وضع داكن
29-03-2024
Logo
المؤلفات - كتاب ومضات في الإسلام – الباب السابع - الفقرة : 3 - حقائق عن الحج
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 إن الحج هو الفريضة البدنية المالية الشعائرية، وهي في حقيقتها رحلة قلوب لا رحلة أبدان، هي في حقيقتها رحلة نفوس لا رحلة أشباح، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)﴾

( سورة إبراهيم )

 والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:

 

((أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسي، ورأت أمي حين حملتني أنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى))

 

[البيهقي في شعب الإيمان عن العرباض]

 ومناسك الحج من شعائر الله، قال تعالى:

 

﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)﴾

 

( سورة الحج )

 قال بعض العلماء: أداء الشعيرة شيء وتعظيمها شيء آخر، من تعظيمها أن تؤديَها أيها الحاج كما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تعظيمها أن تؤديها على شوق وطيب نفس لا على تأفف وتململ، ومن تعظيم شعائر الله أن يؤديها الحاج، ويتمنى أن يؤديها مرات ومرات.
إن المشاعر التي يشعر بها الحاج، وهو في المشاعر المقدسة، هي بوتقة ينصهر فيها قلب المؤمن حتى يتخلص من أدرانه عوداً به إلى يوم ولدته أمه، نقي القلب، صافي النفس، تلك هي الغاية الكبرى من الحج، أن تعود أيها الحاج كيوم ولدتك أمك.

 

الحكمة من تشريع اللون الواحد والتصميم الواحد لثياب الحجاج:

 أيها الأخوة المؤمنون حضوراً ومستمعين، يقول ربنا جل جلاله:

 

 

﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾

 

(سورة المائدة الآية: 97)

 من أدق ما قاله المفسرون حول هذه الآية: إن المسلم بحجِ بيت الله الحرام، وتعظيمِ شعائر الله، وعقدِ العزم على طاعة الله، واتباعِ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، تقوم وتتحقق مصالح المسلم في الدنيا والآخرة، وعندئذ تتوقف المعالجة الإلهية:

 

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147)﴾

 

( سورة النساء )

 أيها الأخوة الأحباب، يخلع الحاج ملابسة المَخيطة والمُحيطة، والتي تعبر بشكل أو بآخر عن دنياه، عن حجمه المالي، عن مرتبته الاجتماعية، عن مرتبته الوظيفية، بل عن درجته العلمية والدينية أحياناً، هذه الملابس المَخيطة والمحيطة، قد تعبر عن نوع انتمائه إلى أمةٍ، إلى شعبٍ، إلى قبيلةٍ، إلى عشيرةٍ، فلو بقي المسلم بلباسه لبقي ملتصقاً بدنياه، أو بقبيلته، أو بطبقته، أو بمَنْ على شاكلته، ولكن الإسلام لحكمةٍ كبيرة شرع اللون الواحد، والتصميم الواحد، حتى تختفي الهوية الخاصة، ويبدو البشر كياناً واحداً، ومن ثم تتعامل معهم بدافع إنساني خالص، بعد ما ذابت الفروق الطبقية، والهويات الإقليمية، والانتماءات المتعددة، ليبرز هذا اللباس معنىً واحداً، هو الإنسان على فطرته السليمة في مواجهة خالقه الواحد الديان.

 

ممنوعات من لوازم الإحرام:

 بعد أن يخلع الحاج ثيابه المَخيطة والمحيطة، ويرتدي ثوب الإحرام الموحد، يدخل في أفق الممنوعات، ففي باطنه ممنوع أن يفكر في شيء يؤذي الحرم، ومع الناس، فلا رفث، ولا فسوق، ولا جدال في الحج، ومع الحيوان، فلا يُصطاد، ولا يقتل، ومع النبات فلا يُقطع، ولا يشوه، ومع الحجر فلا يكسر ولا يقتلع، هذه الممنوعات التي هي من لوازم الإحرام، ليكون الحج سلاماً دائماً قال تعالى:

 

 

﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)﴾

 

( سورة آل عمران)

