وضع داكن
28-03-2024
Logo
المؤلفات - كتاب ومضات في الإسلام – الباب السابع - الفقرة : 6 - الاستطاعة في الحج
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 في الإسلام ـ فضلاً عن العقائد التي هي أساس الدين ـ عبادات تنظم علاقة الإنسان بربه، ومعاملات تنظم علاقة الإنسان بأخيه، وإذا صحت العبادات ارتقت المعاملات، وكان ارتقاء المعاملات مؤشراً على صحة العبادات، والعبادات تهدف أول ما تهدف إلى السمو بالإنسان نفساً وقولاً وعملاً، عن طريق الاهتداء بهدي رب العالمين وإحكام الصلة به، والتنعم بقربه، والتقلب في رحمته، وقطف ثمار فضله، ومن هذا المنطلق شُرعت العبادات الشعائرية، كالصلاة والصيام والحج.
 الحج عبادة قولية، وقلبية، وبدنية، ومالية، وشعائرية، تؤدى في أمكنة مُخصصة، وفي أزمنة مُخصصة، وبأعمال مُخصصة. والحج فرض عين على كل مسلم ومسلمة، بالغ، عاقل، حر، مستطيع، مرةً في العمر كله، يُكفَّر جاحده، ويُفسَّق تاركه، فَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((مَنْ مَلَكَ زَاداً وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً))

[رواه الترمذي عَنْ عَلِيٍّ]

 إذا كانت الصلاةُ تتكرّر في اليوم الواحد خمسَ مرات، وفريضة الجمعة تُؤدَّى كلَّ أسبوع، وفريضةُ الصوم تُؤدَّى في العام شهراً، فإن فريضةَ الحج تجب في العمر كلِّه مرةً واحدة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:

 

((يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَّةً الْحَجُّ أَوْ فِي كُلِّ عَامٍ ؟ قَالَ: لَا بَلْ مَرَّةً فَمَنْ زَادَ فَتَطَوُّعٌ))

 

[أخرجه أبو داود عَنِ ابْنِ عَبَّاس]

 وهو تلك الرحلة الفريدة في عالم الأسفار، ينتقل فيها المسلمُ ببدنه وقلبه إلى البلد الأمين، الذي أقسم الله به في القرآن الكريم، ليقف في عرفات الله، وليطَّوَّف ببيته الحرام، الذي جعله الإسلامُ رمزاً لتوحيد الله، ووحدة المسلمين، ففرض على المسلم أن يستقبله كلَّ يوم خمس مرات في صلواته.

 

ثمن الحج كما ورد في السنة النبوية:

 مما تتميز به هذه العبادةُ ـ أي الحج ـ أنها تحتاج إلى تفرُّغ تام، فلا تُؤدَّى إلا في بيت الله الحرام، ولا بد من مغادرة الأوطان، وترك الأهل والخِلاَّن، وتحمُّل مشاقِّ السفر، والتعرض لأخطاره، وإنفاق المال في سبيل رضوانه، وإذا صحَّ أنَّ ثمن هذه العبادة باهظُ التكاليف ؛ فإنه يصحُّ أيضاً أن ثمرةَ هذه العبادة باهرةُ النتائج، حيث قال المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

 

 

(( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ))

 

[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]

 وقال أيضاً لعمرو بن العاص:

 

((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا ؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ؟))

 

[رواه مسلم عَنْ عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

((الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ))

 

[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]

((الحُجَّاجُ وَالعُمَّارُ وَفْدُ اللهِ ؛ إِنْ سَأَلُوا أُعْطُوا، وَإِنُ دَعَوْا أُجِيبُوا، وَإِنْ أَنْفَقُوا أُخْلِفَ عَلَيْهِمْ))

[البيهقي والمنذري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده]

 وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

((تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ))

 

[رواه الترمذي والإمام أحمد عن ابن مسعود]

 وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله ))

 

[أحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي في سننه عن بريدة]

 ثم فرض على المسلم أن يتوجَّه إليه بشخصه، ويطوفَ به بنفسه، في العمر مرة واحدة، بشرط استمرار نتائجه.

 

الحكمة من وجود بيت الله الحرام في وادٍ غير ذي زرع:

 أخوة الإيمان في كل مكان، الحج رحلة إلى الله، فقد شاءت إرادتُه لحكمة مطلقة ـ مراعاة للنزعة المادية في كيان الإنسان ـ أنْ يضع للناس في الأرض بيتاً له يُمكِّن المؤمنين به مِن أنْ يعبِّروا من خلال إتيانه مِن كل فَجٍّ عميقٍ أن يُعبِّروا عن حبهم لله، وشوقهم إليه، فالمؤمن يؤكِّد من خلال قصده البيتَ الحرامَ، مُلبِّياً دعوةَ ربه، أنَّ الله أحبُّ إليه مِن أهله وولده وماله وعمله وبلده والناس أجمعين، فيتحمّل نفقاتِ الحجِّ التي ربما كانت باهظة، ويتحمّل تركَ الأهل والولد الذي ربما كان صعباً، ويتحمّل تركَ العمل والكسب الذي ربما كان كثيراً، كلُّ ذلك حُبّاً لله، وطمعاً بالقرب منه.
وشاءت حكمةُ اللهِ أن يكون بيتُه الحرام في المنطقة الحارة من الأرض، وفي وادٍ غير ذي زرع، ليكون واضحاً لدى الحُجَّاج أنّ الاتصال الحقيقي بالله يحقِّق للمرء سعادةً، يستغني بها عن كل الشروط المادية، التي يتوهَّم أنها سبب سعادته، وأنّ سعادةَ الإنسان تنبع من داخله لا مما يحيط به نفسَه من ألوان النعيم.
 ولو كان بيتُ الله الحرام في المنطقة المعتدلة من الأرض، حيث الجبالُ الخضراءُ، والمياهُ العذبةُ، والبحيراتُ الصافيةُ، والبساتينُ الغناءُ، والجوُّ اللطيفُ، والنسيمُ العليلُ، وكان الحجُّ على مدار العام دفعاً للازدحام، لأقبل كلُّ الخلق إلى أداء الفريضة الممتعة، طلباً للاستجمام، لا حُبَّاً بخالق الأكوان.
 فضلاً عن موقع البيت الحرام، وعن طبيعة الجو فيه، فإن الحاجَّ المحرمَ يُحظَر عليه لُبسُ المخيط من الثياب، ويُحظر عليه التطيُّبُ بكل أنواع الطيب، ويُحظر عليه الحلقُ والتقصيرُ، ويُحظر عليه مقاربةُ المُتَعِ التي أُبيحت له خارجَ الحج، كلُّ ذلك ليُحْكِمَ اتصالَه بالله، وليسعد بقربه وحده، بعيداً عن كل مداخلة من مُتع الأرض، ليتحقَّق الحاجُّ أنه إذا وصل إلى الله وصل إلى كلِّ شيء، وأنّ الدنيا كلَّها لا يمكن أن تُمِدَّ الإنسانَ بسعادة مستمرة، بل متناقصة، ولينطلق لسانُه بشكل عفوي قائلاً: يا رب، ماذا فَقَدَ مَن وجدك ؟ وماذا وَجَدَ مَن فَقَدَكَ ؟
ومُجْمَلُ القول: إنّ الحجَّ عبادةٌ كبرى، قِوامُها اتصالٌ متميِّزٌ بالله عز وجل، وأساسُها معرفةٌ وقُرْبٌ، وبَذْلٌ وحُبٌّ، وسببُها نزعُ أقنعةِ الدنيا المزيفةِ، وتجاوزُ الخلق إلى الخالق، وخرقُ النعم إلى المنعم.

 

 

شروط قبول الحج:

 يا أيها الأخوة الكرام، ولكي تؤدَّى هذه العبادة العظيمة على نحوٍ يقبلها الله، ويرضى عنها، ولئلا يُنفِق الإنسانُ المالَ الكثيرَ، والوقتَ الثمينَ، ويتجشَّم المشاقَّ، ثم لا تُقبل حجَّتُه، ويُقال له: لا لبيك ولا سعديك، وحجُّك مردود عليك، لئلا تضيعَ حجّتُه سُدًى، عليه أنْ يتوب قبْلَ الذهاب إلى الحج مِن كل الذنوب والآثام، كبيرِها وصغيرِها، جليلِها وحقيرِها، فيجتنب كلَّ كسْبٍ حرام، وكلَّ علاقةٍ متلبِّسة بالآثام، وعليه أن يؤدِّيَ الحقوقَ التي عليه بالتمَّام والكمال، وبخاصة تلك الحقوق المتعلقة بالخلق، لأن حقوق العباد مبنيةٌ على المُشَاحَحَةِ بينما حقوق الله مبنيةٌ على المسامحة، فعليه أن يؤدِّيَ الحقوق، ويُقلعَ عن الذنوب، والأهمُّ مِن هذا أن يَعقِد العزمَ على ألاّ يعودَ إليها بعد الحجّ، وإلاّ أصبح الحجُّ مِن الطقوس لا من العبادات، فَمِنَ الخطأ الكبير، والوهم الخطير أنْ يظنّ الحاجُّ أنّ الحجَّ يهدمُ ما قبله من الذنوب كلِّها، وفيه تُغفر كل خطيئة، وقد أجمع العلماءُ على أنّ الأحاديثَ الشريفة التي تبيِّن أنّ الحاجّ يعود مِن الحجّ كيوم ولدته أمه، وقد غُفرت ذنوبُه كلُّها، هذه الذنوبُ التي أشار إليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم هي الذنوبُ التي بين العبد وربِّه حصراً، أمّا الذنوبُ التي بينه وبين الخلق، والحقوقُ التي في ذمته، والواجباتُ التي قصَّر في أدائها ؛ فهذه لا تَسقطُ ولا تُغفر إلا بالأداء أو المسامحة، فالذنوب ثلاثة ؛ ذنب لا يُغفر وهو الشرك، وذنب لا يُترك وهو ما كان بين العبد والخلق، وذنب يُغفر وهو ما كان بين العبد وربه.
أخوتي المؤمنين، أعزائي المستمعين، والاستطاعة التي وردت في الآية التي تعد أصلاً في فرضية الحج وهي قوله تعالى:

 

 

﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)﴾

 

( سورة آل عمران)

 هي استطاعة بدنية ومالية وأمنية وإدارية.

 

الإستطاعة في الحج:

 المسلم الذي لا يقوى جسمه على تحمُّل أداء مناسك الحج بَغَلبة يقينية أو بإخبار طبيب متخصص مسلم حاذق ورع، يُجزئه أن يُكلِّف من يحج عنه في حياته أو يوصي بحجة بدل بعد مماته، وفق أحكام هذا النوع من الحج.
 والمسلم الذي لا يملك المال الكافي الذي يغطي نفقات الركوب بأنواعها، ونفقات السكن في مكة والمدينة، وثمن الطعام والشراب فضلاً عن نفقات أهله وولده في غيبته لا يعد عند الله مستطيعاً، فلا ينبغي للمسلم غير المستطيع أن يبذل ماء وجهه من أجل جمع نفقة الحج، ولا أن يسلك المسالك الملتوية، من أجل أن يحصل على نفقة الحج، فإنه في الأصل ليس مستطيعاً ولا حجَّ عليه.
 وحينما يقرر أولوا الأمر في ديار المسلمين أن يعتمدوا نظاماً يُتيح لمَن لم يحجَّ أن يحجّ، ويَمنع من حجّ حجة الفريضة من أن يحج، حينما يكون الباعث على هذا التنظيم إفساحَ المجال للمسلمين الذين لم يحجّوا حجّة الفريضة أن يؤدُّوها بيسر وطمأنينة، فلا ينبغي للمرء أنْ يرتكب معصيةً ليحجّ حجّة نافلة، فالمسلم الذي لم يُسمح له أن يحج لا يُعَدُّ مستطيعاً.
وما دام الحج مِنَ العبادات المالية التي تستوجب إنفاقَ المال، فلا بد في المال الذي سينفقه الحاجُّ في هذه الفريضة أنْ يكون مالاً طيباً وحلالاً، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

 

((أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّباً))

 

[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

 

((إِذَا خَرَجَ الْحَاجُّ حَاجّاً بِنَفَقَةٍ طَيِّبَةٍ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ فَي الْغَرْزِ - ركاب الدابة - فَنَادَى: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، نَادَاهُ مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، زَادُكَ حَلاَلٌ، وَرَاحِلَتُكَ حَلاَلٌ، وَحَجُّكَ مَبْرُورٌ غَيْرُ مَأْزُورٍ، وَإِذَا خَرَجَ بِالنَّفَقَةِ الْخَبِيثَةِ، فَوَضَعَ رِجْلَهُ فَي الْغَرْزِ فنادى: فَنَادَى: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، نَادَاهُ مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: لاَ لَبَّيْكَ وَلاَ سَعْدَيْكَ، زَادُكَ حَرَامٌ، ونَفَقَتُكَ حَرَامٌ، وَحَجُّكَ مَأْزُورٌ غَيْرُ مَأْجُورٍ))

 

[ رواه البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه]

 وبما أنّ الحجّ فريضةٌ فرضها الله على المستطيع ؛ والفقير ليس مستطيعاً، فلا ينبغي للفقير أن يقترض ليحجّ، فعن عبد الله بن أبي أوفى قال:

 

((سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عَنِ الرَّجُلِ لَمْ يَحُجَّ: أَوَ يَسْتَقْرِضَ ؟ قَالَ: "لاَ" ))

 

[رواه البيهقي من قول ابن أبي أوفى ]

 والمدين لا تُقبل حجته إلا بموافقة دائنه.

 

على الحاج أن يتفقه قبل أن يحج:

 إنّ من بدأ حجه بتصريح كاذب، أو انتحل صفة لا يتصف بها، أو يتصف بها، ولا يريد أن يقوم بها، أو دفع مالاً غير مشروع لجهة غير شرعية تحول أداؤه لهذه الفريضة إلى عمل محرم، استناداً إلى القاعدة الفقهية الأصولية وهي أنَّ كل ما استلزم محرماً يصبح هو الآخر محرماً، فالطريق إلى المحرم محرم، فالمؤمنون عاداتهم عبادات، والمنافقون عباداتهم سيئات.
أيها الأخوة حضوراً ومستمعين، وبما أنّ عبادةَ الحجّ فرَضَها الله على المستطيع في العمر كله مرة واحدة، فإنْ أخلَّ الحاجُّ بمناسكها، فلم يؤدِ ركناً، أو نسي واجباً، أو ترَكَ سنَّةً، أو حرص على سنة أدَّت إلى انتهاك حرمة، أو اقترفَ معصية، أو فَعَلَ محظوراً، فَقَدْ أَبْطَلَ حجَّه، أو لَزِمه الدمُ، أو أساء، أو قصَّر، أو تركَ الأَوْلَى، إنْ فَعَلَ هذا فقد ضيّع فرصة فريدة لا تتكرّر، فرصة لمغفرة ذنبه واستحقاقه جنّةَ ربه، كلُّ هذا بسببِ الجهل الذي هو أعدى أعداءِ الإنسان، فالجاهلُ يفعل بنفسه ما لا يستطيع أن يفعله عدوُّه به، لذلك نقول: أيها الحجّاجُ ؛ تفقَّهوا قبل أن تحجّوا، فعالمٌ واحد أشدُّ على الشيطان مِن أَلْفِ عابدٍ، وقليلٌ مِنَ الفقهِ خيرٌ مِنَ كثيرٍ مِنَ العبادة:

 

 

﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾

 

( سورة النحل ).

 كما أن انتظار الصلاة يُعَدّ من الصلاة، كذلك الإعدادُ الفقهيّ للحجّ فهو مِنَ الحجّ، فكم مِن حاجٍّ أهْملَ التفقُّهَ قَبْلَ الحج، وعاد مِنَ الحجّ، ولم يطف طواف الركن، فبطل حجُّه، وكم مِن حاجٍّ اجتاز الميقاتَ المكانيَّ غيرَ محرِم فلزمه الدم، وكم مِن حاجٍّ وقع في محظورات الإحرام وهو يحسبُ أنه يُحسن صنعاً.

 

الله لا يقبل نافلة أدت إلى ترك واجب:

 مِن فقهِ الرجلِ أنْ يتحرّك في حياته وَفق سُلَّم للأوليات، فإذا أدّى حجّةَ الإسلام وهي حجةُ الفريضة، وتاقت نفسُه إلى أن يحجّ مرةً ثانيةً وثالثةً، وكان مستطيعاً بماله وبدنه وموافقة أولي الأمر له، ولم يسهم مِن خلال تصريحٍ غيرِ مطابق للواقع في حرمان مسلم مِن حجّة الفريضة، وكان قد أدّى كلَّ ما عليه من واجبات تجاه والديه، وأولاده، وإخوته، وأخواته، وأصدقائه، وجيرانه، فلا عليه أنّ يحجّ ثانية وثالثة ورابعة، فالحج جهاد لا شوكة فيه، وهو جهادُ الكبيرِ، والمرأةِ، والضعيف، وقد ورد في الحديث القدسي:

 

 

((إِذَا أَصْحَحْتُ لِعَبْدِي جِسْمَهُ، وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي الْمَعِيشَةِ، فَأَتَتْ عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لَمْ يَفِدْ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ)).

 

[البيهقي في السنن الكبرى ومسند أبي يعلى والترغيب والترهيب للمنذري]

 لكن حينما يحجّ المسلمُ حجةَ الفريضةَ، وله ولد في سنّ الزواج، ويخشى عليه الانحرافَ، فالأَوْلى أن يزوِّجه بدلَ أنْ يحجّ حجة النفل، لأنّ دَرْءَ المفاسدِ مقدَّمٌ على جَلْبِ المنافع، وأنّ الله لا يقبل نافلةً أدَّتْ إلى تركِ واجبٍ:

 

 

﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾

( سورة البقرة الآية: 269 )

 ومن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم:

 

((اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ))

 

[أخرجه ابن ماجه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

معنى هذا أن من انحراف الحاج عن قصده، وعدم إخلاصه في عبادته أن يبتغي من حجه السمعة والرياء.
 أيها الأخوة الأحباب، ويجب أنْ يعلمَ المسلمُ أنّ الحجَّ لا يكفِّر الذنوبَ التي لم يَتُبْ منها صاحبُها، فالمقيم على ذنبٍ ما لم يَتُبْ منه وهو مستمرٌّ فيـه، فإنّ الحجَّ لا يكفِّر ذنبَه، وإنما الحجُّ كفارةٌ وأجرٌ للعبدِ التائبِ إلى الله، الراجع إليه، الراجِي رحمتَه وعفوَه، والذي أقْلعَ عن ذنوبه إقلاعاً لا رجعة بعده، والدليل على ذلك ما رواه الإمام مسلم بإسناده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ أُنَاسٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ قَالَ: أَمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهَا، وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ))

[مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ]

خطبة حجة الوداع خطبة جامعة مانعة:

 أيها المسلمون، خَطَبَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلم في حجّة الوداع خطبةً جامعةً مانعةً، تضمنت مبادئَ إنسانيةً سيقتْ في كلماتٍ سَهلةٍ سائغةٍ، كيفَ لا وقد أُوتيَ النبي صلى الله عليه وسلم جوامعَ الكلم، ولقد استوعبتْ هذه الخطبةُ جملةً مِنَ الحقائقِ التي يحتاجها العالَم الشاردُ المعذَّب ليرشُدَ ويسعَدَ، قال تعالى:

 

﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾

 

( سورة طه )

إن الله جل وعلا ربَّى محمّداً صلى الله عليه وسلم ليُربِّيَ به العربَ، وربَّى العربَ بمحمّدٍ صلى الله عليه وسلم ليُربِّيَ بهم الناسَ أجمعين، قال تعالى:

﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)﴾

( سورة الحج الآية: 78 )

مبادئ إنطوت عليها خطبة النبي الكريم في حجة الوداع:

من المبادئ التي انطوت عليها خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:

1ـ الإنسانيةُ متساويةُ القيمةِ:

 الإنسانيةُ متساويةُ القيمةِ في أيِّ إِهَابٍ تَبَرَّزَ، وعلى أية حالة كان، وفوق أي مستوى تَرَبَّعَ، فعَنْ أَبِي نَضْرَةَ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ:

 

(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ … ))

 

[أحمد عَنْ أَبِي نَضْرَةَ ]

2ـ النفس الإنسانية ما لم تكن مؤمنة بربها ربما بَنَتْ مَجْدَهَا على أنقاض الآخرين:

 النفس الإنسانية ما لم تكن مؤمنة بربها، مؤمنةً بوعده ووعيده، مؤمنةً بأنه يعلم سرَّها وجهرها، تدور حول أثرتها، ولا تُبالي بشيء في سبيل غايتها، فربما بَنَتْ مَجْدَهَا على أنقاض الآخرين، وبنت غناها على فقرهم، وبنت عزها على ذلهم، بل ربما بنت حياتها على موتهم، لذلك قال الرسول الكريم في حجة الوداع:

 

((... فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَهُ ثُمَّ قَالَ اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا أَلَا لَا تَظْلِمُوا أَلَا لَا تَظْلِمُوا أَلَا لَا تَظْلِمُوا إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ أَلَا وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ وَمَالٍ وَمَأْثَرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي هَذِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))

 

[أحمد عن أبي حرة الرقاشي عن أبيه]

3ـ المال قوام الحياة:

 المال قوام الحياة، وينبغي أن يكون مُتداولاً بين كل الناس، وأنه إذا ولد المالُ المال من دون جهد حقيقي يسهم في عِمارةِ الأرض، وإغناء الحياة، تجمَّع في أيدٍ قليلة، وحُرمت منه الكثرة الكثيرة، عندها تضطرب الحياة، ويظهر الحقد، ويُلجأ إلى العنف، ولا يلد العنفُ إلا العنفَ، والربا يسهم بشكل أو بآخر في هذه النتائج المأساوية، التي تعود على المجتمع البشري بالويلات، لهذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع:

 

((…أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِباً فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ غَيْرَ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ…))

 

[رواه الترمذي عن عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ]

4ـ النساء شقائق الرجال:

 النساء شقائق الرجال، ولأنّ المرأةَ مساويةٌ للرجل تماماً، من حيث إنها مكلفةٌ كالرجل بأركان الإيمان، وأركان الإسلام، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، ومساويةٌ له من حيث استحقاقُها الثوابَ والعقابَ، ومساوية له تماماً في التشريف والتكليف، لهذا قال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع:

 

((أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئاً غَيْرَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً، أَلَا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّاً، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّاً، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلَا وَإِنَّ حَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ ))

 

[رواه الترمذي عن عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ]

 ثم يُتابع خطبته فيقول:

 

((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ))

 

[متفق عليه عن جرير بن عبد الله]

((وَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ فِي بِلَادِكُمْ هَذِهِ أَبَداً، وَلَكِنْ سَتَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فِيمَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَسَيَرْضَى بِهِ))

[رواه مسلم عن جابر]

((وَإِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ ؛ كِتَابَ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ مَسْئُولُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ،وَأَدَّيْتَ، وَنَصَحْتَ، ثُمَّ قَالَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَيَنْكُبُهَا إِلَى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ))

[رواه مسلم عن جابر]

إخفاء الصور