الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السابع والعشرين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الثامنة والتسعين وهي قوله تعالى:
﴿ قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ (98)قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ تَبۡغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمۡ شُهَدَآءُۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ (99)﴾
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ
1 ـ وقفة متأنية عند كلمة ( قل ):
تستوقفنا أيها الإخوة كلمة (قل).
﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ ما الفرق بينها وبين قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ إن الله جل جلاله كما قال بعض العلماء يتلطف بعباده، ويخاطبهم مباشرة أحياناً، أما حينما يتلبّسون بمعصية فليسوا أهلاً أن يخاطبهم، لذلك تقريعاً لهم يقول الله عز وجل: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ ولله المثل الأعلى: حينما يأتي مدير عام ليتفقد أحوال إحدى الدوائر التابعة له، ولا يجد الموظف في مكانه، ولا دوامه منتظم، لا يخاطبه مباشرة تقريعاً له، وهو إلى جانبه واقف، يقول: قل له: ألا يتأخر، هو لِمَاذا لم يقل له: يا أخي لا تتأخر؟ عمله لم يجعله أهلاً أن يُخاطَب مباشرة، فحينما يقول الله عز وجل:
﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)﴾
وكأن المؤمن قبل أن تأتي هذه الآية واقع في حَيرة، ولعله يطلق بصره، فجاءت هذه الآية: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَٰرِهِمْ﴾ بالمناسبة، الله جل جلاله لم يخاطب الكفار إطلاقاً في قرآنه الكريم، لأن الإنسان حينما لا يقبل الحق، وحينما يرد الحق، وحينما يركب شهواته، وتتحكم فيه نزواته، مثل هذا الإنسان لا يمكن أن يخاطبه الله عز وجل، إلا آية واحدة يوم القيامة قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَعْتَذِرُواْ ٱلْيَوْمَ ۖ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(7)﴾
لكن الله جل جلاله فيما يزيد على ثلاثمائة آية خاطب المؤمنين:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6)﴾
حينما تُخاطَب من الله مباشرة فهذا شرف عظيم، وهذا رُقيٌّ كبير، قال تعالى:
﴿ يَٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرْضِى وَٰسِعَةٌ فَإِيَّٰىَ فَٱعْبُدُونِ(56)﴾
فأنت حينما تقرأ قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ ينبغي أن تشعر أنه لكرامتك عند الله وجّه الله لك الخطاب مباشرة، هناك آيات مثل: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ لأن أهل الكتاب معهم كتاب، وفي الكتاب إشارة واضحة إلى مجيء النبي عليه الصلاة والسلام، وكان أهل الكتاب فيما مضى يستفتحون بهذه البشارة على الذين آمنوا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا، هذا النبي الذي في كتابهم جاء حقيقة فكفروا به كِبراً، وحسداً، وعدواناً، لأنهم بمراكز معينة، فلذلك أيها الإخوة، المنتفع من الباطل هذا قلّما يهتدي، أما المقتنع بالباطل فكثيراً ما يهتدي، فالإنسان المقتنع بالباطل جاءه دليل لم يكن في علمه فخضع للحق، هذا قضيته سهلة جداً، أما المنتفع بالباطل فهو لا يدافع عن فكرة يعتنقها، بل يدافع عن مصلحة ينعم بها، من هنا لا تفكر أن تخاطب، أو تحاور غبياً، ولا قوياً، ولا منتفعاً، ليس هناك من جدوى أن تحاور منتفعاً بكفره، أو منتفعاً بنفاقه، الله عز وجل يقول: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ .
2 ـ الله يأمر نبيه أن يبلغهم هذه المقولة:
أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يبلغهم هذه المقولة.
النبيّ مبلِّغ عن ربه :
بالمناسبة يتضح من كلمة (قل) أنّ النبي مُبَلَّغ يُبَلِّغ عن الله، وقال تعالى:
﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَىَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ(9)﴾
ليس من شأن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحرك إلا بما يمليه عليه الوحي بدقة تامة، لأنه أمين وحي السماء، وأمانة الوحي تقتضي بأن يُبَلِّغ، قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَٰفِرِينَ(67)﴾
3 ـ الانحراف طريق للصد عن سبيل الله:
﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ سبحان الله! حينما ينحرف الإنسان دون أن يشعر بعقله الباطن بدوافع خفية ليست واضحة عنده يصد الناس عن سبيل الله، لأن المنحرف يحب أن يكون الناس جميعاً منحرفين مثله.
