الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السادس والعشرين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية السادسة والتسعين، وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلۡعَٰلَمِينَ (96)﴾
إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلۡعَٰلَمِينَ
1 ـ البيت الحرام أول بيت للعبادة في الأرض :
أيها الإخوة، ذكرت في الدرس السابق أن الإنسان له كيان مادي، هو جسم له طول، وعرض، وارتفاع، وله حيِّز يشغله، وهو في الحياة الدنيا ذو كيان مادي، فالله سبحانه وتعالى مع كل مخلوق، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى ٱلْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(4)﴾
ولكن من أجل أن تشعر أنك فعلت شيئاً لله وضع الله بيتاً للناس، بل إن أول بيت وُضِع للعبادة في مكة المكرمة، ثم جدَّده سيدنا إبراهيم، لكن هذا أول البيت وُضِعَ في الأرض، في منطقة مكة، والآية الكريمة: ﴿بِبَكَّةَ﴾ أي بمكان البيت، مكة حرم، لكن بكّة مكان البيت، فمن دخله كان آمناً، فالله عز وجل اتخذ بيتاً في الأرض، ودعا الناس إليه ليشعر المسلم أنه ترك بيته، وأهله، وتجارته، وزوجته، وأولاده، ومكانته، وهيمنته، وجاء إلى بيت الله الحرام ملبياً، فالله عز وجل مقابل هذا التفرغ لتلبية ندائه، مقابل هذا الإيثار، إيثار تلبية ندائه على شؤونه الحياتية، هيَّأ له عطاءً خاصاً هناك.
2 ـ طبيعة منطقة مكة خالية من أسباب التمتع الحسية:
الحقيقة أن الله عز وجل اختار بيته في منطقة حارة، ليس فيها نبات، بالمواصفات الجمالية، ليس فيها مسحة من جمال إطلاقاً، بل فيها حر شديد، وفيها مناظر لا تريح العين، جبال جرداء قاسية، أرض ملتهبة، ومع ذلك فما من حاج يحج بيت الله الحرام إلا وتمنى أن يعود ثانية إلى هذا البيت بعد أن يعود إلى بلده، قال تعالى:
﴿ إِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَآ إِلَىٰٓ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ(125)﴾
فالمثابة مصدر ميمي من ثاب أي رجع، كل حاج حج بيت الله الحرام صادقاً دون أن يشعر يدعو، ويقول: اللهم لا تجعل هذا الحج آخر عهدي بالبيت، ارزقني حجاً متوالياً.
إن الله عز وجل ثبّت وسائل اللذة المادية، وحرك السعادة الروحية، لو أنه فرضاً في واد ذي زرع، في جبال جميلة، في جبال خضراء، في جبال مشرفة على بحار، الجو لطيف، الحج على مدار العام، لئلا يكون ثمة ازدحام، لو جعل الله وسائل اللذة المادية متوافرة في بلده الحرام، ثم اتخذ هذا البيت هناك في مكان جميل كسويسرا مثلاً، عندئذ يختلط السائح بالحاج، لا يدري هذا الذي يحج بيت الله الحرام، أكان سروره بسبب إقباله على الله، أم بسبب هذه المناظر الجميلة، وهذا النسيم العليل! فلحكمة أرادها الله كل أسباب اللذة الحسية منعدمة هناك، ازدحام، وحر، ومناظر قاسية، ومع ذلك تنهمر دموع الحاج، ويتجلى الله على قلبه، إلى درجة أنه يقول: كنت أعيش أسعد لحظات حياتي يوم عرفة.
إذاً: الله عز وجل تمشّياً مع كيان الإنسان المادي اتخذ لنفسه بيتاً في الأرض، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ .
3 ـ البيت الحرام بيت لناس جميعا :
الآن دقق ﴿لِلنَّاسِ﴾ ، الناس جميعاً؛ عربيّهم وأعجميهم، أسودهم وأبيضهم، غنيهم وفقيرهم، أصفرهم وأحمرهم، مطلوبون لهذا البيت، دين الله ينبغي أن يسعَ الناس جميعاً.
