الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الواحد والعشرين من دروس آل عمران، ومع الآية الخامسة والسبعين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمًاۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ (75)﴾
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ
1 ـ الإنسان بين الاعتقاد والسلوك :
في هذه الآية أيها الإخوة ربطٌ رائعٌ بين ما يعتقده الإنسان وما يسلكه، فهذا الذي لا تأمنه بدينار خانك في التعامل، في الأعم الأغلب لن يكون صادقاً في الدعوة، هؤلاء الذين كتموا ما في كتبهم عن صفات النبي عليه الصلاة والسلام، وأنكروا أن يكون في توراتهم، وفي إنجيلهم بشارات لهذا النبي الكريم، هؤلاء الذين خانوا الله في علمهم، وفي معرفتهم، وفي عقيدتهم طبيعي جداً أن يخونوا الناس في معاملاتهم.
لكن أروع ما في الآية كلمة ﴿مِنۡ﴾ للتبعيض، لو أن واحداً من أهل الكتاب كان أميناً، ولم يكن في هذه الآية ﴿مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ بماذا شعر؟ أن هذا ليس كلام خالق البشر إنه كلام بشر، الإنسان يعمم، ولا يدقق أحياناً، ولا يلقي حكماً موضوعياً، لا يستقصي، يميل إلى حكم عام، لو أنه سافر إلى بلدة، وأساء إليه بعض سكانها لاتهم البلدة كلها بالانحراف، هذا شأن البشر، لكن الله جل جلاله هو خالق البشر، هو الحق، لذلك قال تعالى: ﴿وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ﴾ .
والحقيقة: الأمانة غنىً، إن أكبر رأس مالٍ تملكه ثقة الناس بك، وأساسها أمانتك، تكون أميناً معهم فيثقون بك، وإذا وثقوا بك فأنت تملك أكبر رأس مالٍ على الإطلاق! فهذا الذي ﴿إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ﴾ وأحياناً إنسان يخون أخاه بمائة ليرة، بخمسين ليرة، يبيع دينه بعرَضٍ من الدنيا قليل، وهناك من لو دفعت له مائة مليون على أن يأكل مالاً حراماً، أو على أن يفعل شيئاً لا يرضي الله ركلها بقدمه.
نحن مع الأسف الشديد عِشنا في مجتمع متفلّت، ضاعت فيه القيم، وانهارت فيه العهود، وسقطت الكلمة، لأنها لا تعبر عن واقع، لكن لو عشنا مجتمع القيم، نحن في مجتمع الشهوة، لا في مجتمع القيم، في مجتمع المصالح لا مجتمع المبادئ، نحن في مجتمع الانحطاط لا في مجتمع السمو، هؤلاء الناس حينما يعرفون الله عز وجل، وحينما يخافونه في أشد الحالات دقة هؤلاء العيش بينهم جنة!
لذلك الإسلام لا ينتشر إلا بحالة واحدة؛ أن تكون هناك مساحة، ولو كانت صغيرة يُطبَّق فيها الإسلام، أن نجد إنسانًا مسلمًا متحركًا، فإسلام على الورق لا يؤثر، وإسلام يُقرَأ لا يؤثر، إسلام يُسمَع كشريط لا يؤثر، أما الذي يؤثر أن ترى مسلماً صادقاً، أميناً، عفيفاً، واضحاً، يعمل تحت ضوء الشمس.
أيها الإخوة الكرام، هناك إنسان وجد في مركبته مبلغًا فلكيًا، كبيراً جداً، المبلغ كان من الممكن أن يشتري به بيتاً في أرقى أحياء دمشق، ومحلاً تجارياً في أفضل أسواق دمشق، وبيتاً في المَصِيف، ومركبة فارهة، بحث عن صاحب المال عشرين يوماً حتى عثر عليه، ونقده إياه بالتمام والكمال! وإنسان آخر أحياناً يسرق مائة ليرة، أو خمسين ليرة، فهناك مفاضلة، ومقارنة واضحة في الآية الكريمة: ﴿وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ﴾ حينما ضاعت الذِّمم، ولم يخشَ الناس ربهم سقطت العهود، ألا لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له.
4 ـ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ
﴿وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ﴾ حدثني إنسان له أب من أكثر الأغنياء غِنى، لكن لا أزكي على الله أحداً أحسبه صالحاً، قال لي: سبب غنى والدي أنه كان عليه دين لشخص غير مسلم بالليرات الذهبية، والقصة قديمة جداً، من خمسين عامًا تقريباً، ثم صدر توجيه يمنع التداول بالذهب، وينقلب التداول بعملة ورقية، بحسب القانون لو أنه أدى ما عليه بالورق لدفع ربع ما عليه، قال: فأصر والدي أن يعيد القرض كما أخذه بالليرات الذهبية، والرجل المقرِض غير مسلم، هذا له وكالة في بلد عربي مجاور، طُلِب منه أن يفتح وكالة في هذا البلد، وهو على فراش الموت، أوصى أولاده أن يعطوا الوكالة لهذا المسلم الذي أدى له الدين بالتمام والكمال، فلما جاء أولاده إليه قالوا: نحن لا نملك ثمن هذه البضاعة قال: الثمن علينا، ولكن خذوا الوكالة، وهذا سبب غناه الشديد، لأنه يؤدي الذي عليه، فهذا الذي يؤدي الذي عليه إنسان راقٍ.
نحن كوننا مسلمون ما الذي ضيع الحقوق؟ ضعف الدين، كيف أن عمر رضي الله عنه يجلس للقضاء سنتين دون أن يأتيه متخاصمان، وكيف أن محاكمنا تموج بعشرات ألوف الدعاوى، المسلمون يغتصبون أموال بعضهم البعض، الطبقة العادية، المسلم العادي الذي يرتاد المساجد ليصلي، المحسوب على المسلمين يأخذ ما ليس له، اذهب إلى المحاكم تجد آلاف القضايا؛ اغتصاب أموال، اغتصاب شركات، اغتصاب وكالات، أيمان كاذبة، يبيع دينه بعرَضٍ من الدنيا قليل، فالبطولة لا أن تصلي فقط، بل أن نرى ثمار صلاتك أمانةً، وصدقاً، وعفافاً، هذا النجاشي عندما سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم بماذا أجابه سيدنا جعفر؟
(( حتَّى بعثَ اللَّهُ إلينا رسولًا منّا نعرفُ نسبَهُ، وصدقَهُ ، وأمانتَهُ، وعفافَهُ. ))
أركان الأخلاق: أن يكون الإنسان صادقاً إذا حدثك، وأميناً إذا عاملته، عفيفاً إذا استثيرت شهوته، هذه أركان الأخلاق.
﴿وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ﴾ وقد تجد معاملة طيبة جداً من إنسان غير مسلم، ومنهم من يبيع دينه وآخرته بعرض من الدنيا قليل.
﴿وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمًاۗ﴾ .
5 ـ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا
مطالبة يومية، كل يوم أنت في مكان عمله، اتصالات، ومطالبة، وإلحاح حتى يؤديه لك، لكن هناك حالة أصعب، لو أدمت الوقوف أمامه، لو أطلت المطالبة لا يؤدي لك شيئاً، على الرغم من المطالبة لا يؤدي شيئاً، وكم من إنسان اشترى بضاعة، وقبض ثمنها، وزوّج أولاده بثمنها، وحتى الآن عليه ديون من عشرين سنة! وقد يرتاد المساجد، وترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد الإسلام.
والله أعرف إنسانًا اشترى بضاعة من دمشق، وباعها، وقبض ثمنها، وزوّج ولديه، واشترى لهما البيوت، ولا تزال ذمته مَدينةً بأموال طائلة، وهو إن حدثك يحدثك بالدين، هذه المشكلة، لماذا يكفر الناس بالدين أحياناً؟ مِن مثل هذه المعاملات، هذا الذي يرى إنسانًا محسوبًا على المسلمين، ويأكل المال الحرام، ويحتال عليهم، ويغشهم في بيعهم وشرائهم، كيف يكون مسلماً؟ كيف يقبله الله عز وجل؟ هناك أساليب لكسب المال الحرام لا تعد ولا تحصى، يكفي أن تحكّ تاريخ انتهاء الصلاحية لأي شيء، إذا انتهت صلاحيته، وتبيعه، وقد يكون المشتري جاهلاً فيشتريها، إن كان دواء له أثر خطير إذا انتهى مفعوله، أنا كنت أظن أنه لا يفيد، الآن ثبت لي بإخبار بعض الأطباء الأكارم أنه يؤذي، هذه المواد تُفكَّك، فتنقلب سُمّاً، فيكفي أن تحك تاريخ انتهاء مفعول الدواء، أو الطعام، أو المعلبات، وتبيعها كأنها صالحة للعمل، فقد خنت أمانتك، يكفي أن تغش المسلمين بتغيير منشأ البضاعة، الأقمشة الغربية غالية جداً، يكفي أن تأتي بأقمشة من الشرق تدمغها بدمغة غربية، ضاعت الأمانة، لذلك هؤلاء الناس الذين يغشون بعضهم بعضاً، ويكذبون على بعضهم بعضاً، ويأكلون أموال بعضهم بعضاً ظلماً وعدواناً هؤلاء سقطوا من عين الله، ولأَن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتنحطم أضلاعه خير له من أن يسقط من عين الله.
لا يغرنكم امتلاء المساجد، واحد كألف، وألف كأُف، واحد تجده عند الحلال والحرام، تجده عند الأمر والنهي، المليون والواحد سيّان عنده إذا كانا في معصية الله، مثل هؤلاء الرجال يبنون أمة، مثل هؤلاء الورعين يُشيدون حضارة، مثل هؤلاء الأمناء ينتصرون على عدوهم، لا يُعقَل أن يكون العدو لا يزيد على مليونين يتحدون ثلاثمائة مليون، لا يعقل!
(( ولا يُغْلَبُ اثنا عشرَ ألفًا من قِلَّةٍ. ))
هذا كلام بليغ.
الجانب العملي هو الذي يؤثر في الناس :
﴿وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ﴾ أنا ذكرت لكم أن الذي يشدّ الناس إلى الدين ليس المنطق السليم فقط، ليس الكلام المؤيد بالأدلة فقط، ليس الكلام المنمّق فقط، ليس التصور الصحيح لحقيقة الحياة، والكون، والإنسان فقط، الذي يشد الناس إلى الدين معاملة متميزة.
أقسم لي أخ كريم يعمل في دائرة، أن لهذه الدائرة مديراً عاماً طلب منه إجازة عدة أيام فغضب المدير، الآن نحن في ضيق شديد، ولا أسمح لك بإجازة، قال: أنا أصلي في المسجد كل يوم ربع ساعة، جمعتها فكانت ستة أيام تبرئة لذمتي أمامكم! قال لي هذا الأخ: والله لا أصدق في حياتي أن يأتي هذا المدير ليحضر درس علم في مسجد، في الأسبوع التالي وجدته في المسجد يستمع إلى الدرس، هذا ما الذي شدّه إلى الدين؟ الورع من هذا الموظف، عنده قناعات عالية جداً.
إنّ أكبر ملحد في أمريكا دكتور في الرياضيات، في مدينة سان فرانسيسكو، انتقد مرة في صغره أستاذ الديانة، فأنّبه والده تأنيباً شديداً، فضربه، وطرده من البيت، فاتخذ الإلحاد ديناً، وكبر وهو يتمتع بمستوى عال من الذكاء، يقول هذا الإنسان، وهو الآن من أكبر دعاة الإسلام في أمريكا: هناك فتاة ولدت في أمريكا محجبة حجابًا كاملًا، ويبدو أن دينها قوي جداً، عن قناعة وإيمان، فهذه الفتاة تحضّر دكتوراه في الرياضيات، أستاذها أرسلها إليه، يقول هذا الإنسان الملحد: رأيت النساء في أمريكا شبه عرايا، وهذه ترتدي الحجاب الكامل في أيام الصيف الحارة، إذًا عندها قناعات متميزة، يقول: أنا لأول مرة أقدّر تقديراً عالياً فتيات الشرق الأوسط، هذا الإنسان من يومه عكف على قراءة كتب المسلمين، قرأ القرآن كله، وجد آية ظنها خطأً، وأنها غير صحيحة، حينما قال الله عز وجل:
﴿ فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ(92)﴾
أي فرعون، فاتصل بزميله موريس بوكاي في فرنسا وقال له: هذه آية خطأ، قال: فرعون موسى لا يزال كما هو في متحف مصر! وجيء به إلى فرنسا للترميم، هذا الآن أكبر داعية مسلم بأمريكا، ما الذي يشد الناس إلى الدين؟ موقف أخلاقي متميز، أمانة متميزة، صدق متميز، أخلاق عالية، تضحية، إيثار، هذا هو تألق الإنسان.
الإنسان لا يقدر من كان كثير المال، أو كثير الدهاء، أو قوياً في بدنه، أو مركزه، الإنسان يقدر الموقف الأخلاقي، لذلك العصور السابقة -على أنها عصور متواضعة في منجزات الحضارة- الأجداد سكنوا تحت الخيام في الصحراء، لكن مروءة امرئ القيس لا تنسى، وكرم حاتم الطائي لا ينسى، وشجاعة المسلمين لا تنسى، معنى ذلك أن الذي يرفع الإنسان ما يتمتع به من تألق أخلاقي، هذه الآية دقيقة.
﴿مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمًاۗ﴾ وهناك حالات أخرى لو كنت قائماً عليه لا يؤدي إليك شيئاً، هؤلاء الذين يفعلون هذا هؤلاء خانوا أماناتهم، ماذا يعللون ذلك؟ تعليلهم: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٌ﴾ .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
يقصدون بالأميين العرب! هؤلاء جُهّال، ماذا نفهم؟ لمجرد أن يأتيك من يشتري بضاعة، وتتوسم فيه الغباء، أو الجهل، أو عدم الخبرة، وتبيعه بضاعة سيئة بأغلى سعر، فأنت من هؤلاء ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٌ﴾
المستقيم لا يغش الناس مهما كانوا :
واللهِ مرة كنت عند أحد القصابين، وجاءه طفل صغير يطلب منه قطعة لحم من مكان دقيق جداً لمريض، أنا أراقب هذا الأخ القصّاب، نفّذ طلب هذا الطفل الصغير بحذافيره، والطفل لا يستطيع أن يميز شيئاً من شيء، وكان بإمكانه أن يعطيه لحماً لا يؤكل، لكن وجدت أن أمانة هذا القصاب تلفت النظر، الدين فيه شيء متألق، لو كان الطرف الآخر لا يعرف، أنت تعرف، مستحيل على مؤمن أن يغش المسلمين، ولو كانوا صغاراً، أو جهالاً، ولو كانوا لا يعرفون طبيعة هذه البضاعة أبداً.
يا أيها الإخوة، الدين لا يتجزأ، لا يوجد شيء اسمه صلاة وحدها، واستقامة وحدها، الصلاة، والاستقامة، والزكاة، والحج، والنطق بالشهادة شيء واحد.
الإسلام مبني على الوازع الداخلي :
هي الآية كلها تتكلم عن هؤلاء الذين كتموا ما عندهم في التوراة والإنجيل من البشارة بمحمد عليه الصلاة والسلام، هؤلاء خانوا عهدهم مع الله، فمن الممكن أن يخونوا عهدهم مع الناس، لذلك لا تأمن إلا لمن يخاف الله، والذي لا يخاف الله قد تكون ظروفه صعبة فلا يخونك لأن هناك قيوداً تقيده، لكن لو رفعت عنه بعض القيود لأكل كل شيء، هذه النزاهة التي يتبجحون بها في الغرب جاءت من الضبط الإلكتروني، فلو انقطعت الكهرباء ليلة واحدة لرأيت مائتي ألف سرقة في مدينة واحدة في أمريكا، مجموع سرقاتها اثنان بليون دولار! لانقطاع الكهرباء ليلة واحدة! فكل شيء من النظم الوضعية مبني على الردع الخارجي، وكل شيء من النظم الإلهية مبني على الوازع الداخلي، واضع القانون إنسان، والمواطن قد يكون أذكى منه، فيعمل عملاً يبطل مفعوله، ويجهضه، وينهيه، واضع القانون ذكي، وقد يكون المواطن أذكى منه، هي معركة بين عقلين، نقول: السرعة مائة كيلو متر، جيد، وهناك أجهزة تراقب السرعة، رادار جيد، اختُرِع جهاز يكشف جهاز الرادار!
أنا مرة كنت أركب مركبة في أمريكا سمعت صوتاً، قلت: ما هذا؟ قال: هذا يعلمني بوجود مركز رادار، اقتربنا منه، فعلي أن أخفض السرعة حتى نتلافى المخالفة، إذاً انتهى القانون!
الآن الدولة تبحث عن جهاز يكشف أجهزة السيارات! وهي معركة لا تنتهي، أما عظمة ديننا تكمن في وجود قدوات مثل عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد رأى راعياً، وقال له: << بعني هذه الشاة، وخذ ثمنها، قال: ليست لي، قال: قل لصاحبها ماتت، قال: ليست لي، قال: خذ ثمنها، قال: ليست لي، والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها: ماتت أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟>> .
هذا الذي يعجن العجين ما الذي يمنعه أن يفعل كل شيء فيه؟ خوفه من الله، فإن لم يخف الله عز وجل، ورأى شيئاً لا يعقل أن يكون في الطحين لا يسأل، بل يتابع.
نحن نحتاج إلى إيمان، فهو أُسّ الفضائل، وقِوام الضمائر، وسند العزائم، وبلسم الصبر عند الشدائد .
لا تغشّ غير المسلمين فيتّهم دينك :
﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٌ﴾ واللهِ أيها الإخوة، لو غششت مجوسيًا لحاسبك الله، هناك مسلمون جهلة، يتصورون أنهم إذا غشوا غير مسلم فليس عليهم من سبيل، يقولون: هذا كافر، هذا غير مسلم، أنا أؤمن واللهِ أنك إذا غششت مسلماً يقول للناس: فلان غشني! أما إذا غششت غير مسلم فيقول: الإسلام غشني، وفرق كبير بين أن يقول: فلان غشني، وأن يقول: الإسلام غشني، لذلك أنت على ثغرة من ثُغَر الإسلام فلا يُؤتيَنّ من قبلك.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُواْ ۚ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ(8)﴾
من هم الأعداء التقليديون للمؤمنين؟ الكفار، ولا تحملنكم عداوتكم لهؤلاء أن تظلموهم ﴿ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ عندما احتلت القدس من قبل الفرنجة ذبحوا في ليلة واحدة سبعين ألفاً! فلما فتحها صلاح الدين الأيوبي طيّب الله ثراه جاءته امرأة من الفرنجة فقدت ابنها، فوقف، ولم يجلس حتى أعادوا لها ابنها! هذا هو الإسلام؛ دين العدل، دين الرحمة، دين الحكمة، والإنصاف.
الآن فرّغ الإسلام من مضمونه، بقي مساجد رائعة، خطب رنانة، كتب مجلدة، أشرطة، محطات فضائية، كل شيء إسلامي، لكن لا يوجد إسلام، الإسلام هذا الطهر، وهذا النقاء، وهذا الالتزام، وهذه الطاعة ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٌ﴾ هذا غير مسلم.
جاءني أخ يستفتيني فقال: كنت في بلد غربي، واشتريت بطاقة مصرفية، واشتريت بها بخمسة آلاف دولار، وجئت ولم أدفع شيئاً، لأنهم كفار! قلت: والله سوف تُحاسَب عن هذا المبلغ درهماً درهماً، من قال لك هذا الكلام؟ لماذا لما كانت الأمانات مع رسول الله، وهاجر إلى المدينة لم يأخذها معه؟ لأنهم كفار، لماذا أبقى علي بن أبي طالب ابن عمه ليرد الأمانات إلى أهلها؟ كيف تطمع من هؤلاء الكفار أن يسلموا إن كنت خائناً لهم؟ أو إن أكلت أموالهم؟ في الحرب شيء آخر، هذه تعد غنائم، حتى زوج السيدة زينب حينما أُسِر في المدينة، ومعه بضاعة قريش، معه أموال طائلة لقريش، وبحسب النص إذا أسلم انقلبت هذه الأموال غنائم له، ولمن حولـه، ماذا قال؟ قال: والله لا أبدأ إسلامي بهذا، عاد إلى مكة، وأرجع الأموال لأصحابها، ثم أعلن إسلامه.
حينما تؤذي الإنسان يتهم دينك، لذلك الدعاء:
﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ(5)﴾
هذا الكافر إذا رأى مسلماً يكذب عليه، أو يحتال عليه، أو يغشه يقول: أنا على المنهج الصحيح، يتمسك بكفره، وبشركه، ولا يقبل أن يُلقي أذناً مصغية إلى الدين إطلاقاً أبداً.
قبل أن تدعو إلى الله ينبغي أن تكون أخلاقياً، صادقاً، أميناً، متواضعاً، وذا قلب كبير، ينبغي أن تحب الناس، وأن تزن بميزان واحد، لأنه لا بد من أن يفتح لك القلب قبل أن تُفتَح لك الآذان.
﴿وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمًاۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٌ﴾ أخطر شيء أن يبرر الإنسان لنفسه، وهناك طرفة: رجل ضيّع خمسين ليرة ذهبية، قال: "يا رب أرجو ألا يجدها رجل له دين ظاهري، يفتي فتوى، ويأخذها" ، هذه مشكلة كبيرة جداً، يجب أن تكون مطمئناً مع المؤمن، أنه لن يأخذ منك قرشاً حراماً، أخطر شيء أن تقول: ﴿لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٌ﴾ يقول لك: هذا بيعه شريف، أنت اكشف العيب، هو ربما لا يكشف العيب، فحينما نغش في بيعنا، وشرائنا، ونكذب، ونحتال، ونهتم أن نصوم يوم الخامس عشر من شعبان، يقولون: هذا يوم فضل، ألست صائماً يا أستاذ؟ هنا المشكلة، كم من يوم في السنة يصوم؟ مع أن بعض الأيام صيامها سنة، وبعضها لم يرد نص صحيح فيها، على كل، تعجبه هذه المواسم، فيتمسك بها، ويأكل الملايين المملينة، ويدّعي أنه مسلم، وهو يكذب على الناس ويخدعهم.
رجل يعمل في القضاء أقام عشرة دعاوى كيدية، قُدِّم له كأس من الشاي، فقال: أنا صائم، لأن اليوم الاثنين، وآخر أراد أن يضع أمانته عند رجل قبل أن يذهب إلى الحج، فدخل إلى المسجد، وراقب صلاة بعض المصلين، فأعجبته صلاة أحدهم، يقف بخشوع، مغمض العينين، أعجبته صلاته فقال: أنا سأضع عندك أمانة، إنني ذاهب إلى الحج قال: وأنا أيضاً صائم يا سيدي، قال: والله صيامك لم يعجبني.
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
1 ـ مخالفة الظاهر للباطن نوع من الكذب:
ثم يقول الله عز وجل: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ يكذبون على الله، الله عز وجل لا يسمح لك أن تغش عباده كائناً من كان، اسمعوا:
(( اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنَّهَا ليسَ بيْنَهَا وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ. ))
عُد للمليار قبل أن تظلم إنسانًا كائنًا من كان، وإن كان غير مسلم، هذا هو الدين، أما هذا الذي يبيح لنفسه أن يأكل أموال غير المسلمين على أنهم كفار فهذا إنسان جاهل، ولو كان هذا من الشرع لأخذ النبي معه إلى المدينة كل ما عنده من أموال أمانات، أخذها، وانطلق، لكنه أبقى ابن عمه ليؤدي لكل صاحب حق حقه ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ .
﴿ بَلْ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)﴾
هم يعلمون أنهم يكذبون، والله عز وجل لا يأمر بالفحشاء، مستحيل!
مثل للتقريب: أحياناً أب يكون عنده أولاد، وأحدهم صالح، وآخر سيئ جداً، لو أراد هذا الابن الصالح أن يأكل مال أخيه ظلماً، أيرضى الأب عنه؟ مع أنه سيئ، لا يرضى عنه، بالعكس لو أن المسلم عامل غير المسلم بأخلاق عالية جداً ما الذي يحصل؟ قد يسلم.
إنسان تزوج امرأة غير مسلمة، يحق له أن يتزوجها، لها أم أصبحت قعيدة الفراش، لها خمسة أولاد وبنت، الأولاد الخمسة لم يقبل أحد منهم أن يأتي بها إلى بيته لضغط من زوجته، فاتخذوا قراراً أن توضَع في مأوى العجزة، لكن هذه البنت التي زوجها مسلم طلب من زوجته أن تأتي بأمها إلى البيت، قال لي: والله ما حدثتها ولا بكلمة واحدة عن الإسلام، أعلنت إسلامها، وأسلمت! لماذا؟ أولادها الذين من صلبها تخلوا عنها، أما هذه البنت التي زوجها مؤمن جيء بها إليهم، وسكنت عندهم، واستأنست بهم، فأعلنت إسلامها.
أقول لكم مرة ثانية وثالثة: لا يشدّ الناس إلى الدين فصاحتكم، ولا أدلتكم، ولا فلسفة بعضكم، بل أمانتكم، وورعكم، واستقامتكم، وصدقكم، ونصحكم في البيع والشراء.
﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٌ﴾ إياكم أيها الإخوة أن تقولوا: هذا ليس فيه دين، فماله حلال، والله أيها الإخوة، هذا شيء أعاينه، ذهبت إلى بلاد بعيدة شرقاً وغرباً، فهناك وهمٌ عند هؤلاء الجالية أن هؤلاء كفار فخذ أموالهم، وخذ نساءهم، واكذب عليهم وغشهم! لذلك سُمعة المسلمين عندهم في الحضيض.
هل تتوقع أن يسلم واحد من هؤلاء؟ وأنا أقسم لكم بالله أن الجاليات الإسلامية لو أنها طبقت دينها الصحيح لكان الغرب بحالة غير هذه الحالة، الغرب قوي، معه أسلحة قوية جداً.
مرة قال أحدهم في مؤتمر: نحن بشر، ونحن أقوى الأمم، ولو أقنعتمونا بدينكم لكانت قوتنا لكم، أنتم كذبتم علينا، ولم تكونوا صادقين معنا، لذلك لا ينفعك عند الله إلا الأخلاق.
(( إنما بُعِثتُ معلماً. ))
(( إنما بُعِثتُ لأتمِّمَ مكارم الأخلاق. ))
هكذا قال النبي الكريم.
أنت تظن أنك إذا صليت، ولك مظهر ديني، وحلفت يمينًا كاذبًا في البيع أن رأسماله أكثر، وأنت تربح بالمائة ثلاثمائة، وحلفت بالأمانة وبدينك، وبكل المقدسات أن رأسماله أكثر، هل تظن نفسك ذكيا بهذا الشيء؟ أنت سقطت من عين الله، الإسلام خمسمائة ألف بند، الصلاة واحدة، والصوم واحد، والحج واحد، والزكاة واحدة، الإسلام ضُغِط حتى أصبح خمس مواد فقط، صلينا، وحججنا، وزكيّنا، وأحضرنا عراضة، وانتهى.
أليس هذا وضع الإسلام اليوم؟ نأكل المال الحرام، ونختلط، ونشتهي غير زوجاتنا، ونفعل ما لا يرضي الله عز وجل، لماذا تخلى الله عن المسلمين؟ ولم يتخلَّ عنهم لسبب صغير، بل لسبب كبير، مشكلتنا مع بعضنا الخصومات، لا يوجد بيت، أو عائلة، أو حي ليس فيه خصومة، خصومات لا تنتهي من البعد عن الله عز وجل.
2 ـ من الظلم والكذب أن يقول المسلم : ليس عليّ في الكافر سبيل :
وقفت عند هذه النقطة في الدرس لئلا يخطر في بال أحدنا، وهو يعامل غير مسلم أنه ليس عليه فيه سبيل، عليك فيه ألف سبيل وسبيل، والجواب:
﴿ بَلَىٰۚ مَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ وَٱتَّقَىٰ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ (76)﴾
الآية الثانية من أوجه ما في التفاسير: أن ﴿بَلَىٰۚ﴾ يعني عليكم سبيل، وبعدها وقْف، والكلام بعدها مُستأنَف، ﴿بَلَىٰۚ﴾ عليكم سبيل.
﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُواْ ۚ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ وعلى المسلم؟ من باب أولى أن تكون مستقيماً معه، هذا الذي يخاف الله عز وجل هذا الذي ماله حلال أتأخذه حراماً؟
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
1 ـ لابد من الوفاء بالعهد والتقوى :
﴿بَلَىٰۚ مَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِ﴾ كأنه عاهد الله على معرفته والاستقامة على أمره، ﴿مَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِ﴾ مع الله على الإيمان به، وتعظيمه، وطاعته، ﴿وَٱتَّقَىٰ﴾ أن يعصيه، ويأكل المال الحرام ﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ﴾ .
وهناك تفسير آخر ﴿بَلَىٰۚ مَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ وَٱتَّقَىٰ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ﴾ إما أن ترجعها على الآية السابقة، ﴿بَلَىٰۚ﴾ عليكم سبيل، أو أن نربطها بما يلحقها ﴿بَلَىٰۚ مَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ وَٱتَّقَىٰ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ ﴾
2 ـ الحديث في القرآن عن أخطاء أهل الكتاب قصدَ اجتنابها:
أيها الإخوة الكرام، قد يسأل سائل: لماذا الحديث عن بني إسرائيل في القرآن، ولا سيما في سورة البقرة وآل عمران؟ لأنهم أهل كتاب، والأمراض التي وقعوا فيها نحن مهيؤون أن نقع فيها ثانية، هم ماذا قالوا؟
﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُۥٓ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(80)﴾
3 ـ عدم الوفاء بالديون منع للخير وتعطيلٌ له:
ماذا قال المسلمون؟ النبي يشفع لنا، العبرة أن نغطي انحرافنا بنص شرعي، أكثر الأمراض التي وقع فيها أهل الكتاب وقع المسلمون فيها، وزيادة! لماذا القرض شبه معطّل؟ لم يعد أحد يقرض أبداً، السبب عدم الأداء، تجده يتمسكن لدرجة أنك تراه ملكاً، فإذا أخذ المبلغ لم يكن مستعداً أن يتصل بك ليعتذر، ولا أن يسلم عليك، وهذا الحاضر، وهذه المحاكم! وحينما نقض الناس عهودهم ومواثيقهم ضعفت القيم في حياتهم، فأصبحوا في حياة صعبة جداً.
يروى أن أحد العرب يركب خيله في الصحراء في أيام الحر الشديد، والحر لا يحتمل، رأى رجلاً لا ينتعل نعلاً، والرمل كأنه نار، فأشفق عليه، ودعاه لركوب الفرس، ولم يكن يدري أن هذا من لصوص الخيل، فما أن اعتلى الفرس حتى دفع صاحبها إلى الأرض، وقاد الفرس لا يلوي على شيء، قال له صاحب الفرس: "يا هذا، لقد وهبت لك هذا الفرس، ولن أسأل عنها بعد اليوم، ولكن إياك أن تشيع هذا الخبر في الصحراء! فتذهب منها المروءة، وبذهاب المروءة يذهب أجمل ما فيها" .
يمكن أن تقف على الطريق، وتؤشر لسيارة، وتركب فيها؟ مستحيل، كم ممن ركب ومعه حشيش، أو مخدرات، وراح صاحبها ضحية عشرين سنة سجناً، الناس يخافون، عندما فقدت الأمانة انقطع هذا الخير، هذا هو منع الماعون، وكلما أسأت لمن أسدى لك معروفاً فقد ساهمت في منع الخير.
كان في الشام سبعمائة ألف شقة مغلقة، لماذا؟ لأن الذي استأجر لا يخرج، هذا الحاضر، وهذه المحاكم، انتهى الإيجار، هذا قبل القانون الجديد، الحمد لله القانون اليوم جيد جداً، لكن قبل هذا القانون انتهى الإيجار، لا يمكن أن تستأجر بيتًا في دمشق، لكن اذهب إلى مدن العالم كلها، في أي مكان يوجد بيوت للإيجار، لأن الناس حينما لم ينفذوا عهودهم، وتمسكوا بالبيوت، وكأنهم أصحابها، ولم يدفعوا إلا أجراً يسيراً لا يساوي أحد الرسوم المالية للبيت، وسكن البيت خمسًا وعشرين سنة، وهذا الحاضر، وهذه المحاكم، والقانون معي، لذلك أُغلق باب الإيجار نهائياً، وكلما أسأنا لبعضنا أُغلق باب الخير، تمر ألف سيارة فارغة لا أحد يقف لك فهم يخافون لكثرة الأذى الذي تعرضوا له من الناس.
4 ـ أكل أموال الناس بالباطل غلقٌ لباب المضاربة:
الآن الطريق الشرعي الوحيد الرائع الذي تطمئن له أن تستثمر مالك عن طريق تاجر المضاربة، النبي كان أول مضارب في الإسلام، أخذ من السيدة خديجة أموالها، وتاجر بها، والربح بينهما، هناك أناس كثيرون أخذوا أموال الناس بمئات المليارات، وأكلوها، من قوي مركزه؟ البنك، لأن هؤلاء الذين أخذوا أموال الناس ليستثمروها فأكلوها أساؤوا لهذا الدين، الطريق الشرعي الوحيد الصالح الذي أراده الله عز وجل، أنت بمالك، وأنا بجهدي، والربح بيننا، إنسان لا يحسن استثمار المال، وإنسان لا يملك المال، وعنده طاقات عالية، لكن لا يملك المال، فالشرع جمع بينهما، من دون فائدة وربا، مشاركة، هؤلاء الذين أكلوا أموال الناس بالباطل بمئات المليارات أغلقوا باب المضاربة، وفتح باب البنك!
لو تتبعت ما في الإسلام من حل مشكلات المجتمع، كله مغلق، لماذا؟ من سوء التصرف، والائتمان، ومن الكذب، فنحن الآن بحاجة إلى انتفاضة، لكن من نوع آخر؛ أن ننفض عقولنا، أن نبحث عن قيم إسلامية صحيحة، أن نتعامل بصدق وأمانة، الله موجود هو الرزاق، لن يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أوله، صلح أول هذا الأمر بالاستقامة، والخلق العظيم، ولن يصلح هذا الأمر بالعبادات وحدها، لابد من استقامة وخلق عظيم.
أيها الإخوة، نتابع هذه الآيات إن شاء الله في درس آخر.
الملف مدقق