مثلاً: إنسان غير منضبط، وغير ملتزم، ولا يستقي علماً شرعياً من أي جهة، لو أن قريباً له التزم بمسجد، وتحسَّن سلوكه، واصطلح مع ربه ينهاه دون أن يشعر، يحذره، يذكر له أخطاراً موهومة، ليست موجودة، كأن يقول له: انتبه لمستقبلك، أي يخوّفه، حسناً أنت ما الذي يضيرك لو أنه اهتدى إلى الله؟ يحب أن يكون الناس جميعاً مثله، ما دام قد تفلَّت من منهج الله، وما دام قد آثر طريق الشهوة على طريق الحق، إذاً دون أن يشعر ببواعث خفية، بعقله الباطن يصرف الناس عن الحق، وهذا شأن أهل الكتاب، قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ﴾ .
4 ـ أهل الكتاب كفروا بمجيء النبي عليه الصلاة والسلام:
الآيات التي في كتابكم، والتي تُنبِئ بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم، وكنتم تستفتحون على الذين آمنوا، هذه الآيات التي في كتابكم لِمَ تكفرون بها؟ لِمَ لا تأخذونها؟
وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ
1 ـ الله لا يخفى عليه تخطيط الكافر:
﴿وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ﴾ من أجل أن تتذوق معنى هذه الآية تصور إنسانًا يخطط ضد نظام معين، وهو يتحرك هناك أجهزة تعلم كل حركاته، وسكناته، ولقاءاته، وزياراته، كلها مُسَجَّلة عليه، في الوقت الدقيق، بل إن كلامه كله مسجل، فهذا يظن أنه قد أفلح، لكن الله كما يقول: ﴿وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ﴾ كل حركات الكافر، وتخطيطاته، وسكناته، ومؤامراته على أهل الحق في علم الله عز وجل: ﴿وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ﴾ لكن في الوقت المناسب يظهر أنه كان غبياً، ولم يكن ذكياً، وأنا لم أرَ في حياتي أغبى من إنسان وقف ضد الحق، لأن الله هو الحق، من أنت حتى تقف في وجه الحق؟ من أنت حتى تكون في خندق معادٍ لخندق المسلمين؟ من أنت حتى تتمنى أن تطفئ نور الله؟
2 ـ من الشقاء والغباء والحمق الوقوف في وجه الحق:
والله أيها الإخوة، وإن كان هذا المثل يدعو للعجب؛ لو رأيت إنساناً هنا في الشام يتجه نحو أشعة الشمس الساطعة، وينفخ فيها كي يطفئها، بماذا تحكم على عقله؟ أشعة الشمس لا يمكن أن يطفئها إنسان بنفخة من فمه، فكيف بنور الله؟ قال تعالى:
﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ(8)﴾
لذلك ليس هناك أشقى وليس هناك أشد حمقاً من الذي يريد أن يطفئ نور الله، أو أن يقف في وجه الحق، وهناك كلمات أقولها دائماً: الكلاب تعوي، والقافلة تسير، وما ضَرَّ السحاب نبح الكلاب، ولو تحول الناس إلى كنّاسين ليُثيروا الغبار على الإسلام ما أثاروه إلا على أنفسهم، ويبقى الإسلام هو الإسلام، وما ضرّ البحر أن ألقى فيه غلام بحجر، فهؤلاء الذين عارضوا النبي الكريم، وائتمروا على أصحابه، وضيَّقوا عليه، وأخرجوه من دياره، ونكَّلوا بأتباعه، كيف كان مصيرهم في حياة النبي؟ كانوا قتلى في ساحة المعركة، حينها خاطبهم النبي واحِداً واحداً، وقَالَ:
(( يَا فُلانُ، يَا فُلانُ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ حَقًّا، فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي اللَّهُ حَقًّا، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُكَلِّمُ قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا؟ قَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا. ))
