وضع داكن
25-04-2024
Logo
مختلفة لسورية الفضائية - الندوة : 15 - ندوة رمضان - وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون.
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة:

الأستاذ علاء:

 أيتها السيدات! أيها السادة المشاهدون! سلام الله عليكم، ورحمته، وبركاته، وبارك الله صيامكم، ومرحباً وأهلاً بكم في هذه الندوة الرمضانية.
 أخواتي و أخوتي: هنالك الكثير الذين يتساءل عن حقيقة سرّ وجوده وعيشه على هذه البسيطة، وعن البساط في الحاضنة والكون، خدمة وتكريماً له و للإنسانية جمعاء، وإذا ما أدرك الإنسان كنه سرّ وجوده، وعمل بمقتضاه، ماذا يمكن أن يكون؟ وما هي ثمار ذلك عليه أولاً وعلى المجتمع وعلى الإنسانية جمعاء إذا علمنا يقيناً أن غاية وجودنا هي عبادة الله الخالق سبحانه وتعالى؟ يقول الله عز وجل:

 

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

 

[ سورة الذاريات: 56]

 عن العبادة، ومفهومها، وأنواعها، وصنوفها، واختلافها باختلاف مهمات العابدين تتحدث ندوتنا هذه، ويسعدني أن أكون بمعية فضيلة الأستاذ الشيخ بشير عيد الباري مفتي دمشق، وأستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة، أهلاً بكم.

 

الدكتور راتب:

 بكم أستاذ علاء جزاك الله خيراً.

 

 

الأستاذ علاء:

 تسمح لي سيدي أن أبتدئ عند أستاذنا وشيخنا الأستاذ الشيخ بشير، كيف نُعرّف العبادة؟

 

الإنسان إذا علم أنه خلق للعبادة سارع إليها:

الأستاذ الشيخ بشير عيد الباري:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 بادئ ذي بدء: أريد أن أبارك للمشاهدين والمشاهدات بحلول شهر رمضان، تقبل الله صيامنا وصيامكن جميعاً، وقد بدأت يا أستاذ علاء بأن الإنسان في هذا الوجود يجب عليه أن يعلم لمَ خلق؟ ولأي شيء خلق؟ لو كان خلقه كبقية المخلوقات لما تميز خلقه، ولقد قال الله عز وجل:

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾

[ سورة الإسراء: 70 ]

 وهذا التكريم إنما هو بالتكليف الذي كلفه الله عز وجل بالعبادة، ولذلك قال تعالى:

 

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي*مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِي*إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾

 

[ سورة الذاريات: -56-58]

 فإذا علم الإنسان أنه خلق للعبادة سارع إليها، هناك أناس لا يعلمون من الحياة وخلقهم إلا أنهم يأكلون، ويشربون، ويأتون الشهوات، وحسب، على حدِّ قول القائل: إنما الدنيا طعام وشراب، فإذا فاتك شيء فاتك الخير كله، فعلى الدنيا السلام، هذا مفهوم الماديين، أما مفهوم الذي عرف الله، وعرف لما خلق، وعرف وعلم أن الله عز وجل قد أسبغ عليه نعماً كثيرة ظاهرة وباطنة، هذه النعم ربما علمنا منها، وربما لم نعلم عنها شيئاً، فلذلك هو يشكر الله عز وجل على هذا الخير، وعلى هذا العطاء.

التدرج في العبادة حتى يتقبل الإنسان التكاليف:

