الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس والعشرين من سورة آل عمران، ومع الآية الثانية والتسعين، وهي قوله تعالى:
﴿ لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ (92)﴾
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ
أيها الإخوة، البِرّ هي طاعة الله، ثم الجنة، من معاني البِر الطاعة والجنة، من معاني البِر أيضاً مطلق عطاء الله، فإذا أعانك أن تطيعه فقد أعطاك شيئاً تسعد به إلى أبد الآبدين، إذا أعانك أن تطيعه، وهو ينتظر أن تطلب العون منه، وتسأله العون كل يوم مئات المرات:
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)﴾
2 ـ من معاني البر الطاعة:
فمطلق طاعة الله عطاء من الله كبير، ألم يقل يوسف عليه السلام:
﴿ قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِىٓ إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَٰهِلِينَ (33)﴾
الجاهل هو الذي يعصي الله، والعاقل هو الذي يطيعه، وما كل ذكي بعاقل، الذكاء قد يعينك على جمع الناس حولك، وربما لا تكون على الحق، تجمعهم لمصلحتك، والذكاء يعينك على جمع الأموال الطائلة، وربما لم تجمعها بحق، فقد تغادر الدنيا، وأنت فقير، بل أنت أفقر الفقراء، الذكاء قد يعينك على أن تكسب مودة الناس في حياتك تحقيقاً لمصالحك، وربما لا تكون على حق أيضاً، لكن العقل يعينك على معرفة الله، وعلى طاعته، وعلى العمل لجنة عرضها السماوات والأرض، العقل يعينك على أن تعرف سر وجودك، وغاية وجودك، لذلك ما كل ذكي بعاقل.
من معاني كلمة (البِر) طاعة الله، وحينما تكون مطيعاً لله فقد حققت الهدف من وجودك، وقد حققت عبوديتك لله عز وجل، وأنت في أعلى مقام، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام وهو في سدرة المنتهى، قال تعالى في حقه:
﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10)﴾
وهو في أعلى مهمة، وهي الدعوة إلى الله، قال تعالى:
﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا(19)﴾
إذاً: البِر طاعة الله، لأنها سبب عطاء الله:
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾
تُعرَّف هذه الكلمة بسبب العطاء، وتُعرَّف هذه الكلمة بنتيجة السبب، سبب العطاء الطاعة، ونتيجة السبب الجنة، فالبِر الجنة، والبِر الطاعة.
فائدة لغوية في كلمة ( البر ):
قال بعض فقهاء اللغة: إن في العربية اشتقاقاً نادراً، حيث إن حرف الباء وحرف الراء المشددة إذا اجتمعا دل ذلك على السَّعة، فالبَرُّ اليابسة، والحركة فيها واسعة، مع أن البحر أوسع، لكن الحركة عليه مقيدة، والبُرُّ القمح، أوسع إنتاج غذائي في الأرض، أربعمائة وخمسون ألف نوع للقمح، البِرُّ: الإحسان، والبَرُّ: اليابسة، والبُرُّ: القمح، وهذه الكلمة مثلثة عند علماء اللغة.
3 ـ معنى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ
هنا البِر الطاعة، والبِر الجنة، أحدهما سبب، والآخر نتيجة.
﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ﴾ لن تدخلوا الجنة، لن يُسمَح لكم بدخولها، لن تصلوا إليها إلا بثمن، فمن طلب الجنة بلا ثمن فقد استهزأ بالله عز وجل، وطلبُ الجنة من دون ثمن ذنب من الذنوب، جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر لا تكون إلا بثمن كبير، بثمن باهظ، هذا الثمن هو أن تكبح جِماح نفسك، قال تعالى:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41)﴾
الجنة لها ثمن باهظ.
أيها الإخوة ﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ﴾ لن تستطيع أن تكسب طاعة الله، لن تستطيع أن تكتسب معونة الله على طاعته إلا إذا دفعت ثمن هذه الطاعة، أن تؤثر ما عنده على الدنيا.