فليس هناك إنسان على وجه الأرض يُعَدُّ أكثر غباءً، ولا أكثر حمقاً، ولا أكثر شقاءً من الذي يريد أن يطفئ نور الله، طبعاً هذا يظهر بشكل حاد عند بعض الناس الأقوياء، ولكن يظهر بشكل مخفف عند معظم الناس، فبمجرد أن أحد أقربائه، أو ابنه، أو قريبه، أو ابن أخيه التزم، وطبق منهج الله عز وجل، وحافظ على صلواته، وغض بصره، وأبى الاختلاط، وأبى كل حفل مشترك يُقام عليه النكير، هؤلاء الذين يقيمون على شاب مستقيم النكير هم يصدون عن سبيل الله، بشكل مخفف، هم لا ينكرون الحق، لكن ينكرون الالتزام به، يقولون: من يستطيع أن يستقيم هذه الأيام؟ هذا الدين ليس لهذه الأيام، هذا الدين لزمن سابق، هكذا يوهم نفسه، إذاً الله جل جلاله يقول: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ﴾ معكم آيات في كتابكم، فكفروا بها، قال تعالى:
﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ(14)﴾
هناك حقيقة دقيقة، وهي أن الإنسان حينما ينقطع عن الله يصبح أعمى لا يرى، قال تعالى:
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى ٱلْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ (46)﴾
في ساعة الغفلة، وساعة الانغماس باللذة يغيب الإنسان عن الحقائق، ويحاول أن يطفئ نور الله بشكل أو بآخر، أو يصد عن سبيل الله، أي يشكّك بأية جهة دينية، لا أحد جيد، لأنه جالَ كل الدعوات في العالم، واكتشف أنها كلها دعوات كاذبة غير صادقة، إذاً: أنت لا تلتزم، دع غيرك يلتزم، لكن لا يسمح بذلك.
أنا لا أذكر هذا الكلام إلا من معاناة، فتجد بعض المسلمين أَلِفوا المعصية، أَلِفوا الاختلاط، أَلِفوا التبذل، أَلِفوا أجهزة اللهو، أَلِفوا كل شيء يبعدهم عن الحق، وهم يصلون مع ذلك، فإذا التزم واحد منهم من أقربائهم يُقام عليه النكير، وكأن هذا العمل صدّ عن سبيل الله، قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ تَبۡغُونَهَا عِوَجًا﴾ .
مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا
الشيء المادي إذا كان مِعوجّاً نقول: فيه عَوج، العَوج بالفتح، الاعوجاج في شيء، في غصن، في قطعة خشب، في قطعة حديد، الاعوجاج في جسم مادي يُقال له: عَوج، بفتح العين، أما في الأمور المعنوية، والأمور الاعتقادية، والأمور القِيمية، الانحراف يسمى عِوجًا، قال تعالى: ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾
2 ـ هذا الفهم نوع من العوج:
وهو دين واضح، لكن هو يريد أن يقول: إن أمة محمد مرحومة، لن تُعَذَّب، ويفهم بعض الأحاديث فهماً ساذجاً، كقوله صلى الله عليه سلم:
(( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. ))
إذاً: عليك بالكبيرة كي تنالك شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام، هو يريد أن يغير منهج الله، يريد أن لا يعبأ بالآيات التي تؤكد عدل الله التام، لا يعجبه أن يقول النبي الكريم:
(( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. ))
(( وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ))
يعجبه حديث آخر، فتعجبه الأحاديث الموضوعة، وهي كثيرة، كقولهم: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، لا تُكَلِّفه إلا خمس كلمات، هذا الحديث يُعجَب به، يريد الشيء الخفيف، حتى إنّ الناس حينما يتَّبعون ديانات وضعية من صنع البشر تجد خمسمائة مليون يتبعون ديانة في شرق آسيا، ما هذا الإقبال على هذه الديانة؟ لأنه لا تكليف فيها، فيها ولاء فقط، بينما منهج الله عز وجل فيه تكليف، بأمر تكليفي.
