وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة التحريم - تفسير الآية 8
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام... مع الدرس الرابع من سورة التحريم، ومع الآية الثامنة وهي قوله تعالى

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

( سورة التحريم )

 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا

 1 ـ التوبة النصوح بعد كل ذنبٍ:

 أيها الإخوة الكرام، الذين آمنوا بالله، وآمنوا بكماله، وآمنوا بوحدانيته، وعرفوا سر وجودهم وغاية وجودهم، وعرفوا أنَّهم خلقوا لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، هؤلاء الذين آمنوا يأمرهم الله عزَّ وجل أن يتوبوا إليه كلما انحرفوا عن طريق الحق.
 بشكلٍ أو بآخر، بشكلٍ بسيط مركبةٌ مصممةٌ لطريقٍ مُعَبَّد كل ما فيها يعمل بانتظامٍ إذا كانت على هذا الطريق المعبد، مريحة، تنقلك من مكانٍ إلى مكان، فإن خرجت عن الطريق المُعَبَّد إلى طريقٍ وعر تكسرت، وأصابها العطب، وليس هناك من حل إلا أن تعيدها إلى الطريق المعبد، فالتوبة تعني الرجوع إلى الله عزَّ وجل.

 2 ـ التوبة رجوع إلى أصل الفطرة:

 أنت مصمم ومفطور، وجبلّتك تقتضي أن تكون مع الله، أن تكون مطبقًا لتعليمات الصانع، هذه النفس الإنسانية، وهذا الجسم الذي هو وعاء النفس لا تستقيم أجهزته، كما أن النفس لا يستقيم أمرها إلا إذا كانت وفق منهج ربها..

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ ﴾

 الإنسان مخيَّر، والإنسان فيه شهوات، وهو مخلوقٌ مكلَّف، مخلوقٌ مكرم، أعطاه الله العقل، جبله جبلةً عالية، فطرةً سليمة، منحه حرية الاختيار، أودع فيه الشهوات، جعل له منهجاً يسير عليه، إذا غلبته شهوته فخرج عن منهج ربه اختل توازنه، نقول له: ارجع إلى ما كنت عليه، عُدْ إلى طريق الله، عد إلى باب الله، عد إلى فطرتك، عد إلى أصل عقلك، عد إلى منهج ربك.
 بشكلٍ مبسط: شيء مصمم على أن يكون على هذا الطريق، كل ما في هذه المركبة من أجهزة لا تعمل بانتظام إلا إذا كانت على طريقٍ معبد، فإذا خرجت عن هذا الطريق المعبد إلى طريقٍ وعر اضطربت وأصابها الخلل وتكسرت، أول عمل حقيقي أن نعيدها إلى الطريق الصحيح، فأصل التوبة أن مخلوقاً أعطاه الله عقلاً، وفطره فطرةً عاليةً، أودع فيه الشهوات، جعله مخيراً، أعطاه منهجاً، خلقه ليعرف ربه، وليحمل نفسه على طاعة ربه، لكن في ساعة غفلة زلت قدمه خرج عن منهج الله، استخدم الشهوات لغير ما خلقت له، ماذا نقول له ؟ لابدَّ من أن تعود إلى الله، لابدَّ من أن تلجأ إليه، التوبة عودة كالقطار المصمم ليمشي على سكة، فتصميم القطار أن يمشي على سكة، فإذا خرج عن سِكَّتِهِ فينبغي أن نعيده إلى هذه السكة، هذا كل ما في الأمر، التوبة الرجوع إلى الله عزَّ وجل.

 3 ـ فرحُ الله بتوبة العبد:

 أيها الإخوة الكرام، الله جلَّ جلاله في نصوص كثيرة ذكر أنه يفرح إذا تاب العبد إليه توبةً نصوحاً:

(( لله أفرح بتوبة عبده، من الضال الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد ))

[كنز العمال عن أبي هريرة ]

 النبي عليه الصلاة والسلام وصف أعرابياً على ناقته، وعليها طعامه وشرابه، يقطع بها الصحارى، جلس ليستريح فاستيقظ فلم يجد الناقة، فأيقن بالهلاك، فجلس يبكي ثم يبكي حتى أدركه التعب فأخذته سنةً من النوم، استيقظ فرأى الناقة أمامه، من شدة فرحه اختل توازنه فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ ))

 

[مسلم ]

 أنت لا تعلم أيها المؤمن حينما تعود إلى الله أن الله يفرح بك، فإذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنِّئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله.
 الحقيقة أيها الإخوة لا تستحق أن يقال لك: هنيئاً، وأن يشد على يدك إلا إذا اصطلحت مع الله، فلو أنك اشتريت بيتاً فخماً فهذا البيت سوف تتركه، لو أنك اقتنيت مركبةً فخمةً لابدَّ من أن تتركها، لو أنك تسلمت منصباً رفيعاً لابدَّ من أن تتركه، فالتهنئة الحقيقية حينما تصطلح مع الله، لأن التائب عاد إلى أصل عقله، عاد إلى أصل فطرته، عاد إلى منهج ربه، عاد إلى طريق سعادته، عاد إلى طريق سلامته، فلذلك:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾

 أوصافُ التوبة النصوح:

 1 ـ التي لا رجعة فيها إلى الذنب:

 أيها الإخوة الكرام... التوبة النصوح وصفها العلماء بأوصافٍ كثيرةٍ جداً، من هذه الأوصاف كما قال الإمام القُرطبي: " التوبة النصوح هي التوبة التي لا رجعة فيها "، هل يُعْقَل أن يعود الحليب إلى الضرع ؟ كما أنه لا يعقل أن يعود الحليب إلى الضرع، لا يعقل أن يرجع التائب عن ذنبه، لابدَّ من أن يعود التائب إلى الله عزَّ وجل دون أن ينقض توبته.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ﴾

 التوبة النصوح هي التوبة التي لا عودة بعدها كما لا يعود اللبن إلى الضَرع، طفلٌ خرج من بطن أمه هل يعود إليه ؟ التوبة النصوح أن تترك الذنب، وأن لا تعود إليه كما لا يعود الطفل إلى رحم أمه، وكما لا يعود الحليب إلى ضرع البقرة، هذا معنى التوبة النصوح، هذا هو أول معنى.

 2 ـ الصادقة الناصحة الخالصة:

 المعنى الثاني: التوبة النصوح التوبة الصادقة الناصحة الخالصة، أي أنه أقلع عن هذا الذنب كُلِّياً دون أن تراوده نفسه أن يعود إليه.

 3 ـ بغض الذنب الذي عصى ربه به:

 التوبة النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبَّه، وأن يستغفر منه ربه، فإذا كان الذنب محببا للإنسان فتوبته ليست نصوحا، ما دام الذنب محبباً له فالتوبة ليست نصوحةً كما قال الله عزَّ وجل، أن يبغض الذنب الذي عصى ربه به أن يبغضه بعد أن كان أحبه من قبل.

 4 ـ الخوف من عدم قبول التوبة:

 التوبة النصوح من شدة خوف العبد من الله يتوب من الذنب، وهو يخاف ألا يقبل الله توبته، فهو على وَجَل، من شدة معرفته بالله، من شدة خوفه من الله يتوب من هذا الذنب، ويخاف ألا تقبل توبته.

 5 ـ عدم الحاجة إلى توبة أخرى:

 وقيل: التوبة النصوح هي التي لا يحتاج معها إلى توبةٍ أخرى، ما دام تبت من هذا الذنب، اضطررت بعد حين أن تتوب منه ثانيةً، هذه إذاً ليست توبةً نصوحًا، التوبة النصوح هي التوبة التي لا تحتاج بعدها إلى توبةٍ أخرى، أي أقلعت عن الذنب إقلاعاً كلياً ,
وقيل: التوبة النصوح هي الندم بالقلب.

 أركان التوبة: علمٌ وحالٌ وسلوكٌ:

 إخواننا الكرام، التوبة فيها أركان ثلاثة فيها علم، وفيها حال وفيها سلوك، علمٌ وحالٌ وسلوك.

 1 ـ العلمُ:

 لماذا ينبغي أن تحضر مجالس العلم ؟ هناك إنسان ضغطه مرتفع فكيف يُخَفِّضُهُ ؟ كيف يذهب إلى الطبيب ؟ كيف يتناول العقاقير المناسبة ؟ كيف يُطَبِّق تعليمات الطبيب إن لم يعرف أن ضغطه مرتفع ؟ فلابدَّ من أن تعرف أنك مذنب، كيف تعرف أنَّك مذنب ؟ إذا عرفت أمر الله ونهيه، إذا عرفت الحلال والحرام، إذا عرفت الخير والشر، إذا عرفت ما ينبغي وما لا ينبغي، إذا عرفت الحق من الباطل، لا يمكن أن تتحرك نحو الله قبل أن تعرف الله، لذلك التوبة أول أركانها العِلم، والعلم فريضة، فإنَّك بالعلم تعرف موقعك من الدين، فهؤلاء الذين لا يطلبون العلم يرتكبون أكبر المعاصي، فإن سألتهم يقولون لك: ماذا فعلنا ؟ لم نفعل شيئاً، كإنسان لم يتعلم اللغة العربية إطلاقاً، وقرأ نصًّا، وارتكب مع كل كلمة غلطة، يقول لك: هل تجد أروع من هذه القراءة ؟ لأنه لا يعرف اللغة العربية كل كلمةٍ قرأها قراءةً غير صحيحة، ومع ذلك يظن أنه يقرأ قراءة صحيحةً، أما لو طلب العلم، وتعلم قواعد اللغة لحاسب نفسه على حركة واحدة في نص طويل.
 إذاً: إنك لن تتوب إلا إذا عرفت موقعك من الدين، ولم تعرف موقعك من الدين إلا إذا طلبت العلم، وحينما يكون الإنسان مع الجماعة المؤمنة يعرف الحلال والحرام، الخير والشر، ما ينبغي وما لا ينبغي، أما إذا شرد وحده فإنه يفتي لنفسه، ويتصوَّر لنفسه تصورات ما أنزل الله بها من سلطان، يقول لك: ماذا نعمل ؟ أنا ألتقي مع أناسٍ كثيرين، أنا أعلم علم اليقين أنهم غارقون في أكثر المعاصي، يقولون لك: نحن مستقيمون، لأنه ما طلب العلم، ولم يعرف موقعه من الدين، ولا عرف الحلال والحرام، ولا الخير والشر، ولا ما ينبغي، وما لا ينبغي.
 لذلك التوبة النصوح من أركانها أن تتعلم، إن تعلمت عرفت أنك مذنب أو غير مذنب، عرفت أنك على حق أو على باطل، عرفت أنك على المنهج الصحيح أو المنهج غير الصحيح، عرفت ما إذا كان دخلك حلالاً أو حراماً، عرفت ما إذا كان إنفاقك حلالاً أو حراماً، هذا لا تعرفه إلا إذا طلبت العلم.