أضرب لكم مثلاً بسيطاً من الفقه، أضخم جامع في بلدنا الجامع الأموي، ويتسع أحياناً لمئة ألف مُصلٍ، خمسون ألفًا في الداخل، وخمسون ألفًا في الصحن، ولو كلفنا أمهر خطيب في بلدنا أن يلقي خطبة في هذا المسجد الجامع، ثم أغلقنا الأبواب، وأرتجناها، فالخطبة باطلة، لأن دين الله ينبغي أن يكون لكل الناس، ليس هناك في الدين شيء خاص بجماعة دون جماعة، هذا دين الله كالهواء نستنشقه جميعاً، إذاً: لا يمكن لإنسان أن يحتكره، ولا لفئة، ولا لجماعة، ولا لطائفة، ولا لمذهب، ولا لشعب، ولا لبلد، ولا لمصر أبداً، هو دين الله كالهواء ينبغي أن يستنشقه كل إنسان، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ فالأسود مطلوب، والأبيض مطلوب، والأصفر مطلوب، والأحمر مطلوب، والغني مطلوب، والفقير مطلوب، ومن كان في ذروة النسب مطلوب، ومن كان في حضيض النسب مطلوب.
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ هذا البيت، أنت قد تصلي في بيتك، وقد تصلي في دكانك، لكنك إذا صليت في الجامع فهذا المكان خُصِّص للصلاة، فالإنسان حينما يصلي الفجر في المسجد سيستمع إلى قراءة مُتقنة، وإلى سورة طويلة، وإلى ترتيبات في الصلاة ترتاح لها نفسه، لعله إذا صلى الفجر في البيت تكون صلاته أضعف من صلاته في المسجد.
في حجّ بيت الله الحرام يستوي فيه جميع الناس:
في الحج أمرك الله جل جلاله أن تترك بلدك، بيتك، زوجتك، أولادك، تجارتك، وظيفتك، مدير دائرة مثلاً، مدير مؤسسة، مركبتك، مكانتك، ثيابك العسكرية أحياناً، ثيابك المدنية الأنيقة جداً أحياناً، دع الدنيا وراء ظهرك، وتعال إلي، تعال يا عبدي كي تذوق طعم القرب مني، تعال يا عبدي كي أُرِيحك من هموم جاثمة على صدرك، تعال يا عبدي لترى ما عندي من الرحمة، كأن الله يدعوك إليه، من هذا الذي يستحق رحمة الله؟
هو الذي ضحى بدنياه من أجل هذا اللقاء، ضحى بأهله، وأولاده، ومكتبه، وزبائنه، ومكانته، ومركبته، وولائمه، وتوجه إلى بيت الله الحرام ليكون شخصاً لا يرفعه شيء، اسمه حال، ليس له أية قيمة هناك، واحد من ملايين، ولن يُسمَح لك أن ترتدي ثياباً غاليةً تُعَبِّر عن مرتبتك المالية، ولا أن ترتدي ثياباً خاصة تُعَبِّر بها عن مرتبتك العسكرية، ولا أن ترتدي ثياباً أخرى تُعَبِّر عن مرتبتك الملكية، ترتدي إزاراً وكساءً غير مخيطَين ولا محيطَين، فكأن الله أرادك أن تذهب إليه، وكأن الحج رحلة إلى الله، هذا في الأصل في كل الأديان، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ ذهب إنسان إلى الله ليصطلح معه، ليُعَاهده، ليتوب إليه، ليُقبِل عليه، ليجعل علاقته بالله طيبة، ليصطلح معه، ليكون بينه وبين الله مودة، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ أي أن الله قد اتخذ لنفسه بيتاً في الأرض، وقال: تعالوا إلي، فالذي جاءه ماذا يقول؟ يقول: لبيك اللهم لبيك، يا رب، أنا أجبت نداءك، وأتيت بيتك الحرام طائعاً، تائباً، منيباً، ملبياً، مكبراً، خاضعاً، محباً، مشتاقاً، مخلصاً، فالله عز وجل نظير هذه التضحية، وهذا الإيثار يتجلى عليك تجلياً في الحج لا يعرفه إلا من ذاقه، يشعر الحاج وكأنه وُلِد من بطن أمه لتوه، كل شيء مضى غفره الله له، ومن وقف في عرفات فلم يغلب على ظنه أن الله غفر له فلا حج له، عاد كيوم ولدته أمه.
أنا أستخدم مصطلحات إسلامية، لكن هذا البيت قديم، قديم قدم البشر، أي ما من إنسان إلا وجُعِل هذا البيت له، لأن البشر مدعوون جميعاً إلى معرفة الله وطاعته.