 الإنسان في هذا الوجود مكلف بتكاليف بعد أن منّ الله عليه بنعمة الإسلام، وكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهي الركن الأول من أركان الإسلام، هذه تجبره وتفهمه على أنه عبد لله، إذا أقررت لله بالعبودية، وأقررت لرسول الله بالرسالة، عليك أن تلتزم بحق هذه الشهادة، لا تزال لا إله إلا الله تنفع صاحبها ما لم يستخف بحقها، ولذلك عندما أتى الأعرابي إلى النبي عليه الصلاة والسلام وشهد بين يديه بلا إله إلا الله ومحمد رسول الله، قال: هل عليّ غيرها؟ أراد الرسول أن يتدرج مع هذا الأعرابي، قال: إلا أن تصلي خمس صلوات في اليوم والليلة، قال هل عليّ غيرها؟ قال: إلا أن تخرج الزكاة في موعدها، هكذا يعلمنا الإسلام التدرج، ولذلك على المرء الذي يرعى عائلة، وعلى الأم التي ترعى أبناءها ونساءها، عليها أن تتدرج في العبادة معهم شيئاً فشيئاً، حتى يتقبلوا هذه التكاليف:

﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾

[سورة طه:132]

 هذا الإله المنعم الذي أنعم علينا بهذه النعم:

 

﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾

 

[ سورة التين: 4]

﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ* إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴾

[ سورة الطارق: 5-8]

روهكذا:

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴾

[ سورة النازعات: 27-28 ]

 فَانْظُرْ لِنَفْسِك ثُمَّ انْتَقِلْ لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ ثُمَّ السُّفْلِيِّ تَجِدْ بِهِ صُنْعًا بَدِيعَ الْحُكْمِ لَكِنْ بِهِ قَامَ دَلِيلُ الْعَدَمِ.

الأستاذ علاء:

 سيدي الأستاذ الدكتور محمد راتب، الزّجاج يقول في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾، قال: ما خلقتهم إلا لأدعوهم إلى عبادتي، وأنا مريد للعبادة منهم. كيف نفهم معنى العبادة؟ وعندما نفهم معنى العبادة ماذا يترتب على ذلك؟

 

تعريف العبادة:

 

الدكتور راتب:

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين،أستاذ علاء جزاك الله خيراً.
 بادئ ذي بدء: الإنسان كائن متحرك ليس سكونياً، لمَ هو متحرك؟ لأن الله عز وجل أودع فيه حاجة إلى الطعام حفاظاً على بقائه، أودع فيه حاجة إلى الطرف الآخر حفاظاً على بقاء نوعه، أودع فيه حاجة ثالثة، حاجة التفوق حفاظاً على بقاء ذكره، فهذه الحاجات الثلاثة تجعله كائناً متحركاً، ولهذا الخالق العظيم تعليمات التشغيل والصيانة لهذا الإنسان، الإنسان أعقد آلة في الكون، وله صانع حكيم، ولهذا الصانع الحكيم تعليمات، إذا جاءت حركة هذا الإنسان وفق منهج الله فقد عبده، إن جاءت حركة هذا الإنسان حفاظاً على بقائه كفرد، وحفاظاً على بقاء النوع عن طريق الزواج، وحفاظاً على بقاء الذكر عن طريق التفوق، إذا لبى هذه الحاجات الثلاثة معاً تفوق، فإذا جاءت هذه التربية وفق تعليمات الصانع، الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تتبع تعليماتها هي الجهة الصانعة لأنها الجهة الخبيرة، قال تعالى:

﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾

[ سورة فاطر: 14 ]

 فحينما تأتي حركتي اليومية وفق منهج الله الذي رسمه صانع هذا الإنسان، أكون قد عبدت الله عز وجل، لذلك في تعريفات العبادة أنها: طاعةٌ طوعية وليست قسرية، لأن الله عز وجل مع أنه خالقنا ومع أننا في قبضته، ما أراد أن تكون علاقتنا به علاقة إكراه، قال تعالى:

 

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

 

[ سورة البقرة: 256 ]

 أراد أن تكون علاقتنا به علاقة حب، قال تعالى:

 

﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾

 

[ سورة المائدة: 54 ]

 إذاً هي طاعة ليست قسرية لكنها طوعية، ممزوجةً بمحبةٍ قلبية، فما عبد الله من أطاعه ولم يحبه، وما عبد الله من أحبه ولم يطعه، طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.

