الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثامن والعشرين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الثانية بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ (102) وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءً فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنًا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ (103)﴾
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
أيها الإخوة الكرام، كما تعلمون أن الله جل جلاله لم يخاطب الكفار إطلاقاً إلا في آية واحدة يوم القيامة، لأن الكافر عطّل عقله، واتّبع هواه فهو ليس أهلاً لأن يخاطبه الله عز وجل، بينما المؤمن الذي آمن بالله خالقاً، ومربياً، ومسيِّراً، آمن به موجوداً، وواحداً، وكاملاً، يقول له: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ ، يعني يا من آمنتم بي، يا من آمنتم بعلمي، يا من آمنتم برحمتي، يا من آمنتم بعدلي، يا من آمنتم أني خلقتكم لجنة عرضها السماوات والأرض، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾
قال بعض العلماء فيما رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه:
(( عَنِ ابنِ مسعودٍ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ قال: أنْ يُطَاعَ فلا يُعْصَى وأنْ يُذْكَرَ فلا يُنْسَى وأنْ يُشْكَرَ فلا يُكْفَرُ. ))
هذا حق التقوى، بتفصيل أكثر يجب أن تتقي غضبه، يجب أن تتقي معصيته، يجب أن تتقي سخطه، يجب ألا تعمل عملاً لا يرضيه، ينبغي أن تكون في رضوانه، ينبغي أن يكون إيمانك كافياً لحملك على طاعته، ما كل إيمان يُنجِّي، هناك إيمان لا ينجي، فيجب أن تؤمن الإيمان الذي يحملك على طاعته، أي أن تتقيه حق تقاته.
قد تجد مليارًا ومئتي مليون مسلم، لأنهم لا يتقون الله حق تقواه لم يقطفوا ثمار الدين، وعدهم الله بالاستخلاف فلم يُستخلَفوا، وعدهم الله بالتمكين فلم يُمكَّنوا، وعدهم الله بالطمأنينة فلم يطمئنوا، وعدهم الله أن جندهم هم الغالبون فلم يغلِبوا، وعدهم أن لن يجعل الله لأعدائهم عليهم سبيلاً، لأعدائهم عليهم ألف سبيل وسبيل.
إن لم نتقِ الله حق تقواه لا نقطف ثمار الدين، دقق في أب عنده ثلاثة أولاد؛ ولد متفوق، وأخلاقه عالية جداً، فيكرمه الأب، وولد آخر معتوه، فالأب لا يحاسبه، لأنه إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب، من الذي يؤدبه ليلًا ونهارًا؟ الابن الثالث الذي يملك إمكانات، وهو مقصر، المؤمن كما أراد الله واضح، فهو مرتاح في الدنيا، والكافر الذي لا يُرجى إيمانه اختار الدنيا، وانتهى الأمر، وهو واضح أيضاً.
مَن هذا الذي يُعالَج كل يوم؟ يؤدب كل يوم، تأتيه المصائب كل يوم؟ هذا الذي ليس كافراً، وليس مؤمناً، ليس كافراً فيخرج عن دائرة العناية الإلهية، وليس مؤمناً الإيمان الكامل فيقطف ثمار الدين، هذه مشكلة المسلمين، المؤمن واضح، والله عز وجل يعامله معاملةً كاملة، معاملةً فيها إكرام، والكافر واضح، فالله عز وجل أخرجه من دائرة العناية المشددة، من هذا الذي يُعالَج، ويُؤدَّب، ويُضيَّق عليه، ويُشدَّد عليه، ويُصاب تارةً بماله، وتارةً بصحته، وتارةً بمن حوله؟ هذا المؤمن المقصر، فلذلك كأن هذه الآية تتجه إلى مَن آمن، ولكن إيمانه لم يكن يرقى إلى مستوى يحمله على طاعة الله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ .
4 ـ ملمحٌ لطيف من الآية : الامتحان يكشف المتفوق:
هنا ملمح لطيف في قوله تعالى:
﴿ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ(2)﴾
أصل الامتحان أن يكشف هذا الامتحان من هو المتفوق، أنا عندي خمسون طالباً، صممت امتحاناً لأكشف المتفوقين منهم، أما الامتحان الواقعي فهو يكشف الناجحين والراسبين، فالأصل ينبغي أن تكون متفوقاً لا أن تنجح فقط، فالله عز وجل يقول: ﴿ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ سبحان الله! ما من شيء إلا إذا غصت في أعماقه كان ممتعاً ومسعداً، الحل الوسط أحياناً لا يصلح في الدين إطلاقاً، يمكن أن يكون الإنفاق وسطاً، قال تعالى:
﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا(29)﴾
يمكن في شراء الحاجيات أن تختار حاجة وسطًا، تؤدي الوظيفة بسعر معتدل، يمكن أن تتخذ الوسطية في شؤون من حياتك كثيرة، أما أن تكون استقامتك وسطاً، أو تديّنك وسطاً ، فربما لا تقطف ثمار الدين بهذا الموضوع، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْاْ ۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(112)﴾
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(( إن الله أمرَ المؤمنين بما أمر به المُرسَلِين. ))
قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أن تذكره فلا تنساه، أن تطيعه فلا تعصيه، أن تشكره فلا تكفره، أن تتمسك بالكتاب والسنة فما إنْ تمسكت بهما فلن تضل أبداً، أن تتبع منهج الله، قال تعالى:
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123)﴾
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)﴾
أن تكون وقّافاً عند حدود الله، ألّا تأخذك بالله لومة لائم، أن تقيم العدل، ولو على نفسك وأهلك، أن تقول الحق ولو كان مُرّاً، ألاّ تداهن أحداً، والمداهنة أن تبذل الدين من أجل الدنيا، أن تضحي بدينك من أجل دنياك، قال تعالى:
﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9)﴾
لك أن تداري، وليس لك أن تداهن، المداهنة بذل الدين من أجل الدنيا، والمداراة بذل الدنيا من أجل الدين، يمكن أن تعطي كل شيء من أمور الدنيا مقابل أن تأخذ بيد من حولك إلى الله، لكن في أمور الدين لا ينبغي أن تضيّع شيئاً من الدين من أجل دنياك، هذا ألّا تأخذك بالله لومة لائم، أن تقول الحق ولو كان مراً، أن يكون صمتك فكراً، ونطقك ذكراً، ونظرك عبرةً، أن تصل مَن قطعك، أن تعفو عمن ظلمك، أن تعطي من حرمك، أن تكون ذاكراً لله، أن تكون منيباً إلى الله، هذه بعض العبارات التي تحضرني في معنى قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ ودائماً في مستوى التعليم؛ الطالب الذي يرجو أن ينجح فقط لا ينجح، أما إذا رجا أن يكون متفوقاً لعله ينجح.
5 ـ احرص على أن تموت مسلماً:
قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ﴾ الموت ليس بيدنا، فكيف ينهانا الله عن أن نموت إلا ونحن مسلمون؟ الموت ليس بيدنا، معنى الآية: ما دام الموت ليس بيدك فاحرص على أن يأتيك الموت وأنت مستسلم لله عز وجل.
للتقريب: لو أنك حريص حرصاً لا حدود له على أن تقوم بعملٍ يعود عليك نفعه الكثير، ولا تستطيع أن تقوم بهذا العمل إلّا إذا لبّيت إنساناً فيما بين ساعتين؛ من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثامنة مساءً، ما دُمت حريصاً حرصاً لا حدود له على الوصول إلى هذا الهدف، وقال لك: أنا سآتي، وآخذك من بيتك ما بين الثامنة صباحاً، والثامنة مساءً، ولا ينتظرك، متى تقف وراء الباب؟ بدءاً من الثامنة صباحاً، ما دام المجيء ليس باختيارك لكن بين ساعتين، فمن شدة حرصك على تأدية هذا العمل تقف بدءاً من الساعة الأولى وتنتظر، وما دام الموت لا يأتينا باختيارنا، فقد يداهمنا مداهمةً، فينبغي ألّا يأتينا الموت إلا ونحن مستسلمون لله، خاضعون له.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ﴾ مع شيء من التفصيل للتوضيح؛ شركة طيران لا ترد ثمن التذكرة، والتذكرة (بطاقة الطيران) ثمنها خمسمئة ألف ليرة، فإن لم تكن راكباً في الطائرة لا يُرد ثمن هذه البطاقة، والشركة هي التي تأتيك إلى البيت لتأخذك، ولا تنتظر إلا دقيقة واحدة، متى تأتي؟ من الثامنة صباحاً، وحتى الثامنة مساءً، متى تقف خلف الباب؟ بدءاً من الثامنة صباحاً، البطاقة غالية جداً، فإن فاتتك هذه الطائرة لن يُردّ لك ثمنها، هم يأخذونك من البيت، ولا ينتظرون إلا دقيقة واحدة، ويأتون ما بين الثامنة صباحاً، والثامنة مساءً، هذا هو المعنى.
6 ـ الاستعداد للموت الذي يأتي فجأة:
ما دام الموت ليس بيدنا، وقد يأتي بغتةً، إذاً ينبغي أن نكون دائمي الاستعداد له، وهنيئاً لمن صفّى علاقاته، وأدّى ما عليه، وأدّى واجباته، وطالب بحقوقه، ولم يُبقِ مشكلةً مالية، ولا اجتماعيةً، ولا عاطفيةً إلّا وحلّها، فإذا جاءه الموت يرحب به، وكأنه على موعد معه.
الصحابة الكرام في حياتهم قاسم واحد مشترك بينهم، وهو أنهم كانوا في أسعد لحظات حياتهم حينما جاءهم الموت.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ﴾ لا يأتينَّكم الموت، وهو يأتي فجأة إلّا وأنتم مستسلمون لله في كل شيء، خاضعون لأمر الله في كل شيء.
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا
1 ـ وجوب الوحدة والاتفاق:
ثم يقول الله عز وجل: ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا﴾ هذه قضية دقيقة في شأن الوحدة، فلا بد من شيء يوحّدنا أما لو قلنا: علينا أن نتّحد، لا نتحد، علينا أن نجتمع، لا نجتمع، أن نتفاهم، لا نتفاهم، لأن الأهواء مختلفة، والمصالح مختلفة، والأصل ألاّ يجتمع الناس إلا على شيء يجمعهم، لذلك هناك قاعدة دقيقة جداً مأخوذة من قوله تعالى:
﴿ وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذْنَا مِيثَٰقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ(14)﴾
وكأن هذه الآية قانون، متى تنشأ العداوة والبغضاء، ومتى ينشأ الحقد والحسد، ومتى ينشأ البغي والعدوان، ومتى تقوم هُوّة بين الناس؟ متى يكون بأس الناس بينهم؟ ومتى يُمزَّقون ويشرذمون؟ حينما ننسى منهج الله، أما لو أننا طبقنا منهج الله جميعاً لكانت المحبة، والألفة، والمودة، قال تعالى:
﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(63)﴾
فإيمانهم، وطاعتهم لله سبب وحدتهم، ومحبتهم، وفسق الناس، وفجورهم، ونبذهم لمنهج الله سبب العداوة والبغضاء بينهم، وهذا قانون عام يشمل كل الناس وكل الشعوب وكل الأمم.
عَنِ أنس بن مالك أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ:
(( مَا تَوَادَّ اثْنَانِ في الله فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إلا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا. ))
3 ـ الإسلام هو الذي يجمعنا:
الذي يجمعنا هو حبل الله، حبل الله في أوجه التفاسير هو القرآن الكريم، بشكل أوسع هو الإسلام، الإسلام يجمعنا، ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا﴾، وحبل الله طرفه الأول بيد الله، وطرفه الثاني بيد المؤمن، فمن تمسك بحبل الله نجا، أنت ممسكٌ حبلاً طرفه بيد الله، وطرفه بيدك، فإذا اعتصمت بهذا الحبل، اعتصمت بهذا القرآن، اعتصمت بهذا الدين، اعتصمت بهذا الإسلام، هذا الذي يجمع بيننا، وللتقريب؛ قد تجد حبالاً كثيرة مُدلّاة من السماء، وكلٌّ يدّعي أن هذا حبل الله، أين بطولتك؟ أن تمسك بحبلٍ يمسكه الله من الطرف الآخر؟ هنا البطولة، حبال كثيرة، كلها دعاوى تدّعي أنها حبال الله، لكن لله حبلاً واحداً ممسكاً بطرفه في السماء، فكل بطولتك أن تهتدي بحبل أمسك الله بطرفه في السماء.
﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا﴾ إذاً: أن نجتمع بلا شيء يجمعنا فاجتماعنا مستحيل، أن نتعاون بلا شيء نتعاون عليه، فتعاوننا مستحيل، أن نتكاتف بلا شيء يدعونا إلى التكاتف تكاتفنا مستحيل.
﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا﴾ لو أن صفرًا زائدَ صفر زائدَ صفر فإنه يساوي صفرًا، الإنسان الذي لا يعتصم بحبل الله صفر، وليس من الله في شيء، ليس على الحق، وليس على منهج، وليس على دين، وليس على مبادئ، وليس على قيم، لو اجتمع زيد مع عبيد فالمحصلة صفر، أما لو أننا اعتصمنا بالله عز وجل لَكُنّا قوةً يُرهَب جانبها، فعن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ))
أما أمته حينما تركت سنته هزمت بالرعب مسيرة عام، ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا﴾ ينبغي أن يكون الاعتصام بحبل الله حقيقةً، لأنه كما قيل:
وكلٌّ يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكــا
4 ـ قف عند كلمة ( جميعا):
﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا﴾ الحقيقة كلمة "جميعاً" لها معنى دقيق، يقول الله عز وجل :
﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31) ﴾
لا نقطف ثمارَ الدين إلا مجتمعين:
أنتم لا تقطفون ثمار الدين إلا إذا تبتم إلى الله جميعاً، أن يكون في بيتك هاتف، ولك خمسون صديقًا، ليس عندهم هاتف، هذا الهاتف لا قيمة له، تكون له قيمة إذا كان عند كل أصدقائك مثل هذا الهاتف.
للتقريب: حينما تعيش في مجتمع مسلم لماذا تشعر بالسعادة؟ لأن كل مسلم لن يكذب عليك، ولن يغشك ولن يؤذيك، ولن يعتدي على عرضك، ولن يأخذ مالك، كما أنك مأمور بالعفة فإن مليارًا ومئتي مليون أمروا أن يعفوا عن نسائك ، كما أنك مأمور بالأمانة فإن مليارًا ومئتي مليون مأمورون أن يكونوا أمناء معك.
إن ثمار الإيمان لا نقطفها إلا إذا تاب الناس جميعاً إلى الله، وأوضح مثل موضوع الحجاب؛ فلو أن أعداداً قليلة من المسلمين حجّبوا نساءهم، ومعظم النساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، فثمار الحجاب لا نقطفها، أما لو أن كل نساء الناس محجبات لا يُثِرنَ الغرائز، ولا يبدين المفاتن لقطفنا جميعاً ثمار الحجاب، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا﴾ حينما يعم الفساد في الأرض علي أن أستقيم، لكن لا تظهر قيمة الاستقامة إلا إذا طبقها الناس جميعاً، لا تظهر قيمة الأمانة إلا إذا كان الناس جميعاً أمناء، لا تظهر قيمة العِفّة إلا إذا كان الناس جميعاً أعِفَّة.
وهنا قال تعالى: ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا﴾
فضلُ المعتصم بحبل الله في آخر الزمان:
إذا لم تعتصم الأكثرية بحبل الله، والأقلية تعتصم بحبل الله، الأقلية قد تنجو، لكن ثمرة هذا الاعتصام الكلية لا نأخذها، قلة قليلة تعتصم بحبل الله، فهذه نجت، لكنها تعاني ما تعاني، لأن الله عز وجل قال:
﴿ ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(41)﴾
ففي آخر الزمان القابض على دينه كالقابض على الجمر، وقد ورد في الحديث القدسي الصحيح عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ))
في زمن الفتن.
قال تعالى: ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا﴾ أنا حينما أعتصم وحدي، أو يعتصم من حولي فقط ننجو، لكن حياتنا صعبة جداً، لأن الأكثرية لا تعتصم، الأكثرية لا تصدق، الأكثرية لا تُؤتَمن، ومن علامات آخر الزمان أنه يُخوَّن الأمين، ويُؤتمَن الخائن، يُكذَّب الصادق، ويُصدَّق الكاذب.
حينما يفشو الفساد في الأرض تغدو الحياة صعبةً، ويغدو القابض على دينه كالقابض على الجمر، ولكن هذا قدرنا، أما لو تصورنا أن مجتمعاً بأكمله عرف الله، واستقام على أمره تجد الحياة شيًا ثمين جداً، لذلك فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ فَظَهْرُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا. ))
من ملامح آخر الزمان: يوم يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى، ولا يستطيع أن يغير، ألا ترون ما يجري لإخواننا في فلسطين؟ يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى، ولا يستطيع أن يغير، إن تكلم قتلوه، وإن سكت استباحوه.
أيها الإخوة، إن الله عز وجل يدعونا أن نعتصم بكتابه، ولكن "جميعاً" حتى نقطف ثمار هذا الدين.
وَلَا تَفَرَّقُوا
قال تعالى: ﴿وَلَا تَفَرَّقُواْۚ﴾
﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(71)﴾
أما إذا تفرق المؤمنون بذنوب أصابها أحدهم، أو بذنوب أصابها بعضهم، فالاعتصام بحبل الله يجمع، وترك الاعتصام بحبل الله يفرّق، قال تعالى: ﴿وَلَا تَفَرَّقُواْۚ﴾ أمرنا أن نعتصم، ونهانا أن نتفرّق، قال تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءً فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ﴾
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا
1 ـ تذكير الأوس والخزرج بنعمة الله عليهم:
الحروب بين الأوس والخزرج مديدة طويلة، وحينما جاء الإسلام حلت المحبة محل الخصام، وحينما جاء الإسلام حل التفاهم محل التنافس، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ :
(( لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، -أي أنا أيضاً واجدٌ عليك- قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ؟ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ قَالُوا: بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ، قَالَ: أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ، وَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ،-كلام طيب، فقد كان عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات القوة، فقد دانت له الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، وقلة من الأنصار وجدوا عليه في أنفسهم- وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ، -ما هذا الأدب! ذكرهم بفضلهم عليه- أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ؟ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَفَرَّقْنَا. ))
2 ـ الخصومات دليل ضعف الإيمان وقلة العلم:
﴿وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءً فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنًا﴾ أقول لكم هذه الكلمة، وأنا أعني ما أقول: ما دام هناك خصومات بين الإخوة المؤمنين، ومنافسات، وعداوة، وبغضاء، وحقد، وطعن، فليعلم هؤلاء المؤمنون أنهم ليسوا على المستوى المطلوب، وأن هذا الإيمان لم ينفعهم، لأن علامة إيمانهم المحبة بينهم، علامة إيمانهم التعاون بينهم، علامة إيمانهم التناصر، والتضامن، والتآخي، وحينما يضعف تطبيق هذا المنهج تنشأ العداوات، وتتفجر البغضاء، وحينما نتمسك جميعاً بكلام الله عز وجل يحل الوئام محل الخصام، فدائماً المتبع لمنهج الله عز وجل يتعاون ولا يتنافس، يقدّر ما عند الآخرين ولا يحتقر، بينما الذي لا يتبع يتنافس ولا يتعاون، وذو نزعةً عدوانية، وليس مسالماً.
3 ـ الأخوّة الإيمانية نعمة من الله ، والعداوة نقمة ومصيبة:
﴿وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءً فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنًا﴾ والله أيها الإخوة، كلّما وجدت بين إخوة المسجد محبة، وتعاوناً، وإيثاراً، وتضحيةً أنام قرير العين، وكلما وجدت خصومةً، وتنافساً، ومشاكسةً بين إخوة المسجد أتألم أشد الألم، لأن هؤلاء بهذه الأخلاق لم يقطفوا ثمار الدين أبداً.
ألا ترى أن المسلمين في شتى بقاع الأرض بأسهم بينهم؟ بأسهم بينهم، وليس على عدوهم، هذا من ضعف إيمانهم، وكلكم يعلم أن كل فرقةٍ ضالة من شأنها النزعة العدوانية، والنظرة الأحادية، لسان حالهم ومقالهم: نحن فقط، الجنة لنا، نحن المؤمنون فقط، نحن المسلمون فقط، أية فرقة ضلت سواء السبيل تعتد بنفسها، والله عز وجل يقول:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا(49)﴾
هو يمدحهم أم يذمهم؟ يذمهم، قال تعالى: ﴿بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ﴾ فهذا الذي يسلط الأضواء على ذاته، وينزّهها عن كل نقيصة، ويطعن بالآخرين، هذا يشق صفوف المسلمين.
وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
﴿وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ﴾ كنتم في ضلالة عمياء، وفي انحراف خطير، الربا، والخمر، والزنا، والعداوات، والحروب المديدة، وهذه الجاهلية الأولى، ولأن الله قال:
﴿ وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ ٱلْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)﴾
معنى ذلك أن هناك جاهلية ثانية، إنها الجاهلية التي نعيشها، جاهلية المصالح، والأهواء، والحظوظ، والمنازعات، والتنافس، والاقتتال أحياناً.
﴿وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ﴾ أي على حافة حفرة من النار فأنقذكم منها.
﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾ فالمودة بين المؤمنين من خَلق الله عز وجل، يخلقها الله، فإن لم تكن هناك مودة فهناك مشكلة كبيرة في الإيمان، التجمعات كثيرة، هناك تجمع مصلحي أساسه المصلحة، فهؤلاء يتعاونون على باطل، وليس على حق، ولكن تجمعات المؤمنين تجمعات خالصة لله عز وجل، فلا تحتمل جماعة المؤمنين أية خصومة.
﴿ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(10)﴾
﴿ وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٌ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (104)﴾
1 ـ الدعوة إلى الخير وهو الإسلام:
هذه اللام لام الأمر ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٌ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ﴾ فلا بد من فئة في كل مجتمع تتعلم العلم الصحيح، العميق، الواسع، وتدعو إلى الله عز وجل، تدعو إلى الخير، إلى هذا القرآن، إلى هذا الإسلام، إلى هذا الدين القويم، تدعو إلى كل شيء يقرب من الله، وتنهى عن كل شيء يبعد عن الله عز وجل، قال تعالى: ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٌ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ﴾ والخير هو القرآن، والإسلام، وهذا الدين.
2 ـ الأمرُ بِالْمَعْرُوفِ والنهيُ عَنْ الْمُنْكَرِ:
ما هو المعروف ؟ وما هو المنكر ؟
﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ﴾ هذا من قبيل عطف الخاص على العام، المعروف: ما عرفته الفِطَر السليمة، والمنكر: ما أنكرته الفِطَر السليمة، الإنسان مفطور فطرة عالية، ومن أصل فطرته يحب المعروف، ويكره المنكر، أما حينما تنطمس فطرته، وتُسوَّد صفحته، وتتحكم به أهواؤه عندئذ يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف، لذلك هذه الأمة الإسلامية لا يمكن أن تكون خير أمة أخرجت للناس إلا إذا أمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، قال تعالى:
﴿ كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ (110)﴾
فعلة خيريتها أنها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، فإذا لم تأمر بالمعروف، ولم تنهَ عن المنكر فقدت خيريتها، بل هي أمة كأية أمة خلقها الله، يؤكد هذا المعنى قوله تعالى:
﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ(18)﴾
من هؤلاء الشعوب التائهة، الأمة الإسلامية إن لم تُقِم أمر الله، إن لم تأمر بالمعروف، إن لم تنهَ عن المنكر فهي أمة كبقية الأمم التي شردت عن الله عز وجل، وما من كلمة تصدق على واقع الأمة كهذه الكلمة: هان أمر الله عليها فهانوا على الله.
سيدنا عمر حينما طعن، وأفاق من الإغماء ماذا قال؟ قال: هل صلى المسلمون الفجر! فهل يسأل الأب زوجته إذا عاد إلى البيت: هل صلى الأولاد العشاء، يقول لها: هل كتبوا الوظائف؟ هل تناولوا الطعام؟ جيد، ربما لا يسألها: هل صلى الأولاد العشاء، سيدنا عمر قال: هل صلى المسلمون الفجر؟ فحينما نعظّم أمر الله نغلو على الله، وحينما يهون أمر الله علينا نهون على الله.
﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٌ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ ثمة قصة بسيطة جداً، ولكنها معبِّرة، سائق سيارة، ركب معه شاب وشابة قال له: انتظر قليلاً ستأتينا محفظة، فانتظر هذا الذي سيأتي بالمحفظة، فتأخر، ثم جاء بعد حين رجل كبير بالسن عمره سبعون سنة، يحمل محفظة على رأسه، وأخذها هذا الشاب منه، وضربه على صدره، لِمَ تأخرت؟ السائق لم ينتبه، وبعد أن انطلق في طريقه من بيروت إلى الشام قالت له زوجته: لا ينبغي لك أن تضرب أباك، فوقف هذا السائق، وقال له: هذا أبوك؟ انزل فوراً، وهذه أجرتكما.
هذا أدى الذي عليه، شيء رائع جداً، قال لي مرة رجل: والله أنا سبب توبتي سائق سيارة، كنت أحمل خمرًا، فلما لمحه رفض أن يركبني، وطردني، فشعرت بذل شديد، وعقدت العزم على أن أتوب، وكل إنسان أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر.
تأتي الفتاة إلى بيت عمها بثياب فاضحة، يرحب بها، ويهشّ لها، ويبتسم لها، لا يخطر في باله أن يلومها على هذه الثياب، هذه ابنة أخيك.
حينما نقصر في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر تضيع الأمور، ويضعف الحق، ويزداد الباطل قوةً، فهذه الفريضة السادسة، لكن ما كلفك الله فوق ما تطيق، إنّ نهياً عن المنكر أدى إلى فتنة أشد من هذا المنكر فلست مكلفاً به، لك أن تنكر بقلبك، ولك أن تنكر بلسانك، ولك أن تنكر بيدك، ولكن الله لا يقبل منك إنكار اللسان إذا كنت قادراً على أن تنكر بيدك، كما أنه لا يقبل منك إنكار القلب إذا كنت قادراً على إنكار اللسان.
ثلاثة أولاد في الطريق، ابنك، وابن أخيك، وابن الجيران، رأيتهم يدخنون، أنت تقيم الدنيا، ولا تقعدها على ابنك، وتعنّف ابن أخيك، وتطلب من هذا الثالث أن ينطلق إلى شأنه، ابنك بيدك، ابن أخيك بلسانك، والثالث بقلبك، لا تعرف من أبوه، وما رأي أبيه بهذا الانحراف، وقد تنشأ مشكلة كبيرة جداً، فعليك أن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر.
وأن تنكر المنكر بيدك إن استطعت، ثم بلسانك، ثم بقلبك، ومن شهد معصيةً فأنكرها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عن معصية فأقرها كان كمن شهدها، قال تعالى:
﴿ وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)﴾
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَات
الاختلاف منه المذموم ومنه الممدوح:
قد يكون هناك اختلاف لنقص المعلومات، وهذا اختلاف طبيعي، وقد يكون هناك اختلاف تنافسي، وهذا محمود.
فمؤمن يرى أن نشر الدعوة أعظم شيء، ومؤمن آخر يرى تأليف الكتب أعظم شيء، وثالث يرى أن بناء المساجد أعظم شيء، فهذا اختلاف تنافسي جيد، لكن الاختلاف القذر هو أن نختلف بعد أن جاءتنا البينات الواضحات النيّرات اختلاف حسد، وبغي، وعدوان، وتنافس.
﴿ إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلْإِسْلَٰمُ ۗ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْيًۢا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ(19)﴾
﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ﴾ كيف يُفسَّر ما بين المسلمين؟ إذا كان الله واحداً، والنبي واحداً، والقرآن واحداً، وكلهم يقولون: قال الله، قال رسول الله، ومع ذلك فبينهم ما صنع الحداد، إذاً هذا اختلاف بغي، وحسد، ومصالح ﴿وَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ .
الملف مدقق