لمجرد إرادة الظلم في بيت الله الحرام يعاقب عليه:
لكن العلماء تحفظوا قالوا: ليس أول بيت بُنِي في الأرض، بل إنه أول بيت بُنِي لعبادة الله عز وجل، لذلك بيت الله الحرام يتميز بخصائص كثيرة، أنه من أراد إيذاءه يُحاسَب على إرادته، وأصلاً الإنسان لا يُحاسَب إلا على عمله، لا على إرادته، لكن الله عز وجل يقول:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِى جَعَلْنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ ۚ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍۢ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍۢ (25)﴾
لمجرد أن تريد إيذاء هذا البيت، وكم من جهة مشبوهة أرادت إحداث فتنة في الحج، وكُشِفت فتنتها، وخطتها مبكراً من دون جهد من بشر، هذا الشيء ثابت هناك، يقولون: أمنُ الحجيج على الله، وهناك محاولات كثيرة جداً أرادت أن تخلق فتنة في أثناء الحج، لكنها لم تفلح، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ بكة موضع البيت، ومكة المدينة، الحرم.
4 ـ بيت الله الحرام مبارَك:
قال: ﴿مُبَارَكًا﴾ إله العالمين يقول: ﴿مُبَارَكًا﴾ .
بالمناسبة أيها الإخوة، نحن حسب كياننا المادي نرى العطاء بيتًا، دخلاً، مركبة، أسهمًا بشركة، صحة طيبة، لكن الله عز وجل عنده عطاء، لا يقدر بثمن، أن تكون آمناً في سربك، أن تكون مطمئناً إلى عدالة ربك، أن يكون قلبك مفعماً بمحبة الله عز وجل، وفي قلب المؤمن من الأحوال الطيبة ما لو وُزِّعت على أهل بلد لكفتهم، معك الحكمة، معك الأمن، معك الرضا، معك الإحساس بأن المستقبل لصالحك، قال تعالى:
﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ(51)﴾
5 ـ السكينة والرضا يجدهما الحاجّ في مكة:
لنا، لا علينا، هذا الشعور ليس له ثمن، المستقبل معك، مضي الأيام لصالحك، تقدمك في السن لصالحك، قلبك مفعم بالرضا، راضِ عن الله، قلبك مفعم بالسعادة، قلبك مفعم بالأمن، عطاء الله وإن كان في الظاهر غير منظور، لكن الله عز وجل قادر أن يعطيك الدنيا بحذافيرها ويشقيك، وقادر أن يحرمك الدنيا كلها، ويسعدك، وكم من إنسان قابع في بيت صغير ضيق لا يرى النور، وكأن هذا البيت جنة من جنان الله في الأرض، وكم من إنسان يقبع في بيت ثمنه ملايين كثيرة، فيه من كل صفات البيت الراقي، وهذا البيت قطعة من الجحيم، هذه السَكِينَة هي محيرة حقيقة، يمنحها الله لإنسان، ويحرمه الدنيا فإذا هو أسعد الناس، يحرمها الله لإنسان ويعطيه الدنيا فإذا هو أشقى الناس، ويحرمه الدنيا، ويعطيه السكينة، فإذا هو أسعد الناس، هذا معنى قول الله عز وجل:
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(103)﴾
هذا الشيء المحير أن أصحاب رسول الله، كانوا في حياة خشنة؛ صحراء ليس هناك مركبات، أو تكييف، أو اتصالات، كل هذه الوسائل التي معنا لم يعرفوها، ولكن وصلوا إلى الله، ونحن مع كل هذه الوسائل لم نصل إلى الله، هم في سعادة ما بعدها سعادة، ونحن في جفاء، وفي بعد، وفي شقاء، ومعنا وسائل الدنيا بأكملها، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ لو أن الإنسان زار بيت الله الحرام، أولاً تُمحا ذنوبه السابقة، وعاد كيوم ولدته أمه، يُمنَح ما يسمى بالسكينة، يُمنح ما يسمى بالسعادة، بالأمن، يُمنَح صفات يسعد بها إلى أمد طويل، قال تعالى: ﴿وَهُدًى لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ الأزمة أزمة علم، أهل النار في النار ماذا يقولون؟
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(10)﴾
أزمة علم، لأن كل إنسان يتمنى السلامة والسعادة، ولو عرف أن السلامة والسعادة في طاعة الله لأطاع الله، لكنه يجهل، والجهل أعدى أعداء الإسلام، ويفعل الجاهل بنفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به.
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ
وقال تعالى:
﴿ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلًاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ (97)﴾
وقال: ﴿وَهُدًى لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ الدعوة عالمية، الإسلام لكل الخلق، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ وقال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ ﴾
وقوله تعالى: ﴿فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٌ﴾ .
من هذه الآيات البينات مقام إبراهيم.