القرآن والسنة تولّى الله حفظَهما:
بالمناسبة أتباع الأديان السابقين كلَّفهم الله أن يحفظوا كتابه، والأمر التكليفي يُعصى، فما حَفِظوه، بل أضافوا، وبدلوا، وغيَّروا، وحذفوا، لكنّ القرآن الكريم حفِظَه الله بأمر تكويني لا بأمر تكليفي، أي تولى الله بذاته العلية حفظ كتابه، فالقرآن الكريم كما نزل في عهد النبي، وكما كُتب في مُصحف عثمان، وليس في الأديان كلها كتاب يمضي على نزوله أربعة عشر قرناً دون أن يتغير فيه حرف واحد، وهذه من نِعَم الله العظمى، أنّ قرآننا وهو المصدر الأول لهذا الدين محفوظ بحفظ الله مباشرة، لذلك مئات الألوف، بل عشرات مئات الألوف يحفظون كتاب الله كله عن ظهر قلب، فالقرآن الكريم محفوظ في الصدور، ومَتْلُوٌ في العالَم الإسلامي، ومحفوظ في المصاحف، أي يُتلى ويُحفظ، ويُكتب كما نزل، لأن هذا الحفظ تمّ بأمر تكويني، قال تعالى:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)﴾
والعلماء يقولون: إن حفظ القرآن الكريم من لوازمه حفظ سنة النبي عليه الصلاة والسلام، لأنها مُبيِّنة، فلا معنى أن تحفظ البيان دون التبيين، وقد أكد الله هذا المعنى بقوله:
﴿ بِٱلْبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
إذاً: سُنة النبي مُبينة، فلا معنى أن تحفظ الأصل، ولا يُحفَظ التبيين فمن لوازم حفظ الله لكتابه أنّ سنته سنة النبي محفوظة بحفظ الله، لذلك هيّأ لها رجالاً أعلاماً جهدوا، وبذلوا جهداً لا يوصَف في حفظ السُنة، واستنباط الصحيح من الضعيف والموضوع.
قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ*قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ تَبۡغُونَهَا عِوَجًا﴾ المشكلة أنّ إنساناً ربما لا يؤمن، ولكن يصُّد كل مؤمن عن أن يؤمن، أنت لم تؤمن، لِمَ تصدُّ المؤمنين؟ أنت لم تلتزم، لِمَ تنهى الملتزمين؟ أنت لم تلتحق بمسجد، فلِمَ تنهى الناس أن يلتحقوا بالمساجد؟ هكذا، الإنسان يحب أن يوَسِّع العدد الذي يشبهه، أما الكتب السماوية السابقة فلم تُحفَظ بأمر تكويني، بل حُفِظت بأمر تكليفي، لذلك لم تُحفَظ.
الأمر التكليفي والأمر التكويني:
إنّ كل أمر تكليفي قد يُطاع، وقد يُعصى، أوضح لكم معنى الأمر التكويني والأمر التكليفي؛ الأمر التكليفي كلوحة فيها: ممنوع المرور، الطريق مفتوح، وسالك، لكن هذا الطريق ممنوع أن تأتيه من اتجاه آخر، لو أنّ إنسانا خالَف، بإمكانه أن يُخالِف، لكن هناك مسؤولية، هناك مخالفة، هناك جزاء، لكن الأمر التكويني هناك مكعبات إسمنت مُسلَّح على عرض الطريق لا تستطيع أن تخترق هذه المكعبات، فأنت بين أمر تكليفي وأمر تكويني، سيدنا موسى مع الخَضِر، سيدنا موسى يعلم الأمر التكليفي، أما سيدنا الخضر فيعلم الأمر التكويني، لِمَ خرق السفينة؟ قال تعالى:
﴿ أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَٰكِينَ يَعْمَلُونَ فِى ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)﴾
فخرقُ السفينة، وقتلُ الغلام، وبناءُ الجدار هذه أفعال الله، أي أعطاه سر أفعاله، فهو يعلم حكمة الأمر التكويني، بينما سيدنا موسى عليه السلام يعلم الأمر التكليفي، لذلك حينما خرق السفينة اعترض عليه، هذا خلاف الأمر التكليفي، وعندما قتل الغلام اعترض، وعندما بنى الجدار بلا أجر اعترض أيضاً، فلما عرف حكمة الأمر التكليفي استسلم، فالأمر التكليفي قد يُعصى، لكنّ الأمر التكويني لا يمكن أن يُعصى لأنه فعل الله، ذاك أمره، وهذا فعله، فالكتب السابقة حُفظت بأمر تكليفي، مثلاً عندما قال الله عز وجل:
﴿ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلًاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ (97)﴾
هذا أمر تكليفي، والدليل قد تنشأ فتنة في بيت الله الحرام، وقد يموت أناس كثيرون، أي أنّ الله عز وجل كلَّفنا أن نجعل هذا البيت آمناً، ولما قال:
﴿ ٱلْخَبِيثَٰتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَٰتِ ۖ وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَٰتِ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(26)﴾
هذا أمر تكليفي، فقد تجد امرأة طيبة مع إنسان شرير، وقد تجد إنساناً طيباً مع امرأة شريرة، فهل هذا نقض للأمر، لا، لأنّ الأمر تكليفي، الأمر التكليفي قد يُعصى، أما الأمر التكويني فلا يمكن أن يُبَدَّل، لأنه فعل الله عز وجل، فالقرآن الكريم محفوظ بأمرٍ تكويني من قِبَل الله مباشرة.