 2 ـ الحال والعمل:

 الشيء الثاني أن الإنسان إذا علم أنه على غلط، وأنه في طريق غير صحيح يتألَّم لحرصه على نفسه، ولحبه لوجوده، وحبه لسلامة وجوده، وحبه لكمال وجوده، وحبه لاستمرار وجوده يتألم، إذا لم يكن هناك تألم لم تكن هناك توبة، لأن العلم يورث حالاً، والحال يورث عملاً.
 بشكل مبسَّط: رجل يمشي في بستان فرأى أفعى، إن تصورتها قضيباً فإنك لا تخاف، ولا ينشأ عندك حال، أما لو رأيت هذا القضيب يتلوَّى ـ أعوذ بالله ـ معنى ذلك أنها أفعى، فإن علمت أنها أفعى اضطربت، والاضطراب دليل سلامة الإدراك، فإن كان الإدراك صحيحاً صار عندك حال، وخوف، واضطراب، ووجل، وإذا كان الاضطراب صحيحا والحال صحيحا كان هناك حركة، فإما أن تقتلها، وإما أن تولي هارباً منها، هذا قانون: إذا صح الإدراك، صح الانفعال، صح السلوك، تدرك، تنفعل، تتحرك، هذه أركان التوبة، علمٌ، وحالٌ، وعمل.

 طالب العلم فضله عظيم:

 أيها الإخوة، لابدَّ من أن تطلب العلم، لابدَّ من أن تعكف على طلب العلم، لابدَّ من أن تجلس على ركبتيك لتعرف منهج ربك، وما من إنسانٍ أكثر تقديساً في الدين من طالب العلم، فعَن أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ))

[الترمذي ]

 إذا خرجت من بيتك تبتغي أن تعرف الحق، أن تعرف أمر الله ونهيه، هذا الطريق ينتهي بك إلى الجنة إن شاء الله، فإن طالب العلم عند الله كبير، وعند الناس كبير، لأن رتبة العلم أعلى الرتب، إذاً العلم هو الذي يعرِّفك بموقعك من الدين، هناك خطأ وصواب، دخل حرام ودخل حلال، يا ترى العين اتقيت بها الله، هناك إطلاق بصر وغض بصر، وسماع غناء وكف عن سماع الغناء، تتغنى بالقرآن، تتغنى بغير القرآن، البيت إسلامي، غير إسلامي، الدخل، العمل، إنفاق المال، كسب المال، كيف تعرف أنك على حق إن لم تطلب العمل ؟ العلم الصحيح يعقبه حال صحيح، وندم.

 الندم على ارتكاب الذنب توبة:

 قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( النَّدَمُ تَوْبَةٌ ))

[ابن ماجه ]

 فهذا الحال الندم، والندم توبة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فلو أن إنسانًا ارتكب معصية فسببت له أوائل مرض عُضال، ندم أشد الندم على أن مرضاً أصابه، فتاب عن هذا الشرب مثلاً، هل يقال لهذا: تائب ؟ لا، لم يتب من هذا الذنب على أنه معصية، بل تاب منه لأنه أضر بجسمه، فليس كل ندم توبة، الندم إذا كان على شيءٍ تفعله على أنه معصية هذا هو الندم، ندمت على أنك عصيت الله فقط، أما الذي يفعل شيئاً يسبب له ألماً في جسمه، أو قرحةً في معدته، أو ورماً في جلده، ثم يقلع عن هذه المعصية لأنه أصيب بمرض عضال، يقال: هذا ندم على شيءٍ فعله لا لأنه معصية، بل لأنه أضر بجسمه، ينبغي أن يكون الندم على معصيةٍ حصراً.
 الشيء الآخر.. أحياناً الإنسان يرتكب المعاصي إلى أن يمل منها، فالذي يدَع المعصية مللاً ليس هو التائب، وهناك أشخاص كثيرون يفعلون الموبقات إلى أن يملوا، ثم يقلعون عن هذه الموبقات لا لأنهم عرفوا الله وخافوا منهم، بل للملل، فليس من ترك المعصية مللاً هو التائب، وليس من ترك المعصية لأنها أضرَّت بجسمه هو التائب، الذي يدعُ المعصية ويندم عليها أشد الندم لأنه عصى الله فقط هو التائب، هذه ناحية مهمة جداً.