1 ـ موضع قيامه لبناء البيت:
بعضهم يقول: إن إبراهيم حينما جدد بناء البيت وقف على حجر، فكان هذا الحجر يعلو بحسب الحاجة، ويهبط بحسب الحاجة، وهذا من آيات الله، هذه آية حسية.
لكن بعضهم قال: مقام إبراهيم، مقامه في الدعوة إلى الله، دعا إلى التوحيد، دعا إلى طاعة الله، دعا إلى محبة الله، كان عابداً من الطراز الأول، قال تعالى:
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْىَ قَالَ يَٰبُنَىَّ إِنِّىٓ أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنِّىٓ أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِىٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ(102)﴾
لعل ما من موقف تظهر فيه العبودية صارخة كهذا الموقف، طبعاً هناك أوامر كثيرة ننتهي عنها لقناعتنا أنها تؤذينا، لكن أن يقال لنبي كريم: اذبح ابنك النبي، يقول: ﴿قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ فمقام إبراهيم أولاً توحيده، قال تعالى:
﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّى ۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَآ أُحِبُّ ٱلْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَءَا ٱلْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّى ۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّآلِّينَ (77) فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّى هَٰذَآ أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يَٰقَوْمِ إِنِّى بَرِىٓءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ(78)﴾
ثم قال:
﴿ فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّى هَٰذَآ أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يَٰقَوْمِ إِنِّى بَرِىٓءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ(78)إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ(79)﴾
هذا هو التوحيد، مقام إبراهيم مقام التوحيد، مقام إبراهيم مقام العبودية.
التوحيد أعلى مقامٍ على وجه الأرض:
إن أعظم مقامين في بني البشر أن تكون موحداً، وعابداً، إبراهيم قدوة لنا، هذا النبي الكريم، أول مقام من مقاماته أنه كان موحداً، حينما رأى قومه يعبدون أصناماً من دون الله، كسّرها ووضع الفأس في عنق أكبرها، قال تعالى:
﴿ قَالُواْ مَن فَعَلَ هَٰذَا بِـَٔالِهَتِنَآ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ(59)﴾
قال:
﴿ قَالَ بَلْ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَسْـَٔلُوهُمْ إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ(63)﴾
فرجعوا إلى أنفسهم، نعبد أصناماً من دون الله! نعبد أحجاراً لا تنطق! فكان موحداً حارب الشرك، وحارب الوثنية، وحارب عبادة الأصنام، وهل من مقام أعلى من هذا المقام؟ وما الذي يهلك البشرية اليوم؟ الشرك، فالناس يعبد بعضهم بعضاً من دون الله، فهذا من الانحراف عند أتباع الديانات، قال تعالى:
﴿ ٱتَّخَذُوٓاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَٰنَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعْبُدُوٓاْ إِلَٰهًا وَٰحِدًا ۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَٰنَهُۥ عَمَّا يُشْرِكُونَ(31)﴾
والانحراف عند أهل غير الديانات عبدوا الحجر، والوثن، والشمس، والقمر، ماذا فعل إبراهيم عليه السلام؟ ما هو أول مقام من مقامات هذا النبي الكريم؟ أنه حارب الشرك، وحارب الوثنية، وحارب عبادة الأصنام، وهذا المقام مستمر، فينبغي أن تستمر أنت في محاربة كل شرك خفي، أو جلي، وكل عبادة من دون الله، والإنسان وهو لا يشعر قد يعبد صديقه، لأن له مركز قوي، ومعه رقم هاتفه، وقال له: في أية لحظة اتصل بي، وأنا أُري خصمك نجوم الظهر، مثلاً، فلديه بطاقة، ولديه هاتف، هذا شرك، اعتمد على إنسان، ولم يعتمد على الله، ابنه بدرجة عالية من المرض فعالجه طبيب، ونسي الله، وأثنى على الطبيب، مع أن الثناء على الطبيب واجب، لحديث أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ ))
لكن يجب أن تشكر الطبيب، وتعتقد أن الله سمح بالشفاء، ألهمَ الطبيب صحة التشخيص، ثم ألهم الطبيب الدواء الناجع، ثم سمح للدواء أن يفعل فعله، هذا هو الإيمان، فأول مقام من مقامات سيدنا إبراهيم أنه حارب الشرك، حارب الوثنية، حارب عبادة الأصنام، وهذا المقام ينبغي أن يكون في كل مسلم، لا تعتمد على أحد اعتماد التأليه، اعتمد على الله، من اعتمد على ماله ذلّ، من اعتمد على قدرته ضلّ، لكنه من اعتمد على الله لا ذلّ ولا ضلّ، مقام إبراهيم ينبغي أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وينبغي أن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، أول مقام من مقامات سيدنا إبراهيم أنه حارب عبادة الأصنام.