﴿حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ﴾ أحياناً الوقت ثمين، ولاسيما أن في هذه الحياة مشاغل، ومتاعب، ومهمات، وخططًا، وأهدافًا، وبرامج، وأعمالاً، حينما تقتطع من وقتك الثمين وقتاً لطلب العلم، ولحضور مجالس العلم، ووقتاً للدعوة إلى الله، ووقتاً للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ووقتاً لقراءة القرآن، فقد أنفقت مما تحب، قد تجد عند بعض الناس أثمن شيء هو الوقت، فإنفاق الوقت في طاعة الله، وفي الدعوة إلى الله، وفي خدمة الخلق، وفي طلب العلم، وفي تربية الأولاد، هذا شيء ثمين جداً، وأنت تحبه هكذا ينبغي أن تنفقه.
5 ـ لابد من إنفاق المال والجاه والراحة:
وقد يكون المال ثمينًا جداً عند بعض الناس، فلن يصل إلى ما عند الله من عطاء في الدنيا والآخرة إلا بإنفاق المال ﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ﴾ وقد يكون لك شأن كبير في المجتمع، وأنت لست بحاجة إلى أحد، لأنك مكتفٍ مالياً، اجتماعياً، نفسياً، يأتيك إنسان، ويقول لك: أتذهب معي إلى فلان لتكلمه لي؟ وتتمنى أنت ألا تذهب، وألا تبذل ماء وجهك أمام هذا الإنسان، لكن رضاء الله يغلب عليك، فتبذل من جاهك، هناك من يبذل من ماله، وهناك من يبذل من وقته، وهناك من يبذل من جاهه، وقد يمرض الأب أو الأم، فحينما تسهر على راحتها، أو راحته، وحينما تضيّع فراشك الثمين مقابلةً لهذا الإنسان بالإحسان فهذا شيء ثمين، أن تنام على فراش وثير، وأن تستغرق في نوم عميق، لكن من كان عنده مريض فينبغي أن يسهر على راحته، فأثمن شيء عند هذا الإنسان النوم، فينبغي أن يدع الفراش من أجل رعاية هذا المريض.
الفكرة أن الله عز وجل غاية كل المؤمنين، وهذه الغاية العظمى لن تنال منها شيئاً، لن تنال رضاها، لن تنال توفيقها، لن تنال تجليها، لن تنال مباركتها لك إلا بطاعتها، وإنفاق الشيء الثمين، وكل واحد منا عنده شيء ثمين يحرص عليه، فلابد من إنفاق هذا الشيء الثمين، قال تعالى:
﴿ تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ(16)﴾
أحياناً النوم شيء ثمين، المال شيء ثمين، الوقت شيء ثمين، الجاه شيء ثمين، أما حينما ترى نفسك مستعدًا لإنفاق وقتك، وإنفاق مالك، وإنفاق جاهك، وإنفاق راحتك في سبيل إرضاء ربك، الآن دفعت جزءاً من سبب دخول الجنة، لا أقول: دفعت ثمن الجنة، لأن الجنة لا تقدر بثمن، دخول الجنة محض فضل من الله، بينما دخول النار محض عدل منه.
تمني دخول الجنة بلا عمل بضاعة الحمقى:
أيها الإخوة الكرام، أن تتمنى دخول الجنة فهذه بضاعة الحمقى، يا رب نحن عبيد إحسان، ولسنا عبيد امتحان، أن تمسك يدك عن الإنفاق، ومعك المال الوفير، لن تذوق ريح الجنة، أن يكون بإمكانك أن تقيم العدل بين الناس، لأنك قوي، ولا تحب أن تدخل في هذه المتاهة طلباً لراحة نفسك، لن تذوق الجنة، إذا كان بإمكانك أن تقيم العدل بين الناس، إذا كان بإمكانك أن تزيح عن الناس بعض البؤس، إذا كان بإمكانك أن تمد الناس ببعض المال، إذا كان بإمكانك أن تنطق بكلمة الحق التي هي سبب سعادة البشر، إذا أحجمت عن النطق بكلمة الحق، أو إذا أحجمت عن أن تنفق المال، أو إذا أحجمت عن أن تبذل الوقت الثمين في سبيل عمل صالح فتربص، والطريق إلى الله عندئذ ليست سالكة.