أيها الإخوة، أطلَعني أخ على صفحة من موقع معلوماتي تُقلِّد القرآن الكريم، وتوهم الناس أنها من القرآن الكريم، والله الذي لا إله إلا هو لو عرضنا هذه السورة المزوّرة من كتاب الله على طفل في الخامس الابتدائي لضحك ملءَ فِيْه سخرية منها –سبحان الله- وأيّ مسلم يشعر أنّ هذا الذي بين أيدينا هو كلام الله، وما سواه كلام مُفتَعل، لذلك قد تجري بعض المحاولات لتحريفه.
بالمناسبة حينما أقول: تولى الله بأمر تكويني حفظ هذا الكتاب، ليس معنى هذا أنه لا تجري محاولة لتبديله، ولكنها لا تنجح أبداً، يمكن أن تجري محاولات ومحاولات، ولكنها لا تنجح أبداً، قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ*قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ تَبۡغُونَهَا عِوَجًا﴾ أي يريد استثناء، يريد رخصة، يريد تعطيل حكم، يريد ليّ النص لمصلحة ما، يريد أن يأكل الربا.
إذاً: معنى الآية عنده :
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضْعَٰفًا مُّضَٰعَفَةً ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(130)﴾
ليس هناك نهي عن ضعف واحد، هذا التفسير يرتاح له، فكلما قرأ آية يريد أن يصرفها عن قصدها الحقيقي، سمى العلماء هذا العمل لَيَّ عنق النصوص.
وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
﴿وَأَنتُمۡ شُهَدَآءُۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ﴾
هذه كلمات تهديد، قوله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ﴾ هذا تهديد.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ﴾ هذا تهديد.
الآن قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَرُدُّوكُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ كَٰفِرِينَ (100) وَكَيۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسۡتَقِيمٍ (101)﴾
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ
تروي بعض كتب التفسير أن لهذه الآية سبب النزول، هي قصة جرت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بين الأوس والخزرج، كلكم يعلم أنّ هاتين القبيلتين كان بينهما صراع عنيف قبل الإسلام، وهذا شأن البشر جميعاً، البشر حينما يبتعدون عن منهج الله عز وجل تُلقَى بينهم العداوة والبغضاء قال تعالى:
﴿ وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذْنَا مِيثَٰقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ(14)﴾
2 ـ اليهود غاظهم اتفاق الأوس مع الخزرج بعد العداوة:
كان بين هاتين القبيلتين عداوات، وخصومات، وحروب، وقتلى، وشعر، وهجاء، وما إلى ذلك، فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام ائتلف الأوس مع الخزرج، وأحبَّ بعضهم بعضاً، من الذي اغتاظ؟ بعض أهل الكتاب من اليهود، غاظهم هذه الأُلفة التي لم تكن من قبل بين الأوس والخزرج، غاظهم هذا الحب، وهذا الوِفاق.
مرة سيدنا الصدِّيق جاءه طلب معين أراد أن يأخذ رأي عمر رضي الله عنه، فأحال صاحب الطلب إلى عمر، سيدنا عمر رفض أن يُنَفَّذ هذا الطلب، فامتلأ صاحب الطلب غيظاً، فعاد إلى سيدنا الصدِّيق ليثير حفيظته، قال له: الخليفة أنت أم هو؟ يبدو أنه هو، قال له: "هو إذا شاء" ، لا مشكلة، أي بين المؤمنين من الود، والتعاون، والتفاهم الشيء الكثير، دائماً الطرف الآخر البعيد عن الله يريد أن يُوقع بين المؤمنين، ولا يُسعده أن يرى أخوين متفاهمين، فيثير حفيظتهما.
مثلاً: يرى أخوين متفاهمين فيقول لأحدهما: هل تتقاسمون أرباحكم مناصفة؟ فيقول له: نعم، فيقول لك: والله أخوك يظلمك، لأنه كما يبدو فهو لا يداوم، كانوا مرتاحين، ومتفاهمين، ومتعاونين، وهو يريد أن يُفرِّق بينهما، هذا فعل الشيطان، يفرق بين المرء وزوجه، وبين الأخ وأخيه، وبين الجار وجاره، وبين الشريك وشريكه.
2 ـ سعي اليهود للوقوع بين الأوس والخزرج:
فبعض أهل الكتاب من اليهود غاظهم هذا الود، والحب، واللقاء بين الأوس والخزرج بعد مجيء النبي، فأحدهم اسمه "شاس"، دفع غلاماً ليقول قصيدة أُلقيت في الجاهلية في هجاء أحد الطرفين، فهذا الغلام وقف في مجمعهم، وألقى هذه القصيدة، طبعاً ذَكَّرَتْهم بالعداوات السابقة، والشعر الجاهلي هو شعر جاهلي حقيقة، لأنّ فيه فخرًا، وكذبًا، وهجاءً، وافتراءً، وكل قيم الشعر الجاهلي عدا بعض القيم من ذكر الشجاعة والكرم، عدا هاتين القيمتين فهو شعر جاهلي، فهذا الغلام ألقى هذه القصيدة على مسمعٍ من الطرفين، فبعض ضعاف الإيمان منهم ثارت حفيظتهم، فذكروا القصيدة الأخرى المقابلة، ومن قصيدة لقصيدة تلاسنوا وتشاتموا، وسحبوا سيوفهم، وكادت تقع فتنة، والنبي بين ظهرانيهم، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام، ووقف بينهم، وقرَّعهم، وذكَّرهم بإيمانهم، أي: أتفعلون هذا، وأنا بين أظهركم! بعد أن نجّاكم الله من الجاهلية ومن العداوة والبغضاء، ومن الحقد، ومن هذه الأمور الجاهلية، ثم تفعلون هذا؟ مباشرة قَبَّل بعضهم بعضاً، وبكوا بكاءً شديداً، وندموا على فعلتهم، فأنزل الله عز وجل قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَرُدُّوكُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ كَٰفِرِينَ﴾ .
3 ـ لا تسمح للطرف الآخر أن يوقع العداوة بين المسلمين:
لذلك أيها الإخوة أنت كونك مؤمن، وأي مؤمن آخر بأيّ مسجد آخر نحن جميعاً طرف واحد أمام الطرف الآخر، فإذا كنت حريصاً على دينك فلا تسمح لإنسان من الطرف الآخر أن يتهجم على مؤمن، ولو لم يكن من أتباعك، نحن جميعاً في قارب واحد، نحن جميعاً طرف واحد.
أذكر أنّ أحد العلماء في مصر اجتهد اجتهاداً، ولعله جانَبَ فيه الصواب، فقام الطرف الثاني، أي؛ الذي يُنكر الأديان كلها فهاجمه هجوماً عنيفاً، ولأول مرة يقف جميع العلماء صفاً واحداً أمام هذا الطرف المُتجنّي، أي أنك لست أنت المقصود كمسلم، المقصود دينك.
أحياناً الطرف الآخر يهاجم فئة أو جماعة، المقصود ليس هذه الفئة، المقصود هو الإسلام، لذلك ينبغي أن تكون أنت واعياً جداً، لا تسمح للطرف الآخر أن ينال من المؤمنين، ولو لم يكونوا من أتباعك، ولو لم يلوذوا بك، الله عز وجل خاطب النبي بقوله:
﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ(215)﴾
[ سورة الشعراء ]
وقال:
﴿ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِۦٓ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
وازِن بين الآيتين، أنت مُكلَّف أن تخفض جناحك لكل مؤمن، أما كون هذا المؤمن يأتي إلى جامعك فهذا موضوع آخر، فإن الله عز وجل مُوَزِّع الدعوات على كل عباده شرائح شرائِح، فإذا كان الإنسان معجبًا بوالدته فليس معنى هذا أن إنساناً آخر ليس له أم، وله أم، وهو معجب بها، هذه الحقيقة الواقعة، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَرُدُّوكُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ كَٰفِرِينَ﴾ .
4 ـ احذروا الورقات الرابحة في أيدي الأعداء !!!
لو وسَّعنا هذا الموضوع، قصدُ أعداء الإسلام الأول إيقاع الفُرقة بين المسلمين، معهم أوراق رابحة كثيرة، يمكن أن يُمزقوا العالم الإسلامي شر ممزَّق بسبب جهل المسلمين، لو انتبه المسلمون، وكانوا على وعي وإخلاص لمْ يسمحوا لعدوٍّ للمسلمين أن يُفَرِّق بينهم، لكن ماذا يفعل المستعمرون من مئة عام؟ يعرفون بعض الحساسيات، وبعض أنواع الخلاف، هذه يخبئونها ورقة رابحة، فكلما أرادوا أن يُفَرِّقوا شمل المسلمين أظهروا إحدى هذه الورقات، عندهم قوائم كثيرة لما يثير الخلاف بين المسلمين، هذه الآية أساسية جداً في حياة المسلمين، يجب أن نكون واعين.
إخواننا الكرام، بادئ ذي بدء، الذين آمنوا بالله، واستقاموا على منهجه طرف واحد كلهم، على اختلاف مللهم، ونحلهم، والذين كفروا بالله، وأرادوا الدنيا طرف آخر، أنا أتمنى على الطرف الأول؛ أي المؤمنين ألا يسمح للطرف الآخر أن يدخل بينهم، يجب أن تدافع عن كل مؤمن، لأن الطرف الثاني لا يستهدف شخصاً بعينه، يستهدف دينك كله، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَرُدُّوكُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ كَٰفِرِينَ﴾ .
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ
ثم يقول الله عز وجل متعجباً بما يليق به:
﴿ وَكَيۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسۡتَقِيمٍ (101)﴾
1 ـ يرقى الاختلاف بين المؤمنين إلى مستوى الكفر:
ماذا سمى الاختلاف بين المؤمنين؟ سماه كفراً، أي كيف تكفر أي تختلف مع أخيك؟ هل يُعقل أن يرقى الاختلاف بين المؤمنين إلى مستوى الكفر؟ هذا المعنى تؤكده آيات أخرى، يقول الله عز وجل:
﴿ يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْأَنفَالِ ۖ قُلِ ٱلْأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ ۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(1)﴾
ويقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ. ))
فساد ذات البين حالقة للدين.
2 ـ التطبيق العملي لهذه الآية:
ما التطبيق العملي لهذه الآية؟ حاول أن تُصفِّي كل علاقة بينك وبين أخيك المؤمن، صفِّها، لا بمعنى أنهِها، وإنما بمعنى اجعلها صافية، حاول أن تصلح أية علاقة بينك وبين المؤمنين، حاول ألا يبقى في قلبك غلٌ، ولا حسد، ولا كِبر، ولا ضغينة على أي مؤمن، اذهب إليه، صارحه، اكشف قلبك له، إن كان الخطأ منك اعتذر منه، إن كان في قلبه ضغينة فأهدِ له هدية، حاوِل أن تصلح علاقتك مع الناس، وحاول أن تصلح العلاقة بين الناس، أصلِح علاقتك معهم، وأصلِح العلاقات فيما بينهم، هذا هو التطبيق العملي، يجب أن تعتقد أن الخلاف بين المؤمنين خطره كخطر الكفر، بل يُقَيَّم عند الله كفراً، والآية صريحة، قال تعالى: ﴿وَكَيۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسۡتَقِيمٍ﴾ كيف تكفرون، أي كيف تختلفون، أيُّ خلاف يزول بالحوار، حاوِر أخاك، اسأله، بيِّن له الدليل إن لم يقتنع فلا مشكلة، أي لو بقي الخلاف بأمور دقيقة قليلة فلا مشكلة أبداً، الخلاف في موضوع معين لا يُفسد وداً بين شخصين.
أنا لي وجهة نظر مقتنع بها، وأنت لك وجهة نظر، لكننا متفقون على أساسيات الدين، والأساسيات لا خلاف فيها، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى، هذه أساسيات.
أنا الذي أتمناه أحياناً أن يكون لكل درس تفسير تطبيق عملي، قم بمراجعة، هل في قلبي شيء تجاه أحد من إخوتي؟ أو هل من أخ في قلبه شيء تجاهي؟ اذهب إليه، واعتذر له، وفاتحه في الموضوع، وصارحه، إن كان الخطأ منك اعتذر، إن كان الخطأ منه سامحه، لكن ما أجملها أن يكون المؤمنون صفاً واحداً، فعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
(( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى. ))
ما أجملَ أن يكون المؤمنون كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضاً، ما أجمل ألا نسمح للطرف الآخر أن يدخل بيننا! وما أقبح أن يكون بأس المسلمين بينهم! والله الذي يدمى له القلب أني ذهبت إلى الشرق والغرب، وإلى بلاد بعيدة، الذي يُدمي القلب أن المسلمين في معظم بلاد العالم بأسهم بينهم، عداوات بين الجماعات الإسلامية، أحقاد بين الجماعات الإسلامية، كل جماعة تدَّعي أن الله لها وحدها، وأن الحق معها وحدها، وأن ما سواها انهيار، هذا اعتقاد سخيف جداً أيها الإخوة، ولعلها مصالح.
3 ـ الاختلاف قد يكون طبيعياً لنقص المعلومات:
ذكرت لكم من قبل أن الاختلاف قد يكون طبيعياً لنقص المعلومات، وأن الاختلاف قد يكون محموداً، اختلاف تنافس، فأنا أرى أن أفضل شيء الدعوة إلى الله، يأتي إنسان آخر فيرى أن أفضل شيء تأليف الكتب العلمية، جيد، كلانا له عند الله ثواب، إذا اختلف اجتهادنا في أي الأعمال أعظم، هذا خلاف محمود، وإذا كان هناك خلاف أساسه نقص المعلومات فصاحبه معذور.
4 ـ الاختلاف المذموم سببه الحسد والبغي والمصالح:
أما الخلاف القذِر فهو الخلاف بسبب الحقد، والحسد، والبغي، والمصالح، اختلاف المصالح والحسد، قال تعالى:
﴿ إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلْإِسْلَٰمُ ۗ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْيًۢا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ(19)﴾
بسبب البغي، أيها الإخوة الكرام، كونوا أنتم مُثُلاً عُليا، حاول أن تكون منفتحاً على كل المؤمنين، وما دام انتماؤك ليس لمجموع المؤمنين فلست مؤمناً، لقوله تعالى:
﴿ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(10)﴾
5 ـ عند الاختلاف نحتكم إلى شرع الله:
يقول الله عز وجل: كيف تختلفون، ومعكم منهج السماء، وفيكم رسول الله؟ كيف تختلفون؟ أي كيف تكفرون؟ بمعنى أعمق؛ اختلافنا يتناقض مع كتابنا الواحد، ومع إلهنا الواحد، ومع نبينا الواحد، إلهنا واحد، ونبينا واحد، وكتابنا واحد، فاختلافنا يتناقض مع هذه الوحدانية، قال تعالى: ﴿وَكَيۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمۡ رَسُولُهُ﴾ مرة حدثني أخ أعجبني موقفه؛ اختلف مع زوجته في موضوع، فقال: نحتكم لشرع الله، اتَّصلوا بعالِم، وسألوه فبَيَّنَ الحكم الشرعي، فانصاع الزوج والزوجة لهذا الحكم، فأي خلاف بين المؤمنين له جواب في الدين، فحينما أختلف مع أخي أحتكم إلى شرع الله عز وجل، انتهى الخلاف مادام معنا كتاب، ومعنا سنة، قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِى شَىْءٍۢ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(59)﴾
أيّ منازعة، في أي موضوع تُرَدّ إلى كتاب الله وسنة رسوله.
الملف مدقق