 التوبة الأولى سهلة، وتكرارها صعب:

 الحقيقة.. حقيقة أقولها لكم: أهون توبةٍ أن تتوب أول مرة، الصلح بلمحة، فإذا كان الإنسان مرتكبا المعاصي، وقال: يا رب، لقد تبت إليك، يشعر أن الله قبِل توبته، وأنا يا عبدي قد قبلت، إلا أن المشكلة أن الذي يتوب مرة ثانية من ذنبٍ واحد يشعر بضعفٍ أمام الله عزَّ وجل، فإذا تكرر صارت التوبة عليه أصعب من نحت جبلٍ بإبرة، فالتوبة أول مرة سهلة جداً، مهما يكن الذنب كبيراً.

﴿ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾

( سورة الزمر: الآية 53 )

 عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ:

 

(( يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ مَا كَانَ فِيكَ، ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ إِنْ تَلْقَانِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا لَقِيتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً بَعْدَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ إِنْ تُذْنِبْ حَتَّى يَبْلُغَ ذَنْبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ تَسْتَغْفِرُنِي أَغْفِرْ لَكَ وَلَا أُبَالِي ))

 

[أحمد ]

 أما المرة الثانية فأصعب بكثير، المرة الثانية أصعب وأصعب، فالإنسان لا يقيس على أول توبة، أول توبة سهلة، هو مقيم على معصية، تاب منها، في ثانية شعر أن كابوساً قد أزيح عن صدره، وشعر كأن جبالاً أُزيحت عن صدره، وشعر براحة، وبخفَّة، وبسرور، وبطمأنينة، والله يتجلى على قلبه، هذه أول مرة، إذا كنت صادقاً في التوبة فليس بينك وبين الله حجاب، أما المرة الثانية إذا عاد الإنسان إلى الذنب مرةً ثانية يشعر أن التوبة الآن أصبحت أصعب من ذي قبل، فكلما كرر الذنب كانت التوبة أصعب، هذه قاعدة.
 لو فرضنا إنسانا وقع في الذنب، وتاب منه، ثم اقترفه مرة ثانية، ماذا نقول له: وأتبع السيئة الحسنة تمحها، لم يعد يكفيه أن يقول: يا رب تبت إليك، يجب أن تتوب إلى الله، وأن تعمل عملاً يرمم هذا الذنب، هذه قاعدة: إذا وقعت في ذنبٍ مرَّتين في المرة الثانية لا تحتاج إلى أن تتوب فقط، تحتاج إلى عملٍ صالح، إلى صدقةٍ، إلى برٍ، إلى إنفاقٍ، إلى إحسانٍ، إلى صيامٍ، من أجل أن يكون هذا الذنب الذي فعلته ثانيةً قد رمم وقد محي.
 العلماء قالوا: لو أن إنسانا تاب عن معصيةٍ، وفي النوم رأى نفسه يفعلها وهو مسرور، نقول له: هذه التوبة ليست نصوحا، لأنها لم تتغلغل في أعماق النفس، فهو بعقله باطل يتمنى أن يفعل هذه المعصية، التوبة قُبِلَتْ، ولكن التائب ضعيف.
إذا ندم الإنسان على شيءٍ سبب له مرضا، فهذا الندم ليس توبةً، وإذا ترك الإنسان المعصية مللاً، هذا الترك ليس توبةً، وإذا وقع الإنسان في الذنب مرتين صارت التوبة أصعب من الأولى، ماذا بقي علينا ؟ بقي علينا أنك إذا خِفْتَ من الله عزَّ وجل، وكَبُرَ عليك أن تعصيه، وأقلعت عن الذنب، وندمت عليه بعد أن علمت أنك لست على حق، هذه هي التوبة التي أرادها الله عزَّ وجل.
 أيها الإخوة الكرام، إن الإنسان إذا وقع في الذنب، وتاب منه فوراً فالتوبة سهلة جداً، أما إذا طال عليه الأمد وقسا قلبه قد يصعب أن يتوب، الإنسان لا يقول بسذاجة: أنا في أيّ لحظة أتوب، لا، أهون توبةٍ أن تكون بعد وقوع الذنب مباشرةً، فكلما أخَّرت التوبة صار الإقلاع عن الذنب أصعب، ويصبح الذنب جزءًا من سلوكك، وربما صعب عليك أن تدع الذنب، فلذلك قال تعالى:

﴿ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ﴾

( سورة النساء: الآية 17 )

 الجهل بالذنب يسهِّل التوبة:

 مما يسهل التوبة أن تكون جاهلاً بأن هذا الذي فعلته ذنباً:

﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

( سورة الأنعام )

 مما يسهل التوبة أن تجهل أن هذا الذي فعلته هو ذنب.