هذه الآية أيها الإخوة تقابلها آية أخرى تقصم الظهر، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٍۢ فِى سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ(24)﴾
إيّاك أن تكون الدنيا عندك أغلى من طاعة الله:
إذا كان شيءٌ في الدنيا أغلى عندك من طاعة الله، إذا كان المال تكسبه من غش المسلمين فهذا المال أغلى عندك من طاعة الله ونفع المسلمين، فاعلم علم اليقين أن الطريق إلى الله ليس سالكاً، إذا كان إرضاء زوجتك وهي تحقق لك متعة الدنيا أغلى عندك من طاعة الله فتربص، فإن الطريق إلى الله ليس بسالك، إذا كان البيت الذي تسكنه اغتصبته، فهذا البيت المريح أحب إليك من أداء الحقوق إلى أصحابها فتربص، فإن الطريق إلى الله ليس سالكاً، ﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ﴾
سمع هذه الآية أحد أصحاب رسول الله، وكان عنده بستان جميل جداً، بستان فيه نبع عذْب، وفيه ظِلال وارِفة، وفيه أشجار مثمرة، كان إلى جوار المسجد في"بَيروحاء" ، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله، إن هذا البستان أحب مالي إلي، وهو في سبيل الله، فضعه لمن تشاء.
هكذا كان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فأصحاب النبي عليهم رضوان الله، وعلى نبيه الصلاة والسلام ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا ببذل الغالي والرخيص، والنفس والنفيس.
نطلب من بعض الإخوة أن يأتي إلى درس الجمعة فقط، ماذا يبذل؟ اجلس فقط، ويوجد تدفئة، وماء بارد، وكلام واضح، وتكبير صوت، وترحيب، ماذا قدمنا نحن للإسلام؟ لمجرد أن تمشي في طريق الإيمان يحترمك الناس، ويعظمونك، ويبجلونك، ويقال: فلان نفعنا الله ببركاته، ماذا قدمت أمام ما قدم الصحابة الكرام؟ أنفقوا وقتهم، أنفقوا مالهم، تركوا بلادهم، تركوا ديارهم، تركوا أموالهم، كانوا مع النبي في السراء والضراء، قال تعالى:
﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّٰبِرِينَ (146)﴾
أسلم أحد الأعراب، واشترك في غزوة مع رسول الله، فأُعطي غنيمة فقال: ما هذا؟ قالوا: هذه غنيمة لك من الحرب، قال: ما على هذا أسلمت، أنا أسلمت على الذبح، على أن أُذبَح في سبيل الله.
ماذا قدم المسلمون لدينهم؟ ماذا قدموا لبعضهم؟ ماذا قدموا إعلاءً لكلمة الله، ماذا قدموا حلاً لمشكلات الفقراء؟ ماذا قدموا حلاً لمشكلات الشباب؟ ماذا قدموا حلاً للأيتام، وللأرامل، ماذا قدموا؟ كل إنسان ينتمي إلى ذاته، إلى مصالحه، يحب أن يعيش وحده، وأن يأكل وحده، وأن يستمتع بالحياة وحده، وعلى الناس السلام، هذا النموذج من المسلمين لا يستحق نصر الله عز وجل، هذا النموذج لا يستحق أن يكون الله معنا، ولا أن يقهر أعداءنا، قال تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ﴾ الشيء الذي تحبه، أحياناً مجيئك إلى مجلس العلم يقوي هذا المجلس، أنت دعم للحق، لك مكانة، لك شأن، فإذا جئت إلى بيت من بيوت الله، وجلست بين الناس مستمعاً لدرس العلم، فأنت بهذا تدعم مجلس العلم، وتدعم الحق، أن تعين أخاك المسلم، أن تهيئ له عملاً، أن تبحث له عن فرصة عمل، أن تيسّر له زواجًا، أن ترعى طالب العلم، هذا دعمٌ للحق، ماذا أنفق المسلمون؟
أيها الإخوة الكرام، أبواب الخير مفتحةٌ على مصارعها، والطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، لكن البِر الذي نطمح إليه جميعاً، لكن البِر الجنة التي هي مقصدنا جميعاً لن نصل إليها، ولن ننالها إلا أن ننفق شيئاً نحبه.
6 ـ عجبًا لمن ينفق الشيء البالي المهترئ:
قديماً كما كنت أسمع، ليس الآن، والحمد لله قطعة الأثاث المهترئة هذه تُرسَل إلى المسجد، الثريا القديمة المتكسرة هذه إلى المسجد، هناك أناس لا يقدمون إلا شيئاً بالياً، لا قيمة له، إنسان دفع زكاة ماله أحذية، كل زوج من الأحذية اليمنى يختلف مقاسها عن اليسرى، عنده بضاعة قديمة فقدمها زكاة ماله، مَن يلبس حذاءً اليمنى غير اليسرى؟ سجلها على الله زكاة وأنهاها.
هناك من يقدم طعاماً للفقراء لا يؤكل، أو ثياب مهترئة، هكذا ألِفَ الناس، أن يقدموا شيئاً زهدوا فيه، أعرضوا عنه، لا يحبونه، هذه الأكلة لا يأكلها، هذه الثياب لا يلبسها، هذه قطعة الأثاث لا يستهلكها، يدفعها إلى الجامع.
﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ﴾ هذه هدية إلى الله.
طرق الخير كثيرة جدا لمن أراد:
أيها الإخوة، هذه آية دقيقة جداً، الذي يحب المال طريقه إلى الله إنفاق المال، والذي يحب المكانة العليّة في المجتمع طريقه إلى الله أن يكون مع الضعفاء، كل إنسان يحب أن يكون مع الأقوياء في مجالسهم، في نزهاتهم، في ولائمهم، في حفلاتهم، ومع الأغنياء أيضاً، لكن المؤمن يحب أن يكون مع المؤمنين ولو كانوا فقراء، ولو كانوا ضعفاء، ولو كانوا في أحياء فقيرة بعيدة، ﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ﴾ لن تنال عطاء الله، لن تنال توفيقه، لن تنال دعمه، لن تنال تجلي الله عز وجل، لن تنال سكينته، لن تنال أن تحفّ بك الملائكة، لن تنال أن تتنزل عليك رحمات الله إلا إذا أنفقت شيئاً تحبه، لكن أكثر الناس يجعلون حضور درس العلم آخر اهتماماتهم، إن كان لديه وقت فراغ يحضر درس العلم، فإذا كان جالساً مع أهله ومرتاح البال، وهناك علاقة طيبة معهم لا يذهب إلى الجامع، أما إذا تخاصم مع زوجته يذهب إلى الجامع ﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ﴾ .
أيها الإخوة لعل هذه الآية تحثّنا على بذل الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، ينبغي أن تنفق شيئاً تحبه، طعاماً تحبه، لباساً تحبه، وقتاً ثميناً جداً تنفقه في طاعة الله، لك مكانة رفيعة فتذهب مع أخ ضعيف كي تكلم له شخصاً يعود عليه بالخير، هذا هو خُلُق المؤمن، البذل، بل إن المؤمن لأن عقيدته سليمة، ولأن إيمانه قوي جداً، ولأن عرف أنه مخلوق للجنة، وأن ثمن الجنة في الدنيا، والدليل أن أهل الجنة وهم في الجنة يقولون:
﴿ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُۥ وَأَوْرَثَنَا ٱلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَٰمِلِينَ(74)﴾
لو فرضنا للتقريب: هناك طبيب ألمعي، ودخله فلكي، مخيف، ومتمتع بصحة ومكانة وبيت وعيادة فخمة، وكل شيء مُؤمَّن، فمرّ أمام جامعته التي درس فيها، لولا هذه الجامعة التي دخل إليها طالباً، وسهر الليالي فوق الكتاب، لولا أن أساتذته علموه لمَا كان في هذه المكانة ﴿وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُۥ وَأَوْرَثَنَا ٱلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ﴾ فالمؤمن صاحب العقيدة السليمة واليقين القوي مؤمن أنه مخلوق للجنة، وأن حياته هنا من أجل أن يدفع ثمن الجنة، وثمن الجنة عمل صالح، لذلك المؤمن بنى حياته على الإعطاء بينما الكافر على الأخذ.
قرأت عن النملة أن فيها جهازين؛ جهاز دفع وجهاز مص، فإذا كانت النملة جائعة يمكن أن تأخذ من رحيق أختها غذاء مباشرة باستخدام جهاز المص، وإذا كان شبعى ممكن أن تعطي أختها من عصير هضمها عن طريق الضخ، فالنملة تمص وتضخ، بينما هناك أشخاص يمصون فقط دون أن يضخوا شيئاً أبداً، حياته مبنية على الأخذ، فيأخذ من الناس أموالهم، ويحتال عليهم ويكذب عليهم، ويغشهم في بضاعتهم، أينما توافر له مال يأخذه، بينما المؤمن بالعكس بنى حياته على العطاء، لأنه ثمن الجنة، وأكبر دليل أن الإنسان حينما يأتيه ملك الموت لا يندم إلا على شيء واحد، على عمل صالح أكثر منه، والدليل قوله تعالى:
﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾
[ سورة المؤمنون
]
فالمؤمن حسب إيمانه وقناعاته أعظم شيء يفعله في الدنيا العطاء، لذلك من الصعب جداً أن يفهم كافر طريقة حياة المؤمن، فحياته عطاء بلا ثمن، يعطي من كل شيء وهو أسعد الناس بالعطاء، يأتي كافر أفقه ضيق ومادي، فيتساءل كيف تعطي بلا ثمن! وكلما اقتربنا من الغرب، وتشبّعنا من ثقافتهم، وكلما عظّمناهم وأكبرناهم وتغذّينا بقيمهم نصبح مثلهم (ماديين) لا يمكن أن نقدم شيئاً بلا ثمن، لا يمكن، قد يبيع المريض بيته من أجل أن يأخذ الطبيب رقماً فلكياً، وهو ليس بحاجة إلى هذا المال، ولكن هذه تكلفة العملية ولو اضطررت إلى بيع بيتك لا علاقة لي، فلا رحمة عنده.
أحد كتّاب المسلمين قدّم للرسول صلى الله عليه وسلم كتاباً فقال:
يا من جئت الحياة، فأعطيت ولم تأخذ، يا من قدَّست الوجود كله، ورعيت قضية الإنسان، يا من زكيت سيادة العقل، ونهنهت غريزة القطيع، يا من هيّأك تفُّوقك لتكون واحداً فوق الجميع، فعشت واحداً بين الجميع، يا من كانت الرحمة مُهجته، والعَدل شريعته، والحُب فطرته، والسمو حرفته، ومشكلات الناس عبادته" فأنت كونك مؤمن ينبغي أن تعيش لمبدأ، ينبغي أن تبذل كل شيء في سبيل الله، وحين تفعل هذا يتولى الله شؤونك.
(( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين.. ))
حينما تتمنى إرضاء الله عز وجل يحفظ الله لك وقتك، ويحفظ لك صحتك، ويحفظ لك مالك، وأهلك، وأولادك، وسمعتك، المؤمن ينبغي أن يبني حياته على العطاء، وهذا واضح في الآية الكريمة:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5 (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6)﴾
هذا النموذج الأول، صدّق أنه مخلوقٌ للجنة، فبنى حياته على العطاء، واتّقى أن يعصي الله، هذا الصنف الأول، والرد الإلهي:
﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ(7) ﴾
حياته ميسرة، زواجه ميسر، عمله مُيسَّر، صحته ميسرة، مكانته ميسرة ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ*فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ﴾ الطرف الآخر:
﴿ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8 (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9)﴾
استغنى عن طاعة الله، يريد الدنيا فقط، يؤمن بالدنيا، وبنى حياته على الأخذ، استخدم جهاز المص فقط وليس الضخ، قال تعالى:
﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ (10)﴾
﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ﴾ هذه "من" لاستغراق جزئيات الشيء، "من" يعني ليرة سورية واحدة، ابتسامة في وجه أخيك جعلته يطمئن إليك بعد أن كان خائفاً منك، وجهٌ طلْقٌ تستقبل به ضيفاً مؤمناً (أهلاً وسهلاً) مسجلة، أردت أن تنقذ نملة من الغرق أثناء الوضوء ﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ﴾ ، قشة حملتها من أرض المسجد، ووضعتها في جيبك مراعاةً لنظافة المسجد، ﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ﴾ أبواب الخير لا تعد ولا تحصى، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، فالمؤمن همّه العمل الصالح، همّه البذل والعطاء، همّه إكرام الخلق، همّه العناية بالمخلوقات حتى الحيوانات في قلبه رحمة بهم.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، ولَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِن خَشَاشِ الأرْضِ . ))
فإذا استحقت امرأة النار في هرة حبستها، فما قولك فيما فوق الهرة، هؤلاء الذين يقتلون كل يوم عشرات، ويجرحون الآلاف، والمئات كل يوم، لحقد دفين، ما مصير هؤلاء عند الله؟ القتل سهل جداً، يقتل هذا المقاوم، وكأنه يقتل ذبابة، لكن الله كبير، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن ينصرهم عليهم.
﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ﴾ حجم الشيء، كميته، ظروفه، بواعثه، أهدافه، ﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ﴾ ، يعلم سرك وجهرك.
﴿ كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ (93)﴾
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ
1 ـ الأصل في الأشياء الإباحة:
أيها الإخوة، هناك قواعد عامة في الدين تعد من أصوله، الأصل في الأشياء الإباحة، لأن الله خلق لنا كل شيء كي ينفعنا في الدنيا، إذاً لا يُعقل أن يخلق لنا شيئاً طيباً نافعاً مفيداً، ثم يحرّمه علينا، مستحيل، فالأصل في الأشياء الإباحة، قال تعالى:
﴿ وَيَٰٓـَٔادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ(19)﴾
نسبة المحرّمات إلى ما هو مباح واحد بالمليار، كم من شراب لك أن تشربه مطمئناً؟ مئات، لكن حرّمت علينا الخمرة، كم نوعًا من أنواع اللحم لك أن تأكله هنيئاً مريئاً؟ إلا الخنزير، فنسب المحرمات إلى المحللات نسب ضئيلة جداً، ولكن لا بد من شيء مُحرَّم كي نُمتَحن عند الله عز وجل.
2 ـ تحريم يعقوب لبعض الأشياء تحريم شخصي:
﴿كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ﴾ هذا التحريم شخصي، إما أنه نذر لله عز وجل ألا يأكل اللحم فرضاً، أو تعافه نفسه، أو لمرض أصابه، إنسان أحياناً لا يأكل أكلاً معيناً ليس لها علاقة بالتحليل والتحريم، هناك طعام لا يناسبه، طعام لا يناسب مرضه، فسيدنا إسرائيل، وهو سيدنا يعقوب عليه السلام حرّم على نفسه طعاماً، إما وفاءً لنذر، أو زهداً في هذا الطعام، أو وقاية لجسمه من مرض ما.
3 ـ تحريم بعض الأشياء نوع من التأديب:
﴿كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ﴾ لكن الله أحياناً قد يعاقب بالتحريم، هذا التحريم الذي هو عقاب ليس تشريعاً، بل هو تأديب، فالله حرم على بني إسرائيل بظلم منهم أنواعاً من اللحوم.
﴿ فَبِظُلْمٍۢ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيرًا(160)﴾
هذا تحريم تأديب، لا تحريم تشريع.
قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
1 ـ التحريم لابد له من دليل:
﴿قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ هم ادَّعَوا أن هذه الأشياء حُرِّمت عليهم تحريم تشريع، فقد نعَوا على العرب أكلها في ظل دينهم الجديد، قالوا: لا، هذه حُرِمت عليهم تحريم تأديب، لا تحريم تشريع، أما الذي حرمه على نفسه نبيّهم يعقوب فهذا تحريم شخصي، النبي له خصوصيات.
قُدِّم للنبي عليه الصلاة والسلام طعام ضب، قال لا آكله، أمحرم هو؟ قال: لا، ولكن تعافه نفسي.
هل يعد هذا الطعام حراماً؟ لا، بالعكس، سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو من مكة، وله أذواق في الطعام عالية جداً، ومع ذلك أكل الضبّ أمام رسول الله، وقد قال بعض علماء السيرة: إنه أدرك أنه مقبل على فتوحات مديدة، وعلى نشر هذا الدين، فلا بد أن يكون قدوةً في أكل لحم حيوان يوجد في الصحراء كثيرًا.
أما النبي الكريم فقال: عافته نفسي، وما حرمه، إسرائيل حرم على نفسه بعض الأكلات، اليهود اعتبروها تشريعًا، لا، هذا التحريم شخصي، والذي حرمه الله عليهم تحريم تأديب لا تحريم تشريع.
تحريم المنع:
وهناك تحريم منع، قال تعالى:
﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰٓ أَهْلِ بَيْتٍۢ يَكْفُلُونَهُۥ لَكُمْ وَهُمْ لَهُۥ نَٰصِحُونَ(12)﴾
سيدنا موسى حينما كان طفلاً، تحريم منع، كلما جاءت مرضعة يرفض أن يلتقم ثديها، ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ﴾ تمهيداً كي تأتي مرضعة هي أمه، لأن الله عز وجل أمرها بأمرين، ونهاها بنهيَين، وبشرها ببشارتين، قال تعالى:
﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ(7)﴾
وهذا أول أمر ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ﴾ هذا أمر ثانٍ ﴿وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ﴾ نهيان ﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾ بشارتان، هذا كلام خالق الأكوان.
انظر إلى المفارقة: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ إذا خفت على هذا الطفل أن يموت حرقاً، وأنت في الطابق العاشر فألقيه من الشرفة، ما هذا الكلام؟ ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾ الأمر بيد الله، الأمر دقيقه وجليله بيد الله، عظيمه وحقيره بيد الله:
﴿ وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَآ إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍۢ فِى ظُلُمَٰتِ ٱلْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍۢ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَٰبٍۢ مُّبِينٍۢ(59)﴾
ويعلم ما في السماوات والأرض.
حركة صندوق خشبي في اليم بأمر الله، ساقه إلى قصر فرعون، وأوقفه عند شط القصر، وألهم امرأة فرعون أن تنزل إلى شط النهر، فالأمر بيده سبحانه، هكذا يفعل الله.
2 ـ اليهود موسومون بالكذب:
﴿قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ أنتم تكذبون أيها اليهود، مرة سمعت تصريحاً لم أصدقه؛ أن وزيرة خارجية أمريكا تناشد العالم أن تقنع الفلسطينيين بالكف عن ذبح اليهود، ما هذا الكلام؟ كذب بكذب.
﴿قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ نحن نعيش عصر الكذب، عصر التزوير، عصر أن الحق هو القوة فقط، أما في منظور الإسلام فالحق ما جاء به الوحيان، لكن الحق الذي جاء به الوحيان يحتاج إلى قوة، أما أن يكون منطق العصر القوة وحدها هي الحق -والعياذ بالله- هذا منهج مجتمع الغاب، هذا منهج الوحوش، والوحوش تأكل حاجتها، أما وحوش البشر فلا تكتفي بحاجتها، بل تأكل حُباً في الأكل، وتقتل حباً في القتل.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ (7)﴾
يعني شر ما برأ الله.
﴿ فَمَنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ (94)﴾
1 ـ صدق الله في تحريمه وتشريعه ، وكذب المفترون:
هؤلاء يفترون على الله الكذب، يدّعون أن ما حرّمه يعقوب على نفسه تحريم تشريع، وأن ما حرّمه الله عليهم تحريم تأديب، هو تحريم تشريع، قال تعالى:
﴿ قُلۡ صَدَقَ ٱللَّهُۗ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفًاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (95)﴾
وكذب اليهود، النبي الكريم صلى الله عليه جاءه أحد أصحابه يشكو أن بطن أخيه قد استطلق، معه إسهال شديد، أمره أن يأكل عسلاً، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:
(( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا، فَسَقَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ. ))
ثم قرأت بحثاً أن بعض أنواع الإسهالات الحادة علاجها بالعسل.
2 ـ الأنبياء من أصل واحد:
﴿قُلۡ صَدَقَ ٱللَّهُۗ﴾ وكذب هؤلاء اليهود ﴿فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفًاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ﴾ هذا كلام دقيق، يعني الأنبياء ركْبٌ واحد، الأنبياء مذهبٌ واحد، قِيم واحدة، مبادئ واحدة، دين واحد، هكذا، لأن الأصل واحد، هؤلاء الأنبياء العظام حينما يطلعهم الله عز وجل ماذا حصل بين أتباعهم من حروب، وكم من قتيل في الحروب الصليبية، كان الأمر مخزيًا، الأنبياء إخوة، فكيف أصبح أتباعهم أعداءً؟ لابتعادهم عن الحق، والجواب واضح، قال تعالى:
﴿ وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذْنَا مِيثَٰقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ(14)﴾
هذا قانون العداوة والبغضاء؛ حينما ننسى منهج الله، وحينما نعصي الله، ونكتفي بالانتماء فقط، عندئذ يقع بيننا وبين من حولنا عداوة وبغضاء لا تنتهي إلى يوم القيامة، لذلك قالوا: الحرب بين حقّين لا تكون، لأن الحق لا يتعدد، والحرب بين حق وباطل لا تطول، لأن الله مع الحق، أما بين باطلين فلا تنتهي.
﴿ قُلۡ صَدَقَ ٱللَّهُۗ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفًاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (95)إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلۡعَٰلَمِينَ (96)﴾
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِين
1 ـ الكعبة أول بيت لعبادة الله:
الحقيقة بيت الله الحرام أول بيت وُضِع للناس في الأرض، أول بيت للعبادة وُضِع للناس في الأرض، لكن إبراهيم عليه السلام جدّده، جدّد بناءه، أما هو فقد بني من عهد آدم، ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ لا أول بيت بني في الأرض، لا، لا أول بيت سكني بني في الأرض، لا، إن أول بيت للعبادة وضع للناس في مكة المكرمة.
ما معنى أن يتخذ بيتاً في مكة؟
أيها الإخوة، الإنسان له طبيعة مادية، وربنا عز وجل اتخذ لنفسه بيتاً في الأرض، قد يقول قائل: إنّ الله في كل مكان، ومع كل إنسان، ما معنى أن يتخذ بيتاً في مكة؟ ويأمرنا أن نذهب إليه؟
الجواب: أراد الله جل جلاله أن يتخذ بيتاً في الأرض، وأن يدعونا إليه لنشعر نحن إن لبينا هذه الدعوة أننا فعلنا شيئاً ثميناً، تركنا بلدنا، وبيتنا، وتجارتنا، وأولادنا، ومكانتنا، ودنيانا، وذهبنا إلى الله شُعْثاً غُبْراً، كي نلبي دعوته.
حينما تحج بيت الله الحرام تؤكد لنفسك أن تلبية دعوة الله عز وجل أغلى عليك من كل شيء، فدفعت مبلغاً كبيراً، وتحملت مشاق السفر، وقد كانت صعبةً جداً من أجل تلبية دعوة الله عز وجل، هذا معنى أن يتخذ الله بيتاً له في الأرض.
2 ـ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد:
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ لذلك لا تشد الرحال إلا إلى بيت الله الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى إن شاء الله، وما سوى هذه المساجد لا تُشَد الرحال إليها على أنها مساجد، أي واحد منها كأيّ مسجد آخر، لا يجوز في الشرع أن نشد الرحال إلى جامع في حلب، نقصد زيارته، ولا إلى جامع في دمشق أبداً، لكن نشد الرحال إلى بيت الله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى. ))
[ البخاري، مسلم، النسائي، ابن ماجه ]
هذا ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام، أن يضع الله بيتاً له في الأرض كي نقصده حاجّين، معنى ذلك أن نشعر نحن أننا آثرنا تلبية دعوة الله على حظوظنا من الدنيا.
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلۡعَٰلَمِينَ(96) فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلًاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ (97)﴾
وفي درس آخر إن شاء الله نتابع تفسير هذه الآيات.
الملف مدقق