 فإن الحاجَّ المحرمَ يُحظَر عليه لُبسُ المخيط من الثياب، ويُحظر عليه التطيُّبُ بكل أنواع الطيب، ويُحظر عليه الحلقُ والتقصيرُ، ويُحظر عليه مقاربةُ المُتَعِ التي أُبيحت له خارجَ الحج، كلُّ ذلك ليُحْكِمَ اتصالَه بالله، وليسعد بقربه وحده، بعيداً عن كل مداخلة من مُتع الأرض، ليتحقَّق الحاجُّ أنه إذا وصل إلى الله وصل إلى كلِّ شيء، وأنّ الدنيا كلَّها لا يمكن أن تُمِدَّ الإنسانَ بسعادة مستمرة، بل متناقصة، ولينطلق لسانُه بشكل عفوي قائلاً:يا رب، ماذا فَقَدَ مَن وجدك؟ وماذا وَجَدَ مَن فَقَدَكَ ؟
 فوق ذلك ففي الإنسان غريزة حب الاستطلاع، فهو في أصل طبعه لا يقبل على عمل إلا إذا عرف حكمته، وحقق به مصالحه العاجلة والظاهرة، لأنه يحب نفسه حباً جماً، وهذا مركب في أصل طبعه، ولأن الحج بهذه الممنوعات، وبهذه المناسك التي لا تظهر حكمتها للوهلة الأولى، لا يلبي هذه الحاجة الفطرية، والفكرية، والمادية، لذلك يحتاج الحاج إلى درجة عالية من الإيمان بحكمة الله وعلمه، ويحتاج إلى درجة عالية من العبودية له.
أيها الأخوة المؤمنون، أيتها الأخوات المؤمنات، يقول عمر رضي الله عنه: " تفقهوا قبل أن تحجوا ". فالعبادة في حقيقتها تعني خروج العبد من مراده إلى مراد ربه، وهذا يبدوا جلياً واضحاً في الحج.
 أيها الأخوة الأحباب، يتساءل بعضهم، هل مع هذا التسليم المطلق بحكمة ما أمرنا به إعمال للعقل ؟ الجواب: " لا "، لأنه لن يكون العقل حكَماً على النقل، ولكنه مسموح للعقل أن يفهم حكمة النقل، مسموح له أن يطير في المجال الجوّي الإسلامي، مسموح له أن يسبح في المياه الإقليمية الإسلامية، مسموح له أن يسبح ولا يشطح.

 

فضل يوم عرفة:

 أخوة الإيمان في كل مكان، ويأتي موقف عرفة. فيوم عرفة من الأيام الفضلى، تجاب فيه الدعوات، وتقال العثرات، ويباهي الله فيه الملائكة بأهل عرفات، وهو يوم عظَّم الله أمره، ورفع على الأيام قدره، وهو يوم إكمال الدين، وإتمام النعمة، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران، إنه يوم اللقاء الأكبر بين العبد المنيب المشتاق، وبين ربه الرحيم التواب، بين هذا الإنسان الحادث الفاني المحدود الصغير، وبين الخالق المطلق الأزلي الباقي الكبير، وعندها ينطلق الإنسان من حدود ذاته الصغيرة إلى رحاب الكون الكبير، ومن حدود قوته الهزيلة إلى الطاقات الكونية العظيمة، ومن حدود عمره القصير إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله.
 يوم عرفة يوم المعرفة، ويوم عرفة يوم المغفرة، ويوم عرفة يوم تتنزل فيه الرحمات على العباد من خـالق الأرض والسماوات، ومن هنا قيل من وقف في عرفات ولم يغلب على ظنه أن الله قد غفر له فلا حج له.
عن جابر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

 

((ما من أيام عند الله أفضل من عشر ذي الحجة، فقال رجل: هــن أفضل أم من عدتهن جهاداً في سبيل الله ؟ قال: هن أفضل من عدتهــن جهاداً في سبيل الله، وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ينـزل لله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، يقول انظروا عبادي جاؤوني شعثاً غبراً، ضاحين جاءوني من كل فج عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم يُر يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة))

 

[صحيح ابن حبان عن جابر رضي الله عنه ]

 عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات وقد كادت الشمس أن تثوب فقال:

 

((يا بلال، أَنصِت لي الناس، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنصت الناس، فقـال عليه الصلاة والسلام: معشر الناس أتاني جبريل آنفاً فأقرأني من ربـي السلام، وقال: إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات، وأهل المشعر الحرام، وضمن عنهم التبعات، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله هذه لنا خاصة، قال: هذه لكم، ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة، فقال عمر رضي الله عنه: كثر خير الله وفاض))

 

[الترغيب والترهيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه]

أحاديث عن يوم عرفة:

 

 روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

((ما من يوم أكثـــر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة فيقول:ماذا أراد هؤلاء، انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً،اشهدوا أني غفرت لهم))

[مسلم عن عائشة رضي الله عنها

 إن الله يغفر للحاج، ومبالغة في إكرامه يلقي في روعه أنه قد غفر له، لذلك يشعر الحاج الصادق بأن الله قد غفر له، وأنه عاد كيوم ولدته أمه.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

 

((ما رئي الشيطان يوماً هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أغيظ منه من يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام))

 

[موطأ مالك عن أبي الدرداء رضي الله عنه]

 روى الإمام أحمد والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

 

(( خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير))

 

[أحمد والترمذي عن عمرو بن شعيب]

قال عبد الله بن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية يوم عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه تذرفان، فالتفت إلي، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً ؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له.
 موقف عجيب في عرفات، يغطيه نبات بشري مختلف ألوانه، أغصانه تلك الأيدي المرفوعة بالدعاء إلى رب الأرض والسماء، يرى الحاج بين يديه صورةً مصغَّرةً للمحشر العظيم يوم القيامة، وعليه أن يستعدَّ له منذ الآن، لأن رحلة الحج يعود منها الإنسان إلى وطنه، ولكن المحشر العظيم يوم القيامة لا يعود منها الإنسان إلى وطنه، إنها رحلته قبل الأخيرة استعداداً للرحلة الأخيرة، الناس جميعاً بلباس موحد، وبدعاء موحد، وبابتهال موحد كلهم ضعاف، كلهم فرادى، نموذج مصغَّر للرحلة الأخيرة، لقد كان الحج رحلة قبل الأخير استعداداً للرحلة الأخيرة.

رمي الجمرات:

 وفي رمي الجمرات بعض الأسرار ؛ فلنبدأ بالجمرة الكبرى في اليوم الأول، وقال بعض العلماء: هذا تكثيف، وحشد في لغة العسكريين، ابدأ بمواجهة الأكبر، وكان عليه الصلاة والسلام يخص الجمرتين الأولى والوسطى بتطويل الوقوف عندها للدعاء، إنها ثلاث جمرات وبينهما مسافة، ليظل المؤمن واعياً تماماً، لا ينام حتى لا يسقط سلاحه، بينما العدو منه على مرمى حجر، وعليه أن يعلم أن المعركة مع الشيطان متعددة المواقع، ومستمرة، وممتدة مع عمره، لذلك ينبغي أن تُرمى ثلاث جمرات في ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه.
يا أيها الأخوة الكرام حضوراً ومستمعين، يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: لا يحصل إرغام أنف الشيطان في أثناء رجمه إلا بطاعتك للرحمن، ومن عاد بعد الحج إلى ما كان عليه من المعاصي والآثام، فليعلم علم اليقين أن الشيطان هو الذي رَجَمه.
 أيها الأخوة الكرام، أيتها الأخوات الكريمات، لقد طار بعض العلماء في سماء الحج، وسبحوا في بحوره الواسعة بل غاصوا فيها، فكانت لهم لمحات وضيئة، قالوا عن الطواف ؛ كأن الإسلام حجر ألقي فوق محيط، فتكونت منه دوائر حوله متتابعة متنامية وهكذا بيت الله الحرام، فالطواف حول البيت طواف المحب حول محبوبه، توثيق للعهد بين العبد وربه، تعبير عن حب عميق لرمز التوحيد.
أيها الأخوة الكرام، لقد استقطب البيت الحرام المؤمنين من قارات الدنيا الخمس، فجاءوا نوعيات مختلفة، تحمل كل جماعة هموم مجتمعها، جاءوا ليعودوا في البعد الزماني إلى ماضي هذه الأمة المشرق، وفي البعد المكاني إلى الأرض الذي نزل فيها الوحي.
 جاءوا ليعودوا إلى المكان الذي ضم هذه الرسالة الخالدة، للتزود بالدروس المفيدة التي تعينهم على صلاح دنياهم وفق منهج ربهم، وصلاح دينهم الذي هو عصمة أمرهم. لا تقوم مصالحهم الدنيوية وفق منهج الله، ولا مصالحهم الأخروية إلا إذا عظموا هذا البيت واصطلحوا مع الله، وأقاموا منهجه في الأرض.
 الحج عبادة زُيِّنت بمحاسن وآداب، وإذا كان الحج ارتفاعاً عن شهوات الحياة الدنيا ومادياتها، وتدريباً للعبد على التخفف منها، والاكتفاء باليسير، فلا يليق بالمتلبس بهذه العبادة أن ينشغل عنها بما نهى الله تعالى عنه، إنه لا يكفي منك أن تُعرِض عن هذه المنهيات فحسب، بل عليك أن تكون آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، إن حسن الخلق، وطيب الكلام، وإطعام الطعام، من أعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل.
وإذا كان اقتراف المعاصي محرم في كل حين، فإنها في مكة، وفي حال الإحرام أشد تحريماً، وهي أولى بالمنع والزجر والنهي عنها.

 

الحج لا يكفر الذنوب التي لم يتب منها صاحبها :

 

 أيها الأخوة في كل مكان، لا يُعقل ولا يُقبل أن يذهب الحاج إلى بيت الله الحرام قبل أن يتفقه بأركان الحج، وواجباته، وسننه، ومستحباته، وصفة حجة النبي عليه الصلاة والسلام، وما ينبغي أن تكون عليه أخلاق الحاج. لا يُعقل ولا يُقبل أن تُؤدى هذه العبادة الجليلة أداءً بعيداً عن مقاصدها وثمارها. لا يُعقل ولا يُقبل أن يعود الحاج من أداء هذه الفريضة كما ذهب. لا يُعقل ولا يقبل أن يُوجد الحاج في المشاعر المقدسة دون أن يشعر بأية مشاعر مقدسة. لا يعقل ولا يقبل أن يتحرى الحاج سنةً أو مستحباً، ويرتكب من أجلها معصية، أو أن يتجاوز فريضة. لا يُعقل ولا يُقبل أن يحدثك الحاج عن كل شيء في الحج إلا الحج. لا يُعقل ولا يقبل أن يرمي الحاج الجمرات تعبيراً عن معاداته للشيطان، ويعود إلى بلده ليكون أُلعوبة بين يدي الشيطان. لا يُعقل ولا يُقبل أن يقتصر أمر الله في هذه الفريضة على أن يأتي الحاج من بلاد بعيدة ليجلس في المشاعر المقدسة، يأكل، وينام، ويتكلم في شؤون الدنيا، إن أمر الله في هذه العبادة ليس كذلك، وهو أعظم وأجلّ من أن يكون كذلك، أن تأتي إليه من بلاد بعيدة لتحقق وجودك المادي في مكان، تمضي هذا الوقت في غير ما أمرت به، وليس هذا المستوى من الحج هو الذي تقوم به مصالح المسلمين في دنياهم وأخراهم.
أيها الأخوة والأخوات، يجب العلم اليقيني بأن الحج لا يكفر الذنوب التي لم يتب منها صاحبها، فالمقيم على ذنب ولم يتب منه، وهو مستمر فيـه، فإن الحج لا يكفر هذا الذنب، وإنما الحج كفارة وأجر للعبد التائب إلى الله، الراجع إليه، الراجي رحمته وعفوه، والذي أقلع عن ذنوبه إقلاعاً لا رجعة بعدها. والدليـل على ذلك ما رواه الإمام مسلم بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

((يا رسول الله: أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟! قال صلى الله عليه وسلم: أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام)).

[مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه]

الحج نوع من الجهاد:

 مع أن الإسلام يهدم ما كان قبله، إلا أنه من أساء في الإسلام جوزي بعمله السيئ في الإسلام، وما كان قبل الإسـلام، وكذلك الحال فيمن له معاصٍ لم يتب منها قبل الحج فإن الحج لا يهدم هذه المعاصي، وهذا يعني أن الحج لا يفيد إلا التائب من الذنب، والعائد إلى الله، الراجع إليه، المقلع عن ذنوبه، وأما المقيم على معاصيه وذنوبه المستمر فيها، فإن الحج لا يهدم ما كان قبله في هذه الحالة.
وقد ورد أن الحاج إذا حج بمال حرام ووضع رجله في الركاب، وقال: لبيك اللهم لبيك، نودي أن لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

((تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ يَعْنِي الْفَرِيضَةَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ))

 

[أخرجه أحمد في مسند بني هاشم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ]

 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

((تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلا الْجَنَّةُ))

 

[أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ]

 وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:

((الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ، وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ))

[أخرجه ابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

هذه ميزة لا تُقدر بثمن، أن تكون مُجاب الدعوة.
 من مات، ولم يجاهد، ولم يحدث نفسه بالجهاد مات على ثلمة من النفاق، فإن لم يُتح للمسلم الجهاد القتالي، فقد أُتيح له جهاد النفس والهوى، أتيح له الجهاد الدعوي، وأتيح له الحج. والحج نوع من الجهاد وإليكم الدليل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((جِهَادُ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَالضَّعِيفِ وَالْمَرْأَةِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ))

[أخرجه النسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 وفي حديث آخر عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

((الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ)).

 

[أخرجه ابن ماجة وأحمد في المناسك عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ]

 وفي حديث ثالث عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ:

 

((يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ، الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ))

 

[أخرجه ابن ماجة وأحمد عَنْ عَائِشَةَ]

وصف دقيق من قبل الرسول لما ينبغي أن يكون عليه المسلمون في شتى أقطارهم:

 أيها الناس، إن المسلمين يتفقون على أصول الدين، وعلى المحاكمات القطعية التي جاء الدين بها، هم يؤمنون بإله واحد لا شريك له، في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي ربوبيته، وفي ألوهيته، فهو المستحق للعبادة وحده، وهم يؤمنون بنبيّ واحد، هو خاتم الأنبياء والمرسلين، جاء بأفضل الشرائع وآخرها، وهو واجب الاتباع إلى قيام الساعة، ويتجهون إلى قِبلة واحدة، ويقرؤون قرآناً واحداً، يقطعون كلهم بأنه محكم محفوظ من الزيادة والنقصان، لم تَطُلْه يد التحريف والتبديل والتغيير في ألفاظه ومجملات معانيه ، ويصومون شهراً واحداً ويحجون بيتاً واحداً، ويقفون بعرفة موقفاً واحداً، تاريخهم واحد، ومصيرهم ومستقبلهم واحد، حتى التحديات التي تواجه المسلمين هي تحديات واحدة في الجملة.
 فإننا نجد الأذى الذي يوجه إلى المسلمين كلهم، يوجه إليهم شعوباً وأمماً، بلا تمييز بين أقوياء الإيمان وضعفاء الإيمان، وبين العلماء والجهلاء، وبين الصلحاء والفاسدين ومع كل هذه المقومات فهم متفرقون، متنازعون، بأسهم بينهم، تفرقهم الأهواء والمصالح، وهذا يؤكد على الأمة ضرورةَ أن تعمل على تحقيق معنى هذا الانتماء، ومعنى تلك الوحدة.
ومِن أخطر توجيهات النبي الكريم في هذا الظرفِ الصعب الذي يُحَدِّق بالأمة العربية والإسلامية قولهُ:

 

((إِنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ، لاَ يُسَالِمُ الْمُؤْمِنُ دُونَ الْمُؤْمِنِ فِي قِتِالٍ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ))

 

[السيرة النبوية لابن هشام]

 أيْ لا يحق في المنهجِ الإسلاميِّ لفئةٍ أنْ تصطلحَ مع عدوٍّ بشكلٍ انفراديٍّ، هذا وصفٌ دقيقٌ مِن قِبَلِ مبعوثِ العنايةِ الإلهيةِ لِمَا عليه المؤمنون، أو لِمَا ينبغي أنْ يكونوا عليه في شتَّى أقطارهم وديارهم، مِنْ تعاوُنٍ وتناصُرٍ وتعاطُفٍ، فهم كالجسدِ الواحدِ نَصَحَةٌ متوادُّون، وهم بنيانٌ واحدٌ يشدُّ بعضُهم بعضاً، هم يَدٌ على مَن سواهم، سِلْمُهُم واحدةٌ، وحَربُهُم واحدةٌ، هذا ما ينبغي أنْ يكونَ عليه المؤمنون في شتّى أقطارهم وأمصارهم.

إخفاء الصور