 التوبة واجبةٌ على الفور:

 أيها الإخوة الكرام، التوبة واجبةٌ على الفور، فمن وقع في ذنبٍ ولم يتب منه وقع في ذنبين، الذنب الأول هو الذنب الذي ارتكبه، والذنب الثاني لأنه لم يتب من قريب، فوقع في ذنبٍ أضافه إلى الذنب.

 من أوصاف التوبة النصوح:

 أيها الإخوة الكرام، نعود إلى موضوع التوبة النصوح:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾

 1 ـ هي التوبة المقبولة من الله:

 قال بعض العلماء: التوبة النصوح هي التوبة المقبولة من قبل الله عزَّ وجل، وقال بعض العلماء أيضاً: التوبة النصوح هو خوف ألا تقبل، إذا خفت ألا تقبل توبتك فهذه توبةٌ نصوح، وأن ترجو أن تقبل، أن تجمع بين الخوف والرجاء، وأن تدمن على الطاعة، أن تخاف ألا تقبل، وأن ترجو أن تقبل، وأن تدمن على الطاعات، هذه هي التوبة النصوح التي أرادها الله بهذه الآية:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾

 2 ـ نصحُ النفس بالتوبة:

 وقال الإمام سعيد بن المسَيِّب: " التوبة النصوح هي التوبة التي تنصحون بها أنفسكم "، فلا يوجد إنسان يتوب إلا وقد نصح نفسه، التوبة النصوح هي التوبة التي تنصحون بها أنفسكم.

 3 ـ الابتعاد عن رفقة السوء:

 قال بعض العلماء: ويجمعها أربعة أشياء: " الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، أي أن تعقد العزم على ألا تعود إليه، والشيء الرابع: مهاجرة سيئ الخُلاَّن، أن تبتعد عن هؤلاء السيئين.
 ذهب أحدهم إلى الحج، وأقلع عن شرب الخمر، وتاب إلى الله توبةً لا أقول: نصوحا، لأنه عاد إلى أصدقائه الذين شرب معهم الخمر، قال لي مرةً وقد التقيت به عرضاً.. قال له أحد أصدقائه: كم كلَّفتك هذه الحجة ؟ قال له: خمسون ألفا، قال له: خذها واشرب الخمر، لمَ لمْ تكن توبةً نصوحاً ؟ لأنه لم يقلع عن هؤلاء الخُلاَّن السيِّئين، علامة التوبة النصوح هؤلاء الذين مارست معهم المعصية ينبغي أن تتبرأ منهم، أن تبتعد عنهم، أن تنضم إلى المؤمنين، أن تعيش في بيئةٍ صحيحة بمجتمعٍ سليم، التوبة النصوح الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وضمان ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيئ الخُلاَّن، هذه هي التوبة النصوح.

 4 ـ استحضار الذنب:

 وقال بعض العلماء: التوبة النصوح أن يكون الذنب بين عيني المذنب، دائماً ذنبه أمامه يخشى ألا تقبل توبته، فلا يزال كأنه ينظر إليه.
 والتوبة النصوح كما قال بعض العلماء: أن تنقض الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينيك، وتستعد للقاء الله، وأنت بريء منه.
 هناك إنسان يفعل كل الذنوب ويقول: ماذا فعلت ؟ أما المؤمن فالذنب عنده كجبلٍ جاثمٍ على صدره، والمنافق ذنبه كذبابةٍ طارت أمام وجهه فأطارها.

 5 ـ ضيق الأرض على المذنب:

 التوبة النصوح أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، وأن تضيق عليك نفسك، بعدها تتوب توبةً نصوحا، فكلما كان الألم الذي يسببه الذنب شديداً كلما كانت التوبة منه نصوحاً.
 ومما يقلل قيمة التوبة، أن الذي يتوب من ذنبٍ ضَّيع عليه بعض رفاهية الدنيا تركه ليعود إلى رفاهية الآخرة، هذا مما يقلل قيمة التوبة، التوبة الخالصة، لأنك عصيت الله تستحي منه، أقلعت عن الذنب لأنه معصية فقط، لا لأنه فوَّت عليك مباهج الدنيا، أو ربما فوَّت عليك مباهج الآخرة.

 6 ـ ردُّ المظالم:

 وقال بعض العلماء: التوبة النصوح هي ردُّ المظالم، فلو أن إنسانا أكل مالا حراما، مغتصبا شيئًا، يذهب إلى الحج، ويطوف حول كعبة الله، ويقول: يا رب، تبت إليك، اغفر لي ذنبي.. هذا دجل.. لا يقبل الذنب المتعلق بحقوق العباد إلا بالأداء والمسامحة، ومن توهَّم أن الإنسان إذا حج بيت الله الحرام عاد من ذنوبه كيوم ولدته أمه دون أن يؤدِّي الحقوق لأصحابها، أو أن يستسمح منهم فهذا إنسانٌ جاهل، اذهب إلى الحج متى تشاء، في أي سنة تشاء، لن تغفر الذنوب المتعلقة بحقوق العباد إلا بالأداء والمسامحة، لكن الذنوب التي بينك وبين الله وحدها هي التي تُغْفَر بالحج، فالإنسان قبل أن يحج بيت الله الحرام ينبغي أن يتوب من حقوق العباد، يجب أن يؤدِّيها، أو أن يستسمح منهم عنها، لذلك قالوا: التوبة النصوح هي رَدُّ المظالم، واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات، هذه هي التوبة النصوح.

 7 ـ قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام:

 وقال بعض العلماء: علامة التوبة النصوح، قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام، أي أنه دخل في مجال القرب من الله عزَّ وجل، شغله القرب من الله عن كل شيء، فقلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام.

 8 ـ كثرة اللوم:

 والتوبة النصوح أن يكثر الإنسان التائب الملامة على نفسه، دائماً يتَّهم نفسه بالتقصير.

﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ(1)وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾

( سورة القيامة )

 هذه من علامة التوبة النصوح.

 9 ـ نصحُ المؤمنين:

 التوبة النصوح لا تصح إلا بنصْح المؤمنين، فأنت تبت، واستقمت، والله قبِلك، وأنت ساكت لا تنصح الناس بالتوبة ؟! التوبة النصوح تنصح بها نفسك وإخوانك المؤمنين، فعلامة أنك تبت من هذا الذنب تتجه إلى خاصة نفسك، إلى من حولك، تنصحهم بالتوبة، تنصح بها نفسك وإخوانك المؤمنين، هذا من علامات التوبة النصوح.
 لازلنا في التوبة النصوح التي قال الله عنها:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾

 10 ـ البكاء ومخالفة الأهواء:

 قال بعض العلماء: التوبة النصوح أن يكون لصاحبها دمعٌ مسفوح، وقلبٌ عن المعاصي جموح.
 وقال بعضهم: علامتها ثلاث: مخالفة الهوى، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظمأ في الصوم..

 11 ـ التوبة بالرجوع عن البدعة إلى السنة:

 وقال بعضهم، وهذا من أخطر ما يقال في هذا الدرس: التوبة النصوح هي التوبة لأهل السنة والجماعة، لأن المبتدع لا توبة له، المشكلة أنك إذا أخطأت خطأً من أحد الأخطاء هذا الخطأ يغفر بالتوبة، أما إذا اعتقدت أنك على صواب وأنت مخطئ، فهذا لا يغفر.

 أثرُ فساد الاعتقاد في التوبة:

 عندنا ميزان، أن تخطئ في الوزن فالقضية سهلة، هذا الخطأ لا يتكرر، أما أن يكون الميزان خطأً فهذا الخطأ لا يصحح، لذلك أخطر من الذنب أن تكون مبتدعاً، أن تعتقد اعتقادا فاسداً، أن تزعم أنك على حق ولست على ذلك، الذنب إذا وقعت فيه، وعرفت أنه ذنب فالقضية سهلة جداً، تتوب منه، هذا الذنب لا يتكرر، أما إذا ظننت أنك على حق، وأنت على باطل، إذا اعتقدت اعتقادا فاسداً، إذا تعلقت بفتوى غير صحيحة، وأقمت على ذنب فمن المستحيل أن تتوب منه، فالخطورة لا في الذنب، بل الخطورة في عدم التوبة من الذنب، إذا صَحَّت عقيدتك سهل التوبة من الذنب، أما إذا فسدت العقيدة صار من الصعب أن تتوب من الذنب.
 مثلاً: لو قرأت الحديث الشريف الصحيح: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ))

[مسلم ]

 إن فهمت هذا الحديث وحدك من دون مَن تسأله، وظننت أنه لابدَّ من أن ترتكب الذنب حتى ينقلب هذا الذنب يوم القيامة إلى عملٍ عظيم، فالذي يفهم هذا الفهم لن يتوب من ذنبه، إذا ظننت أن النبي عليه الصلاة والسلام لن يدخل الجنة إلا إذا أدخل أمَّته كلَّهم إلى الجنة، مطيعهم وعاصيهم، لن تتوب من الذنب، تتعلَّق بشفاعةٍ ليست هي التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام، وليست التي أرادها الله عزَّ وجل، بشفاعةٍ ساذجةٍ، فالمشكلة أنك حينما تخطئ في العقيدة لن تتوب من الذنب.
 إذا اعتقدت مثلاً:

 

﴿ لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ﴾

 

( سورة آل عمران: الآية 130 )

 أن الله نهانا عن الأضعاف المضاعفة، لكن لم ينهنا عن الأضعاف غير المضاعفة، تأكل الربا، ولن تتوب من هذا الذنب، لأنك فهمت الآية فهماً مغلوطاً، فلذلك لمن التوبة ؟ لمن صَحَّت عقيدته، لمن التوبة ؟ لمن فهم كلام الله على النحو الذي أراد الله ؟ لمن التوبة ؟ لمن فهم حديث رسول الله على النحو الذي أراد النبي الكريم، أما إذا أخطأت في العقيدة فسدت عقيدتك، فسد فهمك لكتاب الله، لسنَّة النبي، عندئذٍ لن تتوب من الذنب، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

 

(( إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته ))

 

[الطبراني عن أنس بإسناد صحيح ]

 تقول له: هذا غلط، هذه معصية كبيرة، يقول لك: هذا ظل وليس حقيقةً، هذا خيال، فإذا كان الإنسان واقفا في شرفة ومرآة أمامه فوق المغسلة، ونظر إلى المرآة فرأى جارته في البناء المقابل بشكلٍ لا يرضي الله، فملأ عينيه من المرآة لا من جارته مباشرة، يقول لك: هذا خيال، أنت إذاً لن تتوب من الذنب، لن تتوب منه إطلاقاً، فالخطورة ليس في أن تقع بالذنب، أن تتوهم أن هذا الذي تفعله ليس ذنباً، إذا لن تتوب منه، لذلك الحديث خطير، يقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته ))

 إذا فهمت القرآن فهما فيه ابتداع ليس كما أراد الله عزَّ وجل، إذا فهمت آية الربا:

 

﴿ لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ﴾

 النهي عن الأضعاف المُضاعفة، إذاً: لن تتوب من الربا، إذا فهمت أنك إذا نظرت إلى الظل، وإلى الخيال، ولم تنظر إلى الحقيقة، هذه على الشاشة، هذه ليست حقيقة، هذه صورة، فقد تفعل الصورة أضعاف ما تفعله الحقيقة أحياناً، فحينما تفهم الذنب فهماً مغلوطاً لن تتوب منه، فكل صاحب بدعةٍ لن يتوب من بدعته، هذه هي الخطورة، أما إذا صحت عقيدتك، وصح فهمك لكتاب الله ولحديث رسول الله تبت من الذنب.
 مثلاً: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

(( كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى، وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ ))

 

[مسلم ]

 يقول لك: ليس هذا بيدي، الله كتب علينا الزنا، فيفعل ذلك وهو مرتاح، هكذا النبي قال:

(( كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ ))

 يقول لك: ليس باليد حيلة، كاسات معدودة بأماكن محدودة، يقول لك: هذا ترتيب سيدك، أما لو فهمت الحديث كما ينبغي: كتب على ابن آدم أن ينال نصيبه من عقوبة الزنا مدركٌ ذلك لا محالة، فلن يزني، العين تزني وزناها النظر، الأذن تزني وزناها السمع، اليد تزني، اللسان يزني أحياناً.
 حينما تفسد عقيدة الإنسان، وحينما يفسد فهمه لكلام الله، وحينما يخطئ في فهم حديث رسول الله، يقع في أكبر الذنوب ولا يتوب منها، وهنا المشكلة، أما إذا صحَّت عقيدتك، وعرفت أنك مذنب تتوب من هذا الذنب، لذلك هذا الحديث أخطر ما يقال في هذا الدرس، يقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته ))

 المشكلة لا أن تذنب، المشكلة أن تذنب، وأن تتوهم بأنك لست بمذنب، فأخطر ما في الأمر أن تقع في أكبر الذنوب، وأن تتوهم معها أنك لست مذنباً، هذه الذنوب لا يمكن أن تتوب منها، لأنك قانعٌ أنها ليست ذنوباً، وعلى هذا أمور كثيرة جداً، الشيطان ماذا يفعل ؟ إن الشيطان يئس أن يعبد في أرضكم، أي مستحيل، أن يعبد صنمٌ في بلاد المسلمين، مستحيل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

 

(( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِمَا تَحْقِرُونَ ))

 

[أحمد ]

 لذلك: " لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار ".
 العبرة أن تصح عقيدتك، وأن يصح ميزانك، وأن يصح منهجك، ويصح فهمك لكلام الله وسنة رسول الله، عندئذٍ قد ترتكب ذنباً، أما هذا الذنب فمعروفٌ عندك أنه ذنب، ويمكن أن تتوب منه سريعاً، أما الخطورة فأن تقع في أكبر الذنوب، وأن تقول: ماذا فعلت ؟ من الناس من لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهذا شيطانٌ فاحذروه، لذلك أبى الله أن يجعل لصاحب توبة بدعة:

 

(( إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته ))

 ويقول بعض العلماء: بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب، ثم يعود فيه، والعائد من توبته كالمستهزئ بربِّه.

 

 معنى كلمة: النصوح:

 أصل التوبة النصوح قال: الخلوص، نقول: هذا عسلٌ ناصح أي لا شمع فيه، عسل مُصَفَّى، عسلٌ ناصح أي لا شائبة فيه من شمعٍ أو غير ذلك أي عسل مصفى، تاب الإنسان من هذا الذنب تركه كليةً، إجمالاً وتفصيلاً بقَضِّه وقضيضه، تركه كلياً، وقال: التوبة النصوح مأخوذة من النصاحة، وهي الخياطة، كيف أن الخيَّاط يجمع بين قطعتي الثوب، ويخيطهما محكماً إيَّاهما، كذلك المؤمن بالتوبة يلتقي مع الطاعة ومع إخوانه المؤمنين.
 وأجمل ما قيل في هذه الآية: التوبة النصوح هي التوبة التي تنصحون بها أنفسكم، أي أن ما أعظمَ قرار حكيم تتخذه في حياتك كأن تتوب إلى الله، ولا تنسوا أيها الإخوة أن الله يحب التوابين.

 باب التوبة مفتوح:

 هناك نقطة مهمة جداً: تصور أنه لا توبة، الناس يذنبون، ارتكب الإنسان ذنبا انتهى، طُرِد من رحمة الله، يفعل كل ذنب عندئذٍ، من أصغر الذنوب إلى أكبرها، لكن ربنا عزَّ وجل جعل باب التوبة مفتوحٌ على مصراعيه دائماً.

﴿ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

( سورة الزمر )

 في الأثر:

 

(( إذا قال العبد: يا رب وهو راكع، قال الله: لبيك يا عبدي، فإذا قال: يا رب وهو ساجد، قال الله: لبيك يا عبدي، فإذا قال العبد: لبيك وهو عاصٍ قال الله: لبيك ثم لبيك ثم لبيك ))

 أي أن باب التوبة مفتوح:

(( ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ إِنْ تُذْنِبْ حَتَّى يَبْلُغَ ذَنْبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ تَسْتَغْفِرُنِي أَغْفِرْ لَكَ وَلَا أُبَالِي ))

[أحمد عن أبي ذر ]

 بل إن الله يفرح بك إذا تبت إليه كما يفرح العقيم الوالد، والضال الواجد، والظمآن الوارد.
 أيها الإخوة... باب التوبة مفتوحٌ على مصراعيه، وما علينا إلا أن نتوب، والإنسان عليه أن يتوب إلى الله دائماً، والمؤمن مذنبٌ توَّاب، أما حينما يتوب من كل ذنب، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ))

 

[ابن ماجه ]

 هناك آية كريمة تقول:

﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

( سورة النور )

 وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

 لما يتوب الإنسان، وحده والمجتمع كله متفلِّت لا يقطف ثمار التوبة، أما إذا مان كل المجتمع منضبطا يقول لك: الحياة جميلة جداً، الناس جميعاً مؤمنون، أتقياء، أمناء، صادقون، نساؤهم مُحَجَّبات، الحياة مريحة جداً، فثمار التوبة اليانعة لا تقطف إلا إذا تبنا جميعاً ,
مثلاً: إنسان عنده هاتف في بيته، وله مئة صديق ليس عندهم هاتف، الهاتف أصبح بغير طعم و لا فائدة، أما إذا كان عند المئة صديق هواتف قطفت ثمار اتصال الهواتف، الكل عندهم هواتف، هذه كلمة جميعاً لها معنى جديد، نحن قد لا نقطف ثمار التوبة إلا إذا تبنا إلى الله جميعاً، كلنا منضبطون، كلنا صادقون، كلنا أُمناء، كلنا نستحي، كلنا أِعَّفة، عندئذٍ تعيش مجتمعاً هو جنة الله في الأرض، وفي الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، جنة الله في الأرض مجتمع المؤمنين، أنت مرتاح، أنت مطمئن، كل من حولك يحبّونك، صادقون معك، أمناء، لا يغشونك، لا يخادعونك، لا يحتالون عليك، فلذلك التوبة لا تُقْطَفُ ثمارها إلا إذا كانت مجتمعةً.

﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا ﴾

 إذا لم يتمكن الإنسان أن يصلح المجتمع كله، فإذا كان في جماعة مؤمنة في مسجد، وكل إخوانه مؤمنون، صادقون، مستقيمون، محبون، الحياة مع هؤلاء المؤمنين جنة الله في الأرض.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور