وضع داكن
18-04-2024
Logo
أحاديث متفرقة - الدرس : 016 - المؤمن القوي .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة المؤمنون... الحديث اليوم رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان ))

 هذا الحديث مرَّ بكم كثيراً، وتلي على مسامعكم كثيراً، ولكن أحياناً يتلى الحديث على مسامعكم لتأخذوا منه المعنى الإجمالي، وأحياناً يجعل الحديث محور درسٍ بأكمله، لنقف عند معانيه التفصيلية، وقد يحتاج المسلمون إلى هذا التوجيه النبوي الكريم، ذلك لأن الإنسان حينما خلقه الله عزَّ وجل جعله خليفته في الأرض.
 الإنسان له مهمة، أخطر ما في هذه المهمة أن تمتلك مقومات أدائها، الإنسان التائه، الشارد، الغافل، الضائع، غافلٌ عن مهمته، لذلك يكفيه من الدنيا أي شيء، يكفيه دريهمات ولقيمات، أما المؤمن الذي عرف أن الله سبحانه وتعالى خلقه في الدنيا لتحقيق مهمةٍ خطيرةٍ جداً، يتوقَّف على تحقيقها سعادته الأبدية، لذلك يبحث عن مقوِّمات هذه المهمة، من مقومات هذه المهمة أن تكون قوياً.
 أنت لماذا في الدنيا ؟ من أجل العمل الصالح، العمل الصالح يحتاج إلى قوة ؛ قوة في المال، أو قوة في المكانة، أو قوة في الخبرة، أو قوة في العلم، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما قال كلمة " قوة " أبقاها مطلقة، أطلقها، لو أنه قيَّدها بالمال، فقد يأتي عصر تكون فيه قوة العلم هي أقوى شيء، لو أنه قيَّدها بالسلطان، النبي عليه الصلاة والسلام أوتي جوامع الكلم، وكان فصيحاً بليغاً، وكلامه يوافق مقتضى الحال، قال عليه الصلاة والسلام: " المؤمن القوي... "
 لِمَ لمْ يقل: القوي المؤمن ؟ لأن الإيمان مقدمٌ على القوة، لأن القوة من غير إيمان قوةٌ غاشمة، قوةٌ ظالمة، قوةٌ تسخر في سبيل الشهوات، قوةٌ تسخر في سبيل الباطل، الشيء الخطير أن القوة ـ مطلق القوة ـ قوة المال، وقوة السلطان، وقوة العلم، وقوة الوجاهة، وقوة الخبرة، أية قوة تريدها فهي تنطبق على هذا الحديث، لو أن القوة قدَّمها النبي على الإيمان، إنها قوة خطيرة، ماذا يفعل المال بالإنسان الجاهل ضعيف الإيمان؟ يحمله على أن يطغى، لذلك من المصائب الكبرى في الدنيا، من المصائب الكبرى الغنى المطغي. الغنى المطغي ينتهي بصاحبه إلى أن يهلكه في الدنيا والآخرة.
 الإيمان ينمو والمال ينمو، إذا لم يكن مع نمو المال نمو للإيمان يصبح هذا المال مطغياً لصاحبه، ما معنى مطغي ؟ يعني يحمله على المعصية، يحمله على الفجور، يحمله على الكِبر، يستحق بعد ذلك الهلاك، فكل هذا المال يذوب في ساعات، بينما هو من أغنى الأغنياء هو من أفقر الفقراء، لأنه نما المال من دو أن ينمو معه الإيمان.
 فصاحة النبي، وبلاغته، وروعة حديثه أنه قدَّم الإيمان على القوة، إذا كان الإيمان بلا قوة ضعيف، لا أحد يلتفت إليك، فأنت إذا كنت في مؤخرة الركب في التجارة، كلامك غير مسموع، إيمانك لا يؤثِّر في الآخرين، إذا كنت في مؤخرة الركب في العلم ؛ طالب كسول، موظَّف مهمل، عامل غير نشيط، مهندس متواكل مثلاً، كيف تستطيع أن تؤثر في الناس ؟ أن تلفت نظرهم ؟ أن تدفعهم إلى الحق ؟ ماذا يقال لك ؟ يقال: يا طبيب طب لنفسك، قبل أن تعظنا أتقن عملك.
 هذا الحديث خطير جداً، سيدنا عمر رضي الله عنه، زار بلدةً إسلامية، فلفت نظره أن كل التجار ليسوا مسلمين، فلما عاتب أهل هذه البلدة، قالوا: الله سبحانه وتعالى سخرهم لنا. أجاب إجابة أنا أرى أنها تكتب بماء الذهب، وأن إجابته تنم عن إدراكٍ عميقٍ جداً للقوى الفاعلة في الحياة، قال: " كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم ؟ ".
 أنت لا تحب أن تعمل، لا تحب أن تكون متفوقاً، لا تحب أن تثبت وجودك، تحب أن تكون اتِّكالياً، أن تعيش عالةً على الناس، كله شغل سيدك، والله عز وجل يحفظنا ويرعانا، ونحن لسنا عبيد امتحان بل عبيد إحسان، هذه النظرة المتواكلة، الهامدة، الانهزامية، هذه تجعل الأمور بيد أعداء المسلمين، عندئذٍ أعداء المسلمين يفرضون على المسلمين عقائدهم، يفرضون على المسلمون اتجاهاتهم، عاداتهم، تقاليدهم، أزياءهم، نحن في عندنا غزو ثقافي الآن. فامرأةٌ مسلمة، لها أبٌ مسلم وأمٌ مسلمة، لمجرد أن ترى في كتيِّب الأزياء أن يجب يبدو من جسمها كذا، ترتدي هذه الثياب، هذه مسلمة ؟ هذا غزو، غزو ثقافي يسمى، في غزو فكري.
 فلذلك هذا الحديث أخطر من خطير، إذا عرفت أنك في الدنيا لمهمةٍ أرادها الله عز وجل، لمهمة أن تكون خليفته في الأرض، ولن تستطيع أن تنطق بكلمةٍ واحدة إذا كنت في مؤخر الركب ؛ في العلم، في العمل، في الإتقان، في الخبرة، لذلك الذي يعتصر القلب ألماً أن ترى إنساناً غير مؤمن متقناً لعمله، صادقاً في وعده، دقيقاً في معاملاته، وأن ترى هذا المسلم الذي كلَّما أذن المؤذن سارع إلى المسجد، تراه مهملاً لواجبه أحياناً، مقصراً في عمله غير متقن لحرفته، بعيدا عن أن يكون في موطنٍ يرمقه الناس، بل هو في موطن يزدرى أحياناً، ليس هذا ورب الكعبة مؤمناً، المؤمن القوي ؛ طالب، طالب ديِّن يغش في الامتحان إذا ضبط هذا الطالب يغش، إن سيلاً من السُباب والشتائم لا تشتمه هو بل تشتم دينه، أليس كذلك ؟..
 المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف... ادرس جيداً ولا تغش في الامتحان، لئلا تسبب لدينك الهوان، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
" أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك ".
 أنت على ثُغرة، الثغرة مكان الضعف في الحدود، كل مسلم سفيرٌ للمسلمين، سفير لهذا الدين العظيم بأعماله، بحركاته، بسكناته، بتصرفاته، بأقواله، بأفعاله، بحرفته، بصنعته ببيته، الناس ينظرون إليه، هكذا الإسلام ؟ فإذا كان في خلل، في تقصير، في كذب، في تلاعب، في مواقف غير مشرفة، عندئذٍ لا يسقط هذا الإنسان الذي يدعي أنه مسلم، بل يسقط معه إسلامه.
 فما من شيء ينفِّر الناس من الدين أن يكون لك زيٌ ديني، أو اتجاهٌ ديني، أو مشربٌ ديني، أو خلفيةٌ دينية، أو عقليةٌ دينية، أو نمطٌ ديني وأن يرى الناس فيك النقص، عندئذٍ يعزون هذا النقص لا إلى ذاتك، لا إلى شخصك، لا إلى خطئك بل يعزونه إلى دينك. هذه نقطةٌ مهمة، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام لم يقل: القوي المؤمن قال: المؤمن القوي، لأن القوة من دون إيمان خطيرةٌ جداً، قوةٌ غاشمة، قوةٌ ظالمة، قوةٌ باطلة، القوة من دون إيمان، أما الإيمان من دون قوة شيءٌ ضعيف لا يقام له وزن، لا يرمقه الناس، لا يتأثرون به.
 الملاحظ مَن الذي يؤثر في الناس ؟ المتفوّقون من المؤمنين، مؤمن غير متفوق لا يؤثر بالناس، ليس في عين الناس كبيراً هو في عين الناس صغير، ما دام في تقصير، في إهمال في عدم عناية بالمواعيد، في عدم عناية بالواجبات، اتكالي، انهزامي، يؤْثِر الراحة، لا تهمه سمعته، مثل هذا المؤمن لا يبجله الناس ولا يعظمونه، إذاً لا يعظمون دينه، ولا يعظمون اتجاهه، ولا أقواله، ولا أفعاله، ولا نصائحه، ولا إرشاداته، انتهى كمؤمن.
 فلذلك القضية قضية مترابطة، وليست القضية قضية أنني أنا صاحب دين، أنا ديني في واد وصنعتي في واد، وحرفتي في واد، ودراستي في واد، طبيب أخذ شهادة واستراح من المطالعة، صار في نظريات أحدث، أدوية أحدث، وهو مرتاح، زبائنه كُثُر، ليس هذا هو المؤمن، ما قولك أيها الطبيب المسلم لو أن مريضاً جاءك، وصفت له علاج غير ناجع، بينما طبيب آخر ليس مسلماً وصف العلاج الناجح، ما مكانة الدين في هذه البلدة إذاً ؟ أخي هذا ليس فهمان هذا أجدب، أهكذا المسلم ؟. فالقضية أساساً ما أؤخر المسلمين، ولا مكن عدوهم من رقابهم، إلا تخاذلهم، وضعفهم، وتخلُّفهم، وأنهم رضوا أن يكونوا في مؤخرة الركب.
 المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف... الحق من دون قوة لا قيمة له، هذه حقيقة مرة، الحق مع القوة، فالقوة مطلقة، النبي لم يحدد، قالوا في بعض التعاريف الحديثة للحرب: الحرب الحديثة حربٌ بين عقلين. في زمن الشجاعة كان لها دور خطير جداً، الآن لا يوجد إلا أزرار، شاشة رادار، وكبس الزر، فدمرها، حرب بين عقلين، الحرب الحديثة حربٌ بين عقلين، لذلك قوة العصر اليوم العلم، المسلم يجب أن يكون عالماً، أقل تقدير أن يكون متقناً لاختصاصه، أن يكون في المقدمة، أن يكون الأول، يؤكد هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام:

 

(( علو الهمة من الإيمان ))

 علو الهمة في اختصاصك، في صنعتك، في مهنتك، في تدريسك، في طبابتك، في محلك، في تجارتك، في وظيفتك، في خبراتك علو الهمة، كن ذا همة عالية لتحصيل أعلى شيءٍ في اختصاصك، حتى إذا قلت كلمة يُسمع لك.
 سمعت أن رياضياً من كبار اللاعبين في قطر عربي، هداه الله للإسلام واعتزل اللعب كلياً، مباراة مهمة جداً، وفدٌ من الحكومة زاره في البيت ورجاه أن يستأنف اللعب لهذه المباراة، فاشترط عليهم أن يلعب بالسروال الطويل، فأصبح هذا السروال الطويل تقليداً في هذا البلد احتراماً لبطولته. فأنت ممكن بأي مجال تكون متفوق فكلمتك هي النافذة، رأيك محترم، إذا قمت لتصلي، صلاتك محترمة لأنك متقن لعملك.
 إذاً، المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف... لأن لك مهمة في الدين، مهمتك بشكل مختصر أن تعرف الله وأن تعمل صالحاً، أن تعرف الله من خلال الكون والقرآن والسنة، وأن تعمل صالحاً، العمل الصالح يحتاج إلى مال إذا كان إنفاق، والدعوة إلى تحتاج إلى علم، وإنصاف المظلوم يحتاج إلى سلطة، إلى قوة، فإما أن تكون قوياً في مالك فتنفق منه على الضعفاء والمساكين، وإما أن تكون قوياً في علمك فتدعو إلى الله عز وجل، وإما أن تكون قوياً في مكانتك فتُنصف المظلوم، هذه قوةٌ، وهذه قوةٌ ، وهذه قوةٌ.
 والذي ألاحظه أن المؤمنين الطيبين الطاهرين المتفوقين في أعمالهم، هؤلاء الذين يتركون بصماتٍ واضحةً في المجتمع، هؤلاء الذين يؤثرون في المجتمع، هؤلاء الذين يتأسى الناس بهم، هؤلاء الذين ينصرف الناس إلى دعوتهم، لا ينصرفون عنها بل ينصرفون إليها.
 إذاً في قول النبي عليه الصلاة والسلام: المؤمن القوي... بتقديم كلمة المؤمن، كلكم يعلم أن التقديم والتأخير بحثٌ قائمٌ بذاته، القرآن الكريم يمكن أن يكتب كتابٌ حول كتاب الله عز وجل في موضوع التقديم والتأخير، تعرفون هذا أكيد ؟

 

 

﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾

 

( سورة النور: من آية " 2 " )

 قدَّم الزانية على الزاني..

 

﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾

 

( سورة المائدة: من آية " 38" )

﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾

( سورة الرحمن: من آية " 33 " )

﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾

( سورة الإسراء: من آية " 88" )

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾

( سورة النور: من آية " 30" )

 غض البصر مقدَّمٌ على حفظ الفرج لأنه طريقٌ له..

 

﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾

 

( سورة الرحمن )

﴿ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾

( سورة الأنعام: من آية " 112" )

 معنى هذا شياطين الإنسان أشد خطراً من شياطين الجن، التقديم والتأخير وحده بحث قائم في ذاته..

 

﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ﴾

 

( سورة التوبة: من آية " 24" )

 .. إلخ، قدم الأب. في موطن آخر قدَّم المرأة..

 

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ﴾

 

( سورة آل عمران: من آية " 14" )

 قدم المرأة، في آية ثالثة قدَّم الابن..

 

﴿ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)﴾

 

( سورة المعارج)

 قدَّم الابن، في موطن رابع قدَّم الأخ..

 

﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)﴾

 

( سورة عبس )

 يفر من أخيه لماذا ؟ لأن الأب كبير في السن والابن ضعيف، من الذي ينصرك ؟ هو الأخ، ففي موطن الاستغاثة والاستعانة قُدِّم الأخ، في موطن الفداء قدِّم الولد، في موطن الاعتزاز الاجتماعي قدِّم الأب، في موطن اللذة والشهوة قدِّمت المرأة، في آيةٍ قدمت المرأة وفي آية قدم الأب، وفي آية قُدم الابن، وفي آية قدم الأخ، إذاً التقديم والتأخير بحث قائم بذاته في القرآن الكريم، ولو دققنا مثلاً في ثمانية عشر آية قُدِّم إنفاق المال على إنفاق النفس..

 

﴿ وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾

 

( سورة الأنفال: من آية " 72 " )

 لماذا ؟ لأنه أسهل، يعطيك نقود أما يحارب شغلة صعبة، ما معها مزحة، ألف جبان ولا الله يرحمه، المال تقديمه سهل أما الروح صعب، فربنا عز وجل ذكر جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، قدم المال على النفس لأنه أسهل، وفي آيةٍ واحدة قدَّم النفس على المال:

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾

 

( سورة التوبة: من آية " 111" )

 في موطن الشراء تذكر الأهم فالمهم، الأهم الأول، في موطن البذل تذكر الأسهل، في بضع عشر آية الله عز وجل قدَّم السمع على البصر، لأن السمع يسبق البصر، الجنين في بطن أمه يستجيب للمؤثرات الصوتية، بينما المولود حديثاً لا يستجيب إلى الضوء إلا بعد أيام..

 

﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾

 

( سورة المؤمنون: من آية " 78" )

 أكثر الآيات السمع مقدَّم، موضوع التقديم والتأخير بحث قائم في ذاته، فإذا كنا طبقناه على هذا الحديث النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

 

(( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف ))

 لم يقل: القوي المؤمن، قال: المؤمن القوي... لأن الإيمان مقدمٌ على القوة، لكنه من دون قوة لا قيمة له، إذاً يمكن أن نقول بالتعبير الفيزيائي: الإيمان شرطٌ لازم غير كافٍ، والقوة شرطٌ لازم غير كاف، قوة بلا إيمان قوة غاشمة، إيمانٌ بلا قوة شيء ضعيف مبتذل لا قيمة له، فلذلك أصحاب النبي الكرام ما تفوقوا وما فتحوا العالم إلا لأنهم كانوا أقوياء، كانوا رهبان في الليل فرسان في النهار.
إذاً روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

 

(( المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله تعالى.))

 يعني هو خيرٌ له، ولرسالته، ولمهمته، ولنجاحه في الحياة، ولسعادته في الآخرة، خيرٌ له والله سبحانه وتعالى يحبه، أعظم شيء أن يكون الشيء محموداً عند الله وعند الناس حتى أن اسم محمود للنبي عليه الصلاة والسلام قال بعض المفسرين: محمودٌ عند الله وعند الناس وعند نفسه.

 

 

﴿ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)﴾

 

( من سورة الذاريات )

 لا عند نفسك ولا عند الله ولا عند الناس، محمود، فالمؤمن القوي، خيرٌ لصاحبه لأنه أعون على تحقيق رسالته، على أداء مهمته، على عمله الصالح الذي هو قوام سعادته..
 وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف... لكن النبي الكريم جبار خواطر قال: وفي كل خير... إذا واحد مؤمن وضعيف ما شي الحال أحسن من أن يكون كافر، وفي كل خير، لكن الأولى أقوى.
 التوجيه الآن: إذا كنت مؤمناً بأن الأمر كله بيد الله، وبأنه لا إله إلا الله ؛ لا رافع ولا خافض، ولا معز ولا مذل، ولا معطي ولا مانع، ولا قابض ولا باسط، ولا معز ولا مهين إلا الله، إذا كنت هكذا مؤمن إذاً احرص على ماينفعك... كلمة لا أقدر، هذه الكلمة لا يقولها إلا جاهل، لا أستطيع، الظروف صعبة، البيئة صعبة، عيوني أين أذهب بهم في الطريق، الطرقات فاسدة، كل الشغل حرام، الناس كلهم بلاء عام، اللقمة كلها مغمَّسة بالدم كل اللقم مشبوهة، أموالنا كلها ملوثة بالربا، غير مستطيع أن تفعل شيء أبداً ؟ ضعيف يعني؟ شرع الله لا يطبق ؟ الله عز وجل كلفك بما لا تطيق ؟! الله عز وجل قال:

 

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا﴾

 

( سورة البقرة )

 لمجرد أن تقول: لا أستطيع، لا أقدر، الزمن صعب، بيئة صعبة، بيئتي صعبة، ظروفي قاسية، محاط بجو سيئ، هذا كلام فارغ، كأنك تتهم الله عز وجل بأن شرعه غير واقعي، كأنك تتهم الله بأن شرعه ليس لهذا الزمن، الزمان صعب، كأن هناك قوى أخرى تفعل فعلها في الحياة، لذلك: احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز... لا اقدر أن أصير، لا تصير، لا أستطيع أن أغض بصري، لا، فيك تغض بصرك، لا يمكنني أن غير مهنتي، فيك تغيرها، ما فيني أصلح زوجتي، فيك تصلحها، لكن عليك أن تستعن بالله، لحالك صعب، أنت ضعيف فعلاً، إذا قلت: أنا لا أقدر، بمعنى أنه أنت لحالك فعلاً ضعيف أما إذا أنس الله منك صدقاً، ورغبةً، وإصراراً، وإلحاحاً، الله عز وجل خلق الشيء، خلقه تلبيةً لك، خلقه استجابةً لك.
 إذاً، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز... أنت لك مصلحة ولكن مشبوهة، اتركها، يا أخي بعد هذا العمر ؟ اتركها لا تعجز، أنا لا أنسى قصة سمعتها من أحد علماء دمشق، والله أيها الإخوة الأكارم لغرابتها كأنها غير صحيحة لكنها واقعة، رجل من صعيد مصر ـ قلتها لكم سابقاً ـ له ابن درس بالأزهر، وجاء عالم خطيب، أعجب هذا الأب بابنه، فتمنى أن يكون مثل ابنه، ركب دابته وساقها إلى مصر ـ أي إلى القاهرة ـ فلما وصل إلى مشارفها سأل أحد الباعة: أين هو الأزعر ؟ ما هو الأزعر ؟ قال له: مكان ما بيعلموا. فقال له: هذا ليس اسمه أزعر اسمه أزهر، هذا جامع شريف، قال له أين هو ؟ يبدو أن هذا البائع على شيء من الإيمان قال له: فتح الله عليك، ودله عليه. هذا الإنسان عمره خمسة وخمسين عام، تعلم اللغة وحفظ القرآن في هذا السن، وما زال يطلب العلم حتى صار شيخ الأزهر، وتوفي في السابعة والتسعين.
 أكاد لا أصدق هذه القصة، لولا أن أخاً كريماً كان يحضر عندنا قال لي: والله أنا حفظت كتاب الله تعالى كله في الخامسة والخمسين، بدأ بحفظه في الخامسة والخمسين تقول: لا أقدر. هذا كلام فارغ، لكن قل: أنا ليس صادق، فهذا كلام صحيح، مالي رغبان، صح هذا الكلام، أما لا أقدر، لا، تقدر، لكن ما في رغبة، ما في صدق، ما في إصرار، ما في حرص.
 أما الذي يلفت النظر بهذا الحديث: " واستعن بالله ولا تعجز... لا تقل لا أقدر، استعن بالله على إصلاح زوجتك، عنيدة يا أخي لا تمشي معي، ما خليت طريقة، أنت لمَ لمْ تستعن بالله عليها ؟ مارست كل جهودك لا تكفي جهودك استعن بالله ولا تعجز، فالإنسان أحياناً الذي يبدو له فوق طاقته، لو أنه استعان بالله عز وجل لأعانه، كل شيء تراه فوق طاقتك يذلل إذا استعنت بالله عز وجل، وأنت كذلك تصلي باليوم خمسة مرات تقول: إياك نعيد وإياك نستعين، لمجرد أن تعزو القوة إلى نفسك، أو إلى قدرتك، أو إلى اختصاصك، أو إلى ثقافتك، أو إلى ذكائك، الله عز وجل كل من اتكل على نفسه أوكله الله إياها.
 يمكن أن يعطيك كل شيء من لا شيء بشرط أن تستعين به، وأن تعتمد عليه، وألا تتكل على غيره، لأن كل شيء بيده ؛ قلوب العباد بيده، المواد بيده، خواص المواد بيده، كل شيء تراه عينك بيد الله عز وجل، فإذا كنت مع الله عز وجل، والله سمع دعاءك، يغير كل شيء، أحياناً يلقي بقلب إنسان محبتك، أحياناً يلقي بقلب إنسان بغضك، أحياناً يلقي بقلب إنسان رغبة في معاونتك، استعن بالله ولا تعجز، أحياناً يكون في شيء لازم لا يراه فلان، لا يراه، لو رآه لكنت انتهيت أنت، الله عز وجل حجب عنه البصر، قال: يا رسول الله لقد رأونا ـ سيدنا الصديق بالغار ـ فقال له رسول الله: يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى:

 

﴿ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)﴾

 

( سورة الأعراف )

 ألم تقرأ هذه الآية أنت ؟
 فمن الممكن تلخص الأحداث كلها التي تسمعها بأن:

 

﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾

 

( سورة الفتح: من آية " 4 " )

 ترتاح.
 إذاً: احرص على ما ينفعك... تنفعك هذه الحرفة احرص عليها، ينفعك هذا الصديق احرص عليه، ينفعك هذا الطريق، ينفعك هذا الاتجاه، ينفعك هذا المجلس، احرص على ما ينفعك، أما أن تقول لي: والله مقصرين يا أستاذ ؟ لماذا مقصر ؟ هذا كلام غير مسموح لأنه بيدك ألا تقصر، هذا التقصير عُزي إليك، والدليل قول الله عز وجل:

 

﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)﴾

 

( سورة النجم)

 أما..

 

﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾

 

( سورة الزخرف: من آية " 32" )

 هو الشيء العجيب، أن الشيء الذي ضمنه الله لك، تسعى له سعياً حثيثاً مع الهم والحزن، وأن الشيء الذي كلَّفك الله به تتركه على الأقدار، فتجده يقول لك: حتى الله يريد، ما في انشراح، الشيء الذي كلَّفك الله به تدعه للأقدار، وأما الشيء الذي ضمنه الله لك تسعى له سعياً حثيثاً.
 احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا... فهذه لو ليس واردةً في قاموس المؤمن، ضع عليها إشارة ضرب، إلا في لو واحدة مسموح بها، مَن يعرفها ؟ لو الإيجابية..

 

﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾

 

( سورة الملك )

﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16)﴾

( سورة الجن )

 لك أن تقول: " لو " ألف مرة، لكن فقط بمعنى واحد: لو دفعت زكاة مالي ما أتلف الله مالي، والله كلام صحيح، بارك اله بك، لو غضضت بصري عن محارم الله ما كان هذا الشحناء بيني وبين زوجتي، كلام صحيح، لو لم آكل الربا ما تلف مالي، صحيح كلامك، هذه اللو لك أن تقولها آلاف المرات، هذه لو الإيجابية، والله عز وجل قال:

 

﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾

 

( سورة الملك )

﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾

( سورة الجن )

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾

( سورة الأعراف: من آية " 96" )

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾

( سورة المائدة: من آية " 66" )

 كثير في ( لو ) بالقرآن، ولكنها كلها لو الإيجابية، أما عندما الله عز وجل يسوق للإنسان شيئاً بقضاءٍ وقدر وبحكمةٍ بالغة، لا يقول: لو لم أمشي في هذا الطريق ما صار معي هكذا، يصير يسب الطريق، لو لم أركب هذه السيارة لما كان هذا الحاديث، لو لم أسافر لما فقدت مالي، لو لم أصاحب فلان لما صار كذا وكذا، لو لم أتزوج فلانة، هذه لو الشيطانية، لو السلبية..
 لا تقل لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن كلمة لو تفتح عمل الشيطان... يدخل الشيطان، لأنه صار في شرك، في شيء ثاني إذا قلت: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، معنى ذلك أنك تلغي أن الله بيده كل شيء، معنى ذلك أنك تعزو القوة للأشياء، كأن الله سبحانه وتعالى أودع في الأشياء قوةً، وتركها وحدها تفعل ما تشاء، لو لم أفعل كذا لما كان كذا، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:
" الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن "

 

( من الجامع لأحكام القرآن: عن " أبي هريرة " )

 

(( ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن كلمة لو تفتح عمل الشيطان))

* * * * *
 ننتقل الآن إلى قصةٍ جرت في غزوة خيبر التي غزاها النبي عليه الصلاة والسلام.
 يروى أنه قَدِم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر، رجل اسمه الحجاج بن علاطٍ السُلَمِيّ، فأسلم، وكان غنياً كثير المال، فقال: يا رسول الله، إن مالي عند امرأتي أم شيبة بنت أبي طلحة بمكة ـ مالي كله عند امرأتي ـ ومتفرقٌ بين تجار مكة ـ عند امرأتي وفي أيدي تجار مكة ـ فأذن لي أن آتي مكة لآخذ مالي. قالوا قديماً ـ وهذا القول صحيح ـ: المال شقيق الروح، المرء حيث أهله، المرء حيث رحله، قال له: فأذن لي أن آتي مكة لآخذ مالي، قبل أن يعلموا بإسلامي، فإذا علموا بإسلامي فلا أقدر على أخذ شيءٍ منه.
 النبي عليه الصلاة والسلام كان واقعياً، وأي دعوة أساساً تقوم على نظرات غير واقعية لا تنجح، دع مالك واقعد معنا، فهذا لا يصير، ماله عند زوجته وعند تجار مكة، فالنبي عليه الصلاة والسلام أذن له.
 ولكن في له طلب، الطلب الثاني صعب، قال: يا رسول الله لابد لي من أن أقول ـ طبعاُ معنى أقول أن أتقول عليك ما ليس واقعاً، لكي آخذ مالي ـ قال: لابد لي من أن أقول وأذكر ما هو خلاف الواقع، أي ما أحتال به كي أصل إلى مالي، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال له:
ـ قل ما شئت.
 ـ قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة، وجدت بثنيَّة البيضاء ـ ثنية جبل صغير، تلة صغيرة ـ رجالاً من قريش يستمعون الأخبار، فالنبي كان قد غزا خيبر، وأخبار الغزو أخبار شائقة جداً، يا ترى انتصر ما انتصر ؟ اليهود غلبوه، غلب اليهود ؟ عندهم حصون منيعة جداً، فتح الحصون، ما فتح الحصون ؟ فكان رجال من قريش على الثنية البيضاء يستمعون الأخبار، ويسألون عن أمر النبي عليه الصلاة والسلام، وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز ؛ ريفاً، ومنعةً، ورجالاً، يعني من أقوى قرى الحجاز فيها حصون منيعة جداً، والدليل الله عز وجل قال:

﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ﴾

( سورة الحشر: من آية " 2" )

 إذاً كانت خيبر أقوى قرى الحجاز تحصُّناً ومنعةً، ورجال قريش يتجسسون الأخبار من الركبان، وكان بينهم تراهنٌ عظيم وتبايع، منهم مَن يقول: يظهر محمد وأصحابه، ومنهم من يقول: يظهر الحليفان ويهود خيبر، وراهن بعضهم على مائة بعير في أن النبي عليه الصلاة والسلام يغلب أهل خيبر، قال حويطب بن عبد العزى وجماعة الرأي الأول: محمد يغلب وأصحابه أهل خيبر، وقال ابن عباس بن مرداس وجماعة الرأي الثاني.
فلما رأوا الحجاج قادماً من المدينة قالوا: الحجاج عنده والله الخبر، ما داموا قد سمعوا النبي قد سار إلى أهل خيبر، ولم يكونوا قد علموا بإسلامه، قالوا:
 ـ يا حجاج، إنه قد بلغنا أن القاطع ـ هكذا سموا النبي عليه الصلاة والسلام ـ قد سار إلى خيبر.
 ـ فقال الحجاج: عندي من الخبر ما يسركم.
 ـ فاجتمعوا إليه يقولون: إيه يا حجاج ما الخبر ؟ قل لنا من انتصر ؟.
 ـ فقال الحجاج فقلت له: لم يلق محمدٌ وأصحابه قوماً يحسنون القتل غير أهل خيبر، فهُزم هزيمة لم يسمع بمثلها قط، وأسر محمدٌ، وقالوا لا تقتله حتى نبعث به إلى مكة، فنقتله بين أظهركم، يقتلونه بمن كان أصاب من رجالهم.
 فصاحوا وامتلأت قلوبهم فرحاً، واستبشروا، وانطلقت بسماتهم، وتألَّقت عيونهم، وقالوا لأهل مكة هذا الخبر: قد جاءكم الخبر، هذا محمدٌ إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم.
 وقال الحجاج: وقلت لهم أعينوني على غرمائي ـ على ديوني ـ أصحاب الدين، أريد أن أقدم فأصيب من غنائم محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك، فجمعوا إلي مالي على أحسن ما يكون، ففشا ذلك بمكة، وأظهر المشركون الفرح والسرور، وانكسر مَن كان بمكة من المسلمين.
 في مسلمين كانوا غير معروفين، لما تناقلت الأنباء هكذا تألموا ألماً شديداً، وسمع بذلك العباس ـ عم رسول الله ـ فجعل لا يستطيع أن يقوم، ثم أخذ ابناً له يقال قُثَم وبعث به إلى الحجاج، يقول له: قل له ـ اسمعوا حسن ظن المؤمن بربه ـ يقول لك العباس: الله أعلا وأجل من أن يكون الذي جئت به حقاً. مستحيل، والله يعصمك من الناس، هو رسول الله، عمه العباس بمكة يعرف أن ابن أخيه نبيٌ عظيم، وأن الله يحميه، انظر إلى حسن الظن.
فقال الحجاج للغلام: اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له ليخلي لي ـ أي يفضي لي بيته ـ بعض بيوته لآتيه بالخبر الذي يسره، واكتم عني.
 فأقبل الغلام فقال: أبشر أبا الفضل. فوثب العباس فرحاً كأن لم يمسه شيء من شدة فرحه بنصر النبي، هكذا المؤمن يجب أن تفرح لنصر المؤمنين، وإلا لست منهم، المنافق:

 

﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾

 

( سورة آل عمران: من آية " 120" )

 علامة المنافق إذا مؤمن أصابه سوء يقول: أنا توقعت له هذا الشيء، يفرح، هذه علامة النفاق، إذا كنت مؤمناً حقاً تفرح إذا أصاب الخير أخاك، وتألم أشد الألم إذا أصابه السوء.
 فلما أخبره هذا الغلام للعباس أعتقه فرحاً بهذه البشرى، وقال: لله علي عتق عشر رقاب. فلما كان ظهراً جاءه الحجاج، فناشده الله أن يكتم عنه ثلاثة أيام، لكي يروح بماله وقال: إني أخشى الطلب ـ إذا كشفوا هذا التدبير يقتلونني ـ فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك، بعد أيام ثلاثة أكون قطعت مسافة لا بأس بها، قل لهم ما تشاء، فوافقه العباس على ذلك وقال الحجاج: إني قد أسلمت، وإن لي مالاً عند امرأتي وديناً على الناس ولو علموا بإسلامي لم يدفعوا إلي، إني تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر، وجرت سهام الله، وسهام الله وسهام رسوله فيها، وتركته زوجاً لابنة ملكهم حيي بن أخطب ـ السيدة صفية ـ وقتل ابن أبي الحقيق، فلما أمسى الحجاج غادر مكة.
 حكى القصة كما تكون لعم النبي، هذه الحقيقة، أما كفار قريش المشركون طاروا فرحاً ؛ أن محمد مأسور، وسوف يؤتى به إلى مكة ليقتل، وطالت على العباس تلك الليالي الثلاث، رآها سنوات، فلما مضى الحجاج ذهب من مكة إلى المدينة، ومضت الثلاث أيام، عمد العباس رضي الله عنه إلى حلةٍ فلبسها، لبس أحسن ثيابه، وتخلَّق بخلوق، بعطر طيب وأخذ بيده قضيباً، ثم أقبل يخطر حتى أتى مجالس قريش، وهم يقولون إذا مر بهم: لا يصيبك إلا خير يا أبا الفضل، وهذا والله التجلُّد بالمصيبة، يواسيه بمصيبته أن النبي مأسور وسيقتل، فقال: كلا، والله الذي حلفتم به لم يصبني إلا خير، بحمد الله، أخبرني الحجاج ـ الذي كان عندكم ـ أن خيبر فتحها الله على يد رسول الله، وجرت سهام الله وسهام رسوله، واصطفى رسول الله صفية بنت ملكهم حُيي بن أخطب لنفسه، وإنما قال ذلك لكم ليأخذ ماله منكم، وإلا فهو ممن أسلم. وهذا مسلم.
 فردَّ الله الكآبة التي كادت للمسلمين على المشركين، كل هذه الكآبة التي حلَّت بالمسلمين انعكست على المشركين، فقال المشركون: ألا يا عباد الله انفلت عدو الله ـ أي الحجاج ـ أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر بذلك.
 فالنبي اللهم صل عليه كان واقعياً بأدق عبارة، والحجاج كان صريح، أخاف على مالي يريد ماله، والموقف الثالث حسن الظن من سيدنا العباس بالله عز وجل.
 في لقطة النبي الكريم بمرض الوفاة، أعطي دواء ذات الجنب، فغضب غضباً شديداً وقال:
" ذلك مرض ما كان الله ليصيبني به "
 يعني المؤمن غالي على الله عز وجل، المؤمن كرامته محفوظة، وصحته غالية على الله، وموفق بعمله، حسن الظن بالله ثمن الجنة.
 واللقطة الرابعة: أن المنافق يفرح بالمصيبة تصيب المؤمن، والمؤمن الصادق يتألَّم أشد الألم. هذه قصة من قصص غزوة خيبر التي غزاها النبي عليه الصلاة والسلام.

 

إخفاء الصور