العبادة هي غاية الحب لله مع غاية الخضوع له:

 في هذا التعريف جانب سلوكي، وجانب سببي، وجانب جمالي، أولاً السلوك هو الأصل، نحن يمكن أن نضغط نشاطات التجارة كلها بكلمة واحدة إنها الربح، فإن لم تربح فلست تاجراً، الآن يقال: هل يمكن أن أضغط نشاطات الدين كلها بكلمة؟ إنها الاستقامة، فإن لم تستقم لن تقطف من ثمار الدين شيئاً، يبقى الدين فلكلوراً عادات، تقاليداً، تراثاً، يبقى الدين خلفية إسلامية، أرضية إسلامية، تصوراً إسلامياً، اهتمامات إسلامية، الدين هو التطبيق فما لم نستقم على أمر الله لن نستطيع أن نقطف من ثمار الدين شيئاً، إذاً هي حركة، لكن وفق منهج الله.
هذه العبادة معنى عبده أي أطاعه، هي غاية الحب مع غاية الخضوع، هي طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.
هناك جانب معرفي، وجانب سلوكي، وجانب جمالي، المعرفي هو السبب، والسلوكي هو الأصل، والجمالي هو النتيجة.
فلو شاهدت عيناك من حسننا الــذي رأوه لما وليت عنا لــــــغيرنا ولو سمعت أذناك حســــن خطابنا خــلعت عنك ثياب الـعجب وجئتنا
ولو ذقت من طعم المــــحبة ذرة عذرت الـــذي أضحى قتيلاً بحبنا ولــــو نسمت من قربنا لك نسمة لـــمت غريباً واشتياقــاً لقربنا ولو لاح من أنوارنــــا لـك لائحٌ تركــت جميع الكـائنات لأجلنــا
***

الأستاذ علاء:

رسيدي الكريم من خلال هذا الفهم للعبادة، وعلة الوجود من أجل العبادة، إذاً عندما يصل الإنسان إلى هذه الحالة بينه وبين ربه وتكون الصلة مباشرة، هذا يفضي إلى شيء في الحياة على نفسه وأسرته ومجتمعه.أ

وامر الدين ليست حداً لحرية الإنسان ولكنها ضمان لسلامته:

الدكتور راتب:

 أستاذ علاء الشيء الدقيق أن مدينة مثل باريس مدينة كبيرة، فيها مسارح، فيها دور سينما، فيها حدائق، فيها جامعات، فيها معامل، فيها بيوت للسكن، إنسان ذهب إلى هذه المدينة كي ينال الدكتوراه نقول: علة وجوده الوحيدة في هذه المدينة نيل الدكتوراه، أنا أقول لك قياساً على هذا المثل: وعلة وجودنا في الأرض عبادة الله، لكن العبادة لا نفهمها فهماً ضيقاً بل نفهمها فهماً شمولياً؛ الخضوع لمنهج الله التفصيلي، إذا فهمنا أن علة وجودنا في الأرض أن نعبد الله، ينبغي أن نقيم الإسلام في أنفسنا أولاً، وفي بيوتنا ثانياً، وفي أسرتنا وأولادنا، وفي أعمالنا، أنت حينما تتحرك في بيتك وعملك، وفي نشاطاتك، وفي أوقات فراغك، وفي كل أهدافك، وفق منهج الله، فأنت عبد لله، وأنت مطيع له، ومنهج الله عز وجل منهج علمي، بمعنى أن العلاقة بين الأمر وبين نتيجته علاقة علمية، أي علاقة سبب بنتيجة، كي أوضحها إنسان يركب مركبة معه عشرة طن، مرّ على جسر كتب عليه أقصى حمولة خمسة طن، فإذا تلفت هل هناك شرطي يراقبني يكون أحمقاً، الجسر يحاسبه سوف يسقط، أنت حينما ترى أن العلاقة بين الأمر الإلهي ونتيجته علاقة علمية، علاقة سبب بنتيجة، تكون فقيهاً، فلذلك أنا أدعو أخوتي المشاهدين إلى فهم الدين هذا الفهم.
 تمشي في الفلاة فإذا بلوحة كتب عليها حقل ألغام ممنوع التجاوز، أيها الإنسان إذا قرأت هذه اللوحة هل تشعر بحقد على من وضعها؟ لا، تشعر بامتنان، هل ترى هذه اللوحة قيداً لحريتك أم ضماناً لسلامتك؟ أنت حينما تؤمن أن كل أوامر الدين ليست حداً لحريتك ولكنها ضمان لسلامتك كلوحة ممنوع التجاوز حقل ألغام، تكون فقيهاً.

الله عز وجل ما خلق الإنسان إلا ليرحمه و يسعده في الدنيا و الآخرة:

 النتيجة الطبيعية لفهم العبادة كما أراد الله أن أتحرك في علاقتي مع نفسي، في علاقتي مع زوجتي، مع أولادي، في علاقتي في عملي، في أوقات فراغي، أن أتحرك وفق منهج الله، حتى أحقق الهدف الذي من أجله خلقت، خلقت للسعادة، والدليل:

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾

[ سورة هود:119]

 خلقنا ربنا ليرحمنا، خلقنا ليسعدنا، عندما يقصر الطالب في أداء واجبه، ويتلقى تأديباً من أستاذه يقول بعقلية ساذجة: هذا المعهد خلق لتعذيبنا، لا، هذا المعهد صنع لتخريج قادة للأمة، أما حينما أخطأ أحد الطلبة فتلقى عقاباً، أنت حينما ترى أن بعض المصائب تعني أن الحياة كلها متاعب، قال تعالى:

 

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

 

[ سورة الذاريات: 56]

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾

[ سورة هود:119]

 خلقهم ليرحمهم.

 

الأستاذ علاء:

 أستاذ بشير، الآن تحدثنا عن فهم: العبادة سر الوجود، لماذا وجد الإنسان على هذه الأرض واستخلفه الله في الأرض وحمله رسالة؟ الآن المفهوم العامي الذي يسود سواد الناس بأن العبادة هي الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، هل العبادة تنحصر في هذه الموضوعات أم أن العبادة تشمل كل حركة وسكون للإنسان على هذه الأرض؟

 

 

العبادة تشمل كل حركة وسكون للإنسان على هذه الأرض:

 

الأستاذ الشيخ بشير عيد الباري:

 الذي تفضلت به أستاذ علاء هي أركان الإسلام، والأركان يقوم عليه البنيان، وهذا البنيان متشعب الفروع، فأركان الإسلام كما ورد في الحديث:

 

(( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ))

 

[متفق عليه عن عبد الله بن عمر ]

 الركن الأول الإتيان بالشهادتين، ويبنى بعد الإتيان بالشهادتين هذا البناء الراسخ، وهذه الأسس المتينة، ثم بعد ذلك تأتي الفروع، لا إله إلا الله لا تزال ترفع صاحبها ما لم يستخف بحقها، الاستخفاف بحقها أن نترك الصلاة، الاستخفاف بحقها أن ندع الزكاة، الاستخفاف بحقها أن نترك الصيام، وبعض الناس يعتذرون في رمضان أن هناك فحوصاً و أموراً لا يقدرون على الصيام فيها، هذه معاذير لا يقبلها الله عز وجل، والفقهاء فتحوا أبواباً وقالوا: الذي يكلف بمشقة شديدة لا تطاق عليه أن يبيت النية صباحاً، ثم بعد ذلك يبقى في صيامه، فإذا أرهقه الصيام ولم يستطع الإتمام أفطر: ﴿ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾، ثم بعد ذلك الحج، نحن نرى أن هذه التكاليف الشرعية فيها ترابط لهذا المجتمع، هذا الترابط ينتج عنه التعاون، ثم بعد ذلك يحسب أكثر الناس والعوام إنما هذا الدين صلاة، وصيام، وحج، وزكاة، فقط، مفهوم العبادة أوسع وأشمل، رعايتي لعائلتي عبادة، الزارع في مزرعته عندما يكون فيها عبادة، الصانع في مصنعه عندما يخلص في إنتاج صنعه عبادة، الفلاح عندما يحرث الأرض عبادة، الصدق عبادة، الكذب حرام، التعاون عبادة، العطاء حلال وهكذا، نحن تميزنا بأخلاق، وأخلاق الله عز وجل يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتخلق بها، فكل كمال ينسب إلى الله عز وجل ينبغي أن نتمثل به، ورسول الله قد تمثل بأخلاق الله عز وجل، فهو الصادق الأمين، وهو كل خلق صدر عنه إنما هو في أعلى المستويات.

الإسلام حينما يأمر بالصيام يأمر بالخلق الكريم وسعة الصدر والأخلاق العالية:

 بايع رجل رسول الله فأعطاه النبي جزءاً وبقي جزء من المال عنده، فقال: ابقَ في مكانك وأنا سآتيك بهذا المبلغ، فذهب هذا الرجل، ونسي موعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذكره بعد ثلاثة أيام فأتى إلى المكان الذي تعاقدا عليه فوجد النبي عليه الصلاة والسلام في مكانه، لو كانت مع أحدنا لأرغى وأزبد، ما كان من رسول الله إلا أن قال له يا هذا لقد شققت علي، أنا هنا منذ ثلاثة أيام، هذه أخلاق نبوة، أخلاق سيد الأنبياء، فلماذا نحن لا نكون في شهر رمضان على أفضل حال مع أن بعض الناس يجعلونه موسماً للغضب، وأن الصيام مدعاة إلى الغضب، وإلى السخط، هذا لا يجوز في شرع الله، إنما الإسلام حينما يأمر بالصيام يأمر بالخلق الكريم، بسعة الصدر، بالعطاء، بالأخلاق العالية الرفيعة، لذلك وصف الله عز وجل عباد الرحمن بقوله:

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ﴾

( سورة الفرقان: 63)

 حتى إن كثيراً من الناس حين يرون في رمضان بعضهم يسخط يقول: اعذره إنه صائم، وكأن الصيام مدعاة إلى الخلق السيئ، لا، إن الخلق الرفيع في الصيام، سعة الصدر في الصيام، كل خلق كريم ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا أن نوسع صدورنا في عائلتنا، في أولادنا، في خدمنا، في كل عمل نعمله في هذه الحياة.

 

الأستاذ علاء:

 سيدي تأسيساً على اتساع مربع ومفهوم العبادة أنها لا تقتصر على الصيام، والصلاة، والزكاة، والحج، هل للعبادة أنواع تخصصية مرتبطة بمهمات موكولة إلى شرائح بشرية معينة؟

 

 

من استقام على أمر الله أصبح الطريق بينه و بين الله عز وجل سالكاً:

 

الدكتور راتب:

 أستاذ علاء أريد أن أعلق تعليقاً سريعاً وهو أن الإنسان حينما يستقيم على أمر الله في رمضان مثلاً يشعر أن الطريق بينه وبين الله سالك، صار هناك خط مفتوح مع الله عز وجل:

 

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾

 

[ سورة العنكبوت: 45 ]

 الآن تأتي الصلاة:

 

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء َالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾

 

[ سورة العنكبوت: 45 ]

 نهي وازع لا نهي رادع، هناك فرق كبير، بين نهي الرادع ونهي الوازع، قال علماء التفسير: ذكر الله أكبر ما فيها.

من ذكره الله منحه الأمن و الطمأنينة و الحكمة و الرضا:

 لكن لابن عباس ـ رضي الله عنه ـ ملمح رائع جداً يقول: ذكر الله لك أيها المصلي وأنت في الصلاة أكبر من ذكرك له. إنك إن ذكرته أديت واجب العبودية، لكنه إذا ذكرك ـ الشاهد ـ منحك الأمن:

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 81-82]

 إذا ذكرك منحك الرضا، أن ترضى عن حياتك، وعن عقيدتك، وعن دينك، وعمن حولك، هذه حالة رائعة جداً، منحك الحكمة:

 

﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً ﴾

 

[ سورة البقرة: 269 ]

 أنت بالحكمة تسعد بزوجة، أي زوجة، ومن دون حكمة تشقى بزوجة ولو أنها من الدرجة الأولى، بالحكمة تجعل العدو صديقاً، بالحكمة تتدبر أمرك بالمال القليل، ومن دون حكمة تبدد المال الكثير، فالحكمة، والرضا، والأمن، والتوفيق، والحفظ، هذه كلها من نتائج الصلاة، والصيام من أجل الصلاة، والحج من أجل الصلاة، والزكاة من أجل الصلاة، والصلاة من أجل الاتصال بالله، من ثمار هذه العبودية لله، من ثمار الخضوع لمنهج الله إحكام الصلة بالله، والصلاة عندئذ صلة بالله حقيقية، تشتق منها الكمال الإلهي، إن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً.
الآن هناك شيء دقيق جداً يمنحك الأمن، يمنحك الرضا، يمنحك الحكمة، يمنحك الحفظ، يمنحك التوفيق، هذه ثمار الصلاة التي من أسبابها الصيام بالمعنى الواسع، هذا تعريف على الفقرة السابقة.

أنواع العبادة:

 أما العبادة لها أنواع، وتختلف باختلاف شرائح الناس، طبعاً هناك عبادة قاسم مشترك بين الجميع، كل يصوم، ويصلي، ويحج، ويؤدي زكاة ماله، ويطبق منهج الله في الأرض مع من حوله، هذا المفهوم المشترك بين كل المسلمين، لكن أنت غني عبادتك الأولى إنفاق المال، وما جعلك الله غنياً إلا لتصل بغناك إلى أعلى درجات الجنة، المال قوة، أنت من؟ عالم؟ مهمتك إلقاء العلم، وألا تأخذك في الله لومة لائم، هذه العبادة الأولى، قال تعالى:

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾

[سورة الأحزاب: 39 ]

 أنت قوي؟ عبادتك الأولى إحقاق الحق، وإبطال الباطل، إذا كنت بجرة قلم تحق حقاً، وتبطل باطلاً، أنا أقول كلمة دقيقة: ما جعل الله الغني غنياً إلا ليصل بغناه إلى أعلى درجات الجنة، وما جعل الله العالم عالماً إلا ليصل بإلقاء علمه إلى أعلى درجات الجنة، وما جعل الله القوي قوياً إلا ليسخر قوته ليكون في أعلى درجات الجنة، فللإنسان فرص عالية جداً كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:

 

(( المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ))

 

[مسلم عن أبي هريرة]

 أستاذ علاء القوي خيارات الأعمال الصالحة أمامه لا تعد ولا تحصى، لذلك إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تكون قوياً، أما إذا كان طريق القوة على حساب مبادئك وقيمك فالضعف وسام شرف لك.

 

الأستاذ علاء:

 الآن سيدي كما نسمع هناك مجموعة من العبادات، هناك عبادة الهوية، عبادة الظرف، عبادة العصر، وهذا ينضوي تحت فقه الأولويات، كما تفضلت الغني العبادة الأولى إنفاق المال، والقوي إحقاق الحق، والعالم إلقاء العلم دون أن تأخذه في الله لومة لائم، كيف نتبين العبادات الأخرى؟

 

 

عبادة الظرف و عبادة العصر:

الدكتور راتب:


 هناك عبادة الهوية تكلمنا عنها، الآن عبادة الظرف، أي عندك أب مريض ـ لا سمح الله ـ العبادة الأولى العناية بالأب، عندك ضيف، العبادة الأولى إكرام الضيف، عندك ابن في الشهادة الثانوية، العبادة الأولى تهيئة الجو لهُ، هذه عبادة الظرف، هناك فقر أحياناً، هناك سفر، هناك ظروف مستحدثة طارئة، فالعبادة بالمعنى الثاني عبادة الظرف، أن تؤدي واجبك وهذه عبادة الظرف، إذا كان لك أب مريض فأول عبادة قبل أن تذهب إلى زيد أو عبيد لتقنعه بالإسلام أول عبادة لك العناية بالأب، عندك ضيف العناية بالضيف، هذه عبادة الظرف.
أيضاً عندنا عبادة ثالثة عبادة العصر، إذا أراد الطرف الآخر إفقارنا العبادة الأولى استصلاح الأراضي، وإنشاء السدود، واستخراج الثروات، وجمع الأموال، كي نقف أمام أعدائنا، هذه عبادة أيضاً، نوفر فرص عمل للشباب، نزوج الشباب، هذه أشياء مهمة، هذا من صلاح الدنيا، أنا حينما أرى أن الطرف الآخر يريد إفقارنا، أو يريد إذلالنا، أو إفسادنا، أو إضلالنا، هناك طرف آخر يراقب حياتنا، فالطرف الآخر أحياناً يريد إفقارنا، بكل حرب خليجية، تنتقل مئات المليارات من بلادنا إليهم، أو إضلالنا طرح الشبهات، يجب أن نوضح الأمور، أو إفساد الشباب يجب أن نحصن الشباب، هناك ظروف كثيرة قد تطرأ على الأمة، هذه عبادة العصر.

 

الأستاذ علاء:

أي في مواجهة العولمة الظالمة التي تريدنا هوية، وأرضاً، وإمكانات، وتريدنا حقوقاً، لا بد من أن نقدم هذه العبادة ولا بد من أن تكون في سلم الأولويات.

 

 

على الإنسان تجنيد جميع الطاقات لخدمة أمته الإسلامية:

 

الدكتور راتب:

 بحسب الظرف، الظرف العام يقتضي أن نجند الطاقات لخدمة هذه الأمة، أن نهيئ فرص عمل للشباب، أنا أقول: هذا الشاب أمامه تطرفين، هو يحتاج إلى فرصة عمل، يحتاج إلى زوجة، يحتاج إلى بيت، وما لم تلبّ هذه الحاجات للشباب، الشباب أمام تطرفين، تطرف تفلتي، إلغاء القيم، أو تطرف تشددي، التكفير ثم التفجير، أما حينما أسعى لتأمين فرص عمل للشباب، حينما أسعى لتأمين مساكن للشباب، حينما أسعى لتأمين زوجات للشباب، أنا ماذا أفعل؟ الطاقات الشابة وظفتها لخدمة الأمة.

 

الأستاذ علاء:

كما الوقود في داخل المحرك، ينضبط ويعطي قوة وخيراً.

 

 

الدكتور راتب:

 نحن في كل عصر عندنا ظروف محيطة بنا، أحياناً يقتضي أن نستخدم كل طاقتنا للرد على هذه الظروف التي تتحدانا، أنا أقول: هذه العبادة مهمة جداً على مستوى الأمة، قال تعالى:

 

 

﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ﴾

 

[ سورة القصص: 4]

 كل شيء يوحدنا، يذيبنا في بوتقة واحدة، لذلك أنا أقول: في عصر معين، عصر طرح الأمور الخلافية، ممنوع أن نطرح أمراً خلافياً، يمكن أن تدعو إلى الله لخمسين عاماً في المتفق عليه، تجمع المسلمين في بوتقة واحدة، تجعلهم يذوبون في منهج واحد، لذلك سهل جداً أن تطرح مسألة خلافية، لكن البطولة أن تطرح القواسم المشتركة بيننا جميعاً.

خاتمة و توديع:

الأستاذ علاء:

 وحدة الأمة مقدمة على كل شيء، الحقيقة كنت أتمنى أن نستمر في الحديث لكن الوقت أدركنا، ونرجو الله عز وجل في هذا الشهر الكريم أن يتقبلنا عباداً حقيقيين، نفهم حقيقة العبادة، والوجود، والرسالة، وحقيقة وجودنا على هذه الأرض، وبالتالي نستقيم وتستقيم الأسرة والمجتمع بشكل عام.
 أعزائي المشاهدين في نهاية هذه الحلقة لا يسعني إلا أن أشكر ضيفي الكريمين، فضيلة الأستاذ الشيخ بشير عيد الباري مفتي دمشق، وأستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة، شكراً جزيلاً وكل عام وأنتم بخير.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور