الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون: مع الدرس الثالث والعشرين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الثامنة والسبعين، وهي قوله تعالى:
وَإِنَّ مِنۡهُمۡ من أهل الكتاب.
أيها الإخوة الكرام، هذا نوع من الانحراف، لأنك تعتقد أن الناس يعظمون كلام الله، وأنهم يعظمون الله، وأنهم يعظمون أمره، فإن أردت أن تصل إلى مصالحك من خلال الدين فلا بد أن تلعب بالنصوص، لا بد أن تلوي أعناقها، لابد أن تأوِّلها تأويلاً غير صحيح، لابد أن تحذف، وتقدم وتؤخر، ولا بد أن تدّعي أن القصد كذا، والمعنى كذا، فهذه العملية بمجملها عملية تحريف النص، أو عملية لَوي عنق النص، أو عملية مسخ النص، أو أن تنطق بدلالة ليست له، أو أن تأتي بمناسبة لا تصلح له، وأيّ افتعال لصرف النص عن مؤدّاه الحقيقي، وأيّة عملية فكرية هدفها أن تغيّر وأن تبدّل من أجل أن تحقق فهماً لهذا النص ينسجم مع مصالحك فهذا تحريف.
وتقول: إنما النهي لا عن الأضعاف القليلة، بل عن الأضعاف الكثيرة، وفاتك أن هذا ليس قيداً احترازياً، بل هو قيدٌ وصفي، أنت حينما تقرأ قوله تعالى:
فإن لم يردْنَ تحصناً فلك أن تكرههن على البغاء مثلاً، هذا فهم خطير لهذا النص، هذا فهم فيه لَيٌّ لعنق النص.
تقول: لا، لم يشأ الله أن يهدي البشر، فالله عز وجل يمتحن عباده.
يأتي إنسان مريض القلب فيفسر هذا النص وفق أهوائه، يقول لك: ليس في القرآن آية تقول: الخمر حرام، حرمت عليكم الخمرة، هناك:
هذا ليس تحريماً، فإما من كلمة، أو من عبارة، أو من إضافة، أو من حذف، أو من الإتيان بأسباب نزول ليست صحيحة، على كلٍّ هناك محاولة ذكية لصرف النص عن مؤدّاه الحقيقي، النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال:
هل أراد منك أن تأكل من هذه الشجرة من أجل ألا تأتي إلى المسجد يوم الجمعة؟ مستحيل، ينهاك عن أن تؤذي من حولك، أنت فهمت النص فهماً آخر.
حينما قال: غض بصرك، لولا أنه يجب أن تبرز المرأة مفاتنها لمَا أُمرنا بغض البصر، من قال لك ذلك؟ من هذا القبيل نصوص، واجتهادات، وتعليقات لا تعد ولا تحصى، لولا أن المرأة مسموح لها أن تظهر مفاتنها لما أُمِرنا بغض البصر هكذا! إذا خرجت المرأة متعطرة ليجدَ الناس ريحها لم تُرَح رائحة الجنة، تقول امرأة إن أرادت لي عنق النص: أنا لا أريد أن يجد الناس هذه الرائحة، لم أقصد، إذاً: أن تتعطر عطراً فواحاً يلفت النظر، من دون أن تقصد لا شيء فيه، هذا أيضاً ليٌّ لعنق النص، فهناك نصوص في العقيدة، وفي الفقه، وفي المعاملات، النص واضح، وله قواعد أصولية في فهمه، وعلم الأصول من أرقى العلوم، حتى إن بعضهم قال: إن علماء الدين أمام علماء الأصول عوام، علم الأصول علم استنباط الحكم الشرعي من النص، أما كل إنسان يتأمل في آية، أو في حديث فيستنتج منهما ما يحلو له، يقول لك:
جيد، إذاً: اقترف الكبائر من أجل أن تنالك شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام، هذا كلام مضحك، مثل هذه التأويلات، وتلك التفسيرات، وهذه التخرُّصات إنما من أجل أن تصرف النص عن مؤداه الحقيقي، عن الغاية النبيلة التي شُرِع من أجلها، ولا زلنا في هذا التعبير العلمي الدقيق: ﴿وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِيقًا يَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ أي وإن بعضهم، يقول مثلاً:
يقول: الشيطان وصل للأنبياء، فهل أنا نبي؟ هذه الآية ليس هذا معناها، إذا تمنى النبي هداية قومه ألقى الشيطان في أمنيته هو أن يُضِلهم، أما أن يصل شيطان إلى النبي الكريم، أين حصانته؟ وأين إقباله؟ وأين نوره؟ هذا الباب إذا فتحناه لا ينتهي.
المُغرِض المُنتفِع الجاهل المتعصب، الذي يريد أن يفهم النصوص كما يحلو له، حتى يغطي بهذا الفهم السقيم انحرافاته، بعضهم ألّف كتاباً عن القرآن الكريم، بعد قراءة القرآن ثبت له كما يقول: إنه لا يجد في كتاب الله ما يمنع المرأة من أن تضع على جسمها إلا ثيابها الداخلية! ولأقربائها، ولمن هم أقرب الناس إليها أن يروها كما خلقها الله! هذا كلام لا يُحتمل، يقول لك: الحديث :
أنت كونك مسلم لك مع النص تعامل كبير جداً، دينك دين وحي، والوحي نص، أخطر شيء في الدين تعاملك مع النص، هل تفهمه كما أراده الله، أم تفهمه وفق مزاجك وأهوائك وشهواتك ومصالحك؟ فالذي يأكل الربا يقول: الله لم ينهَ عن الربا بنسب قليلة، نهى بنسب عالية جداً والدليل:
آية واضحة كالشمس.
فمصيره إلى النار، وبئس المصير، بالعكس عندما يقتل المرء مسلماً يخلد في النار، فبين أن تكون من أهل الجنة وبين أن تكون من أهل النار، بين أُقتَل، وأَقتُل حركة بالضمة! هو النص يحتمل ضمة، ويحتمل فتحة، لكن ماذا قال الصحابي؟ أنت حينما تتغنى بهذا البيت فإنه قال: حينما أُقتَل مسلماً، وما قال: أَقتل مسلماً، هذا مستحيل، فاحتمالات اللغة لا تكفي، لا بد أن تفهم ماذا قال الصحابة الكرام.
هذا الكلام يقودنا إلى أن أخطر شيء في حياة المؤمن هو فهم النص، لا النص نفسه، فهمه.
معنى ذلك ينبغي أن تفهم تأويل هذا القرآن الكريم من أهل الذكر، من أهل الوحيَين، أردت من هذا الموضوع تعديل النص، وجره إلى معنى بعيد عنه، ليُّ عنق النص، صرف النص عن مضمونه الحقيقي، نحن حينما نقول لطالب الوظيفة: اِئتنا بحسن سلوك من المختار فرضاً، هذا شيء مهم جداً، أن يشهد لك مختار محلَّتك أنك إنسان طيب وصالح، لكن هذا الأمر فُرّغ من مضمونه، فأي إنسان يطلب حسن سلوك يأخذ حسن سلوك، ولو كان قاطع طريق، فإذاً الوثيقة لم يعد لها قيمة إطلاقاً، فُرغت من مضمونها، وانتهت هذه الوثيقة.
فالنصوص حينما تُؤَوَّل تأويلاً مغلوطاً، وحينما تُصرَف عن معناها الصحيح إلى معنى مُفتعَل مغلوط، حينما نقدم، ونؤخر، ونضيف حركة، ونحذف حركة يكون هذا تحريفاً.
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾
[ سورة الكهف ]
﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ(29)﴾
أخي متى تصلي؟ الله لم يشأ لي بعد! ما هذا الكلام؟ هذه الآية: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾ هل فهمت الآية هكذا؟ لا، إذا استحققت دخول الجنة لأن الله منحك حرية الاختيار، ولولا أن الله تفضل عليك، ومنحك حرية الاختيار لمَا كنت مختاراً، ولما كنت من هذا الاختيار من أهل الجنة، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾ يقول لك: الله عز وجل لك لا يريد هداية عباده، والدليل:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَىٰهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ(13)﴾
نريد أن نعبئها! هذا فهم سقيم جداً، هناك من يدّعي أن الله أجبره على المعصية، يقول الله عز وجل: يا عبادي لو أني كنت مجبركم على شيء لمَا أجبرتكم إلا على الهدى، ولو شئنا أن نجبركم، ونسلبكم اختياركم، ونلغي هويتكم، وأن تكونوا كمخلوقات أخرى مُسيَّرين، وأجبرناكم على شيء ما لمَا أجبرناكم إلا على الهدى، أما هذا الذي تفعلونه من اختياركم، ومن كسبكم، ومن صنع أيديكم، لذلك سوف تدفعون ثمنه باهظاً، هذا المعنى، وليس المعنى أن الله لا يحب هداية خلقه!
مثلاً: أمِن المعقول أن ترى حاجزًا في الطريق، فيأخذ كل من يجده أمامه إلى سجن عدرا؟ وعندما يسألون: ماذا حصل؟ يقال: لأن السجن فارغ، ونريد أن نملأه! هذا الكلام غير معقول، ولا يقبله عقل، هناك من يفهم الآية هكذا ﴿وَلَٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ لا، ليس هذا هو المعنى.
وقال تعالى: ﴿إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلْقَى ٱلشَّيْطَٰنُ فِىٓ أُمْنِيَّتِهِۦ﴾ الشيطان وصل إلى النبي وألقى في أمنيته؟ لا، النبي يتمنى هداية قومه، والشيطان يتمنى إضلالهم، وليس بأماني النبي، ولا أماني الشيطان، إنما هو باختيار الإنسان.
﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَىٰهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍۢ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍۢ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(272)﴾
﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ(56)﴾
﴿ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ(22)﴾
الإنسان مخير، فالفرق كبير، يقول:
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)﴾
الهداية من عند الله عز وجل، الله لم يهدِني بعد، فلان شارب خمر لا تعترض، طاسات معدودة بأماكن محدودة، الآية: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ ليس هذا هو المعنى، المعنى أن الله فطر هذه النفس فطرة عالية، وجبَلها جِبِلَّة عالية، وبرمجها برمجة عالية، حيث إذا أخطأت تحس على خطئها من دون معلم، وإذا اتّقت تحس أنها مستقيمة من دون معلم، مصممة هذه النفس أن تعرف حقيقتها.
﴿ بَلْ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)﴾
شيء واضح، يقول تعالى :
﴿ وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُۥ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُۥ فُرُطًا(28)﴾
ما ذنبه هذا؟ الله جعله غافلاً، ﴿أَغْفَلْنَا﴾ من قال لك يا أخي: إن ﴿أَغْفَلْنَا﴾ تعني أن الله خلق فيه الغفلة؟ أعوذ بالله، افتح كتب اللغة، أغفلنا: يعني وجدناه غافلاً، والعرب تقول قبل الإسلام: عاشرت هؤلاء القوم فما أجبنتهم، أي ما وجدتهم جبناء، عاشرت هؤلاء فما أبخلتهم، أي ما وجدتهم بخلاء، إذاً: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُۥ﴾ ليس معناها أننا خلقنا فيه الغفلة، ثم نحاسبه، أيُعقل أن يأمر مدير مؤسسة موظفاً أن يسافر إلى حلب، ثم يتفقده في اليوم التالي فيجده لم يداوم! أنت أعطيته أمرًا أن يسافر إلى حلب، سأعاقبه، أنت أمرته أن يسافر، وتعاقبه لأنه غاب عن الدوام في اليوم التالي في مركز الشركة؟ هذا مستحيل.
ألقاه في اليَمِّ مكتوفاً وقال له إياكَ إياك أن تبتل بالماء
هكذا يصورون الله عز وجل، أنه قدّر عليه الكفر قبل أن يُخلَق، جاء إلى الدنيا ماذا فعل هذا العبد؟ نفّذ مشيئة الله، في جهنم إلى أبد الآبدين، لأنك كافر، ألا يقول الإنسان: ما ذنبي أنا؟ أنت خلقتني كافراً، أنت قدّرت علي الكفر، كيف تعذبني؟ قال لا، قال تعالى:
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)﴾
﴿ وَلِكُلٍّۢ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ(148)﴾
﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾
﴿ سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَىْءٍۢ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍۢ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)﴾
هذا كذب على الله، أحد الخلفاء جاؤوا إليه بشارب خمر فقال: "أقيموا عليه الحد، قال: والله يا أمير المؤمنين إن الله قدّر علي ذلك" ، يتكلم مع خليفة المسلمين، فقال: "أقيموا عليه الحد مرتين؛ مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأنه افترى على الله"، قال له: "ويحك يا هذا، إن قضاء الله لن يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار" .
في اللحظة التي تتوهم أنك مسيّر في كل شيء، لِمَ لا تصلي؟ ما شاء الله لي أن أصلي، العوام يقولون: الذي هداه الله فهو مهتدٍ، أليس للإنسان علاقة بالهداية والضلال؟ الله يهدي أناسًا، ويضل آخرين، كيف يحاسبهم؟ لماذا يعذب المنحرف منهم؟ لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أنه أجبرهم على المعصية لبطل العِقاب، ولو تركهم همَلاً لكان عجزاً في القدرة، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلّف يسيراً، ولم يكلف عسيراً وأعطى على القليل كثيراً.
أخطر شيء العقيدة، فحينما تفسد عقيدة الإنسان لا بد أن ينحرف، كيف يُلوَى عنق النص؟ كيف يزوّر النص؟ كيف يخرج النص عن مدلوله الحقيقي؟
﴿ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ(41)﴾
لمَ لا تصلِي؟ الله لم يمكنا بعد! والله شيء جميل.
﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99)﴾
لِمَ لا تعبد الله؟ لأنني جاءني اليقين، "حتى" حتى انتهاء الغاية، أرأيتم إلى هذه الأمثلة؟ هذا معنى ليّ عنق النص، هذا معنى تزوير النص، هذا معنى إخراج النص عن قصده العظيم.
﴿وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِيقًا يَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَٰبِ﴾ يأتيك بآية، أو بحديث، أو بآية من التوراة عن هؤلاء، أو بآية من الإنجيل، يلوون، يعني يغيرون صياغتها، أو يغيرون مدلولها، في بعض الكتب المعاصرة فسروا قوله تعالى:
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)﴾
قال: البنون: البناء، ﴿زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ، المال والبناء.
﴿لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ ليس هذا كلام الله، ليس هذا الفهم فهماً صحيحاً لكلام الله، وليس هذا الفهم فهماً صحيحاً لسنة رسول الله، عنده اثنا عشر ولداً، كلهم في الطريق، لا تربية، ولا علم، ولا أخلاق، ولا مدرسة، ولا غذاء صحي، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ. ))
هل تظن أن النبي أراد أن يباهي بالعدد فقط؟ النبي يباهي بالنوع، عندما تجد عصرًا كعصر النبي كله أبطال، أصحاب النبي كانوا أبطالاً، عندما تجد ألفًا كأفٍّ، ما قيمة هذه الكثرة؟ ما قيمة مليار ومائتي مليون؟ وليس أمرهم بيدهم، وليست كلمتهم هي العليا، ما قيمتهم؟ ما قيمة ملايين مملينة تائهة عن الله عز وجل شاردة عنه؟ تقترف المعاصي والآثام، هان أمر الله عليها، فهانت على الله؟ المسلمون اليوم ينتظرون من الله أن يغيّر سننه، وهم ليسوا مستعدين أن يغيّروا حياتهم أبداً، قال تعالى:
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)﴾
5 ـ المنحرف يخترع لانحرافه تأويلاً بليّ النصوص:
هذا المرض الذي وقع به أهل الكتاب، وقع به المسلمون بشكل موسّع جداً، ما من إنسان منحرف، حتى الذي ينحرف في علاقته مع أهله يقول: ﴿أَنَّىٰ شِئْتُمْ﴾ يا أخي ﴿فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ﴾ الحرث مكان الإنبات، الآية واضحة، يقول: "أنى" تفيد إطلاق المكان، ما هذا الكلام؟ لا يوجد إنسان منحرف إلا ويبحث عن تفسير منحرف لنص، فالمرابي: ﴿لَا تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضْعَٰفًا مُّضَٰعَفَةً﴾ الذي لم يهتدِ، وما أراد الهدى.
﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَلَتُسْـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(93)﴾
هذا ليس عملنا، هذا شيء من المناقشات والحوارات بين الناس، تجد أن كل إنسان مقترف لمعصية يبحث عن غطاء من النصوص لتغطيتها.
إذا كان الواحد لا يريد مساعدة الفقير يقول لك: لست أرحمَ مِن ربه، هل يعني ألاّ تساعده؟ لأن الله قدّر عليه الفقر يجب ألّا تساعده؟ هكذا فهمك؟ والآية واضحة:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُۥٓ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍۢ(47)﴾
نعم، يجب أن تطعم الفقير ولو كان فقيراً.
مرة سمعت طرفة: أن من هذا الذي يؤمن بوحدة الأمة العربية؟ قال: المهرّب، لأن الحدود ألغاها، ونقل البضائع عبرها، هذا ليٌّ لعنق النص أيضاً.
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ﴾ هذا من تخرُّصاتهم، من أهوائهم، من شهواتهم، من انحرافاتهم، من رغباتهم المريضة.
1 ـ إياك أن تكذب على الله ورسوله:
﴿وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ أخطر شيء في الحياة أن تكذب على الله، وعلى رسول الله، فعَنْ الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ. ))
والكذب على رسول الله كأنه كذب على الله، لأن الله أمرنا أن نأخذ ما قاله النبي، فقال:
﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ ۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ(7)﴾
الله أمرنا، فإذا أتيت بحديث موضوع، أو بحديث غير صحيح، أو حديث ضعيف، وأوهمتنا أنه من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، أنت ماذا فعلت؟ كذبت على الله، لأنك كذبت على المُبلِّغ الذي يبلّغ عن الله عز وجل.
إذاً: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ يقول أحدهم: والله لست قاصدًا أن أكذب على النبي، النبي قال: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا) أنا لست متعمدًا، عندَ والدي كتاب قديم أقرأ منه، هذه كلها أحاديث موجودة في كتاب والدي، لم أفعل شيئًا، اسمع الحديث الثاني: عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( مَنْ حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ. ))
يجب أن تتحقق قبل أن تقول: قال عليه الصلاة والسلام، يجب أن تتحقق أن هذا الحديث صحيح، وإلا قل: يُروى، سمعت أن هناك حديثاً يقول: كذا، استخدم صيغة التمريض كي تشعرنا أنك لست متأكداً أن هذا كلام النبي.
2 ـ لا تقل على الله ما لا تعلم ، ولا تقل خلاف ما تعلم:
لكن هنا مشكلة، المشكلة أن إنسانًا قد يفتي بغير علم، فتْوَاه فيها خطأ كبير، طبعاً هذا خطأ كبير أن تفتي بغير علم، لكن الجريمة أن تفتي بخلاف ما تعلم، فأنت تعلم أن هذا الشيء حرام، لكن لمصلحةٍ راجحةٍ عندك أفتَيتَه، هذا في حكم الذنوب يعد مجرمًا، هناك من يفتي بغير علم، وهو آثم، وإثمه كبير، لكن هناك من يفتي بخلاف ما يعلم، يعرف الحقيقة، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك يكذبون نبوته، ثم يقول الله عز وجل:
﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ (79)﴾
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي
1 ـ مقام الرسالة أعلى مقام :
هناك مقام الرسالة، مقام الرسالة أعلى مقام، مقام تبليغي، وهناك مقام النبوة، مقام سلوكي، طبعاً مقام الرسالة سلوكي تبليغي، إنسان يطبق منهج الله، ويدعو الناس إلى منهج من عند الله، جاء عن طريقه، هو رسوله، وقد يأتي نبي قبله رسالة قائمة، ومهمته أن يعيد الناس إلى جادة الصواب التي كانوا عليها، فمقام النبوة مقام سلوكي، مقام تطبيقي، بينما مقام الرسالة مقام تبليغي.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَٰفِرِينَ(67)﴾
سيدنا يوسف لم يأتِ بكتاب، لكن أحيا الكتاب السابق بتطبيقه، فكلما فترت الهمم يأتي نبي، كلما ضاع الحق يأتي رسول، الرسول معه رسالة، معه منهج من عند الله، النبي معه تطبيق، وقد تجد حكيماً آتاه الله فهماً، وحكمة، وعقلاً راجحاً، واتباعاً لنبي قبله، هذا اسمه حكيم.
﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13)﴾
فلقمان حكيم، وسيدنا يوسف نبي، وسيدنا محمد رسول، بل هو سيد الرسل، فهناك حكيم معه حق، ويطبق هذا الحق، وهناك نبي معه منهج سابق يطبقه، وهناك نبي جاء بمنهج جديد فهو رسول، يقول الله عز وجل: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ﴾ يعني رسول، معه كتاب، معه وحي.
﴿وَالْحُكْمَ﴾ معه حكمة كسيدنا لقمان.
2 ـ الرسول والرجل الحكيم لا يدَّعيان الألوهية:
﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾ معه نبوة، فلا يوجد حكيم معتمَد عند الله أنه حكيم، ولا نبي ولا رسول يمكن أن يؤتيَه الله الكتاب والحكم والنبوة ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي﴾ هذه مستحيلة، قال تعالى:
﴿ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ ۘ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُۥ ۗ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌۢ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ(124)﴾
مستحيل، وألف ألف مستحيل أن تُؤتَى كتاباً، أو حكمة، أو نبوة ثم تدّعي الألوهية، وتقول: كونوا عباداً لي من دون الله! مستحيل، لأن هذه جريمة كبيرة جداً؛ أن تدّعي الألوهية، وتقول للناس: اعبدوني من دون الله، لكن ماذا يقول النبي؟ وماذا يقول الرسول؟ وماذا يقول الحكيم؟ ﴿وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّـۧنَ﴾ .
من هو الرباني؟ لأوضح لكم هذه الحقيقة، تقول: فلان عِلماني، طبعاً أصل كلمة علماني؛ أنّ العلم متغلغل في دمه، في كل حركاته، وسكناته، وأقواله، وأفعاله، ينطلق من العلم، هوايته العلم، مطالعته كتب العلم، حديثه في العلم، مزاجه في العلم، طموحه في العلم، همومه أن يكون عالماً، هذا إنسان علماني، لكن قد نجد هذه الكلمة تُستخدم استخدامًا غير صحيح، علماني أيْ يحارب الدين، أو علماني يحارب الدين الإسلامي فقط، هذا مضمون كلمة علماني في الواقع، أما كلمة علماني فتعني شديد الالتصاق بالعلم، تقول: مقالة علمية، ليس علمانية، علمية فقط، تقول: كتاب علمي، محاضرة علمية، موقف علمي، الموقف يغلب عليه الطابع العلمي، هذه المحاضرة يغلب عليها الطابع العلمي، أما إن أردت أن تقول: إن كل كلمة في هذه المحاضرة تتصف بالعلم العميق فتقول: محاضرة علمانية.
أحدهم معه شهادة ثانوية تقول: هذا مثقف علمي، يحمل ليسانس علمي، لكن العلم تغلغل في أعماقه حتى وصل إلى كل حنايا جسمه، وإلى كل قطرات دمه، وخلايا جسمه، فلو عصرته لمَا وجدت إلا علماً، تقول: فلان علماني.
قدمت لكم بهذا المثل، كلمة علماني غير علمي، شدة اتصاف الشيء بالعلمية، قد تقول: هذا البيت فيه شيء من الجمال، فيه غرفة ضيوف جميلة، أما بقية الغرف فسيئة جداً، أما إذا كان كل سنتيمتر من البيت ينطق بالذوق فتقول: بيت جمالي، تعطيه صفة أعلى بكثير، هذا تمهيد.
ما معنى ﴿كُونُواْ رَبَّٰنِيِّـۧنَ﴾ ؟ كيانه كله متعلق بالرب، حديثه كله عن الله عز وجل، حركاته، وسكناته كلها وفق منهج الله، أهواؤه أن يهتدي الناس جميعاً، طموحاته أن يكون عند الله مقرباً، آماله أن يكون الله في قلوب الناس جميعاً.
﴿وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّـۧنَ﴾ شدة نسبة الإنسان إلى ربه يُعبَّر عنها بكلمة رباني.
﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا(110)﴾
النبي عليه الصلاة والسلام على جلال قدره كان ربّانياً.
للتقريب: لو كان عندك لوح زجاج مُركب على باب، والباب من أعلى مستوى تقول عنه: بلجيكي شفاف، من شدة شفافيته، ونظافته ربما لا تراه، ترى ما خلفه دائماً، وحوادث كثيرة، أحدهم من كثرة نظافة الزجاج اخترقه برأسه، ظن أنه لا يوجد زجاج، فإذا كان الزجاج صافيًا جداً يشفُّ عما وراءه، من هو الرباني؟ لا يشفّ عن ذاته، بل يشف عن ربه في كل حركاته، وسكناته، وأقواله، وأفعاله، وعمله، ولهوه، ومرحه، ومع أهله، ومع إخوانه، وفي نزهة، وفي مقام يتحدث عن ربه، وقد قال الله تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41)﴾
الرباني يشف عن حقيقة الدين، يشف عن كمال الله، وكمال رسول الله، لا يُلفِتك إلى نفسه، يقول: أنا ضجرت من هذه الكلمة، أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا، ويتكلم عن نفسه، كل حديثه عن نفسه مفتخراً معظماً، وكلما قال: أنا، يضيف أربع كلمات بعدها! أعوذ بالله من كلمة أنا، ويمدح نفسه، الأضواء لا يسلّطها على ذاته، لكن يتحدث عن ربه،
(( من ذكَرَني في نفسِهِ ذكرتُهُ في نفسي ومن ذكَرَني في ملإٍ ذكرتُهُ في ملإٍ خيرٍ منه. ))
وهذا معنى قوله تعالى :
﴿ فَٱذْكُرُونِىٓ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِى وَلَا تَكْفُرُونِ(152)﴾
موقف أبي بكر الصديق عند وفاة النبي دليل أنه ربّانيّ :
شيء آخر؛ النبي عليه الصلاة والسلام حينما انتقل إلى الرفيق الأعلى ماذا قال الصديق، وهو أحب الخلق إليه؟ ما من بشرَين على وجه الأرض أحبّ كل منهما الآخر كما أحب النبي الصديق، وكما أحب الصديق النبي، ومع ذلك حينما وافت المنيةُ رسولَ الله قال أبو بكر:
(( فمَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنَّ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ مَات ومَن كانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ. ))
المؤمن رباني، كل حركاته، وسكناته، وأقواله، وأفعاله، وفي كل أوقاته مع الله، ينطق بالله، يستعين بالله، يفوض أمره إلى الله، راض بقضاء الله وحكمه، يسعى لخدمة عباد الله، يسعى لنشر الحق، لمسح الآلام عن البؤساء والفقراء، هذا همه، المؤمن رباني، وبالمقابل هناك شخص شيطاني خبيث، كيفما تحرك يؤذي بكلماته، وحركاته، وسكناته، يأكل المال الحرام، ويفرق بين الأنام، وأينما تحرك يؤذي، فهناك رباني، وشيطاني، وشهواني، كلمة شهواني تعني شدة اتصافه بالشهوة، كلمة رحماني شدة اتصافه بالرحمة، كلمة رباني شدة محبته لربه.
﴿وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّـۧنَ﴾ وكيف لا؟
بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ
﴿بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ﴾ المدارسة أن نقرأ النص معاً، ونتعاون على فهمه، واستنباط الأحكام منه، هذه المدارسة، والتعليم أبلغ.
2 ـ كيف تخالفا نصًّا تعلَمُه وتعلِّمه الناسَ ؟!
أنت متمكن من هذا النص، وتعلمه للناس، كيف تخالفه؟ ولا يمكن لهذا النبي، أو الرسول، أو الحكيم أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، أيأمركم بالكفر؟ هذا موضوع دقيق.
3 ـ طاعة الإنسان في معصية الله تأليهٌ له:
هناك أشخاص يؤلّهون بعضهم بعضاً، يقول لك: أنا لم أقل: إنه إله، نعلم ذلك، لم تقل إنه إله، ولكنك عاملته كإله، أخذت أمره، ولم تعرضه على الشرع، نفّذته من دون أن تتأكد من صواب هذا الأمر، إنك تعبد هذا الإنسان من دون الله، حينما تتخذ إنساناً إلهاً أو رباً لا يعني أن تقول: إنه رب أو إله، ولكن تتعامل معه وكأنه إله لا يخطئ، وأمره لا تفكر فيه أبداً، أما سيدنا الصديق لما تولى الأمر قال: <<أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم>> ، بيننا الشرع، يقول: راقبوني.
صحابي بسيط قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى النبي ركعتين:
(( أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلَّى به إحدَى صلاتَيِ العَشيِّ وهي العصرُ فصلَّى ركعتَيْن ثمَّ سلَّم فقام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتبِعه أبو بكرٍ وعمرُ وخرج سَرَعانُ النَّاسِ فلحِقه ذو اليدَيْن وأبو بكرٍ وعمرُ مُبتديه فقال: يا رسولَ اللهِ أقصُرتِ الصَّلاةُ أم نسيتَ؟ فقال: ما قصُرتْ وما نسيتُ، ثمَّ أقبل رسولُ اللهِ وثاب النَّاسُ فصلَّى ركعتَيْن ثمَّ سلَّم ثمَّ سجد سجدتَيِ السَّهوِ. ))
هناك حوار، وسؤال، هذا الذي يغمض عينيه، ويقول أحياناً: خطأ الشيخ خير من صواب طالب العلم، كلام غير مقبول، لأنه: أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، بيننا كتاب الله، وبيننا سنة رسول الله.
﴿ وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ أَرۡبَابًاۗ أَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ (80)﴾
أنت حينما تعظم إنساناً فيصل تعظيمك لهذا الإنسان إلى درجة أنك تطيعه على عمىً، هذا تأليه، اتخذته إلهاً، واتخذته رباً.
4 ـ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ:
الصحابة الكرام لحكمة أرادها الله أمّر النبي على بعضهم رجلاً من الأنصار ذا دعابة، فلما انطلقوا استوقفهم وقال: أضرموا ناراً عظيمة، فأضرموها، قال: اقتحموها، لمَ؟ قال: أنا آمركم بهذا، ألست أميركم؟ أليست طاعتي طاعة رسول الله؟ الصحابة ترددوا في هذا الأمر، بعضهم قال: إنما آمنا بالله فراراً من النار، فكيف ندخلها؟ بعضهم قال: طاعة الأمير طاعة رسول الله، بلغ ذلك النبي، فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا، فَأَوْقَدَ نَارًا، وَقَالَ: ادْخُلُوهَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا فَرَرْنَا مِنْهَا، فَذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا: لَوْ دَخَلُوهَا لَمْ يَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ لِلْآخَرِينَ: لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ. ))
حتى إن الآية الكريمة تقول:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُؤْمِنَٰتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰٓ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْـًٔا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَٰدَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَٰنٍۢ يَفْتَرِينَهُۥ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍۢ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُنَّ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(12)﴾
حتى معصية النبي مقيدة بالمعروف، يجب ألا تكون معصيتك للنبي في أمر تشريعي، لو فرضنا في أمر مزاجي، النبي عليه الصلاة والسلام كان لشعره طريقة خاصة فرضاً، فتح قميصه، لأنه شعر بحر شديد فرضاً، كلما فعل النبي شيئاً ليس تشريعياً من أحواله الخاصة، هذا شيء آخر، لكن يجب أن تتابعه في أوامره التشريعية التي هي من عند الله، أما في أحواله الشخصية فكان يحب اليقطين، لو أن واحدًا ما أحب اليقطين فهل هو في جهنم؟ لا علاقة لذلك، هذه قضية شخصية.
﴿وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ أَرۡبَابًاۗ﴾ ديننا دين توحيد.
﴿وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ أَرۡبَابًاۗ أَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ﴾ هذا كفر، أن تسجد لإنسان، أن تدّعي، أو تعامل إنساناً على أنه رب، أو إله فهذا كفر.
﴿أَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ﴾ أيعقل من مسلم استسلم لأمر الله أن يعبد من دونه أحداً؟
أرجو الله سبحانه وتعالى أن يعيننا في الدرس القادم على متابعة هذه الآيات.
الملف مدقق