المقام الثاني: دعا إلى عبادة الواحد الديان، وقال: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾
3 ـ مقام الانصياع لأمر الله:
المقام الثالث: انصاع لأمر الله إلى درجة لا تصدق، بربكم لو أن أباً صالحاً قال لابنه: يا بني إني سأذبحك، ماذا يقول ابنه له؟ يقول: أبي قد جَنّ، ما هذا الانصياع الذي لا يصدق لأمر الله! ﴿قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ .
المقام الرابع: التوكل، نحن بحسب أُفقنا، إذا أردت أن تسافر تهيّئ كل الأسباب، وكل الحاجات قبل أن تسافر، من طعام، وشراب، ومال، وكل شيء مؤمَّن، اتصالات، وهاتف، وفلان توصيه، ومع كل هذه الأسباب تقول: توكلت على الله، أما سيدنا إبراهيم فقد أمر أن يضع زوجته وابنه في أرض قاحلة.
(( ... وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا.))
من يستطيع أن يضع ابنه وزوجته في صحراء، ويتركهم ويمشي، طبعاً هناك ثقة بالله تفوق حد الخيال، سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام يجلس في غار حراء الأيام المتتالية، مكان مخيف، والصعود إليه يحتاج إلى ساعتين أو أكثر، بجهد شاق فكم كان أُنسه بالله؟ حتى إن أنسه بالله غلب على وحشة المكان.
أنت لا تستطيع أن تسير ليلاً بمفردك، لو نمت في البيت لوحدك، وسمعت صوتاً تستيقظ مذعوراً، أي حركة عفوية تظنها لصاً، كم كان أُنْسُ النبي بالله، وهو في غار حراء، حتى غلب أنسه بالله على وحشة المكان؟ وكم كانت ثقة هذا النبي الكريم بالله كبيرة، حينما أُمِر أن يدع زوجته وابنه في مكان لا طعام فيه ولا شراب، (فَقَالَتْ لَهُ: أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا) هذا مقام سيدنا إبراهيم، حارب الشرك والوثنية، ودعا إلى التوحيد، وكان عبداً من الطراز الأول، وكان متوكلاً من الطراز الأول، هذا مقام إبراهيم، وهناك مقام حسي؛ أنّ الله سخَّر له هذا الحجر يعلو، ويخفض بحسب حاجته للبناء.
قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلۡعَٰلَمِينَ*فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ﴾ أي من هذه الآيات البينات مقام إبراهيم.
وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا
1 ـ الأمن مطلب كل إنسانٍ:
وقال: ﴿وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًاۗ﴾ مُنيباً لله، مخلصاً له، ملبياً لدعوته، لا يبتغي سمعة ولا ثناء، إنما يبتغي رضوان الله عز وجل، لا شك أن الله سيغفر له، ولا شك أن الله سيرحمه، ولا شك أن الله سيطمئنه إلى مستقبله في الدنيا، ومستقبله في الآخرة، هذا هو الأمن، كل إنسان إن كان عنده وسائل الأمن؛ عنده دخل ثابت، له مأوى يؤوي إليه، له زوجة وأولاد، عنده وسائل الحياة الأساسية، ينام قرير العين، أما لو فرضنا إنسانًا سُرِّح من وظيفته، بقي بلا دخل، يقول لك: لم أنم الليل، ولو ظهر لشخص في التحليل شيء مخيف لا ينام الليل، ما معنى الأمن؟ يعني أنّ الله عز وجل أعطاك أسباب الراحة النفسية، أعطاك شعورًا أنك ناجٍ من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، أعطاك إحساسًا أنّ الله معك، ولن يتخلى عنك، هذا معنى: ﴿وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًاۗ﴾ إذا اصطلح الإنسان مع الله، وعاهده على الطاعة، جعل همومه كلها هماً واحداً.
(( من جعل الهمومَ همًا واحدًا همَّ آخرتِه؛ كفاه اللهُ همَّ دنياه ))
(( اعمل لوجهٍ واحدٍ يكفك الوجوه كلها. ))
إذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان عليك فمن معك؟ قال: ﴿وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًاۗ﴾
هل هناك نعمة أغلى من الأمن في الحياة الدنيا؟ أنا أسميه أمن الإيمان، هناك أمن المال، قد يكون مع الإنسان ملايين كثيرة، وضع في كل بلد بأوروبا مبلغاً ضخماً في البنك، لذلك ليس لديه مشكلة مالية أبداً، فهذا آمن من جهة المال، إنسان آمنٌ من جهة مركزه في وظيفته، فهو قوي جداً،لا يخشى منافساً إطلاقاً، نظّم الأمور تنظيماً دقيقاً حيث لم يبق له منافس، ينام قرير العين، هذا أمن السلطان، وهناك أمن المال، أحدهم أجرى تحليلاً، وكان كله نظاميًا، وفي الحدود الدنيا، عنده أمن الصحة، لكن الأمن الذي يمنحه الله للإنسان يفوق أمن المال، وأمن الصحة، وأمن السلطان، أمن مستمر إلى يوم القيامة، قال تعالى:
﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ(51)﴾
وقال:
﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّآ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍۢ مِّنْ عِندِهِۦٓ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوٓاْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ(52)﴾
لو استُشهدنا في الحرب فإلى جنة الله، ولو انتصرنا كسبنا عز الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًاۗ﴾ بالمعنى الأول: الأمن أساسه أن تسلمَ نفسك من كل مُنَغِّص، من كل خوف، من كل قلق، من كل هم، من كل حَزن، من كل توقع لشيء مخيف.
3 ـ سيف المصائب مسلَّط على رقبة الإنسان:
والله أيها الإخوة، لو شققت على صدر إنسان بعيد عن الله لرأيت قلبه مفعماً بالمخاوف، يشعر أن مائة سيف مسلطة عليه، أحدها سيف المرض، سيف الفقر، سيف عقوق الولد، سيف خيانة الزوجة مثلاً، أحد المفكرين الأجانب قال: لا تشككوا في وجود الله، اتقوا الله، لولا الله لخانتك زوجتك، ولولا الله لعَقَّك ابنك، لولا الله لسرقك خادمك، الإيمان بالله نعمة كبيرة، علقت مرة على هذا الكلام؛ أن الله عز وجل أمرك أن تكون صادقاً، وغاب عنك أنه أمر مليار مسلم أن يصدقوا معك، أمرك أن تكون أميناً، وأمر مليارَ مسلمٍ أن يكونوا أمناء معك، وأمرك أن تكون عفيفاً، وأمر مليار مسلم أن يعفّوا عن محارمك، نعمة الإيمان لا تعدلها نعمة، قال تعالى: ﴿وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًاۗ﴾ لذلك هؤلاء الذين يطلبون العلم في بيوت الله، ويتلقون شيئاً عن الله عز وجل، وعن آياته الكونية، والقرآنية والتكوينية، هؤلاء عندهم توازن نفسي، عندهم تصوّر صحيح، الأيام لا تقلقهم، ومضي عمرهم لا يقلقهم، أما لو شققت على قلب إنسان شارد عن الله لرأيتَ المخاوف، والأحزان، والقلق، والسأم، والضجر، هذه هي المعيشة الضنك، قال تعالى:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا(124)﴾
وهذا معنى قول الله عز وجل:
﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ (28)﴾
اذكر الله يطمئن قلبك.
4 ـ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا: خبرٌ بمعنى الطلب:
الآن معنى آخر قال تعالى: ﴿وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًاۗ﴾ هذا تعبير خبري، جاء بمعنى الطلب، أي اجعلوه آمناً، أي يا عبادي هذا بيتي، أنتم مكلفون من قِبَلي أن تجعلوه آمناً، صار الأمر تكليفياً، لو أخذنا معنى آمناً بالمعنى المادي فلدينا مشكلة، لأنّ هذا البيت ضُرِب بالمنجنيق، وهذا البيت في عام أربعمائة وألف ظهرت فيه فتنة ذهب ضحيتها مئات الأشخاص، فإذا قلنا: هذا خبر، في وقت ما لم يكن آمناً، فهل يُعقل أن يقول الله: ﴿وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًاۗ﴾ ثم تقوم في هذا البيت مشكلة، ويذهب ضحيتها مئات الناس، هذا مستحيل.
إذاً: المعنى: من دخل هذا البيت، من جاءه منيباً طائعاً مخلصاً، ألقى الله في قلبه الأمن، وهو أثمن عطاء، أمن الإيمان ليس أمن الصحة فقط، ولا أمن المال فقط، ولا أمن السلطان فقط، أمن الإيمان، أمن الإيمان يمتد إلى ما بعد الموت، أما أمن السلطان فيمتد ما دمت على قيد الحياة، أمن المال يمتد ما دام بيدك المال، أمن الصحة ما دامت الفحوص جيدة، أما إذا طرق طارق فلم يعد هناك أمن للصحة، بينما أمن الإيمان يمتد إلى ما بعد الموت، والدليل قوله تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ﴾ المعنى الثاني أنه يا عبادي اجعلوه آمناً، أي ينبغي أن يكون آمناً، هذا البيت ينبغي أن يكون آمناً، لذلك عباد الله المؤمنون مكلفون من قبل الله أن يجعلوا هذا البيت آمناً لمن دخله، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلًاۚ﴾ .
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ سؤال يتردد كثيراً؟ لِمَ لَمْ يقل الله عز وجل: لله على المسلمين حج البيت؟ أو لله على المؤمنين، أنت لاحظ قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ وقال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ .
أي دعوة الله إلى كل عباده، لا يوجد دعوة خاصة بالمسلمين، دعوة الله لكل عباده أن يتعرفوا إليه، وأن يصطلحوا معه، وأن يوحدوه، وألا يشركوا به شيئاً، وأن ينصاعوا له بالأمر والنهي، فكما أن الله عز وجل يقول: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ قال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ الحقيقة أن حج بيت الله الحرام فرضه الله علينا في العمر مرة واحدة، وقد ورد في بعض الأحاديث عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ يَرْفَعُهُ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
(( إِنَّ عَبْدًا أَصْحَحْتُ جِسْمَهُ ، وَأَوْسَعْتُ عَلَيْهِ فِي الْمَعِيشَةِ تَأْتِى عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لَمْ يَفِدْ إِلَىَّ لَمَحْرُومٌ. ))
[ البيهقي في السنن الكبرى بسند ضعيف ]
بعضهم اعتمد على هذا الحديث، وقال: إذا كنت في بحبوحة مادية، وفي صحة طيبة فينبغي أن تحج بيت الله الحرام كل خمسة أعوام مرة، وكل حج له طعم قد يفوق الذي قبله، وكل حج له مستوى قد يأتي الذي بعده أعلى منه.
قال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ "على" تفيد الإلزام، مثلاً قال تعالى:
﴿ وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ ۚ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَىٰكُمْ أَجْمَعِينَ(9)﴾
وقوله:
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12)﴾
وأيضاً:
﴿ إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌۢ بِنَاصِيَتِهَآ ۚ إِنَّ رَبِّى عَلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ(56)﴾
حينما تأتي على مع لفظ الجلالة المعنى أن الله ألزم ذاته العلية أن يعدل بين العباد، إن الله عز وجل حينما تأتي كلمة "على" مع اسم ذاته معنى ذلك هناك إلزام ذاتي. ﴿إِنَّ رَبِّى عَلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ﴾ ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ ﴿وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ﴾ .
هنا ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلۡعَٰلَمِينَ*فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ﴾ أعلى درجات الوجوب ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ﴾ قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلًاۚ﴾ .
2 ـ الحج واجب على المستطيع:
ذكر بعض العلماء تحليلاً لطيفاً؛ الفقير أو المريض في محنة، وهذه المحنة من شأنها أن تقربه من الله، من هو الذي يكون في غفلة أحياناً؟ صحيح الجسم، غني الدخل، الصحة تنسيه ربه أحياناً، والقوة المالية، أو القوة الأخرى تنسيه مصيره أحياناً، فهذا الذي غارق في نعيم الدنيا، في نعيم المال، في نعيم السلطان، في نعيم الصحة، نقول له: أنت ينبغي أن تحج بيت الله الحرام، لأنك تعيش في أقنعة مزيفة، الحقيقة الحج هو نزع أقنعة مزيفة عن وجه الإنسان، وهو في بلده حجمه المالي كبير، معتز بحجمه المالي، أو منصبه كبير، معتز بمنصبه، أو صحته جيدة، معتز بصحته، نقول له: أنت يا من تستطيع بمالك وصحتك وقوتك أن تحج بيت الله الحرام، عليك أن تحج بيت الله الحرام، وأنت أيها الضعيف، أو المريض، أو الفقير، فقرك، وضعفك، ومرضك يدفعان بك إلى الله عز وجل، فأنت معفى من هذه الفريضة، هذا تحليل طبعاً غير ملزم، لأنه: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلًاۚ﴾
قال العلماء: الاستطاعة تعني أن الطريق سالك إلى بيت الله الحرام، فلو كانت هناك حرب، وكان بالطريق فقدٌ للأمن لسقط الحج عن أهل هذه البلدة من هذا الطريق، فلابد من أمنِ الطريق، ولابد من قوة البدن (الصحة) ولابد من وفرة المال؛ مال تنفقه على أهلك في غيبتك، ومال تنفقه في الوصول إلى هذا البيت، وفي السكنى، والطعام، والشراب، أما هذا الذي يذهب ليتكفف الناس في الحج فهذا عاصٍ لله عز وجل، الله لم يكلفك أن تحج بيت الله الحرام، وأنت لا تجد ما تأكل، ليس عليك حج، أما أن تعبد الله وفق مزاجك، وفق أهوائك فهذا شيء غير مقبول، وإنّ الله عز وجل لا يُعبَد إلا وفق ما شرّع، وهناك من يجمع المال من أموال الصدقات ليحج بيت الله الحرام، وهناك من يتكفف الناس، وهناك من يقترض، وهناك من يرشي، هناك من يدفع ثمن تأشيرة دخول إلى الحجاز فرضاً، أن تبدأ حجك برشوة، أو أن تبدأ حجك بتصريح كاذب، أو أن تبدأ حجك بمال مقترض، أو أن تبدأ حجك بمال مجموع من أموال الصدقات، فهذا كله خلاف منهج الله عز وجل: ﴿مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلًاۚ﴾ ينبغي أن تكون مستطيعاً في بدنك، وفي مالك، وفي أمن الطريق، وينبغي أن تكون مستطيعاً في سماح ولي الأمر لك، لو فرضنا أن أولياء أمور المسلمين اجتمعوا، وقرروا من أجل سلامة الحجيج أن يُسمَح لواحد بالمئة من كل أمة إسلامية أن تحج بيت الله الحرام، فهذا النظام كان موضوعاً ولا يزال، فبلد فيها خمسون مليوناً يُسمَح بخمسين ألفًا، بلد فيها عشرون مليوناً يُسمَح فيها بعشرين ألف، مجموع المسلمين في شتى بقاعهم واحد بالمئة منهم، أي مليونان، طاقة المشاعر مليونان، فلو أن أولياء أمور المسلمين لمصلحة المسلمين الراجحة، ولحسن أداء هذه الفريضة الكبيرة وضعوا نظاماً، فأنت لست مكلفاً أن تخالف هذا النظام، وأن تدفع رشوة كي تحج بيت الله الحرام، لا، لست مكلفاً.
حج النافلة يقدَّم عليها أداء واجبات أخرى:
حجة الفرض لا يسبقها شيء، أما حجة النافلة ربما يُفضَّل عليها أداء واجباتك، إنسان حج حجة الفرض، وله ابن في سن الزواج، ويخاف عليه العَنت، لو أنه زوجه أفضل ألف مرة من حجة النفل، وقد قيل: إن ولي أمر المسلمين من صلاحيته أن يمنع نافلة أدت إلى ترك واجب.
هناك مسلمون يحرصون على حج بيت الله الحرام كل عام، الآن ثلاثون حجة، ثلاثة وثلاثون، أربعة وثلاثون، أحياناً تباهياً، وعنده مشكلات، وأولاده بلا زواج، وبلا بيوت، يخاف عليهم العنت، نقول: حجَّ حجة الفرض، وأدِّ الذي عليك من واجبات تجاه من حولك، وأكبر دليل أن أحد كبار علماء المسلمين، ولعله عبد الله بن المبارك كان في طريقه إلى الحج فرأى فتاة صغيرة تنقب في القمامة، فعثرت على طير ميت، فأخذته، وانطلقت إلى بيتها، تبعها جماعته فإذا أسرة ذات فقرٍ مُدقِع، فأعطاها كل ما يملك، وعاد، ولم يحج، هذا من فقه هذا الإمام، فإذا كان عليك حقوق، وعندك مشكلات، وعندك أبناء في سن الزواج، تخشى عليهم العنت، ينبغي أن تؤدي واجباتك تجاه أولادك قبل أن تحج حجة نافلة، أما الفريضة فلا شيء يُقدَّم عليها أبداً.
5 ـ الله غنيٌّ عن المستطيع الذي لم يحجّ:
﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلًاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ﴾ لا عن هذا المستطيع الذي لم يحج ﴿غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ ، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ :
(( يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا.))
[ مسلم، الترمذي، ابن ماجه ]
﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ ۖ قُل لَّا تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَٰمَكُم ۖ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَىٰكُمْ لِلْإِيمَٰنِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ(17)﴾
الآيات: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلۡعَٰلَمِينَ*فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلًاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ وفي درس آخر إن شاء الله نتابع هذه الآيات.
الملف مدقق