف، ولم ننهَ عن المنكر فنحن عندئذٍ لسنا خير الأمم إطلاقاً، ليس لنا ولا أية ميزة، ولا أدنى درجة، ونستأنس بقوله تعالى:
﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ(18)﴾
إذاً: العلماء اضطروا إلى أن يقسموا الأمة إلى قسمين؛ أمة الاستجابة، وهي خير أمة أُخرجت للناس، وأمة التبليغ، وهي أمة كأي أمة من الأمم، لا وزن لها عند الله إطلاقاً، لأنه هان أمر الله عليها فهانت على الله، ترتكب المعاصي والآثام جهرة، وعمَّت الموبقات الناس، وانتشر الفساد، ففي كل بيت نادٍ ليلي دون أن يشعر أصحابه، عن طريق هذه الفضائيات، الفساد عمَّ، المال أصبح مشبوهاً، العلاقات علاقات استغلال ليست علاقات رحمة بين الناس، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ، فَظَهْرُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا. ))
قال تعالى: ﴿وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرًا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ﴾
وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ
اقرأ هذه الآية بتروٍّ، أي يا عبدي لو آمنت بي لكان خيراً لك، لو عرفتني لكان خيراً لك، لو أطعتني لكان خيراً لك، لو بذلت من مالك في سبيلي لكان خيراً لك، لو خفت هذا اليوم يوم القيامة لكان خيراً لك قال تعالى: ﴿وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرًا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ﴾
ثم قال تعالى:
﴿ لَن يَضُرُّوكُمۡ إِلَّآ أَذًىۖ وَإِن يُقَٰتِلُوكُمۡ يُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (111)﴾
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى
1 ـ الكفار يؤذون المسلمين باللسانِ :
لسان طويل، يتكلمون، يطعنون، يسبون، يشتمون، لكنّ فِعلهم بيد الله، من أجل أن نطمئن، قال تعالى: ﴿لَن يَضُرُّوكُمۡ إِلَّآ أَذًىۖ﴾ هؤلاء اليهود وقال تعالى: ﴿وَإِن يُقَٰتِلُوكُمۡ يُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ﴾ .
2 ـ الكفار لا يصمدون في قتال المسلمين من شدة الخوف:
أي بعض هؤلاء الذين ضحّوا بحياتهم في سبيل هزّ كيان العدو أوقفوا السياحة، أوقفوا الهجرة، أصبحت هناك هجرة معاكسة، عشرات رحلات الطيران أُلغيت، عشرات الرِحل من أمريكا إلى بلاد اليهود أُلغيت، خافوا، شباب قلة ضحوا بأنفسهم في سبيل هز كيان عدوهم، فبلغوا الأثر الأقصى، يقول كبير مجرميهم: نحن لم نضبط أنفسنا لكننا نصون أرواح شعبنا، شعر أنّ الأمر يتفاقم، قال تعالى: ﴿لَن يَضُرُّوكُمۡ إِلَّآ أَذًىۖ وَإِن يُقَٰتِلُوكُمۡ يُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ﴾ تصريح إلهي، ﴿وَإِن يُقَٰتِلُوكُمۡ﴾ وأنتم مع الله بإقبال وإخلاص ﴿يُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ﴾ قال تعالى :
﴿ ضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيۡنَ مَا ثُقِفُوٓاْ إِلَّا بِحَبۡلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبۡلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَسۡكَنَةُۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقٍّۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ (112)﴾
أينما كانوا، إذا قال أحد الناس: لكنهم الآن ليسوا أذلاء، بل أقوياء جداً، قال تعالى: ﴿إِلَّا بِحَبۡلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبۡلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ﴾
إِلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ
﴿إِلَّا بِحَبۡلٍ مِّنَ ٱللَّهِ﴾ أي إذا عادوا إلى الله تُرفَع عنهم هذه الذِّلة، لأنهم بشر، ﴿وَحَبۡلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ﴾ أي إذا دخلوا في حماية جهة قوية، أما هم وحدهم من دون جهة قوية تُمِدهم، وترعاهم، وتقلق لأمنهم، ويأتون من أقاصي الدنيا كي يطمئنوا على سلامتهم، لولا أن هناك جهة قوية تدعمهم، وتدافع عنهم وتمدهم لـ: ﴿ضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيۡنَ مَا ثُقِفُوٓاْ إِلَّا بِحَبۡلٍ مِّنَ ٱللَّهِ﴾ إلا إذا تابوا إلى الله، الله عندئذ ينصرهم، قال تعالى: ﴿وَحَبۡلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَسۡكَنَةُۚ﴾
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ
﴿وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَسۡكَنَةُۚ﴾ أي إمعاناً في إذلالهم الله عز وجل ابتلاهم بالفقر، ويضرب العوام مثلاً لهذا الذي ضيَّع آخرته ودنياه معاً، قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقٍّۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ﴾ .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ
1 ـ إن البُغاث بأرضنا يستنسر:
هناك مثل عربي يقول: إن البُغاث -وهو أضعف أنواع الطير- بأرضنا يستنسِر، أي أصبح نسراً، معنى ذلك نحن أضعف منهم، إذا كان الضعيف الذي ضرب الله عليه الذلة، والمسكنة، وباء بغضب من الله أقوى من بعض المسلمين، معنى ذلك أن هؤلاء المسلمين قصروا مع ربهم تقصيراً شديداً، حتى سلط عليهم من لا يخافه ولا يرحمه، قال تعالى: ﴿وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَسۡكَنَةُۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقٍّۚ﴾ .
2 ـ بِغَيْرِ حَقٍّ : قيد وصفي احترازي:
يقتلون أنبياءهم، وما من نبي يُقتَل بحق، مستحيل، شأن قتل النبي أنه بغير الحق، لا يوجد حالة اسمها قتل نبي بحق مستحيل هذا، هذا اسمه احتراز وصفي، صيغة احترازية وصفية، قيد وصفي لا قيد احترازي، هذا اسمه في البلاغة قيد وصفي، لا قيد احترازي، إذا قرأت قوله تعالى:
﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ ۗ وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ ٱلْكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِىٓ ءَاتَىٰكُمْ ۚ وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(33)﴾
لا يمكن أن نفهم من هذه الآية أن الفتاة إن لم تُرِد تحصناً لك أن ترغمها على الزنى، مستحيل هذا المعنى، لكن من شأن الفتاة أنها تريد تحصناً، فسماه علماء البلاغة قيدًا وصفيًّا، لا قيداً احترازياً، قال تعالى: ﴿وَيَقۡتُلُونَ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقٍّۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ ﴾
3 ـ تركُ الأمور تدريجي مآله إلى الكفر:
قال تعالى:
﴿ لَيۡسُواْ سَوَآءًۗ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتۡلُونَ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ وَهُمۡ يَسۡجُدُونَ (113)﴾
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ
1 ـ لابد من الموضوعية في الأحكام:
فالله عز وجل يعلمنا أن تكون أحكامنا موضوعية، قال تعالى: ﴿لَيۡسُواْ سَوَآءًۗ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ﴾ أي قائمة بتطبيق منهج الله، أو قائمة في عباداتها، أو قائمة بالعدل، ثلاثة معانٍ؛ أمة قائمة بالعبادات، أو قائمة بالالتزام، أو قائمة بتطبيق العدل، قال تعالى: ﴿لَيۡسُواْ سَوَآءًۗ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتۡلُونَ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ وَهُمۡ يَسۡجُدُونَ﴾
2 ـ لا يتلى القرآن في الركوع والسجود:
أي ليس هناك تلاوة قرآن في الركوع والسجود، نهى عنها النبي، الركوع هو التعظيم، والسجود هو الدعاء، لكن إن سمينا الصلاة سجوداً أي يقرؤون القرآن في الصلاة.
قال تعالى:
﴿ يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ (114)﴾
فريق منهم هكذا، قال تعالى:
﴿ وَمَا يَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٍ فَلَن يُكۡفَرُوهُۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلۡمُتَّقِينَ (115)﴾
الملف مدقق